- 1 -
المنزلة والقيمة
لعل أول عمل يمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يتتبع ويؤرخ للأعمال والمؤلفات التي كتبت وعالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين، هو عمل الدكتور محمد إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) والذي هو عبارة عن محاضرات، ألقاها إقبال، ما بين عام 1928م - 1929م، تلبية لطلب الجمعية الإسلامية في مدراس بالهند، وأكملها في مدينتي حيدر أباد وعليكرة الهنديتين، وصدرت في كتاب باللغة الإنجليزية مع بداية ثلاثينات القرن العشرين، وترجمت إلى اللغة العربية وصدرت في القاهرة، منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
وقد اشتهر إقبال كثيراً بهذا الكتاب، ويعد كتابه الأساسي الذي يشرح فيه أفكاره وتأملاته، والفلسفة التي يتبناها ويدافع عنها، وطبيعة المهمة الفكرية التي يفترض أن ينهض بها المفكر المسلم في العالم الحديث.
كما أنه يمثل آخر مؤلفات إقبال غير الشعرية، وكسب اهتماماً يفوق بصورة لا تقارن رسالته لنيل الدكتوراه في الفلسفة، التي حصل عليها من جامعة ميونخ في ألمانيا عام 1908م، وكانت بعنوان (ازدهار علم ما وراء الطبيعة في إيران) والتي حاول فيها -كما يقول- أن يقدم رسماً لاستمرار المنطق الفكري الفارسي، وشرحه في الفلسفة الحديثة بصورة لم يتم شرحه من قبل -حسب ادعاء إقبال نفسه- وأن يبحث عن التصوف بالطريقة العلمية الأكثر تطوراً على حد وصفه، ويؤكد أن التصوف نتيجة لازمة لحركة القوى العقلانية والأخلاقية التي توقظ الروح من هجوعها إلى المبدأ الأسمى للحياة.
ومع هذه الأهمية التي يعطيها إقبال لرسالته، إلا أنها لم تعرف على نطاق واسع، ونادراً ما كان يُرجِع إليها الدارسين والباحثين، بخلاف كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
ولولا هذا الكتاب الأخير لكان من الصعب الكشف عن طبيعة فلسفة إقبال، وأسسها ومبانيها، والتعرف عليها بصورة منظمة، وإمكانية الحديث عنها، والعودة إليها. فقد جاء هذا الكتاب لينقل فلسفة إقبال من عالم الأدب إلى عالم الفكر، ومن عالم الشعر إلى عالم النثر، فإقبال كان بحاجة إلى هذا الكتاب لكي تُعرف فلسفته وأفكاره وتأملاته، بصورة يمكن تحليل عناصر تلك الفلسفة، والتعرف على أبعادها ومكوناتها، وأسسها ومبانيها. مع ذلك تبقى الضرورة قائمة للعودة إلى مؤلفاته الشعرية المفعمة بروح الفلسفة، ولتعميق المعرفة بفلسفته. فقد حاول إقبال أن يبلور فلسفته عن طريق الشعر، وحوّل الشعر إلى حكمة وفلسفة، وهذه هي عظمة الشعر حين يتحول إلى حكمة وفلسفة.
ولعل من حسن الصدف أن يكون هذا الكتاب في طليعة المؤلفات التي عالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي، لكي يبدأ الحديث منه، ولا شك أنها بداية قوية، ولو كنا مخيرين في اختيار بداية لدراسة هذا الموضوع لما عدونا هذا الكتاب، وما قدمنا عليه كتاباً آخر.
لهذا كان يفترض أن يسجل كتاب إقبال بداية مهمة، تساهم في دفع وتطوير الحديث عن موضوع التجديد في الفكر الإسلامي. فنقطة البداية تشكل أهمية دائماً؛ لأنها تضع الأساس، وتكشف عن طبيعة المسلم، وغالباً ما يعتني الباحثون في تحديد مثل هذه البدايات، ويبذلون جهداً في التعرف عليها، وقد تعترضهم العديد من الصعوبات في سعيهم إلى الوصول إليها؛ لأن من دون تحديد نقطة البدء لا يمكن معرفة الطريق، والوصول إلى الهدف.
ومنذ أن تعرفت على هذا الكتاب لفت انتباهي بقوة، لكونه يتطرق لموضوع تجديد التفكير الديني منذ وقت مبكر، يرجع إلى العقود الأولى من القرن العشرين، دون أن يُعرف هذا الكتاب على نطاق واسع، وبالشكل الذي يساهم في ترسيخ مفهوم التجديد في المجال الديني الإسلامي. ومع أول معرفة بهذا الكتاب سعيتُ وباهتمام للوصول إليه.
وكنت شديد الاهتمام بالاطلاع عليه، وتكوين المعرفة بفكرته أو أفكاره حول مسألة التجديد في التفكير الديني الإسلامي. وحين هممت بمطالعته وإذا بي أتعرف على كتاب اعتبرته واحداً من أثمن ما أنتجته المعرفة الإسلامية في العصر الحديث. وتعجبتُ حينها كيف يكون هذا الكتاب مغموراً ومجهولاً، وبعيداً عن التداول والاهتمام، وإلى اليوم لم يتغير وضعه الذي كان عليه من قبل، حيث ما زالت المعرفة به محدودة للغاية، وقليلون الذين تعرفوا على هذا الكتاب، واطلعوا عليه، حتى من المثقفين أنفسهم، ومن طلبة العلم كذلك.
وحينما اطلعتُ على هذا الكتاب وجدته بأنه كتاب لا تكفي مطالعته لمرة واحدة، كما هو حال عشرات بل مئات الكتب والمؤلفات التي تصدر هنا وهناك، لا تكفي مطالعته لمرة واحدة لجودة أفكاره وحيويتها، وعمق معارفه وغزارتها.
ولو كنا ندرك أهمية وقيمة هذا الكتاب لقلنا: إن الفلسفة الإسلامية تنبعث من جديد مع هذا الكتاب، وإننا مع فيلسوف إسلامي لا يقل عن أهمية ومنزلة فلاسفة ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وفلاسفة أوروبا عموماً منذ ديكارت أبي الفلسفة الأوروبية الحديثة كما تصفه الدراسات الفلسفية هناك، إلى هابرماس في ألمانيا، أو كارل بوبر في بريطانيا، أو بول ريكور في فرنسا، ولم يكن غريباً على الإطلاق أن يأتي وصف الفيلسوف إقبال من المفكرين الألمان، وهم الذين وُصفوا بأنهم يمثلون المنبع الثاني أو العصر الثاني للفلسفة في أوروبا، بعد عصر اليونان الذي مثل منبع الفلسفة الأول.
أقول هذا الكلام وإني أحترز دائماً من المبالغة، والحذر من الوقوع فيها. ولو كانت الفلسفة حية عند المسلمين في هذا العصر، لوجدنا في كتاب إقبال نبعاً جديداً للفلسفة التي تكتسب روحها وجوهرها من القرآن الكريم. وهذا ما سعى إليه إقبال بإدراك واسع وعميق منه وهو يحاول، كما يقول وبثقة عالية، إعادة بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة.
- 2 -
البواعث والأرضيات
لقد شرح إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) طبيعة البواعث والأرضيات والسياقات، الذاتية والموضوعية، والفكرية التي حرضته على تبني فكرة تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني، وتحديد طبيعة المهمة الفكرية التي أراد النهوض بها، والتي يفترض أن ينهض بها حسب رأيه المفكر المسلم في العالم الحديث.
فقد جاء هذا الكتاب بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، الحدث الذي غيّر معه صورة العالم الإسلامي برمته، وأحدث فيه هزة عنيفة للغاية، وفتح نقاشات واسعة ومتوترة بين معظم النخب الدينية والفكرية والسياسية حول حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، النقاشات التي امتدت رقعتها على مساحة العالم الإسلامي، طوله وعرضه، من تركيا إلى مصر، ومن الشام إلى الهند، حيث وجد العالم الإسلامي نفسه، ولأول مرة أنه أصبح مجزأ ومفككاً بين أجزائه، وتلاشت ما بينه من رابطة حتى لو لم يكن لها من أثر إلا ذلك الأثر الرمزي الباهت، حيث كان من الصعب في العالم الإسلامي التفكير من دون هذه الرابطة، التي ظلت معه ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً، تغذي إحساس العالم الإسلامي بذاته وكيانه وهويته.
ومع قيام ما سُمي بدولة تركيا الحديثة، التي أعلنت عن نهاية دولة الخلافة العثمانية، تفجر في العالم الإسلامي أيضاً نقاش وسجال، كان أشبه بصدام بين الأفكار والثقافات والمرجعيات. وذلك حين أرادت تركيا التخلي عن هويتها الإسلامية، والانسلاخ عن محيطها الإسلامي، والتنكر لتاريخها وتراثها وتقاليدها، واندفعت في المقابل وبقوة نحو أوروبا واللحاق بها، ولتكون قطعة منها. وتبنت العلمانية مرجعية فكرية وقانونية لها، وأخذ بعض مثقفي تركيا يبشرون بحماس واندفاع للأفكار والفلسفات الأوروبية، باعتبارها تمثل القاعدة الفكرية والمرجعية لبناء الدولة الحديثة، وللتكيف مع مقتضيات العالم الحديث، والولوج في عالم الحداثة والتقدم، ولإصلاح العالم الإسلامي والفكر الإسلامي، حسب منظوراتهم.
وقد أحدثت هذه الأفكار والاتجاهات جدلاً وسجالاً في وقتها، وكأن العالم الإسلامي أخذ ينقسم على نفسه فكرياً وثقافياً، مع اشتداد الجدل النقاش حول فكرة الهوية، وامتداد هذا الجدل لموضوعات وقضايا حساسة وحرجة للغاية مثل القرآن الكريم والعبادات والتشريعات الدينية، إلى موضوعات المرأة وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية.
ولم يكن بالإمكان النقاش الهادئ آنذاك حول تلك الموضوعات الحساسة والحرجة في ظل أمزجة نفسية وفكرية متضاربة، بين أمزجة يطبعها الاندفاع والحماس، وأمزجة تطبعها المخاوف، ويساورها القلق.
وأمام انكماش وتراجع العالم الإسلامي كانت أوروبا تتوثب للانتفاض عليه وتفكيكه وإحكام السيطرة عليه. فقد شعر الأوروبيون لأول مرة في تاريخهم الحديث، أنهم استطاعوا أن يوجهوا ضربة ساحقة ومؤلمة إلى العالم الإسلامي، بعد الإطاحة بدولة الخلافة العثمانية، التي أخافتهم بتعاظم قوتها العسكرية، وامتداد نفوذها الذي تجاوز محيط العلم الإسلامي ووصل إلى عمق أوروبا إلى فيينا وحدود فرنسا. وتصور الأوروبيون آنذاك أن باستطاعة دولة الخلافة العثمانية بعث وتجديد الحضارة الإسلامية في العالم الحديث، الخيال الذي كان يبعث في نفوسهم هواجس الخوف والقلق.
لذلك أخذ الأوروبيون يدافعون عن النموذج التركي الحديث، ويبشرون به، ويقدمونه إلى العالم الإسلامي على أنه يمثل النموذج العصري في بناء الدولة الحديثة. كما وجد الأوروبيون أيضاً فرصتهم في الترويج لأفكارهم ومرجعياتهم في العالم الإسلامي الذي أصبح بحكم الواقع تحت سيطرتهم وهيمنتهم.
في ظل هذه الوضعيات والسياقات جاء كتاب إقبال، الذي اعتبر فيه أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، وكل الذي يخشاه إقبال هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها.
وقد استوقفت هذه الفكرة نظر بعض المفكرين الذين عاصروا مرحلة إقبال، أو الذين جاؤوا من بعده. فمن هذه الفكرة حاول المستشرق البريطاني هاملتون جيب تحليل أفكار إقبال في تجديد التفكير الديني. وبدأ تحليله من هذه الفكرة لكونه يبحث عن علاقة التأثيرات الغربية في تشكيل الروح العصرية في الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي، وذلك في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام).
وأشار إليها مالك بن نبي مرتين في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) وعقّب عليها مرة بقوله: "لقد كان ينبغي ليكون الحق مع إقبال، أن تكون أوروبا، قد آتت عالم الإسلام روحها وحضارتها، أو أن يكون هو قد سعى فعلاً ليكتشفها في مواطنها"(1) وهذا الذي لم يحدث في نظر ابن نبي. وفي المرة الثانية اعتبر أن إقبال حين تحدث بتلك الفكرة لم يذكر سوى ذلك الجانب الخاص، في ظاهرة سبق أن أدركها ابن خلدون في عمومها حين قال إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب(2).
ومن جهته أراد إقبال أن يلفت النظر إلى ما أحدثته تلك الظاهرة من تأثيرات في ذهنيات العالم الإسلامي، وما فرضته من تحديات فكرية وعقدية وعلمية، وإلى ما جاءت به من كشوفات علمية وفتوحات معرفية. فمن جهة يرى إقبال أن شباب المسلمين في آسيا وأفريقيا يتطلبون توجيهاً جديداً بعقيدتهم، ومن جهة أنه لا سبيل حسب رأيه إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص، ومن جهة ثالثة لابد من أن يصاحب يقظة الإسلام في نظره، تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا -كما يقول إقبال- في إعادة النظر إلى التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر.
وحتى لا يكون هذا الكلام الأخير ملتبساً، فقد أوضح إقبال الخلفيات التي بنى عليها ذلك القول، فأوروبا، -حسب رأيه- كانت "خلال جميع القرون التي أصبنا فيها بجمود الحركة الفكرية، تدأب في بحث المشكلات الكبرى التي عُني بها فلاسفة الإسلام وعلماؤه عناية عظمى. ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حد له في مجال الفكر والتجربة.. فظهرت وجهات نظر جديدة، وحررت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجربة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد... فنظرية آينشتين جاءتنا بنظرة جديدة إلى الكون، وفتحت آفاقاً جديدة من النظر إلى المشكلات المشتركة بين الدين والفلسفة"(3).
فالرؤية كانت واضحة في تفكير إقبال، ويرى أن بإمكان العالم الإسلامي الانخراط في العالم الحديث، وإتمام التجديد الذي ينتظره، فالعالم الإسلامي حسب قوله: "وهو مزود بتفكير عميق نفاذ، وتجارب جديدة، ينبغي عليه أن يقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأناً من مجرد الملائمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها"(4).
فالسرعة التي كانت تتقدم فيها أوروبا في العالم، لا ينبغي أن تدفع العالم الإسلامي نحو الخروج من العالم الحديث، أو العزلة عنه تحت ضغط الإحساس بالخوف أو الضعف أو العجز، وإنما بالنفوذ إلى العصر والانخراط في العالم عن طريق التزود بتفكير عميق، والاستفادة من التجارب الجديدة، والإقدام بشجاعة في إتمام مهمة التجديد، هكذا يرى إقبال خيارنا في العلاقة بالعصر والعالم الحديث.
- 3 -
الفلسفة وتجديد التفكير الديني
من الممكن القول إن كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام) هو كتاب فلسفي بامتياز، ومفعم بالمناقشات والتأملات الفكرية والفلسفية، الدقيقة والعميقة، سواء التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الإسلامية، أو تلك التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الأوروبية الحديثة. ويمكن اعتباره أنه يمثل التقاء المناقشات الفكرية والفلسفية من جديد، بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الأوروبية الحديثة، اللتين انقطعت الصلة بينهما من بعد فلسفة ابن رشد، حين مثلت هذه الفلسفة ولأول مرة نقطة التقاء وتفاعل الفلسفات الثلاث الكبرى التي عرفها تاريخ الفكر الإنساني وهي الفلسفة اليونانية التي تنتمي إلى العصر القديم، والفلسفة الإسلامية التي تنتمي إلى العصر الوسيط، والفلسفة الأوروبية التي تنتمي إلى العصر الحديث، وهذه كانت عنصر القوة والدينامية في فلسفة ابن رشد.
وبقدر ما ينتمي كتاب إقبال إلى الفلسفة الإسلامية، بقدر ما ينتمي أيضاً إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة، ويصلح أن يكون كتاباً في التفاعل والانفتاح بين هاتين الفلسفتين. فقد اعتنى إقبال كثيراً بمناقشة أفكار ومقولات المفكرين والفلاسفة الأوروبيين، كما لو أنه موجه لهم، وطبع كتابه بهذه الملاحظة التي تجلت فيه بوضوح كبير. وحين توقف الدكتور محمد البهي أمام هذه الملاحظة اعتبر أن إقبال لم يكن إلا مسلماً أولاً، ومفكراً غربياً في الصياغة والمنهج ثانياً(5).
في حين اعتبر الشاعر الألماني هيسة أن إقبال ينتمي إلى ثلاثة أحياز روحية هي منابع أثاره العظيمة، وهي حيز القارة الهندية، وحيز العالم الإسلامي، وحيز الفكر الغربي(6).
ولعل إقبال كان قاصداً في إعطاء الأهمية لمناقشة أفكار أولئك المفكرين الأوروبيين، حيث كانت فلسفاتهم تمثل في عصره روح العصر وجوهر العالم الحديث، وكان العالم الإسلامي، والجيل الجديد من الشبان المسلمين مفتتنا بتلك الفلسفات وشديد التأثر بها، وكانت تشهد نفوذاً وتغلغلاً واسعاً في العديد من مناطق العالم الإسلامي.
وقد مر إقبال على أسماء كثيرة من المفكرين الأوروبيين الذين تطرق لأفكارهم ومقولاتهم، فمن المفكرين الألمان يأتي على ذكر (مانويل كانت) الذي وصفه بأنه كان من أجلّ نعم الله على وطنه لدفاعه عن الدين والأخلاق أمام المذهب العقلي، وهيجل ونيتشه إلى شبنجلر، ومن المفكرين الفرنسيين يأتي على ذكر رينيه ديكارت وهنري برغسون وأوجست كونت، ومن المفكرين الإنجليز يأتي على ذكر روجر بيكون وجورج بركلي وليبنتز رتوماس هكسلي إلى الفرد نورث هويتهد وبرتراندرسل، إلى جانب آخرين.
ويعد إقبال من أكثر المفكرين المسلمين قدرة وكفاءة على مناقشة أولئك المفكرين الأوروبيين، وهو حين يناقشهم ويحاورهم، يظهر وكأنه واحد منهم، جاء من داخلهم، ومن عالمهم الفكري والفلسفي. فقد كان شديد المعرفة وواسع الاطلاع بنظرياتهم ومقولاتهم وفلسفاتهم، وهناك من يرى كالشيخ مرتضى المطهري في إيران، أن معرفة إقبال بالثقافة الأوروبية كانت أوسع من معرفته بالثقافة الإسلامية، وهذا الرأي لا يخلو من صحة.
والناظر إلى كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) قد يخيل إليه أن المخاطب به هم الأوروبيون أنفسهم، وهم مخاطبون بالفعل، فقد حاول إقبال في كتابه أن يقدم فهماً للإسلام بوصفه رسالة للإنسانية كافة، وهذه الغاية كانت من وراء اعتماده واهتمامه بفتح المناقشات الفلسفية في كتابه. ولهذا يصح القول بأن هذا الكتاب يمثل استمراراً لمناقشات أولئك المفكرين الأوروبيين حول العلاقة بين الفلسفة والدين، والعلاقة بين العلم والدين، ومكانة الدين في العالم الحديث وهل أن الدين أمر ممكن؟
وقد بقي الفكر الإسلامي المعاصر ومازال يفتقد لمثل محاولة إقبال ومستواها الفكري والفلسفي في مناقشة ومطارحة الأفكار والفلسفات الأوروبية بطريقة تحليلية ونقدية، قادرة على إقناع المثقف المسلم والمثقف الأوروبي على حد سواء. من هنا تكمن أهمية وقيمة أو حتى فرادة وريادة محاولة إقبال التي كان ينبغي أن تتمم، وهذا الذي لم يحدث في نطاق الفكر الإسلامي المعاصر إلا نادراً، والنادر هنا بقصد تجاوز إشكالية الإطلاق والتعميم التي لا تستحسن دائماً، وإلا فإن النادر هو بحكم المعدوم كما يقال.
والبعد الفلسفي هو أكثر ما يميز محاولة إقبال في تجديد التفكير الديني، فهو البعد الذي كان ينطلق منه، ويستند إليه كإطار منهجي ومعرفي. كما أنه البعد الذي كان إقبال ضالعاً فيه، وبارعاً في معارفه. ومنذ البداية كشف إقبال عن هذا البعد حين أراد أن يحدد طبيعة مهمته، والغاية من محاولته، وهي كما يقول: "بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة"(7). وهذا ما أراد إقبال أن يميز به فلسفته، وهو الأخذ بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام من جهة، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة من جهة أخرى.
ويبدو أن إقبالاً كان قاصداً ومدركاً لقوله: (المأثور من فلسفة الإسلام)، وليس المأثور من فلسفة المسلمين، فقد أراد العودة إلى القرآن الكريم في اكتشاف فلسفته، وفي التعرف عليها، لكي يبرهن على أن القرآن الكريم هو منبع فلسفة الإسلام، وأن روح هذه الفلسفة وجوهرها يعارض الفلسفة اليونانية التي طبعت وشكلت فلسفة المسلمين. ويكاد أن يكون كتاب إقبال موجهاً بصورة أساسية لتوثيق هذه المعارضة وتأكيدها، حيث ظل يلفت النظر إليها باستمرار، ولم يألُ جهداً في جمع البراهين للاستدلال على صحتها في مختلف الموضوعات والقضايا التي عالجها وتطرق إليها.
وأول ما أراد إقبال أن يلفت النظر إليه هو كيف أن الفلسفة اليونانية قد غشت على أبصار مفكري الإسلام في فهم القرآن، وحسب قوله: "إن الفلسفة اليونانية كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، ولكن التدقيق في درس القرآن الكريم، وفي تمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني يكشفان عن حقيقة بارزة هي أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام غشت على أبصارهم في فهم القرآن"(8). لأنهم -أي مفكري الإسلام- كما يضيف إقبال، لم يفطنوا في أول الأمر إلى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تلك الفلسفة القديمة. فبعد أن وثقوا بفلاسفة اليونان أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية، وبعد قرنين من الزمان تبين لهم في وضوح غير كافٍ حسب عبارة إقبال، كيف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة اليونانية. وقد نجم عن هذا الإدراك نوع من الثورة الفكرية لم يدرك أثرها الكامل إلى يومنا هذا.
ويرى إقبال أن من نتائج هذه الثورة، وبتأثير من ظروف الأحوال الشخصية، اتجه الغزالي إلى إقامة الدين على دعائم من التشكك الفلسفي، وهي دعائم في نظر إقبال غير مأمونة العواقب على الدين، ولا تسوغها روح القرآن كل التسويغ. وابن رشد الذي هو أكبر خصوم الغزالي كما يقول عنه إقبال، والمنافح عن الفلسفة اليونانية ضد الثائرين عليها، قد تأثر بأرسطو فاصطنع المذهب القائل بخلود العقل الفعال، ذلك المذهب الذي كان له في وقت ما تأثير كبير على الحياة العقلية في فرنسا وإيطاليا، لكنه في رأي إقبال يتعارض تماماً مع نظرة القرآن إلى قيمة النفس الإنسانية وإلى مصيرها(9).
وإقبال في سعيه لتأكيد معارضة روح القرآن لروح الفلسفة اليونانية، بقصد توثيق صلة وارتباط الفكر الديني الإسلامي بالعلم الحديث والعالم الحديث، ولهذا الفرض ركز إقبال أمرين مهمين، هما:
الأول: التركيز على منهج الملاحظة والتجربة في القرآن الكريم، لكي يظهر تباين روح القرآن والثقافة الإسلامية مع روح الفلسفة اليونانية القديمة. لأن روح القرآن في نظر إقبال تتجلى فيها النظرة الواقعية، في حين امتازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد، وإغفال الواقع المحسوس. ويرى إقبال أن حديث القرآن الكريم حول الطبيعة يلفت النظر إلى الاتجاه التجريبي العام للقرآن، الأمر الذي كوّن في أتباعه شعوراً بتقدير الواقع الموضوعي، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث. وإنه لأمر عظيم حقاً -كما يقول إقبال- أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق(10).
ونفى إقبال أن يكون ظهور منهج الملاحظة والتجربة في الإسلام قد نشأ عن توافق بين العقل الإسلامي والعقل اليوناني. وما يود إقبال أن يستأصله تلك الفكرة الخاطئة التي تزعم كما يقول، أن الفكر اليوناني هو الذي شكل طبيعة الثقافة الإسلامية.
الثاني: التأكيد على أن خصومة العالم الحديث للآراء القديمة نشأت عن ثورة الإسلام على التفكير اليوناني. وتتجلى هذه الثورة في نظر إقبال، في كل ميادين الفكر، بالإضافة إلى ميادين الرياضيات والفلك والطب، ولكنها تبدو على أوضح ما يكون من التحديد وأوفاه على حد قول إقبال، في نقد المسلمين للمنطق اليوناني، وإن ما أنجز في هذا الشأن هو بمثابة ثورة عقلية على الفكر اليوناني. لذلك أصبح واجباً على علماء الإسلام في نظر إقبال، فيما هو مقبل من الأيام أن يعيدوا بناء هذه النظرية العقلية البحتة، وأن يُحكموا الصلات بينها وبين العلم الحديث الذي يظهر عنده أنه يتجه في الاتجاه نفسه(11).
وقد كنا بحاجة لمثل هذه المحاولة التي تصنف على المجال الفلسفي، وهو المجال الذي يعد ضرورياً عند التطرق لتجديد التفكير الديني، بحيث لا يمكن إهماله أو الاستغناء عنه. وتتأكد أهمية وقيمة هذه المحاولة الفلسفية لكونها تأتي من شخص في مستوى إقبال الذي عرف عنه تفوقه الفلسفي، وبهذا التفوق تميزت محاولته في تجديد التفكير الديني.
- 4 -
الدين والعالم الحديث
هذه المحاولة من إقبال تأتي في سياق المحاولات التي أرادت أن تدافع عن مكانة الدين في العالم الحديث، أمام تقدم وصعود الفلسفات الأوروبية الحديثة، التي أزاحت وقلصت مكانة الدين، وحددت له مساحات ضيقة لا تأثير لها إلا في المجال الفردي وبصورة سطحية للغاية. وانتصرت في المقابل لمكانة العلم الذي أحلته مكان الدين، وجعلت منه وكأنه دين العصر الجديد، وبالغت كثيراً في تصوير هذه المكانة للعلم على حساب مكانة ومنزلة الدين.
وقد أراد إقبال وهو يدافع عن مكانة الدين في العالم الحديث أن يستحضر الأقوال والمناقشات التي دارت في نطاق الفلسفات الأوروبية الحديثة حول جدلية العلاقة بين الدين والعلم، وبين الدين والفلسفة. وهذا ما يفسر عناية واهتمام إقبال بأفكار وتصورات المفكرين والفلاسفة الأوروبيين في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلامي) حيث كان يجد في نفسه الثقة والكفاءة في مناقشة هؤلاء الفلاسفة ومناظرتهم، وهو الذي تلقّى علومه الفلسفية منهم، وأنه لابد من مواجهة تلك الأفكار والتصورات لمن يريد أن يبرهن على مكانة الدين في العالم الحديث، خصوصاً وأن إقبال أراد توجيه خطابه حتى للأوروبيين أنفسهم.
والجهد الذي بذله إقبال في تأكيد معارضة روح القرآن للفلسفة اليونانية، كان بقصد تأكيد القطيعة مع العالم القديم من جهة، وتأكيد التناغم مع العالم الحديث من جهة أخرى. وبالذات مع إشارته إلى أن الدين هو الذي نهض بالثورة العقلية التي أطاحت بالفلسفة اليونانية القديمة، وبذلك أذن بميلاد العالم الحديث. وبالتالي فإن الدين الذي ساهم في تشكيل أرضيات ميلاد العالم الحديث، لا يمكن له إلا أن يكون قادراً على مجارة هذا العالم والتناغم والتفاعل معه. ولا يصح التبرير بالمطلق إلى تلك المحاولات التي عملت على إقصاء مكانة الدين في العالم الحديث، تحت عناوين أن الدين ينتمي إلى العالم القديم، ولم يعد قادراً على مواكبة العصر، وبعد أن حل العلم مكانه.
ولهذه المهمة دعا إقبال إلى تجديد التفكير الديني ليكون الفكر الديني في مستوى مجاراة العالم الحديث، ومواكباً لتطوراته، ومستجيباً لمقتضياته، ومتفاعلاً مع معارفه.
وفي نطاق هذه العلاقة بين الدين والعالم الحديث، حاول إقبال أن يلفت النظر إلى الأمور التالية:
أولاً: الحذر من أن يندفع الإنسان المسلم والمثقف المسلم نحو الفلسفات والمرجعيات الأوروبية التي كانت تتحرك بسرعة في العالم متحدية الحواجز والمسافات، ومهيمنة على مناخ العصر، ومؤثرة على اتجاهات المعرفة الإنسانية، وكونها أنها كانت تدعي دون غيرها مفاتيح الحداثة والتمدن والتقدم، ولهذا فقد استطاعت هذه الفلسفات أن تؤثر بقوة وعلى نطاق واسع في العالم. وقد كان إقبال شديد الوعي والإدراك بقوة تأثير هذه الفلسفات، لكن في اعتقاده أن أوروبا إذا كانت قد أقامت نظماً مثالية في العصر الحديث، فالتجربة بيّنت كما يقول، أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض فإنه لا قدرة له على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها.
ثانياً: اعتبر إقبال أن هناك أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية، وقد أصبح العالم مفتقراً إلى تجديد بسيولوجي، وأن أوروبا باتت أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان. لهذا فإن الدين في نظر إقبال هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعداداً أخلاقياً يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادراً على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء، فالسمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء، وإلى أين المصير، هو وحده الذي يكفل آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية، بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية(12).
ثالثاً: إن أول مسألة حاول إقبال معالجتها في كتابه، هي طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، وحددها بالسؤال التالي: هل من الممكن أن نستخدم في مباحث الدين المنهج العقلي البحت للفلسفة؟ وآخر مسألة عالجها في الكتاب نفسه هل أن الدين أمر ممكن؟
فالفلسفة التي كانت تمثل روح العالم الحديث هل أنها جاءت لكي تتغلب وتنتصر على الدين، بوصفها -كما تدعي- تمثل مرحلة متقدمة عليه في مسار تطور الفكر الإنساني، وبوصف الدين في اعتقادها يمثل مرحلة بدائية أو سابقة لمرحلة ما قبل انبعاث وميلاد الفلسفة؟ وبالتالي لا مكان للدين في عصر الفلسفة التي هي مرحلة العقل. لا مكان له في المسائل الكبرى المتصلة بمجالات الحداثة والتمدن والتقدم، ومجالات بناء وتكوين المجتمع والدولة والأمة، وهذا ما حاولت تحقيقه العلمانية التي انتصرت في الغرب بالاستناد إلى مرجعيات الفلسفة هناك.
وقد أراد إقبال أن يجادل في هذه المسألة، ويفتح حولها نقاشاً مختلفاً، ويفك الحصار عنها، ليقدم قراءة من فضاء ثقافي مختلف، ولكي يبرهن على أن الدين أمر ممكن، بل وضروري في العالم الحديث.
وحين يريد إقبال أن يفرق بين روح الفلسفة ورح الدين، يرى أن روح الفلسفة هي روح البحث الحر، حيث تضع الفلسفة كل سند موضع الشك، ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها، وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار، أو إلى الإقرار في صراحة بعجز التفكير العقلي البحت عن اكتناه الحقيقة القصوى. وبعكس الفلسفة فإن جوهر الدين في نظر إقبال هو الإيمان. وهذا لا يعني في نظره أن الدين ليس بحاجة إلى الفلسفة، بل إن الدين ونظراً لوظيفته أشد حاجة حتى من المبادئ العلمية المسلّمة، إلى أساس عقلي لمبادئه الأساسية. فقد يتجاهل العلم الإلهيات التي تعتمد على العقل، بل لقد تجاهلها حتى الآن، ولكن الدين لا يكاد يستغني عن السعي إلى التوفيق بين المتضادات التي نجدها في عالم التجربة، وعن تعليل يبرر أحوال البيئة التي تجد الإنسانية نفسها محاطة بها، ويستشهد إقبال بمقولة المفكر الإنجليزي هويتهد بقوله: إن عصور الإيمان هي عصور النظر العقلي(13).
وليس المقصود من النظر العقلي في الإيمان -كما يعقب إقبال- التسليم بتعالي الفلسفة على الدين، وإذا كان للفلسفة حق الحكم على الدين، فإن طبيعة ما يراد الحكم عليه -في رأي إقبال- لن يذعن لحكم الفلسفة، إلا إذا كان هذا الحكم قائماً على أساس ما يضعه هو من شرائط. وعندما تتهيأ الفلسفة للحكم على الدين، فإنها لا تستطيع أن تفرد له مرتبة دنيا بين الموضوعات التي تتناولها؛ لأن الدين -كما يضيف إقبال- ليس أمراً جزئياً، وليس فكراً مجرداً فحسب، ولا شعوراً مجرداً، ولا عملاً مجرداً، بل هو تعبير عن الإنسان كله، ولا مناص للفلسفة من التسليم بأن للدين شأناً جوهرياً في التأليف بين ذلك كله تأليفاً يقوم على التفكير(14).
وليست الفلسفة هي غاية ما يريد أن ينتهي إليه إقبال كما حاول المفكرون الأوروبيون جاهدون، فهناك ما هو أسمى من الفلسفة عند إقبال وهو الدين. وبعد أن بذل إقبال جهداً في الاستدلال بالبراهين الفلسفية على ظهور التجربة الدينية، ختم كلامه بالقول: ولكن مطمح الدين يسمو فوق مطلب الفلسفة، فالفلسفة نظر عقلي في الأشياء، وهي بهذا الوصف لا يهمها أن تذهب إلى أبعد من تصور يستطيع أن يرد كل ما للتجربة من صور خصبة إلى نظام أو منهج، فهي كأنها ترى الحقيقة عن بعد. أما الدين فيهدف إلى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق، فالفلسفة نظريات، أما الدين فتجربة حية، ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته(15).
رابعاً: من المكونات الأساسية في فلسفة إقبال، الدفاع عن النزعة الروحية التي حاولت النزعة العقلية في الفلسفات الأوروبية الحديثة تجفيف منابعها. ويمكن تصنيف فلسفة إقبال على الفلسفات التي لها طبيعة روحية. وبهذه النزعة الروحية تميز إقبال عن الفلاسفة الأوروبيين، وأظهر استقلاله عنهم، وبهذه النزعة أيضاً حاول إقبال التأثير في الفلسفات الأوروبية التي فقدت توازنها في نظره حين تخلت عن النزعة الروحية، وأظهرت موقفاً سلبياً منها سعياً نحو تحقيق انتصار نهائي وحاسم للعقل. وبخلاف هذا الموقف فإن إقبال يرى أن هناك ما هو أسمى من العقل يمكن أن يصل إليه الإنسان، وهو ذلك البعد الذي يتصل بالمعنويات وبالتجربة الروحية والشعورية عند الإنسان.
لهذا فقد ظل إقبال يلفت النظر باستمرار إلى تلك النزعة الروحية، وهو يتنقل بين الموضوعات والقضايا التي عالجها في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) فحين يتحدث عن الطبيعة والعلوم الطبيعية فإنه يضفي عليها معنى روحياً، فالعلم بالطبيعة -كما يقول- هو علم بسنة الله، ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة، وما هذا إلا صورة أخرى من صور العبادة.
ويرى إقبال في قوله تعالى: {وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}(16)، فإن هذه الآية في نظره تنطوي على فكرة هي من أعمق الأفكار التي وردت في القرآن الكريم، لأنها تشير على وجه قاطع إلى أن المنتهى الأخير يجب ألَّا يبحث عنه في حركة الأفلاك، وإنما يبحث عنه في وجود كوني روحاني لا نهاية له، ورحلة العقل إلى هذا المنتهى الأخير رحلة طويلة وشاقة، وفي هذا المنزع يبدو أن التفكير الإسلامي قد اتجه اتجاهاً مبايناً لاتجاه التفكير اليوناني كل المباينة(17).
وحين يتحدث عن فكرة الحياة الإنسانية، وطبيعة الرابطة بين الناس، يقول إقبال: إن الإسلام يرفض اعتبار قرابة الدم أساساً لوحدة الإنسانية، لأن قرابة الدم عنده أصلها مادي مرتبط بالأرض، ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعاً روحية في أصلها ومنشئها، وهذا الذي ييسر للإنسان أن يحرر نفسه من أسر الروابط المادية(18).
وعندما يقترب إقبال من الحديث عن مفهوم الدولة في الإسلام، يرى أنها ليست إلا محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني، وحتى الديموقراطية أعطاها إقبال وصف الديموقراطية الروحية، وهذا ما لم أسمعه من قبل إلا عند إقبال، حيث اعتبرها منتهى غاية الإسلام ومقصده.
وهكذا عندما يوجه إقبال حديثه إلى الإنسانية كافة، وما تحتاج إليه اليوم في نظره يركز في هذه الحاجات على الأبعاد الروحية، حيث تحتاج إلى ثلاثة أمور كما يقول: إلى تأويل الكون تأويلاً روحياً، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي.
وما يريد أن ينتهي إليه إقبال هو إعادة التوازن المفقود بين فلسفة الغرب وفلسفة الشرق. فلسفة الغرب التي انحازت كلياً إلى العقل وظلت بحاجة إلى النزعة الروحية لاكتساب التوازن. وفلسفة الشرق التي لها طبيعة روحية، وهي بحاجة إلى النزعة العقلية لاكتساب التوازن أيضاً. كما أراد إقبال الكشف عمَّا يفتقد إليه العالم الحديث، وهو البعد الروحي الذي منبعه الدين، لكي يكتسب الإنسان قوة المعنى بذاته، ويواجه أسئلة المصير، ويضفي جمالية الروح على العلاقات مع الناس.
- 5 -
مبدأ الحركة في تحديد التفكير الديني
بعد أن ظل إقبال يناقض ويحاجج أفكار الفلاسفة الأوروبيين ومقولاتهم، وهو يدافع عن الأفكار الإسلامية، وعن مكانة الدين في العالم الحديث، أخذ ينتقل بتساؤلاته ومناقشاته إلى داخل الفكر الديني الإسلامي نفسه، باحثاً ومحللاً العوامل والأسباب الفكرية والتاريخية التي أوصلت العالم الإسلامي إلى حالة الركود والجمود، ومتسائلاً عن مبدأ الحركة في بناء نظام الإسلام، وهل أن شريعة الإسلام قابلة للتطور؟
هنا يقترب إقبال من جوهر محاولته في تجديد التفكير الديني ليقدم تأملاته الفلسفية المبكرة في هذا الشأن، ويفتح أمام الفكر الإسلامي آفاق النظر في مثل هذا الموضوع الذي لا يخلو من حساسية وتعقيد.
ولا شك في أهمية وقيمة التأملات التي أثارها إقبال في هذا المجال، فهي تمثل إضافة لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها في محاولة تتصدى لمهمة تجديد الفكر الديني.
والأسباب التي أوصلت الفكر الديني التشريعي إلى حالة الجمود، هي في نظر إقبال ترجع إلى ثلاثة أسباب فكرية وتاريخية، هي:
أولاً: تعثر وفشل الحركة العقلية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية نتيجة ما أثارته من خلافات مريرة، كالخلاف الذي ظهر حول خلق القرآن. فلم يكن واضحاً في نظر إقبال البواعث الحقيقية لهذه الحركة العقلية من ناحية، ومغالاة بعض العقليين في أفكارهم من دون قيد من ناحية أخرى. الوضع الذي جعل أهل السنة -كما يقول إقبال- يعتبرون هذه الحركة عاملاً من عوامل الانحلال، ويعدونها خطراً على استقرار الإسلام من حيث هو دستور اجتماعي، فأصبح الهم الرئيس هو الإبقاء على الوحدة الاجتماعية الإسلامية. ولم يكن لهم من سبيل لتحقيق ذلك إلا استخدام ما للشريعة من قوة مقيِّدة ملزمة، والاحتفاظ ببناء نظامهم التشريعي على أدق صورة ممكنة.
ثانياً: ظهور التصوف ونموه متأثراً في تطوره التدريجي بطابع نظري بحت وغير إسلامي. حيث مثل التصوف في نظر إقبال صورة التفكير الحر، وعلى وفاق مع الحركة العقلية، حيث خلق بإصراره على التفرقة بين الظاهر والباطن نزعة من عدم المبالاة بكل ما يتصل بالظاهر دون الباطن، فحجب أنظار الناس عن ناحية هامة من نواحي الإسلام بوصفه دستوراً اجتماعياً. ولمواجهة هذا الوضع وجد جمهور المسلمين أن خير ضمان لهم هو اتباع المذاهب في تسليم أعمى على حد وصف إقبال.
ثالثاً: تخريب بغداد وهي مركز الحياة الإسلامية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، حيث مثل تدميرها نكبة فادحة يصفها جميع المؤرخين الذين عاصروا غزو التتار بخوف مهووس على مستقبل الإسلام، وكان من الطبيعي -كما يقول إقبال- في مثل هذا العصر من الانحلال السياسي أن يخشى رجال الفكر من المحافظين وقوع انحلال آخر، فركزوا جهودهم كلها في أمر واحد هو الاحتفاظ بحياة اجتماعية مطردة واحدة للناس جميعاً، وأبدوا في سبيل ذلك غيرة شديدة فأنكروا كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، وحفظ النظام الاجتماعي كان بيت القصيد في تفكيرهم.
وحين يتساءل إقبال من أين تبدأ الحركة في بناء الإسلام؟ يجيب أن مبدأ الحركة في الإسلام هي في الاجتهاد. والاجتهاد الذي يدعو إليه إقبال هو الاجتهاد المطلق أي الاجتهاد الذي يعطي الحق الكامل في التشريع. وهذا النوع من الاجتهاد كما يقول إقبال سلم به أهل السنة من ناحية إمكانه النظري، ولكنهم أنكروا دائماً تطبيقه العملي منذ وضعت المذاهب، ذلك لأن الاجتهاد الكامل أحيط بشروط يكاد يستحيل توافرها في فرد واحد.
ويرى إقبال أن العالم الإسلامي لكي ينهض بمهمة التجديد ويتخلص من رواسب الجمود بحاجة إلى الاجتهاد المطلق. ذلك لأن أحوال العالم الإسلامي -في نظر إقبال- قد تغيرت بصورة جذرية في عصره، مما أوجب الحاجة من جديد إلى الاجتهاد المطلق، وبواعث هذه الحاجة في نظره، هي:
1- أن العالم الإسلامي أصبح يتأثر بما يواجهه من قوى جديدة أطلقها من عقالها تطور الفكر الإنساني تطوراً عظيماً في جميع مناحيه.
2- أن أصحاب المذاهب الفقهية أنفسهم لم يدَّعوا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وأنهم لم يزعموا هذا أبداً.
3- أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيراً جديداً على ضوء تجاربهم، وعلى هدي ما تقلب حياة العصر من أحوال متغيرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ.
4- حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه، من دون أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته الخاصة(19).
وعندما يريد إقبال أن يثبت حقيقة قابلية الشريعة الإسلامية للتطور، يقول: إن التعمق في درس كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد، لابد من أن يجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي -على حد وصفه- الذي يرى بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور، وهكذا عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها، وما ثار حولها من ظلال، فإن ذلك الجمود المزعوم يتبخر، ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد. وهذا ما حاول إقبال إثباته والكشف عنه، عندما أراد مناقشة تلك الأصول، مبرهناً كيف أن هذه الأصول تتناغم وفكرة التطور، وكيف أنها تستجيب لتطور الفكر الإنساني في المجتمع المعاصر. ومما جاء في هذه المناقشة لأصول الفقه، ما يلي:
أولاً: القرآن. وهو الأصل الأول للشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيس -في نظر إقبال- أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله، وبينه وبين الكون من صلات. وليس من شك أيضاً أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بنظام الأسرة التي هي الركن الركين للحياة الاجتماعية.
والقرآن الذي يعتبر الكون متغيراً لا يمكن أن يكون خصماً لفكرة التطور، على أنه ينبغي حسب -قول إقبال- ألَّا ننسى أن الوجود ليس تغيراً صرفاً فحسب، ولكنه ينطوي أيضاً على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. والمبادئ التشريعية الرحبة والواسعة في القرآن هي أبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وهي في حقيقة الأمر -كما يقول إقبال- تعمل كمنبهٍ للفكر الإنساني.
وما يخلص إليه إقبال في هذا الأصل، لو أننا درسنا شريعتنا بالنسبة للانقلاب المنتظر في الحياة الاقتصادية الحديثة، فإن من المرجح أن نكشف في أصول التشريع عن نواحٍ جديدة لم تُكشف لنا بعد، مما يمكننا أن نطبقه بإيمان متجدد بحكمة هذه المبادئ.
ثانياً: الحديث. وهو الأصل الثاني للشريعة الإسلامية، وفي نظر إقبال أن رجال الحديث قد أدوا أجل خدمة للشريعة الإسلامية بنزوعهم عن التفكير النظري المجرد إلى مراعاة ما للأحوال الواقعة من شأن. ولو أننا واصلنا كما يضيف إقبال دراسة ما كتب عن الحديث وعنينا بتقصي ما تدل عليه الآثار من الروح التي كان يفسر النبي بها رسالته فقد تنجلي هذه الدراسة عن فائدة كبرى في فهم قيمة الحياة لمبادئ التشريع التي صرح بها القرآن. وهذا الفهم وحده هو الذي يعنينا عندما نحاول تأويل أصول التشريع تأويلاً جيداً.
ثالثاً: الإجماع. وهو في نظر إقبال قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، ومن الغريب أن يشتد الخلاف حول هذه الفكرة الهامة في صدر الإسلام، وأثارت الكثير من الجدل العلمي، وظلت مجرد فكرة لا غير تقريباً، وقلما اتخذت شكل نظام دائم في أي بلد من بلاد الإسلام. ولعل تحول الإجماع إلى نظام تشريعي ثابت -كما يضيف إقبال- كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد عهد الخليفة الرابع مباشرة. وما يبعث على الارتياح التام -على حد قول إقبال- أن نجد ضغط العوامل العالمية الجديدة، وتجارب الشعوب الأوروبية في السياسة قد جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة وما تنطوي عليه من إمكانيات. إن نمو الروح الجمهورية في البلاد الإسلامية وقيام جمعيات تشريعية فيها بالتدريج خطوة عظيمة في سبيل التقدم. ولما كانت الفرق المتعارضة تكثر وتزداد مما جعل انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب إلى هيئة تشريعية إسلامية هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة، فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين، ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط فيما خيّم على نظمنا التشريعية من سبات، ونسير بها في طريق التطور.
رابعاً: القياس. يبدو عند إقبال أن فقهاء الحنفية ونظراً لاختلاف الأصول الاجتماعية والزراعية التي كانت سائدة في البلاد التي فتحها المسلمون، لم يجدوا بصفة عامة الحالات المدونة في كتب السنة شيئاً يهتدون به، أو وجدوا من ذلك شيئاً قليلاً، فلم يكن أمامهم من سبيل سوى تحكيم العقل في الفتيا، وأوحت الأحوال التي استجدت في العراق بتطبيق منطق أرسطو، وإن كان قد ثبت أن هذا المنطق كان بالغ الضرر حسب نظر إقبال في المراحل الأولى لتطور التشريع؛ لأنه لو نظرنا إلى سير الحياة بمنظار المنطق الأرسطي لبدأ آلياً بحتاً ليس له في ذاته أصل يبعث فيه الحياة والحركة.
وهكذا اتجه مذهب أبي حنيفة -والكلام لإقبال- إلى تجاهل ما للحياة من حرية مبدعة، وما فيها من تحكم، وأمّل في أن يقيم على أساس من التفكير النظري المجرد نظاماً تشريعياً منطقياً كاملاً. أمام هذا المسلك قدم علماء الأصول في الحجاز -كما يقول إقبال- اعتراضات قوية على الدقائق الفقهية التي أثارها فقهاء العراق، وعلى ما نزعوا إليه من تخيل أحوال لا تمت إلى الواقع بسبب، ورأى علماء الحجاز أن هذه الأحوال المتخيلة لابد من أن تنتهي بالفقه الإسلامي إلى نوع من آلية لا حياة فيها.
وقد وجد إقبال أن هذه الخلافات المريرة بين المتقدمين من فقهاء الإسلام كان من أثرها، أن محصت تعريف القياس وحدوده وشروطه وإصلاحاته(20).
بعد هذا العرض يرى إقبال أنه ليس في أصول تشريعنا، ولا في بناء مذاهبنا ما يسوغ النزعة الحاضرة حسب قوله، وهي نزعة ما قبل التجديد.
هذه لعلها أبرز التأملات والأفكار والسياقات التي تعبر عن رؤية وفلسفة إقبال في تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني في الإسلام.
- 6 -
إقبال واتجاهات النقد
إن محاولة إقبال في تجديد التفكير الديني تستدعي نقداً يكون في مستوى ما أنجزه إقبال. وفي هذا النطاق يمكن الحديث عن أربع محاولات نقدية متغايرة فيما بينها من حيث الاتجاه العام، ومتنوعة من جهة الانتماء إلى فضاءات فكرية وجغرافية، ومتعاقبة من جهة زمنية، ومتباينة من حيث النتائج والدلالات.
وهذه المحاولات بحسب تعاقبها الزمني هي:
أولاً: نقدية هاملتون جيب في كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام"
جاءت محاولة هاملتون جيب لنقد إقبال في سياق تحليله للأفكار التي أثارها في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام). وبصورة عامة يمكن القول: إن جيب حاول تجنب الثناء على إقبال، أو حتى إظهار التوافق معه في بعض أفكاره، ولم يعطه حقه كما ينبغي. بل حاول أن يظهر تفوقه عليه، والتقليل من أهميته وقيمة محاولة إقبال، بتصويرها بأوصاف تضعف من منزلتها العلمية، ولم تخل هذه المحاولة أيضاً من نزعة التعالي.
ويمكن إجمال ملاحظات جيب في اتجاهين أساسيين، هما:
الاتجاه الأول: ويتحدد في طبيعة بواعث الاهتمام بإقبال وأفكاره، فأولى الملاحظات التي يتطرق إليها جيب، هي حين يصور إقبال بأنه يشذ عن أولئك الكتاب الذين حاولوا الدفاع عن الدين والبرهنة على ما يحسبونه منطبقاً على الفكر العصري، واعتباره محاولة إقبال في تجديد التفكير الديني أنها تمثل صياغة الأفكار الرئيسة للإسلام في قالب موحد للاهوت الإسلامي. وحين أشار جيب ثانية إلى هذه الملاحظة اعتبر أن ما أنجزه إقبال يمثل أول محاولة تامة لإعادة بناء اللاهوت الإسلامي(21).
ومن هذه البواعث أيضاً عند جيب أن إقبال في نظره يشكل أهم صورة للطائفة الإسلامية الحديثة، وهي الطائفة التي تشكل محور اهتمام كتاب جيب، مع ذلك فقد اعتبر جيب أن محاولة إقبال على هذا التميز إلا أنها كانت مخيبة للآمال الفكرية.
ومن البواعث كذلك تقدير جيب أن إقبال كان بمثابة الرجل الذي قبل مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية التي شغلت العالم الإسلامي في الهند، فمزاجه الشاعري -كما يقول عنه جيب- جعل منه مرآة لكل ما يعتري النفس من رومانسية ليبرالية، وميول اشتراكية لدى الشباب، وتوق إلى إنشاء الجامعة الإسلامية تحت لواء رئيس قوي يعيد للإسلام مجده السياسي. وهكذا كون إقبال في تصور جيب المدافع المتحمس عن الثقافة الغربية التي تأثر بها مع أنه يهاجم جميع المؤسسات الغربية على اعتبارها أموراً مشينة.
الاتجاه الثاني: ويصور كيف أن جيب حاول إظهار إقبال بأوصاف تقلل من أهميته، وأهمية الأفكار التي تنسب إليه. فتارة يصفه بالتناقض والتشوش، وأشار إلى هذه الملاحظة مرتين في كتابه، مرة حين اعتبر أن إقبال نظراً لمتناقضاته وتشوشاته كما يقول عنه، قد أسهم في زيادة الترجرج والنزاعات الداخلية الفكرية في الهند، ومرة حين أراد جيب تفسير ما نسميه بالتناقض عند إقبال حين يحاول تركيب اللاهوت الصوفي خلال سعيه إلى صياغة جديدة للاهوت الإسلامي. وتارة يعتبره أنه وقع في بلبلة فكرية، وتارة ثالثة يصف أحكام له بأنها غير ناضجة، ويحاول أن يخطئه دائماً، كما اعتبر أن الأفكار التي عبر عنها إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني) هي نتيجة التحليل الحدسي على الطريقة الصوفية، حيث يجتذبه كاهن الرومانطيقية اللاعقلانية ونبيها هنري برغسون(22).
ثانياً : نقدية محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي"
بخلاف هاملتون جيب حاول الدكتور محمد البهي الدفاع عن إقبال، وإظهار التحيز له، والثناء عليه، وتصويبه فيما ذهب إليه من أفكار، والاقتصاد ما أمكن في توجيه النقد إليه، مع التبرير له قدر المستطاع.
وقد اعتبر الدكتور البهي إقبالاً بأنه يمثل المصلح الفكري في الإسلام من بعد الشيخ محمد عبده؛ لأنه في نظره حاول مواجهة أشد التيارات الفكرية السائدة في عصره والمضادة للإسلام، والمتمثلة بصورة أساسية في الفكر الوضعي المنتسب لأوجست كونت، والفكر المادي الإلحادي المتمثل في الماركسية. ولكونه قدم عملاً فكرياً جامعياً في كتابه )تجديد التفكير الديني في الإسلام( وموجهاً لشريحة خاصة، الشريحة التي تُعنى بقضايا الفكر والفلسفة.
ويمكن تحديد النقد الذي وجهه البهي لإقبال في اتجاهين، اتجاه يتصل بالمنهج العام، واتجاه يتصل بمناقشة بعض الأفكار التفصيلية. في الاتجاه الذي يتصل بالمنهج العام تساءل البهي هل أن إقبالاً كان يردد أفكار الغربيين في كتابه )تجديد التفكير الديني(؟ وهل أنه كان متأثراً بأوجست كونت ومذهبه الوضعي، فعُني بالعالم الواقعي، وتصوير أن الإسلام يدعو إلى التجربة الحسية؟ أو أنه كان متأثراً بهيغل في فكرة الأنا، وبنيتشه في مفهوم الرجل الخارق فنادى بالفردية؟ أو هل أن إقبالاً كان صوفياً في منهجه ينزع نحو وحدة الوجود، ويفضل الرياضة الصوفية كطريق لصفاء النفس، أو كوسيلة للوصول إلى الذات العليا؟
والذي لا شك فيه عند البهي أن إقبالاً درس الفكر الغربي دراسة واسعة وهضمه واستفاد من منهجه، وتعبيراته ومصطلحاته. كما أن إقبالاً أيضاً في نظره كان صوفياً يقدر الرياضة الصوفية، ليس فقط لصفاء النفس والروح، وإنما للوصول إلى المعرفة الكلية.
مع ذلك فإن ما طرحه إقبال -في نظر البهي- لم يكن ترديداً للفكر الغربي، أو أثراً للصوفية، أو مزاوجة بين الفكر الغربي والصوفية في الإسلام(23).
ومن ثم حاول البهي الدفاع عن إقبال، وتصويب أفكار ومنهجه.
وما لم يشر إليه البهي أن مثل هذا النقد كان مطروحاً في حياة إقبال حيث حاول الدفاع عن نفسه أمام ما كان يقال عن تأثره بالفكر الغربي وبنيتشه بشكل خاص، فقد جاء في خطاب وجهه إقبال للدكتور نيكلسون قوله: "كل من حاول إثبات إفادتي من نيتشه فهو لا يعرف الحقيقة. إن نظريتي في الإنسان الكامل قد أبديتُها وكتبتُ فيها قبل أن أعرف نيتشه بسنين طويلة، وقد سبق أن نشرت مقالاً في هذا الصدد منذ فترة طويلة، ثم ألحقته في رسالتي للدكتوراه عن تطوّر ما وراء الطبيعة في إيران عام 1908م، وأهم ما يفرق بيني وبين نيتشه، أن نيتشه لا يرى من الضروري أن تتصادم الذات في طريق تنميتها وارتقائها إلى القمة مع العوامل الخارجية، وأما عندي فمن الضروري أن تحدث المعركة بين الذات وبين العوامل الخارجية، والسبب في ذلك أن نيتشه لا يرى من الضروري بقاء الإنسان، وأما أنا فأقرّ بقاء الإنسان"(24).
وقد ظل إقبال يدافع عن فلسفته وأفكاره وهو يجادل ويحاجج مفكري أوروبا وفلاسفتها، ويرى أن فلسفته هذه، هي فلسفة إسلامية أصلها ومنبعها القرآن. وتقصَّد إقبال -كما يقول- أن يحاجج المفكرين الأوروبيين بالفلسفات التي يعرفونها، ولو شاء لحاججهم بما في كتب فلاسفة الإسلام، وكتب الصوفية لإثبات آرائه.
أما الاتجاه الثاني في نقد البهي فهو يتصل بمناقشة بعض الأفكار ووجهات النظر التي يختلف فيها مع إقبال، كرأيه في شرح استمرار العالم وخلوده وبقائه الرأي الذي يرى فيه البهي أن تفسير النصوص التي استعان بها إقبال في تكوين هذا الرأي تخرج عن مدلولاتها الطبيعية المتعارف عليها عند المفسرين. وهكذا في تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم، وتقييمه لبعض الحركات الحديثة التي ظهرت في العالم الإسلامي كالبهائية في إيران، وحركة أتاتورك في تركيا، إلى جانب أفكار أخرى فصّل البهي الحديث عنها في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) .
ثالثاً : نقدية فضل الرحمن في كتابه " الإسلام وضرورة التحديث"
لقد حاول فضل الرحمن أن يكون حذراً وصارماً في حديثه ونقده لإقبال نتيجة لموقعه الأكاديمي الرفيع، ومن حيث المنحى العام فإنه كان شديد الشبه بهاملتون جيب، فقد تجنب توجيه الثناء لإقبال، أو إظهار التناغم والتوافق معه.
وما طرحه فضل الرحمن كان مجرد ملاحظات متناثرة ومتفرقة، ولم يقدم تحليلاً وافياً ومتماسكاً ومنهجياً لأطروحة إقبال الفكرية، مع ذلك سوف نشير إلى هذه الملاحظات لأهمية المكانة العلمية لفضل الرحمن في مجال الإسلاميات الأكاديمية المعاصرة، ولكونه ينتسب إلى البيئة الوطنية التي ينتسب إليها إقبال.
وقد أشار فضل الرحمن لأهمية إقبال وبنوع من الحذر، مرتين في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث) مرة حين اعتبر أن ليس من قبيل الصدفة -على حد قوله- ألّا تعرف الحداثة الإسلامية أي طالب جاد للفلسفة في طول العالم الإسلامي وعرضه يمكن الافتخار به سوى محمد إقبال. ومرة حين اعتبر -كما اعتبر من قبل هاملتون جيب- أن محمد إقبال قام بالمحاولة المنهجية الوحيدة في العصور الحديثة في ميدان المعرفة الإسلامية الميتافيزيقية في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
وأبرز الملاحظات التي أشار إليها فضل الرحمن هي:
1- اعتبار أن هدف إقبال في محاولته الفكرية، لم يكن هدفاً دراسياً علمياً، بل كان هدفه يقظة المسلمين كأمة وجماعة. ولهذا لم يقم إقبال -حسب نظر فضل الرحمن- بصياغة فلسفة تربوية، ولم يضع أي برنامج لتربية المسلمين، كما لم يقدم أي شيء من شأنه أن يمثل صياغة لسياسات تربوية إسلامية، ليس فقط في المجال التربوي، بل في غيره من حقول المسعى البشري، ولم يترك إقبال أي تراث وضعي أو إيجابي باستثناء رغبته التي أبداها في أن يكون لمسلمي الهند وطنهم الذي يمكنهم أن ينظموا ويوجهوا حياتهم تبعاً لما تحضهم عليه تعاليم الإسلام(25).
وفي هذه النقطة تحديداً يظهر الافتراق المنهجي بين فضل الرحمن وإقبال، بين إقبال الذي كانت تحركه نزعة الإحياء واليقظة ونهضة المسلمين، وبين فضل الرحمن الذي كانت تحركه النزعة العلمية والأكاديمية، وبحكم هذه النزعة كان من السهل على فضل الرحمن أن يلتفت لمثل هذه الملاحظة، ويعيرها الأهمية.
وقد كان إقبال ملتفتاً لهذه الملاحظة التي أثارها فضل الرحمن، فهو يرى أولوية تقديم جانب العمل والتجربة على جانب الرأي والتفكير المجرد، ومن الملاحظات البديعة التي وجدتها في كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام) أن الفكرة التي يفتتح بها إقبال كتابه، تحمل المعنى نفسه للفكرة التي يختتم بها كتابه، وهي الفكرة التي تقدم جانب العمل على جانب الرأي، فأول سطر يفتتح به إقبال كتابه هو (القرآن الكريم كتاب يُعنى بالعمل أكثر مما يُعنى بالرأي) وفي نهاية الكتاب يختتمه بقوله: (بأن العالم ليس شيئاً لمجرد الرؤية، أو أنه شيء يعرف بالتصور، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر ) وأثبتت التجربة عنده -كما يقول- "أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها، وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلاً، في حين أن الدين استطاع دائماً أن ينهض بالأفراد، ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها، وينقلهم من حال إلى حال"(26).
2- في نظر فضل الرحمن أن إقبال لم يأتِ بأي إضافة منهجية في مجال تعليم القرآن، وإنما اختار واستعار من بين آياته لكي يبرهن على أطروحات من المؤكد -كما يقول فضل الرحمن- أن بعضها كان حقاً من نتاج تمعنه العام في القرآن، لكنها تبدت له على أي حال ملائمة بشكل جيد للاحتياجات الراهنة لمجتمع إسلامي جامد، وأنه يعبر عن تلك الأطروحات انطلاقاً من نظريات تطور معاصرة قبل نظرية برغسون ووايتهد.
وتفسير هذه الملاحظة يتصل بالملاحظة السابقة، في أن هدف إقبال لم يكن هدفاً دراسياً، وبالتالي فإنه لم يكن بصدد بلورة نظرية منهجية في فهم القرآن، ولم يكن هذا قصده على الإطلاق. لكنه جعل من القرآن الكريم منبعاً لفلسفته ليكون مستقلاً عن الفلسفة الأوروبية، والفلاسفة الأوروبيين، ولعله ليقول لهؤلاء إنه لا يأخذ فلسفته منهم وإن رجع إليهم، وإنما يأخذها من القرآن الكريم، وعلى ضوء هذا الكتاب يحاكم فلسفاتهم ومقولاتهم الفلسفية، ليكشف لهم عظمة القرآن، وكيف أنه يمثل منبعاً صافياً وأصيلاً ومتجدداً في اكتشاف وتوليد واستنباط الأفكار الحية والمعاصرة.
وقد كان يبدو عند إقبال أن مقدمة ابن خلدون تدين بالجانب الأكبر من روحها إلى ما استوحاه المؤلف من القرآن، بل هو مدين للقرآن إلى حد كبير في أحكامه على الأخلاق والطبائع. هذا عند إقبال، ويبدو عندي أن هذا الكلام بتمامه ينطبق على إقبال فإنه مدين للقرآن إلى حد كبير في استنباط وتوثيق أفكاره ومقولاته، وحتى في استقلاله الفلسفي، وتميزه عن الفلاسفة الأوروبيين، وليس كما ظن هاملتون جيب خطأً حين اعتبر أن من الضعف عند إقبال كونه يستند بصورة دائمة إلى الآيات القرآنية لإثبات براهينه.
3- يرى فضل الرحمن أن محاولة إقبال صارت اليوم قديمة جداً، طالما أنه كان يأخذ مأخذ الجدية معاصريه من العلماء الذين كانوا يحاولون أن يبرهنوا على إرادة الإنسان الدينامية الحرة بالاستناد إلى قاعدة المعطيات العلمية الجديدة. والنقاش الذي يوجه لهذا الكلام، هل هناك محاولة لا ينبغي لها أن تأخذ مأخذ الجد آراء ومقولات وأفكار المعاصرين لها من العلماء!
وإذا محاولة إقبال صارت اليوم قديمة، فهي قديمة من ناحية زمنية، لا من ناحية معرفية، فهي لم تقرأ بصورة معمقة إلى هذا اليوم، ولم نتجاوز هذه المحاولة معرفياً إلى هذا اليوم أيضاً، فهي محاولة لم تتمم من جهة، إلى جانب أن هناك انقطاعاً معرفياً عنها من جهة أخرى.
وكان من الإنصاف عندما أشار فضل الرحمن إلى هذه الملاحظة أن يلتفت ويشير إلى اللغة الذكية من إقبال حين أشار في مقدمة كتابه إلى ملاحظة تعزز من قيمته، وتسلب المعنى من ملاحظة فضل الرحمن، بقوله: "إنه ينبغي ألَّا يغيب عن أذهاننا أن التفكير الفلسفي ليس له حدّ يقف عنده، فكلما تقدمت المعرفة، وفتحت مسالك للفكر جديدة، أمكن الوصول إلى آراء أخرى، غير التي أثبتها في هذه المحاضرات، وقد تكون أصح منها. وعلى هذا فواجبنا يقتضي أن نرقب في يقظة وعناية تقدم الفكر الإنساني، وأن نقف منه موقف النقد والتمحيص"(27).
رابعاً : نقدية الشيخ مرتضى المطهري في كتابه "الحركات الإسلامية في القرن الأخير"
في هذا الكتاب قدم الشيخ المطهري ملاحظات عامة وسريعة، وهو يقيم الدور الإصلاحي لإقبال الذي يحضى عنده بثناء كبير، وعند النخب الدينية الإيرانية بصورة عامة، لكون إقبال قريباً من الثقافة الإيرانية، كما تجلى ذلك في رسالته للدكتوراه التي خصصها حول تطور وازدهار علم ما وراء الطبيعة في إيران، ولأنه كان يكتب الشعر باللغة الفارسية وبذائقة شعرية خلاقة وبديعة، ولمسلكه المعنوي والعرفاني المزدهر في الثقافة الإيرانية، ومحبته الصادقة لأهل البيت (عليهم السلام) لهذا فإن التأثير الذي تركه إقبال في إيران، وفي الفكر الديني والحياة الثقافية هناك، لا نرى ما يماثله من تأثير في العالم العربي.
وفي نظر الشيخ المطهري فإن إقبال كان يمتلك معرفة واسعة وعميقة بالأفكار الفلسفية والاجتماعية الغربية، وكان يعتقد أن الغرب يفتقد إلى إيديولوجية إنسانية متكاملة، في حين أن الإسلام في نظره كان يمتلك مثل هذه الإيديولوجية. وبخلاف سائر تلامذة الثقافة الغربية فإن إقبال كان يملك بعداً روحياً وعرفانياً عميقاً، فهو يعطي أهمية فائقة للعبادة والصلاة والذكر. ويضيف الشيخ المطهري أن إقبالاً كان يفكر بنفس القضايا التي أهتم بها الشيخ محمد عبده في ضرورة البحث عن طريق يستطيع المسلمون من خلاله حل ومعالجة مشاكلهم السياسية والتربوية والاجتماعية المعاصرة، بالإضافة إلى أن إقبال لم يكن رجل فكر فقط، بل رجل عمل ونضال أيضاً.
أما نقاط الضعف عند إقبال في تقدير الشيخ المطهري، والتي ظهرت من خلال كتابه )تجديد التفكير الديني في الإسلام( فيحددها بنقطتين، هما:
1- أن معرفة إقبال بالثقافة الغربية كانت أوسع من معرفته بالثقافة الإسلامية.
2- تقييماته الخاطئة للحركات الإصلاحية والشخصيات في العالم الإسلامي، حين اعتبر الحركة البهائية في إيران، وإصلاحات أتاتورك في تركيا من الحركات الإصلاحية.
- 7 -
ملاحظات ونقد
جدير بالعالم الإسلامي أن يتذكر ويفتخر بوجود مفكر وفيلسوف مثل محمد إقبال، فمن يتعرف على أفكاره وأشعاره يتملكه الإعجاب به، وهو من طبقة المفكرين الكبار، ومن الفلاسفة الذين يذكرون بفلاسفة المسلمين السابقين. وقد كان صاحب فلسفة عرف بها، هي الفلسفة الذاتية، حيث يرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي هو إثبات الذات لا نفيها، وكماله يتوقف على قدر إثبات ذاته وتمكين استقلاله، وأن الذات العليا هي المثل الأعلى للإنسان، وكلما تخلق الإنسان بأخلاق الله -كما جاء في الأثر- قرب من كماله، وتنقص ذاته على قدر بعده من الخالق. وهذا يعني أن إقبالاً لم يكن فيلسوفاً بلا فلسفة، كما لم يكن فيلسوفاً مقلداً أو تابعاً لغيره بل صاحب نزعة فلسفية تجديدية.
وإقبال هو نموذج المفكر الذي نفتقده، وينبغي البحث عنه، فهو المفكر الذي قاده شغفه المبكر للفلسفة إلى دراستها وتحصيلها في جامعات بريطانيا وألمانيا، واقترب كثيراً من الفلسفات الأوروبية الحديثة وتعمق في دراستها وتكوين المعرفة بها، ووجد فيه الأساتذة الأوروبيون الطالب الذكي الذي يستحق العناية والاهتمام.
لهذا فقد كان من السهل على إقبال أن يصبح مفكراً متغرباً، وتلميذاً نجيباً للثقافة الأوروبية، كما حصل ويحصل مع الكثيرين في العالم العربي والإسلامي الذين مروا بمثل تجربة إقبال. مع ذلك بقي إقبال محافظاً على جوهره الديني، ومتمسكاً بعقيدته وشريعته، ومدافعاً قوياً ودون مواربة عن الإسلام والأفكار الإسلامية، ومحاججاً المفكرين الأوروبيين في أفكارهم وفلسفاتهم. وقد كان إقبال واضحاً في هذا المسلك ليس أمام المسلمين وفي العالم الإسلامي فحسب، وإنما أمام الأوروبيين أنفسهم، ولم يجد في هذا المسلك ما يخدش في مكانته الأكاديمية عند الأوروبيين، أو في منزلته العلمية في نظرهم، كما هو مسلك بعض المفكرين والأكاديميين المسلمين الموجودين في الجامعات والمعاهد الأوروبية والأمريكية. فقد بقي إقبال مفكراً دينياً وصاحب ثقافة واسعة بالفلسفات الأوروبية الحديثة.
ويذكر لإقبال أيضاً، أنه مع تعمقه في دراسة العلوم الفلسفية العقلية، احتفظ بنزعته المعنوية والروحية، في الوقت الذي انقسم فيه العلماء والمفكرون بين من ينحاز إلى النزعة العقلية وهم الأكثرية، وبين من ينحاز إلى النزعة الروحية وهم الأقلية. ومعظم الذين درسوا في الجامعات الأوروبية والأمريكية وتخرجوا فيها اعتبروا أنفسهم ينتمون إلى الاتجاهات العقلية باعتبار أن العقل هو المكوّن الأساسي لمفهوم الحداثة عند الغربيين، والحداثة هي المفهوم الذي يتسابق الكثيرون، وخصوصاً الدارسين في الجامعات الغربية على الانتساب إليه، ويرون في هذا الانتساب قمة المجد الذي يتطلعون إليه.
وليس هناك مكان واعتراف بالأبعاد المعنوية والروحية في مفهوم الحداثة وخطابها الفلسفي عند الغربيين، فهذه الأبعاد في نظرهم تصنف على الاتجاهات اللاعقلانية التي لا يمكن أن تنتظم في خطاب الحداثة الفلسفي. ولهذا قليلاً ما نجد بين الشرائح الكبيرة من المثقفين في العالم العربي والإسلامي من يتظاهر بتلك الأبعاد المعنوية والروحية، وهناك من يؤمن بتلك الأبعاد ويحاول أن يخفيها، ولا يتظاهر بها بصورة صريحة وواضحة، على خلفية أن المناخ العام في هذا الوسط لا يتناغم وتلك الأبعاد. وهذا بخلاف ما كان عليه إقبال الذي تجلت في أفكاره وفلسفته الأبعاد المعنوية والروحية بصورة واضحة وصريحة، وظل يدافع عن هذه الأبعاد ويحاجج عنها بالأدلة والبراهين الدينية والفلسفية.
فحين يختتم إقبال حديثه عن البرهان الفلسفي على ظهور التجربة الدينية في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) يقول: "الفلسفة نظريات، أما الدين فتجربة حية، ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته، وأن يجد كماله في حال من أحوال العقل يسميها الدين الصلاة، والصلاة لفظ من آخر ما انعرجت عنه شفتا نبي الإسلام عند وفاته"(28).
وبفضل هذه الأبعاد المعنوية والروحية اكتسبت أفكار إقبال وفلسفته قوة التأثير والإشعاع في العالم الإسلامي.
ويذكر لإقبال كذلك أنه من المفكرين القلائل ممن اتخذ من القرآن الكريم منبعاً لأفكاره وفلسفته، منبعاً يستنبط منه تارة، ويستدل به تارة أخرى، ويحاجج به تارة ثالثة. وفي هذا الشأن قدّم إقبال طائفة مهمة من التأملات المعنوية والفكرية والفلسفية التي استوحاها من القرآن الكريم، التأملات التي كانت مضيئة في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) ومعظم الذين نظروا إلى هذا الكتاب التفتوا إلى هذه الملاحظة لشدّة وضوحها، وتمسك إقبال بها، بحيث من الممكن دراسة هذا البعد بشكل مستقل في أفكار إقبال؛ لأنه يحاول أن يقدم تأملات يستقل بها، وتعبر عن اجتهاداته الخاصة به، ولم يرجع في هذه التأملات إلى التفاسير القرآنية القديمة والحديثة، ولم يتطرق إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولم يستحضر حتى الأقوال فيما إذا كانت مطروحة حول تلك الآيات التي استشهد بها، واستنبط منها تأملاته، ولعله كان قاصداً إلى ذلك من دون أن يفصح عنه. ولهذا هناك من أظهر الاختلاف مع إقبال في بعض تأملاته وتفسيراته مثل الدكتور محمد البهي مع أنه أثنى على هذا الاهتمام عنده، وقد عدّد البهي الآيات التي اختلف في تفسيرها مع إقبال في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) .
ونلفت النظر إلى هذا التميز عند إقبال لأننا لا نجد مثل هذا الاهتمام عند قطاع كبير من مثقفي ومفكري العالم العربي والإسلامي الذين يصدق عليهم القول: إنهم اتخذوا القرآن كتاباً مهجوراً.
يضاف إلى ذلك أن إقبال كان واعياً لدوره الذي نهض به كمفكر في الأمة، وهذا الوعي هو الذي قاده لتبني فكرة التجديد الديني منذ وقت مبكر، ولعله تأثر في تبنيه لهذا الدور وتعززت ثقته به، لما وجده من تأثير متعاظم لمفكري أوروبا في مجتمعاتهم وفي نهضة تلك المجتمعات وتقدمها. ولهذا كان يرى أن (المهمة الملقاة على عاتق المسلم المعاصر مهمة ضخمة، إذ عليه أن يفكر تفكيراً جديداً في نظام الإسلام كله، دون أن يقطع ما بينه وبين الماضي قطعاً تاماً)(29).
كما كان يتمنى لو أن السيد جمال الدين الأفعاني الذي يصفه إقبال بأنه كان دقيق البصر -بالمعنى العميق- لتاريخ الفكر والحياة في الإسلام، إلى جانب خبرته الواسعة بالرجال والأحوال، الخبرة التي جعلت منه في نظر إقبال همزة الوصل بين الماضي والمستقبل، كان يتمنى عليه لو أن نشاطه الموزع الذي لم يعرف الكلل، اقتصر بتمامه على الإسلام بوصفه نظاماً لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة، ولو أنه اقتصر على ذلك لكان العالم الإسلامي أقوى أساساً من الناحية العقلية، مما أصبح عليه فيما بعد.
وحين يريد إقبال أن يحدد طبيعة مهمته الفكرية معقباً على ما قاله عن الأفغاني يقول: "ولم يبق أمامنا من سبيل سوى أن نتناول المعرفة العصرية بنزعة من الإجلال، وفي روح من الاستقلال، والبعد عن الهوى، وأن نقدر تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة، ولو أدى بنا ذلك إلى مخالفة المتقدمين وهذا الذي أعتزم فعله"(30).
وهذا النص من أكثر النصوص التي تشرح ما كان يريد إقبال أن ينهض به بوصفه مفكراً في مجال تجديد التفكير الديني، وعن الثقة التي يراها إقبال في نفسه وهو يقدم على هذه المهمة، وعن الطريقة التي يتعامل بها مع المعرفة العصرية حيث لا يخفي إجلاله لها، لكنه الإجلال الذي لا يسلبه روح الاستقلال، ولا يجعله يتنكر لتعاليم الإسلام. فقد أظهر إقبال في هذا النص توازناً دقيقاً، هو التوازن الذي ظل يفتقده الفكر الإسلامي في مرحلة ما بعد إقبال.
أما الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على محاولة إقبال، فمنها:
أولاً: لقد جاءت محاولة إقبال ثرية بالمناقشات الفلسفية والدينية، القديمة والحديثة، ومكثفة بالأفكار والبراهين العقلية والنصية، حيث كشفت عن ثقافة واسعة، ومعرفة عميقة. ومع أنه حاول تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للفكر الديني في الإسلام، أو إعادة النظر في تلك الأسس الفكرية والفلسفية ومحاولة إصلاحها، إلا أنه لم يعتنِ كثيراً بتركيز وتنظيم الأفكار الرئيسة التي حاول تأكيدها والدفاع عنها، وجمع البراهين للاستدلال عليها، وكأن الطابع الشفهي الذي يغلب عليه في العادة التوسع والإسهاب، تغلب كثيراً على عناصر التركيز والبناء المنهجي للأفكار.
في حين أن محاولة تُعنى بقضية حساسة مثل قضية تجديد التفكير الديني، كان يفترض أن يتجلى فيها المستوى المنهجي بصورة واضحة وراسخة، خصوصاً وأن هذه المحاولة تعد من أبكر المحاولات التي تطرقت إلى قضية التجديد الديني وعالجتها.
لهذا فإن إقبال تحدث عن التجديد، ولم يتحدث لنا بصورة منهجية عن منهج التجديد.
ثانياً: اعتبر إقبال أن اللحظة التي حاول فيها إنجاز مهمة تجديد التفكير الديني، هي اللحظة المناسبة لهذا العمل. وحين نتحرى عن هذه اللحظة التي قصدها إقبال وعاصرها، نكتشف أن هناك لحظتين متعارضتين تحدث عنهما إقبال في كتابه. لحظة قيام تركيا الحديثة التي ورثت مرحلة ما بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، وهي اللحظة التي امتدحها إقبال وبالغ في الثناء عليها وقال عنها: "إن تركيا، في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري، وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحاً مريراً في ميدان العقل والأخلاق"(31).
واللحظة الثانية، المعارضة إلى اللحظة السالفة، هي تلك اللحظة التي يصفها إقبال بقوله: "نحن نمر الآن بعهد شبيه بعهد ثورة الإصلاح البروتستنتي في أوروبا، فينبغي ألَّا يضيع سدى ما تعلمناه من قيام حركة لوثر ونتائجها. فدرس التاريخ في تعمق وعناية يظهر لنا أن حركة الإصلاح كانت سياسية في جوهرها وأن نتيجتها الخالصة في أوروبا أسفر عن إحلال تدريجي لنظم أخلاقية قومية محل الأخلاق المسيحية العالمية"(32).
لهذا كنت أتساءل هل أن اللحظة التي تحدث عنها إقبال حول تجديد التفكير الديني هي اللحظة المناسبة فعلاً؟ أم أنها لحظة متوترة ومضطربة، وغير مواتية على الإطلاق لمهمة دقيقة وحساسة مثل مهمة تجديد التفكير الديني !
فهل أن إقبال وجد في تلك اللحظة إمكانية حدوث انقلاب على الفكر الديني فأراد حماية هذا الفكر والدفاع عنه عن طريق إثبات تقبله للتجديد! أم أن إقبال وجد فيما سمي بالإصلاحات في تركيا، بعداً إيجابياً هو انبعاث فكرة الإصلاح والتجديد، وأراد الاستفادة من هذا المناخ في الدعوة إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام، ونلمس في كلام إقبال ما يوحي بمثل هذه الملاحظة التي يريد أن يوازن فيها بين الحرية والانحلال، وحسب قوله: "إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضاً أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرة الإنسانية العامة الشاملة التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام"(33).
لذلك من الصعب الجزم في أن تلك اللحظة التي قصدها إقبال، هي اللحظة المناسبة كل المناسبة حسب وصفه!
ثالثاً: من أكثر الملاحظات التي سجلها الباحثون الإسلاميون على كتاب إقبال هي وجهات نظره تجاه بعض الحركات والجماعات التي ظهرت في العالم الإسلامي، كالحركة البهائية التي ظهرت في إيران، وحركة أتاتورك في تركيا. فقد اعتبر إقبال البهائية والبابية من الحركات الكبرى الحديثة التي ظهرت في آسيا وأفريقيا، وأنها ليست سوى صدى فارسي حسب تعبيره للإصلاح الديني العربي، متأثرة بذلك -كما يرى إقبال- بحركة الشيخ محمد عبد الوهاب التي ظهرت في نجد وسط الجزيرة العربية.
كما أظهر إقبال إعجابه وثناءه على حركة أتاتورك في تركيا، بطريقة أثارت الدهشة، وفتحت العديد من التساؤلات في الأوساط الفكرية الإسلامية حول كيف وقع إقبال في مثل هذه الأخطاء والالتباسات، وهو المفكر اللامع صاحب الذكاء الحاد، والذهن الوقاد، والمتميز في القدرة على تحليل الأفكار بطريقة فلسفية دقيقة، والملم بالأفكار والمقولات الفلسفية، القديمة والحديثة، الأمر الذي لا يتناسب والالتباس الذي وقع فيه إقبال، خصوصاً وأنه كان معاصراً لفترة التغيرات التي مرت بها تركيا في أعقاب نهاية دولة الخلافة العثمانية.
وقد اعتنى الباحثون الإسلاميون بالبحث عن تفسير لهذا الالتباس الذي وقع فيه إقبال، فهناك من يرى -مثل الدكتور محمد البهي- أن إقبالاً لم يدرس هذه الحركات من مصادرها، وإنما قرأ عنها من طريق المستشرقين الأوروبيين، وأخذ بكلامهم بتقليد واتباع. وهناك من يرى -كالشيخ مرتضى المطهري- أن إقبالاً لم يسافر ويتجول في العالم الإسلامي لكي يتعرف إليه عن قرب، كما فعل السيد جمال الدين الأفغاني مثلاً.
والحقيقة أن إقبالاً ليس من النوع الذي يأخذ بكلام الأوروبيين بسهولة، فهو يتقصد التظاهر بالاستقلال عنهم. وكونه لم يسافر ويتجول في العالم الإسلامي، فهذا ليس سبباً كافياً، لأنه كان معاصراً لما حدث في تركيا، الحدث الذي كان مدوياً في العالم الإسلامي برمته. ولم أجد تفسيراً مقنعاً سوى أنها عثرة وقع فيها إقبال، كما يقع غيره من البشر في عثرات، والأكيد أنها حصلت بسبب نقص في الاطلاع، وفي تكوين المعرفة.
رابعاً: معظم الذين كتبوا عن إقبال ودرسوا أفكاره، تطرقوا دائماً إلى الشيخ محمد عبده، وبعضهم أجرى مقاربات بينهما كالدكتور البهي، وبعضهم وجد تشابهات بينهما في المنحى الفكري كالشيخ المطهري، وبعضهم تطرق إليهما بصور أخرى مختلفة كهاملتون جيب وفضل الرحمن. ولم يلتفت هؤلاء جميعاً إلى أن إقبالاً لم يتحدث عن الشيخ محمد عبده، ولم يأتِ على ذكره قط في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام). وكان يفترض أن يلتفت إليه حينما وجه ملاحظته إلى الأفغاني متمنياً لو أن نشاطه الموزع اقتصر بتمامه على الإسلام بوصفه نظاماً لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة. بمعنى أن إقبالاً كان يفضل دوراً فكرياً للأفغاني على دوره السياسي الواسع، وهذا هو الدور الذي نهض به الشيخ عبده، وبه تميز عن الأفغاني.
ولعل إقبالاً لم يطلع على كتابات ومؤلفات الشيخ عبده، لأنه لو اطلع عليها لأشار إليها بالتأكيد بصورة من الصور. وليس الشيخ عبده هو فقط الذي لم يأتِ على ذكره في كتابه المذكور، وإنما حتى رجالات النهضة والإصلاح الديني الذين ظهروا وعرفوا في العالم الإسلامي، هم أيضاً لم يتم التطرق إليهم، كالشيخ عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد حسين النائيني والشيخ محمد رشيد رضا إلى جانب رجالات الإصلاح في مصر والعراق وبلاد الشام.
وأخيراً فإن محاولة محمد إقبال تعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتمم في العالم العربي والإسلامي ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي، وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائراً في طريقة التعامل معها، قبضاً وبسطاً، إقداماً وإحجاماً. ويعد هذا الانقطاع عن محاولة إقبال عن أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر.
الهوامش:
(1) وجهة العالم الإسلامي. مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 2002م، ص63.
(2) المصدر نفسه، ص121.
(3) تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ترجمة: عباس محمود، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، ص14.
(4) المصدر نفسه، ص206.
(5) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1991م، ص380.
(6) محمد إقبال: فكره الديني والفلسفي، محمد العربي بو عزيزي، دمشق، دار الفكر، 1999م، ص17.
(7) تجديد التفكير الديني في الإسلام، مصدر سابق، ص2.
(8) المصدر نفسه، ص8.
(9) المصدر نفسه، ص9.
(10) المصدر نفسه، ص21.
(11) المصدر نفسه، ص84.
(12) المصدر نفسه، 217.
(13) المصدر نفسه، ص6.
(14) المصدر نفسه، ص7.
(15) المصدر نفسه، ص74.
(16) سورة النجم، آية 42.
(17) تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص152.
(18) المصدر نفسه، ص168.
(19) المصدر نفسه، ص193.
(20) المصدر نفسه، ص109 - 204.
(21) الاتجاهات الحديثة في الإسلام، هاملتون جيب، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1966م، ص20 - 89.
(22) المصدر نفسه، ص151.
(23) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مصدر سابق، ص379.
(24) محمد إقبال: الشاعر المفكر الفيلسوف، سيد عبد الماجد الغوري، دمشق، دار ابن كثير، 2000م، ص129. نقلاً عن كتاب: مضامين إقبال، كراتشي، 1957م، ص63.
(25) الإسلام وضرورة التحديث، فضل الرحمن، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت، دار الساقي، 1993م، ص89.
(26) تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص207.
(27) المصدر نفسه، ص3.
(28) المصدر نفسه، ص74.
(29) المصدر نفسه، ص111.
(30) المصدر نفسه، ص111.
(31) المصدر نفسه، ص186.
(32) المصدر نفسه، ص188.
(33) المصدر نفسه، ص187.