شعار الموقع

السيد محمد باقر الصدر والمطارحات الفكرية في عصره

رسول محمَّد رسول 2006-06-17
عدد القراءات « 897 »

في فضاء إصلاحي ديني تجديدي كان قد نما بمدينتي النجف الأشرف والكاظمية وسط العراق، بداية الثُّلث الثاني من القرن العشرين، نشأ المفكِّر الإسلامي السيد محمَّد باقر الصدْر (1931 - 1980)، الذي عُدَّ ولما يزل واحداً من أبرز المفكرين الإسلاميين العراقيين الذين ظهروا في القرن الماضي عندما صكَّ رؤية عمل فلسفية متكاملة البناء شغل البُعد النقدي فيها ركناً أساسياً من أركان نظامها لا بوصفه أداة تفكيك سجالي إنما كطريق بنائي في صياغة مفاصل تلك الرؤية وصولاً إلى تنضيد خطابها التداولي والفكري والفلسفي الذي ميَّزها عن تجارب مماثلة لها في إطار الفكر الإسلامي العراقي الحديث. وفي هذا المنحى تصدّى السيد الصدر بوصفه مفكراً إسلامياً إلى الإيديولوجيات العَلمانية التي اشتهرت في مرحلة أربعينات وخمسينات القرن الماضي بالعراق؛ ناقداً خطابها، ومفكِّكاً لأهم مقولاتها المركزية ومنطق طروحاتها الفكرية، ومنتصراً لرؤيته الروحية في مشروعه الفكري والفلسفي والعملي.

مأسسة الإصلاح

في تلك الفترة، كان الشيخ الإصلاحي محمَّد رضا المظفَّر (1904 - 1964) قد دشَّن مشروعاً لإصلاح مناهج الدراسة في (الحوزة العلمية) بالنجف منذ نحو عام 1933، بعد أن استيقنَ أنَّ أية محاولة لإصلاح الأوضاع في الأمة إنما تبدأ من إصلاح (الحوزة العلمية) بوصفها مركز التوجيه الفقهي والاجتهادي والفكري والثقافي والسياسي والحضاري.

منذ نهاية ثورة العشرين أو ثورة الروحانيين بدت (الحوزة العلمية) في النجف بأوضاعها التي كانت عليها يومها، وبالعُزلة التي كانت تعيشها في تلك الفترة، عاجزة عن التفاعل مع المجتمع العراقي والتأثير فيه**. وفي هذا الإطار اعتبر المظفَّر أنَّ إصلاح المناهج وأساليب الدراسة داخل الجامعة الدينية هو الخطوة الأولى في سبيل تحقيق مأمولات التفاعل والتأثير في الأمة والمجتمع، في وقت كان الشيخ يُدرك فيه حجم الصعوبات التي تواجهها أية عملية إصلاح من هذا النوع في ظل مناخ حوزوي مترهِّل بتقليديته ومفجوع بانغلاقه إثر الإحباط الذي مُني به فقهاء الشيعة بعد ثورة العشرين عندما تعرَّض الإسلاميون منهم إلى الاعتقال والإبعاد والتهميش والقمع، فضلاً عن خفوت مركزية المؤسسة الدينية في العراق إثر تنامي الإيديولوجيات القومية والعروبية والعَلمانية في مرحلة الانتداب البريطاني على العراق الملكي التي امتدَّت حتى مطلع الثلاثينات من القرن ذاته وما بعدها من مراحل سياسية.

لقد تبنى الشيخ المظفَّر محاولات عدَّة لإنشاء إطار مؤسساتي ينهض بعملية الإصلاح، إلا أن محاولاته الأولى فشلت جميعها بسبب ما تعرَّضت له من هجمات مضادة أتت النيران عليها من الأوساط الفُقهائية المحافظة والتقليدية بل والمتزمِّتة التي كانت ترفض كل فكرة للإصلاح وتحاربها لأنها تقض مضاجع الاستكانة والركون إلى القبول بواقع الإحباط الذي مُنيت به المؤسسة الحوزوية بعد انتهاء ثورة العشرين. لكنَّ المظفَّر، وبعد سنوات من المحاولات الدؤوبة، نجح في عام 1935 بتأسيس (جمعية منتدى النشر)، وهي مدرسة عالية للعلوم الإسلامية في النجف على غرار المدارس الحديثة. وكانت الهيئة التأسيسية لهذه الجمعية قد ضمَّت كلاً من الشيخ محمد جواد الحجامي، والشيخ محمد رضا المظفَّر، والسيد موسى بحر العلوم، والسيد يوسف الحكيم، والشيخ هادي حمُّودي والشيخ علي ثامر. وقد تطوَّرت هذه المدرسة بعد ثلاثة سنوات حيث تأسَّست (كلية الفقه) عام 1938 بالنجف. واستهدف مشروع منتدى النشر إصلاح الأوضاع الدراسية والمنهجية في (الحوزة العلمية)، لإعداد جيل من العلماء الواعين والخطباء الكفوئين الذين يتحمَّلون مسؤولية نشر الثقافة الإسلامية، والاهتمام بقضايا الأمة ومشاكلها.

في هذا السياق، كانت (جمعية منتدى النشر) قد مضت في مشروعها الإصلاحي حيث فتحت مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية تابعة لها بالنجف الأشرف ومدينة الكاظمين (الكاظمية). وفي إحدى مدارس الكاظمية كان السيد محمد باقر الصدر قد تلقَّى تعليمه فيها مستلهماً أجواءها الإصلاحية. ومن ثمَّ انتقل نحو عام 1945 إلى مدينة النجف لاستكمال دراساته الحوزوية، وهناك عاش في كنف المناخ الإصلاحي حتى صار أحد أعلامه البارزين، وفي ظل كل ذلك استطاع السيد الصدر "أن يعيش العصر، ويصنع لنفسه حضوراً في قمة العلم والثقافة، وهو في بيئة كثيراً ما توجَّه إليها النقد من العلماء المُصلحين بانغلاقها وتقليديتها وانقطاعها عن قضايا العالم والعصر والحياة، والذي يعرف طبيعة تلك البيئة ومكوناتها وشروطها يدرك كم يحتاج المرء إلى شجاعة نفسية وجهود فكرية لكي يتغلَّب على عقبات كثيرة، وتقاليد ضاغطة، ونظام شديد التمسُّك بموروثاته الموغلة في القِدَم، لكي يتواصل مع تلك العلوم والمعارف المعاصرة"(1).

ومنذ أنْ شرع الصدر، الذي تداخلت حياته الفكرية مع تطلُّعاته الجهاديَّة الثورية وعمله الإسلامي الحركي في مشهد لافت، في بناء خطابه النقدي والفكري والديني والفلسفي والجهادي، بدا الرجل مفكراً إصلاحياً من الطراز الرفيع بحيث كانت منزلته "توازي، في رفعتها، تلك التي حظي بها المصلحون العظماء من وزن جمال الدين الأفغاني ومحمَّد عبده"(2) وغيرهم من الإصلاحيين الكبار؛ لما له من قدرات تفكيريَّة خلاّقة، وبصيرة نافذة في قراءة معطيات حراك الواقع الإسلامي عامّة والعراقي منه على نحو خاص برؤية فلسفية شاملة في ضوء الصيرورات والتحوُّلات الفاعلة والمؤثرة التي طرأت على صيرورة الحراك المجتمعي في ذاك الواقع، وهو الأمر الذي جعل منه عبقرية فذَّة من حيث قدرته على البناء الفكري والفلسفي لخطابه، ومن حيث الانفتاح على الواقع المجتمعي الإسلامي في العراق والأمة، ومن حيث الانخراط الشُجاع في ميادين العمل الإسلامي المزاحم.

قطبيات جديدة

حتى ما قبل الثورة العراقية عام 1958، بدأ العلماء العراقيون الشبّان في النجف يدركون أنهم ما لم يسعوا إلى التجديد قد يتعرَّض مركزهم لخطر يتعذَّر التخلُّص منه، وكان الصدر من المستائين الساخطين يومها، كما هو شأن السيد مهدي الحكيم (ت 1988) والسيد محمَّد بحر العلوم. وكانت عملية إعدام الزعيم الشيوعي (فهد) شنقاً في أعقاب ثورة 1948 قد عزَّزت مخاوف لها ما يبرِّرها في أوساط العلماء الشيعة وفقهائهم منْ أنهم فاقدون جمهورهم وأنصارهم بعد أن أدّت عملية الإعدام التراجيدية تلك إلى ردود أفعال جماهيرية واسعة عكست حجم التغلغل الذي مارسه الخطاب الشيوعي في أوساط مجتمعية عراقية واسعة.

ويُذكر أنه بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات كان العمل الإسلامي في العراق قد شقَّ طريقه بصعوبة بالغة، فقد كانت حركة الإخوان المسلمين تنشط على نحو تصادمي فاعل في المجتمع العراقي. وكان العمل الحزبي والجمعياتي الشيعي قد استعاد موروثه الذي نشط قبل ثورة العشرين؛ فبين عامي 1940 - 1951 نضجت تجربة تأسيس منظمة الشباب المسلم بقيادة الشيخ عز الدين الجزائري. وبعد عام أسَّس كل من السيد حسن شبَّر والشهيد عبد الصاحب دخيِّل والشيخ محمد صادق القاموسي الحزب الجعفري. وفي عام 1954 عاد عز الدين الجزائري وأسَّس منظمة المسلمين العقائديين. في حين كانت أحزاب إسلامية قد تشكَّلت في دول عربية أخذت طريقها إلى العراق مثل حزب التحرير الذي صار فرعه في العراق باسم حزب التحرير الإسلامي الذي أسَّسه الشهيد الشيخ عبد العزيز البدري (1931 - 1969) وانخرط فيه عدد من الإسلاميين الشيعة مثل الشهيد الشيخ عارف البصري (1937 - 1974) والشيخ محمد هادي السبتي وغيرهم. ومن جانب فكري كان في أوائل الخمسينات قد حدث تجدُّد فكري لدى أعلى مستويات الهرميَّة الشيعية مع إقدام المجتهد الكبير محمَّد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) على نشر رسالة عنوانها (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون/ النجف 1954)، وأخرى بعنوان (محاورات)، أصدرهما بعد أن زارهُ في بيته بالنجف سفيرا بريطانيا والولايات المتحدة. وفهمَ علماء النجف الشبّان المتحمِّسون عند صدور هذين الكتابين، اللذين أعيد طبعهما لمرّات عدَّة، أنَّ باباً فُتح أمام نوع جديد من الأدبيات؛ فقد تضمَّن الكتابان رسالتين مهمتين لكاشف الغطاء حدَّدتا المسار الواجب اتباعه، أولاً: إن تجديد الإسلام هو الحل الوحيد. ثانياً: إن أي عمل يقلُّ عن نهضة شاملة لن ينجح في كبح جماح الخطرين اللذين أغارا بعنف على المجتمع الإسلامي، وهما الصهيونية والشيوعية(3).

لقد كان المناخ الفكري بالعراق عاصفاً في تصادُميته خلال الثُّلث الثاني من القرن العشرين نسبة إلى التصادُم الإيديولوجي الذي كان يحفر أُسس منازله في طبقات الوعي العراقي آنذاك. وفي ظل غياب تأريخ متكامل للفكر العراقي في القرن العشرين يظن المرء أنَّ الحراك الفكري في تلك المرحلة كان سطحياً أو عابراً إنْ لم يكن صوتياً لا أكثر. وفي الحقيقة لقد صوَّرت إيديولوجية الدولة البعثية - الصدّامية صوّرت العراق الحديث، وكذا اللذين أرَّخوا للفكر العربي والمشرقي مع الأسف، على أنه خالٍ من جذوة الإبداع والتجديد والإصلاح الفكري الحديث والمشاركة الثقافية الفاعلة عندما فرضت الدولة البعثية على الوعي العراقي، في الثُّلث الثالث من القرن الماضي، فرضية مفادها أنَّ التاريخ الحقيقي للعراق الحديث إنما يبدأ مع ثورة 17 تموز عام 1968، وما قبل ذلك لا يعدو أنْ يكون خواء لا يستحق التفكير فيه! إلاّ أنَّ القطيعة مع تأريخ العراق الحديث واستئناف قراءة هذا الأخير بعد انهيار فرضيات البعث الصدّامية بل انهيار الأنطولوجية البعثية الزائفة برمتها ابتداءً من نيسان (أبريل) 2003 سيكشفان عن ثراء الحراك الفكري العراقي خلال القرن العشرين، وسيكشف أيضاً كم كان ذاك الحراك متمتِّعا بالحواريَّة النقدية بل وبجدلية التواصل النقدي(4) التصادمي أحياناً فيما بين الإيديولوجيات التنموية والوطنية والقومية والشيوعية والإسلامية بمختلف تمظهراتها في تلك المرحلة، وكم كان يلجأ، ذاك الحراك، إلى بُنى رمزية متعدِّدة للتعبير عن هذه الحواريَّة رغم القمع السياسي والإيديولوجي بل والبيني الدائرة ظُلماته بالعراق آنذاك.

ورغم أنَّ دراسات قليلة، بل وخجلة أحيناً، ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي تضمَّنت محاولات دراسية أرَّخت للحواريَّة النقديَّة في الثقافة العراقية الحديثة، وكذا الفكر العراقي الحديث التي جرت رحاه بين أتباع تلك الإيديولوجيات، فإنَّ السيد الصدر الذي استبصرَ بإمعان نقديٍّ شامل أعطال وأعجاز هذه الإيديولوجيات لم يحفل بالدخول في سجالات بينية عقيمة وصوتية افترض أنها ستؤثِّر سلباً على صرامة مشروعه الفكري ورزانة نسيجه الحواري العميق وتلقائيته السياقية. لقد "أعطى هذا الوعي المشروع الصدري فُرص الانطلاق الطبيعية، وأهَّل المحيط الفكري الذي حوله لتجاوز المقولات الفكرية الخاطئة التي كانت ثاوية فيه؛ فالصدر لم يدخل في مناقشات مع اتجاهات محيطه الفكري كمداخل لمسيرته الفكرية، لأنَّه كان يُدرك أنَّ هذه الاتجاهات أفرزها واقع العجز المُهيمن، وأفرزتها، كذلك، امتدادات الفكر الوافد على العالم الإسلامي"(5). ومن هنا؛ ولكي يدع تلقائية مشروعه الإصلاحي تنساب على نحو طبيعي، آثر الصدر اللجوء إلى حواريَّة نقدية غير سجالية؛ فالسجال هو حوار غير منتج، بل هو لا يكرِّس أهداف الحوار الحقيقية، حواريَّة ارتقت في التعبير عن خطابها النقدي، إلى "الطرح الكليّ الذي يدحض الأفكار الوافدة، ويؤسِّس لأفكار إسلامية جديدة"(6) من دون أن تكون الصفة الكلية في هذا الطرح مجرَّدة، وذلك عَبرَ نقد الأُسس الفلسفية التي ترجع إليها مُجمل الإيديولوجيات الإصلاحية الفاعلة في خطاباتها الجدالية أو السجالية التي شاعت في تلك المرحلة؛ فلم يكتب الصدر شيئاً سجالياً ضد الشيوعيين والماركسيين الماديين أو الرأسماليين الليبراليين ولا حتى الإسلاميين العراقيين أو العرب كأشخاص، بل فضَّل مناقشة ومحاجَّة مرجعياتهم الفكرية والفلسفية والإيديولوجية الأصل بوصفها مرجعيات إصلاحية وافدة أخذت طريقها إلى بيئة غير بيئتها، وتمَّ تقويلها إسلامياً وعراقياً أو عربياً من دون أنْ تحقِّق أي مُنجز يُذكر يعود على المجتمع العراقي بجدوى تنقذهُ من المُهلكات الثلاث: الجهل، والفقر، والمرض، على حدِّ تعبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(7). وإذا ما أردنا أن نبحث عن خلفيَّة هذا التوجُّه والكيفية التي استبصر فيها الصدر طبيعة الحراك التصادمي المؤدلج في مرحلة الخمسينات التي أثمرت كتاب (فلسفتنا/ 1959)، ومن ثم (اقتصادنا)، فإننا نسترشد بما وصَّفه شبلي الملاط عندما قال: في السنوات التي سبقت إطاحة الملكية عام 1958، تغيرت الصورة؛ فقد واجهت سياسة الاستكانة والتسليم بالواقع التي فرضها على المجتهدين الشيعة عجزهم عن التصدي لبغداد [بوصفها مركز السلطة] تحدياً خطيراً من جهة لم تكن في الحسبان ألا وهي الشيوعيون، وكانت المناهدة الشيوعية للعُلماء قد حظيت باهتمام أحد أبرز القياديين في النجف الأشرف، ذلك هو الشيخ محمَّد حسين كاشف الغطاء؛ ففي عام 1953 استقبل الغطاء سفيري الولايات المتحدة وبريطانيا في المدينة، وقدَّم لهما شكاوى مفادها أنَّ الموقف الغربي من الشرق الأوسط مختل النظر، قصير التبصُّر في العواقب، وأوضح لهما أنَّ السياسة الغربية هي المسؤولة عن الأرض الخصبة التي أُبيحت لزرع الشيوعية ونمُّوها، ونجم عن ذلك تطوُّر الدعم الغربي للوجود الصهيوني في فلسطين، وعن سماح الحكومة في بغداد بديمومة الفقر المدقع لأفراد الشعب والعلماء. وقد وجد الصدر نفسه في خضمِّ صدام فكري مرير بين النجف التقليدي والشيوعيين المنفلتين من التقاليد الموروثة حسب ادعائهم، فتكوَّنت نظرته الشاملة إلى العالم من منطلق هذه الخلفيَّة الفكرية الثنائية الأُسس: دعوة اشتراكية / شيوعية سائدة في كل أنحاء الشرق الأوسط، تغلغلت في ذلك الجانب من كتاباته عن (المسألة الاجتماعية). وتربية العلماء التقليدية المشتملة على الهيكلية الصارمة نسبياً للهرميّة العُلمائية. وسيُظهر تحليل كتاب (اقتصادنا) كيف حاول الصدر مضادّة نجاح الشيوعية في استهواء الكثيرين عبر وعدها بإصلاح الخلل في التوازن الاجتماعي، بل إن الهدف الأول للصدر كان صدّ ذلك التيار بتوفير فهم أفضل، وتفحُّص أدق لمنهج الماركسية والمصطلحات الخاصة به، كما أنَّ كتاب (فلسفتنا) الصادر عام 1959 جاء كردِّ فعل على تعاظم التيار الشيوعي في العراق، خصوصاً في الأوساط الشيعية الأكثر حرماناً(8) من العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

الروح الإصلاحي

ولأنَّ الإصلاح؛ كان قد تملَّك المشروع الصدْري في كل رؤاه وسياقاته ومفاهيمه، والتي انعكست روحه في جملة النظريات التي نسجت بنية المشروع، فإننا نتلمَّس الروح الإصلاحي في كل مؤلفات الصدر، سواء المبكِّرة منها أم المتأخرة. ما يعني أننا يمكن أنْ نمسك بخيط إصلاحي في أيِّ كتاب نشرع بقراءته من مؤلفات المفكِّر الراحل. وهذه هي مزيَّة الفيلسوف عندما يفكِّر في الوجود برؤية شمولية علمية، وبقراءةٍ منظموماتية لمفاصله ومعطياته، وهي القراءة التي كان قد دعا لها الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عندما استخدم مفهوم (النهضة الشاملة) كما أسلفنا سابقاً. إلا أن الصدر أثرى مفهوم النهضة الشاملة في مشروعه الفلسفي والفكري والحركي. وإذا كان كاشف الغطاء قد قال: إن "السياسة جمرة أُحسها ولا ألمسها"، وعدَّ "الأحزاب في الشرق داءٌ وفي الغرب دواء"، وأصدر في تاريخ 12 محرَّم 1354/ 1935 "بلاغاً حذَّر فيه قبائل الفرات وزعماءها من الانقياد للأحزاب، والاستماع إلى رجالها لأن الأحزاب هي التي أهلكت العباد، وخرَّبت البلاد، وجرَّت الويلات على هذه الأمة البائسة، والمملكة العربية الفتية، كما أنها مطايا يركبها شياطين معدودة؛ فيعْبرون بها إلى مقاصدهم الشخصية، ومنافعهم الذاتية"(9)، فإن الصدر آثر، برؤية ثاقبة ملؤها الثقة بالنفس وبالعقيدة وبالأمة، أن يكون العمل الحركي والسياسي جزءًا حيوياً من صميم النهضة الشاملة التي يطمح، وذلك عندما جعل من (العمل الحركي) في مشروعه الإصلاحي ركيزة لتصالح الفكر مع الواقع، والعقيدة مع حياة الإنسان اليومية، والفقيه مع المجتمع، وهو الأمر الذي أحدث قطيعة كبرى مع كل الرؤى الشيعية العراقية السابقة عليه ابتداءً من نهاية ثورة العشرين والتي كانت تستريب بالعمل الحركي وتقف ضده لأغراض مرحلية، في حين أن رؤية الصدر المستقبلية وتطلعاته الاستشرافية كانت قد حتَّمت عليه عدم إغفال هذا العمل الذي وجدهُ في آنٍ واحد بُعداً جوهرياً وعضوياً في مشروعه الإصلاحي فأستأنف الشروع به بعد انقطاع دام لعقود سابقة.

تميَّزت النصوص المبكِّرة التي كتبها الصدر في نهاية الخمسينات بأنها أسَّست لمشروعه الإصلاحي وخطابه الفلسفي، وحسمت منذ البداية، وعلى نحو حقيقي، موقفه من إشكاليات كبيرة كانت تواجه المجتمع الإسلامي عامة والعراقي منه على نحو خاص في خمسينات القرن العشرين؛ ففي الوقت الذي كان فيه المفكرون المسلمون في الوطن العربي لم يتوصلوا بعد، في ذلك العقد، إلى بناء نظرية معرفة إسلامية، صكَّ الصدر رؤيته في هذا المجال من خلال كتابه (فلسفتنا/ 1959). ولمّا كان بناء نظرية معرفة يُعدُّ مدخلاً تأسيسياً لنظريات أخرى في أي مشروع فكري أو فلسفي، فإن حسم المفكِّر، أي مفكِّر، لموقفه من المعرفة، من حيث أصلها وطبيعتها وفاعليتها وعلاقة الإنسان بها، هو انخراط طبيعي، بقدر ما هو ضروري، في عالم الوضوح واليقين الذي ميَّز فلسفة الصدر في كل القضايا والإشكاليات التي تناولها بالدرس والتحليل والنقد وإعادة البناء، على عكس المفكرين الإصلاحيين السابقين عليه الذين لم يؤسِّسوا في رؤاهم الإصلاحية أي بناء فكري يستند إلى نظرية معرفة. وهنا تساءل هشام شرّابي (ت 2005) قائلاً: يجب أن نشير إلى أن النزعة الإصلاحية، كنظرة متناسقة، لم تمتلك وعياً ذا صلة واضحة بنظرية في المعرفة، فأين هو الإدراك الذي توافر لدى العلماء المصلحين في قضية المعرفة التي نشروها مع أقصى درجة من عدم الدقّة؟(10). ومع أن شرّابي أهمل المشروع الصدري في مؤلفاته التي نشرها ابتداءً من عام 1970 لأسباب غير مبرَّرة والتي تناولت الفكر العربي الحديث والمعاصر، فإن الصدر كان قد أدركَ وعلى نحو مبكِّر هذا النقص البنيوي الكبير الذي وقع فيه المفكرون المصلحون المسلمون والعرب من ذي قبل عندما تصدّى إلى فلسفة إشكالية المعرفة في كتابيه (فلسفتنا) و(الأسس المنطقية للاستقراء) فيما بعد.

النُّظم الإصلاحية

في كتابه (فلسفتنا)، وضعنا الصدر في صميم الفكر الإصلاحي الذي خلُصت إليه البشرية في العالم الغربي، وتحديداً في الفكر الإصلاحي العَلماني الذي صار، منذ قرون حديثة، يقود البشرية إلى متاهة جديدة. ورأى الصدر أنَّ هذا الفكر صاغ خطاباته في نُظم فكريَّة تبلورت في العصر الحديث ضمن ظرفيَّة تاريخية معينة كان المفكرون أو المصلحون يتساءلون فيها: "ما هو النظام الذي يَصلَحُ للإنسانية، وتَسعدُ به في حياتها الاجتماعية؟"(11). وبإزاء ذلك اعتقد المفكِّر الراحل أن أهميةً كبرى وخطورة أكبر تترتَّب على الإجابة عن هذا السؤال الحيوي والمركزي تلك التي تُلقى على عاتق الفلاسفة أو المفكرين أو الفكريين الإصلاحيين إذا ما أرادوا الإجابة عنه، وهو ما يُعدُّ إشكالية كبرى أمام منتجي النُّظم الإصلاحية للبشرية.

الجدير بالذكر هنا، أنَّ الصدر استخدم تعبير أو مصطلح (النظام)، وأنسلَ عنه مصطلح (النظام الاجتماعي)، فهو عندما طرح السؤال لم يستخدم مصطلح ما هي العقيدة؟ أو ما هو الاعتقاد الذي يصلح للإنسانية؟ إنما استخدم مصطلح النظام (ما هو النظام..؟)، وفوق ذلك كوَّن مصطلحاً مركباً هو (النظام الاجتماعي)، والواضح من هذه الدقة المتناهية في استخدام المصطلحات إنما يريدهُ الصدر هو توظيف القيمة الوضعية لدلالات المفهومات في بناء رؤيته النقدية، فهو بصدد نقد الرؤية الإصلاحية العَلمانية وليس الدينية، إنه لا ينقد الدين بوصفه خياراً إصلاحياً، فالصدر على يقين مُطلق بأنَّ الدين هو الشِّرعة الإصلاحية التي لا تقبل الشك أو التردُّد في صدقها والعمل بها. كما أنَّ الصدر، وهو يستخدم مصطلح (النظام الاجتماعي)، أراد أنْ يضعنا في المسرح البشري أو المجال الدُنيوي الذي يصرِّف الخطاب الإصلاحي فيه بضاعته على نحو يومي ومباشر وملموس، خصوصاً وأنه بصدد مناقشة النُّظم الإصلاحية العَلمانية التي توافر عليها الغرب الحديث والمعاصر وشاعت مندلقة في المجتمعات الإسلامية.

ومن جهة، ونحن بصدد استظهار دلالة استخدام الصدر لمصطلح (النُّظم الاجتماعية). يبدو لي، وفق خطاب نصوص الصدر، أنه لا يعني به الحراك الاجتماعي للإنسان في المجتمع، ولا التجربة السوسيولوجية فيه فحسب، إنما الكيان المجتمعي، والكيان السياسي، والكيان الاقتصادي، والكيان الثقافي، أي ذاك الوجود الذي تتناسق فيه كل عناصر ومفاعيل ومعطيات هذه النُّظم الجزئية لخلق نظام مجتمعي مزاحم وتفاعُلي في حراكه الكلي، كما هو حال النظام الرأسمالي أو النظام الاشتراكي، حيث إنَّ "كلاًّ من هذين النِّظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً"(12) يدعمه ويقدِّم له أسباب تداوله المادية والمعنوية والنفسية على نحو إيديولوجي. إنَّ نقديَّة الصدر هنا بقيت في مجال الفكر، فهي لا تنزل إلى شارع السلوك والعمل البشري بوصفهما بؤرتي تمثيل إصلاحي، كما هي حال نقديَّة المفكِّر العراقي علي الوردي في مساءلتها للواعظين بوصفهم مصلحين***. ومن هنا نرى الصدر كان قد تحدَّث عن "المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامّة"(13) أو رؤاها المجتمعية، لكن هذا لا يعني أنه بقي في إطار التجربة الذهنية المحضة فقط وهو يتحدَّث عن تلك النُّظم الإصلاحية في العالم، فمنذ بداية كتاب (فلسفتنا)، وكما يتضمَّن عنوان كتابه الفرعي (دراسة موضوعية في مُعترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيّارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والماديّة الديالكتيكية - الماركسية)، أكَّد الصدر على مفهوم (الصراع) الذي تتنافس وفقهُ خطابات هذه النُّظم من أجل التأثير في المجتمع والإنسان، أي النُّظم "التي يقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى وجودها [تأثيرها] الاجتماعي في حياة الإنسان"(14). ما يعني أنَّ الصدر لم يغفل الواقع في تمثيله لمعطيات هذه النُّظم في الحياة العملية، إنما تعامل معه في ضوء حراكه المجتمعي الكلي بوصفه مزاحمة فاعلة في العالم.

في ضوء ذلك، عرض المفكِّر الراحل لأربعة مذاهب إصلاحية - مجتمعية تتنافس على تحقيق استجابة المجتمع لخطابها الإصلاحي استجابة كلية وشاملة. وهذه المذاهب هي: النظام الديموقراطي الرأسمالي، النظام الاشتراكي، النظام الشيوعي، النظام الإسلامي. وعن علاقة هذه المذاهب أو النُّظم بالواقع أو بمجالها المجتمعي - التداولي، وجدَ الصدر أنَّ العالم المعاصر:

أولاً: يتقاسمه اثنان من هذه النُّظم الأربعة: فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحُكم في بقعة كبيرة من الأرض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أخرى، وكلٌّ من هذين النِّظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلِّحهُ في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطالهُ في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي [المجتمعي] فيه.

ثانياً: أما النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل هو وجود فكري خالص.

وكان النِّظام الإسلامي قد مرَّ بتجربة من أروع تجارب النُّظم الاجتماعية وأنجحها، ثم عصفت به العواصف، بعد أنْ خلا الميدان من القادة المبدئيين أو كاد، وبقيت التجربة في رحمة أُناس لم يَنْضُج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره، فعجزت عن الصمود والبقاء، وتقوَّض الكيان الإسلامي، وبقي نظام الإسلام فكراً في ذهن الأُمة الإسلامية، وعقيدة في قلوب المسلمين، وأملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون.

أما النِّظام الشيوعي فهو فكرة غير مجرَّبة حتى الآن تجربة كاملة، وإنما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي [مجتمعي] له، بعد أنْ عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم، فأعلنت النِّظام الاشتراكي، وطبَّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية(15).

ما هو معلوم تاريخياً، أنَّ كل هذه النُّظم أو المذاهب المجتمعية هي خطابات إصلاحية جاءت متمرِّدة على نُظم ومذاهب فكرية إصلاحية سابقة عليها كانت في مرحلة ما قد فقدت بريقها الفكري الخاص بها، وما عادت لها فاعلية مجتمعية لافتة، ولا أثر تداولي أو تفاعلي لها؛ فوُجدت الضرورة لأن يُجدِّد المُصلحون خطابات مغايرة يمكن أن تمارس أدواراً جديدة في الحياة وفق نماذجها. وإذا كان للمسلمين الريادة في تجديد الخطاب الديني الإصلاحي بعد أنْ أشرق الإسلام قبل أكثر من 1400 عام، فإنَّ الديانة المسيحية هي الأخرى سعت إلى تجديد خطابها الإصلاحي فيما بعد. بينما أخذ مفكرو عصر النهضة بأوروبا ينضِّدون خطاباً إصلاحياً كان مقدِّمة لكل الحركات الفكرية - الإصلاحية في الغرب الحديث والمعاصر، ومنها الإصلاحية الديموقراطية الرأسمالية، والإصلاحية الاشتراكية، والإصلاحية الشيوعية، ما يعني أنَّ هذه النُّظم هي في حراكها التاريخي هي نُظم ومذاهب إصلاحية، جاءت على أعقاب نُظم ومذاهب كانت يوماً في حراكها التاريخي والتداولي خطابات إصلاحية لكنها فقدت القدرة على تأصيل فاعلية ديمومتها التداولية والمجتمعية في الحياة، إلاّ أنَّ هذه الخطابات الإصلاحية الجديدة هي الأخرى فقدت فاعليتها المجتمعية، وهذا ما يُريد الصدر أنْ يؤكِّده في نقديَّته لمعطيات العقل الإصلاحي الذي يوجِّه هذه الخطابات من خلال استقراء مقولاته، وأدواره التداولية، وفاعليته المجتمعية.

الإصلاح الرأسمالي

لقد جاءت الإصلاحية الرأسمالية كمحاولة للإطاحة بالظُّلم الاقتصادي، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية، وبجمود الكنيسة والحياة الفكرية. وقام خطابها على أسس عدَّة، منها: الإيمان بالفرد، والحريات السياسية، وبمبدأ الانتخاب والحق في التصويت، وإعمال الاقتصاد الحُر، واعتبار المصلحة الشخصية هي الضمان للمصلحة المجتمعية، كما أنَّ التنافس هو الكفيل في تحقيق روح العدالة، إلى جانب تأكيد هذه الإصلاحية على تقديس الحرية الفكرية والشخصية والدينية.

هذه هي الأفكار الرئيسة لهذا الخطاب. وفي ضوئها أعملَ الصدر بصيرته النقديَّة، فرأى في هذا النظام الإصلاحي أنه "نظام مادي خالص، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادية. كما أنَّ هذا النظام المُشبع بالروح المادية الطاغية لم يبن على فلسفة مادية للحياة، ولم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل"(16).

نستنتجُ من هذا النص النقدي بأن ماديَّة الخطاب الإصلاحي للنظام الرأسمالي لم تُؤسَّس على رؤية فلسفية متكاملة تبرِّر للاحتفاء بالمادة كونها أصل الوجود ومفر الإنسان الوحيد في حياته. وفي ظل هذا "التناقض والعجز"(17) لاحَظ الصدر أنَّ فكرة (الماديَّة) التي ابتنى عليها الخطاب الإصلاحي الرأسمالي مقولاته، وكذا العقليّات الغربية، إنما تعود إلى ثلاثة متغيرات فكرية ظهرت في مطلع العصر الغربي الحديث، ومارست سطوتها على العقل هناك، وفي فضائها بنى النظام الرأسمالي مقولات خطابه، تلك المتغيرات هي:

أولاً: العقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي في الغرب.

ثانياً: روح الشَّك والتبلبُل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحَّة.

ثالثاً: روح التمرُّد والسّخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول، ويتملَّق للظُّلم والجبروت، وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضُّعفاء والمضطهدين(18).

لقد سوَّغت هذه المعطيات للفكر الغربي أن يشرعَ في بناء رؤيته ومقولاته. ومعروف عن الفكر الغربي الحديث أنه انطلق من فلسفة جديدة ودَّع خلالها الأنظمة الفكرية الشاملة أو الفلسفات ذات المنحى الكلي مثل الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطوطاليسية وغيرها، عندما أخذ المفكِّرون الغربيون ينضِّدون فلسفات جزئية ذات مشارب اصطفائية في بناء مقولاتهم ورؤاهم بعد أنْ تعرَّض الفلاسفة المُحدثون إلى تفكيك الفلسفات الشمولية، ونقدها عبرَ نقد الثوابت المحوريَّة في الفلسفات الشمولية، وتقويض فاعليتها الشبكيَّة. لقد مارس عدد من الفلاسفة الإنجليز هذا الدور، ومارسه على نحو كبير الفيلسوف الألماني إمانويل كَانْتْ 1724 - 1804 الذي فكَّك العقل الفلسفي الشمولي، وفتح الآفاق على عالم الواقع والحياة من دون مغادرة منطقة العقل، حتى صار المشهد أمام الفيلسوف متنوّع المشارب والمسارات(19).

يبدو أنَّ النظام الرأسمالي، بوصفه خطاباً إصلاحياً، كان قد تمثَّل هذا الحراك، حراك التطلُّع الاصطفائي الذي ميَّز بناء الفكر الغربي الحديث، تمثيلاً حيّاً ومنتجاً، فهو لم يلتزم بقاعدة فلسفية محورية أو (مركزية)، الأمر الذي عُدُّ سبباً رئيساً لـ(العجز) الذي مُني به الخطاب الرأسمالي، و(التناقض) الذي وقع فيه(20). وهذه الأعطال الثلاثة أفقدت الفكر الرأسمالي وحدته البنائية والفكرية والموضوعية، وهو ما أنعكس على علاقة الفكر الرأسمالي بالواقع البشري، وعلاقة حراكه الإصلاحي بالواقع المجتمعي. ومن هنا اعتقدَ الصدر أنَّ "المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة، ولا تتبلور إلاّ إذا أُقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنِّظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل حين تُجمَّد المسألة الواقعية للحياة، وتُدرس المسألة الاجتماعية [المجتمعية] منفصلة عنها"(21).

وفي فلك هذا الخطاب تذوب القدرة التفاعلية للأخلاق الاجتماعية في متاهات العُزلة الفردية، فمن "جرّاء هذه المادية، التي زخرَ النظام بروحها، تبدّلت مفاهيم الأخلاق ومقاييسها، وأُعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى والحريات كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. وظلَّ أنصار الديموقراطية الرأسمالية يدافعون عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين: إنَّ الهدف الشخصي بنفسه يحقِّق المصلحة الاجتماعية. كما أن الدافع الشخصي والحسّ النفعيّ يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية"(22). إن خطاباً إصلاحياً يُعلي من شأن الفرد ومصالحه الشخصية على حساب الجماعة أو المصلحة العامّة هو خطاب يحمل تناقضاته؛ لكونه يغيِّب البُعد المُجتمعي، أو ما أسماه الصدر بـ(العمل الاجتماعي)(23) ذاك التغييب الذي يقدِّم مصلحة الفرد الشخصية على مصلحة الجماعة.

الإصلاح الاشتراكي

على النقيض من ذلك، اعتقدَ الصدر في الخطاب الإصلاحي الخاص بالنظام الاشتراكي ومأمولاته الشيوعية أنه "يرتكز على فلسفة ماديَّة معينة، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة. [كما أنَّ] الربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية كانت الشيوعية المادية قد آمنت به"(24). وعقد الصدر مقارنة بين الخطابين الإصلاحيين، فمن "السَّهل أنْ ندرك، في أول نظرة نُلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل، أنَّ طابعه هو إفناء الفرد في المجتمع، وجعل الفرد آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها؛ فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحُرّ الذي يجعل المجتمع للفرد، ويسخِّره لمصالحه؛ فكأنه قد قُدِّر للشخصية الفردية وللشخصية الاجتماعية -في عُرف هذين النظامين- أنْ تتصادما وتتصارعا، كانت الشخصية الفردية هي الفائز في أحد هذين النظامين الذي أقام تشريعهُ على أساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمُني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه، وتشوّه الحياة في جميع شُعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائز في النظام الآخر الذي جاء ليتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء؛ فأصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير"(25). يخلص الصدر إلى أنَّ الإصلاحية الشيوعية تعاني من أزمتين أساسيتين، هما:

أولاً: إنَّ النظام الشيوعي، وإنْ عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرَّة بمحوه للملكية الفردية، فإنَّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهضاً، وطريقة تنفيذه شاقَّة على النفس، ولا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب.

ثانياً: إنَّ علاج هذا النظام هو علاج ناقص، لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه؛ لأنَّه لم يحالفهُ الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النُقطة التي انطلق منها الشَّر حتى اكتسح العالم في ظل الأنظمة الرأسمالية، فبقيت تلك النُقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي، وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحلِّ الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطيِّب أدواءها، ويستأصل أعرضها الخبيثة(26).

لقد قلتُ سابقاً: إنَّ الصدر تصدى لنقد المشروعات الإصلاحية في نصوص كتبها على نحو مبكِّر من حياته العلمية والفكرية والدينية. ولمّا كان خطاب الصدر قد أسَّس مشروعه الفلسفي على وعي إصلاحي جذري، فإنَّ الهمّ الإصلاحي ظل يرافقه في أثناء تطوُّر وعيه (النقد - إصلاحي) في مؤلفاته اللاحقة، بل وكان كذلك في حياته الجهاديَّة، فكان نقد الإصلاح اللاديني أو العَلماني هاجساً جذريَّاً انعكس في كتاب (اقتصادنا)، وفي بعض نصوص (رسالتنا)، وفي (الأسس المنطقية للاستقراء)، فضلاً عن كتب أخرى منها على نحو خاص كتاب (الإسلام يقود الحياة)(27)، وغيرها من الكتابات المُهمة في هذا السياق. إلاّ أنَّ كل تلك الكتابات كانت الصفحات الأولى من كتاب (فلسفتنا..) قد أسَّست لها مساراتها الرؤيوية، فجاءت الكتابات اللاحقة بناءً نقدياً مضاعفاً في نقديته تجاه المشروعات الإصلاحية اللا - دينية كالرأسمالية والشيوعية بوصفهما المشروعين الأكثر تداولاً وشروعاً في التطبيق خلال المرحلة التي رافقت كتابة (فلسفتنا) وما بعده بقليل من السنوات.

لقد حوَّلت عملية نشر الصدر لـ(فلسفتنا) و(اقتصادنا) حوَّلتهُ إلى المنظِّر الأول للنهضة الإسلامية(28) في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ومن هنا عُدَّت، وما زالت، محاولته النقدية للخطابات الإصلاحية العَلمانية مفصلاً مهماً في تاريخ الفكر العراقي الحديث؛ فقد وُضعت هذه الخطابات أمام رهانات نقدية جديدة على التلقِّي العراقي في تلك المرحلة، وكان منها أن تنامى نقد الاتجاهات الإصلاحية العَلمانية أكثر لدى علماء عراقيين آخرين كالشهيد الشيخ عبد العزيز البدري(29) والشيخ محمد محمود الصواف (1914 - 1992)(30) وغيرهما. إلاّ أنَّ المناخ الفُقهائي الديني، التقليدي والمحافظ غير العربي الذي مُنيت به النجف الأشرف كبؤرة دينية وفكرية وثقافية جاذبة في الثلث الثاني من القرن العشرين، وطبيعة الصراع الفُقهائي الذي كان دائراً بين أقطاب المرجعيات الدينية العليا في النجف وبقية مدن العراق الدينية، واستفحال الإيديولوجيات العَلمانية في نهاية الخمسينات والستينات وقتذاك، خصوصاً العَلمانية الشيوعية، واستفحال أمر الإيديولوجية البعثية العَلمانية أيضاً التي هيمنت على السُّلطة على نحو شمولي فيما بعد، كان كل ذلك قد عُدَّ حافزاً للسيد الصدر على النقد والمراجعة والتقييم، إلا أن كل ذلك أيضاً حال دون انسياب النقديَّة الصدريَّة للفكر الإصلاحي العَلماني على نحو مأمول في تداوليته خلال مرحلة السبعينات وما تلاها من عقود بسبب القمع الفكري الذي كان قد واجهه المثقفون والمفكرون والفقهاء المبدعون بالعراق في ظل تسلُّط الدولة البعثية. ومع ذلك تبقى تجربة الصدر النقدية تلك، وفي سياقها المعرفي والفكري، وفي إطار الخطاب النقدي الديني العراقي، بل وفي مجال الرؤى الفقهية والحركية التجديدية التي ظهرت بالبلاد، تبقى أُنموذجاً نقدياً مهماً ولافتاً في مجال وضع العقل الإصلاحي العَلماني على محك المواجهة النقدية، وفي مجال التصدِّي المرجعي المؤسَّس على وعي إصلاحي - نهضوي لمقولاته وجملة من طروحاته الفكرية والفلسفية والتداولية.

 

الهـوامـش:

* كاتب وباحث العراق.

** للمزيد حول هذا الموضوع انظر كتابنا: (فقهاء وأمّة: جذور العمل الإسلامي في العراق الحديث، دار رياض الريس، 2006).

(1) زكي الميلاد: من التراث إلى الاجتهاد/ الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح، ص 159، المركز الثقافي العربي، بيروت ط 1 2004. وانظر حول هذا الموضوع أيضاً: محمد مهدي الآصفي، مدرسة النجف وتطور الحركة الإسلامية فيها. النجف 1964. كذلك اُنظر: سامي العسكري: الحركة الإسلامية المعاصرة في العراق/ البدايات، الموقع الرسمي لحزب الدعوة الإسلامية (www.islamicdawaparty.org). وانظر كتاب حسن شبَّر: تاريخ العراق السياسي المعاصر، جزء 2 (التحرُّك الإسلامي) ، ص 331. وبأي حال لا يمكن اعتبار الاتجاهات المحافظة أو التقليدية هي وحدها التي كانت تقمع أية محاولة إصلاحية؛ فالمشهد الإصلاحي، وكذا الوطني، كان يُحارب من قبل الدولة الاستعمارية الراعية (بريطانيا)، يقول سليم مطر: >إن الميول الوطنية والراديكالية الإصلاحية للطبقة الوسطى المدينية -رأسماليين، ضباط، مثقفين، موظفين، متخصصين وغيرهم- كانت تزعج الإنكليز<. سليم مطر: الذات الجريحة/ إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي الشرقمتوسطي، ص 331، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، ط 2002.

(2) شبلي الملاط: تجديد الفقه الإسلامي/ محمَّد باقر الصدر بين المرجعية وشيعة العالم، ص 49، ترجمة غسّان غُصن، دار النهار للنشر، بيروت ط 1 1988.

(3) الملاط: المصدر السابق نفسه، ص 50. (بتصرُّف أسلوبي).

(4) يلاحظ الأستاذ زكي الميلاد أنَّ الكتابات العربية والإسلامية التي حاولت أن تؤرِّخ لحركة ومسار الأفكار الإسلامية الحديثة والمعاصرة في تطوّراتها وتحولاتها على أساس منهجيات التقسيمات والتحقيبات الزمنية والتاريخية لم تؤرِّخ للتحوّل الفكري الذي نتج عن مشروع السيد الصدر. وقدم الميلاد في هذا السياق تقييماً نقدياً لجملة من الكتابات التي نضَّدها عدد من الباحثين العرب في القرن العشرين لحركة الفكر الإسلامي ومنهم، على نحو خاص، فهمي جدعان في كتابه: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان 1988. انظر زكي الميلاد: من التراث إلى الاجتهاد، المصدر السابق نفسه، ص 153 وما بعدها. وحول مفهوم (جدلية التواصل النقدي) انظر توظيفنا له في كتابنا (الحضور والتمركز/ قراءة في العقل الميتافيزيائي الحديث)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2000، المقدمة ص 15.

(5) عادل رؤوف: العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية، ص 96، المركز العراقي للإعلام، دمشق ط2، 2003.

(6) المصدر السابق نفسه: ص 97.

(7) اُنظر: محاورة الإمام محمَّد الحسين كاشف الغطاء مع السَّفيرين البريطاني والأمريكي في بغداد وفي مدرسة النجف، مطبعة دار النشر والتأليف، النجف 1953.

(8) انظر كتابه: المصدر السابق نفسه، ص 13 - 14.

(9) أورد هذه المقولات علي محمَّد علي دخيِّل: نجفيات، ص261 - 262، مؤسسة المعارف للمطبوعات، بيروت ط 5 2000. وتجدرُ الإشارة إلى أن الشيخ الغطاء في كتابه المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون كان قد توجَّه بالنقد إلى الأداء الحزبي أو خطاب الأحزاب، فقال في نص شفاهي: >أما الأحزاب فحتى الآن لم يظهر منها الفائدة المتوخّاة، ولم تصل إلى درجة من القوة تجلب الشعوب إليها حتى تقوم بأعمال جذرية في الإصلاح، ولا أخص هذا في العراق بل في جميع البلاد العربية، فلم نجد منها الأعمال المجدية؛ وذلك إما لعدم تضامنها، وعدم تأييد بعضها لبعض أو لغير ذلك من الأسباب<. وما هو واضح هنا أن كاشف الغطاء لا يبدو أنه يرفض العمل الحزبي إنما ينقد الأداء في هذا العمل، ومقولته >الأحزاب في الشرق داءٌ وفي الغرب دواء< تصبُّ في هذا المنحى النقدي ولا ترفض العمل الحزبي، ولذلك واصل كلامه في المثل العليا.. فقال مستدركاً: >على كلٍّ، نحن نتمنّى للأحزاب التوفيق، وأن يمدها الله بروح من العناية عساها أن تأتي بعمل جديٍّ ومجدٍ<. محمّد حسين كاشف الغطاء: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، ص 98، منشورات دار الوعي الإسلامي، بيروت ط 5 1980. أما عن موقف الشيخ الغطاء من السياسة كما بدا في مقولته: >السياسة جمرة أُحسّها ولا ألمسها<، فلا بدَّ من الإشارة إلى أن تصوّر الشيخ للعمل السياسي انطلق من موقف مرجعي، فشأن كاشف الغطاء أنه مارس دوره كـ( مرجع ديني) لا يحبِّذ الانخراط في العمل السياسي كما لو كان سياسياً (رجل سياسة)، ومن هنا ميَّز بين نوعين من العمل السياسي انتصر لأحدهم ونبذ الآخر، قال الشيخ في نصٍّ هو الآخر كان شفاهياً: إذا كان المعني بالسياسة هو إحداث الفتن والثورات والإضرابات للتوصُّل إلى الحكم والجلوس على الكراسي الناعمة لمعاملة الناس بالخشونة والغطرسة والكبرياء، واستغلال النفوذ للمنافع الذاتية، والأطماع الدنيَّة، والسمسرة للأجانب على البلاد، وتسلُّطهم على الأمة ولو بإراقة الدماء. إن كانت السياسة هذا وما إليه، فإني أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم. أما التدخُّل بالسياسة فإن كان المعني بها الوعظ والإرشاد والنهي عن الفساد، والنصيحة للحاكمين بل لعامَّة العباد، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستعباد، ووضع القيود والأغلال على البلاد وأبناء البلاد، إذا كانت السياسة هي هذه الأمور، فأنا غارقٌ فيها إلى هامتي، وهي من واجباتي، وأراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان، وهي من وظائف ووظيفة آبائي الذين كانت لهم الزعامة الدينية منذ ثلاثة قرون أو أكثر، لا في العراق بل في دنيا الإسلام كله، وهي: النيابة العامَّة، والزعامة الكبرى، والخلافة الإلهية العظمى. انظر أيضاً: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، ص 98 - 99.

(10) هشام شرّابي: المثقفون العرب والغرب، ص 42، دار النهار للنشر، بيروت، ط 1 1971. محمَّد باقر الصدر: فلسفتنا/ دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيّارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتيكية (الماركسية)، تراث الشهيد الصدر، مركز الأبحاث التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، الطبعة المحققة في المؤتمر، قم 1424هـ. وعن القيمة المعرفية لكتاب السيد الصدر (الأسس المنطقية للاستقراء) انظر زكي الميلاد: المصدر السابق نفسه، ص 151 - 152.  حيث قال الميلاد: إن عنصر التميُّز في محاولة السيد الصدر هو في قدرته النقدية والتحليلية، وسعيه الجاد في التوصُّل لابتكارات وأفكار جديدة. فالكتاب يحاول أن يعالج عجز المنطق الأرسطي عن إعطاء تفسير مقبول للدليل الاستقرائي. كما يدرس المذهب التجريبي الحديث الذي لا يمكنه، حسب رأي السيد الصدر، أن يقدِّم التفسير الأساسي للدليل الاستقرائي. ثمَّ ينتقل الكتاب من النقد والتحليل إلى التأسيس والابتكار. ص 152. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) قوبل بمحاولة لترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وكانت هناك رسائل متبادلة بين الشهيد الصدر والمفكر المصري الراحل زكي نجيب محمود والدكتور محمد شوقي الفنجري، مستشار الرئيس المصري أنور السادات للشؤون الاقتصادية، الذي التقى السيد الصدر في النجف الأشرف. لكن محاولة ترجمة الكتاب أُجهضت بعد اعتذار زكي نجيب محمود عن الترجمة. بشأن هذا الموضوع انظر: محمَّد رضا اليعقوبي: الشهيد الصدر/ سنوات المحنة وأيّام الحصار، ص 66 وما بعدها. توزيع دار المرتضى، ط 2 1997.

(11) الصدر: فلسفتنا، ص 19.

(12) الصدر: فلسفتنا، ص 21.

(13) الصدر: فلسفتنا، ص 20.

*** نحو تفصيل أكثر انظر دراستنا: (نقد المثقف الوعظي)، مجلة الكلمة، ع 46، بيروت 2005.

(14) الصدر: فلسفتنا، ص 20.

(15) الصدر: فلسفتنا، ص 21. قال هشام شرّابي: >تعتبر الإيديولوجية الإصلاحية أن العصر الذهبي في الإسلام انقضى باكراً جداً، وأن الانحطاط لم يكن منزَّلا أو عرضياً، إنما كان نتيجة حوادث تاريخية تعود إلى القرن الإسلامي الأول حين أدّت الفُرقة والحرب الأهلية إلى تقويض الوحدة الإسلامية<. وهذا ما يبرر التأكيد أن الإسلام في حد ذاته لا يحمل تناقضاً أو عُطلاً ما، إنما الأعطال جاءت من التطبيق والتناحر والاقتتال في ذلك القرن الهجري الأول، والتي وصلت تداعياتها إلى القرون التالية حتى يومنا هذا. وفي معرض اعتماده على نصوص المفكِّر الإصلاحي جمال الدين الأفغاني في الحديث عن الإيديولوجيات الإصلاحية حتى بداية الحرب العالمية الأولى قال شرّابي: رأت النزعة الإصلاحية أن الفساد لم يمس الإسلام قط، وكان هذا المفهوم نقطة انطلاق رئيسة تناولها بالشرح والتفسير كل عَلمٍ من أعلام الإصلاح الإسلامي. هشام شرّابي: المثقفون العرب والغرب، ص 53 - 54، كذلك ص 39 -40. وفي هذا السياق لم يخرج الصدر عن رؤية الإصلاحيين الإسلاميين من أن الإسلام، في حدِّ ذاته، لا يحتمل أي خطأ، إنما الخطأ في الممارسة والتطبيق البشريان، وما تراكم عليهما من أخطاء تفسيرية مضاعفة في العصر الحديث تلك التي سوَّقها الفكر العَلماني في العصر الحديث. وليس الأمر ببعيد عن نقد الدكتور علي الوردي للمثقف الواعظ، فأنموذج هذا الأخير عندما يجهل الطبيعة البشرية تراه يتخبَّط في تصريف العقيدة الدينية عبر الوعظ، ويقدمها كما لو كانت معبأة بالأخطاء والتناقض بينما ما يعيشه هو ذاته من تناقض يحاول أن يسقطه على العقيدة الدينية التي ينضوي تحت خيمتها وينتمي إلى أدوارها في مخاطبة الرأي المجتمعي العام؛ فالعلة ليست في إصلاحية الوعظ إنما في فهم الواعظ ما يعني أن العُطل في الفاهمة، فاهمة الواعظ وليس في الدين كمفهمة.

(16) الصدر: فلسفتنا، ص 26.

(17) الصدر: فلسفتنا، ص 26 - 28.

(18) الصدر: فلسفتنا، ص 26 - 27.

(19) حول هذه التحوُّلات انظر كتابينا: المعرفة النقدية: مدخل إلى نظرية المعرفة في الفلسفة، دار الكندي، عمّان 2001. والحضور والتمركز، مصدر سابق.

(20) الصدر: ما بين هلالين يذكره الصدر في (فلسفتنا) ص 27.

(21) الصدر: فلسفتنا، ص 27.

(22) الصدر: فلسفتنا، ص 29.

(23) الصدر: فلسفتنا، ص 29.

(24) الصدر: فلسفتنا، ص 39.

(25) الصدر: فلسفتنا، ص 40.

(26) الصدر: فلسفتنا، ص 40 - 41.

(27) الصدر: الإسلام يقود الحياة، كتب بعد الثورة الإسلامية في إيران بعد أن وجهت نخبة من العلماء ورجال الدين في لبنان أسئلة إلى الصدر بشأن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران. طبعة من دون ناشر ولا تاريخ.

(28) شبلي الملاط: المصدر السابق نفسه، ص23.

(29) كتب الشيخ عبد العزيز البدري (حكم الإسلام في الاشتراكية) في عام 1962 وتوالت طبعاته الأخرى.

(30) نشر الشيخ محمَّد محمود الصوّاف (لا اشتراكية في الإسلام) في عام 1978، دار الأنصار، القاهرة.