شعار الموقع

التراث والحداثة واستمرارية السؤال الإشكالي في الفكر العربي المعاصر

إدريس هاني 2006-06-17
عدد القراءات « 1027 »

منذ أكثر من ثلاثة عقود، والعلاقة بين التراث والحداثة، تشهد جدلاً واسعاً في أوساط النخب العربية. وقد يبدو ذلك أمراً بَدَهِيّاً، حتى لو نظرنا إلى هذه العلاقة خارج الإطار الإيديولوجي الذي يحدد طبيعة إشكاليتها. إنها نفسها العلاقة التي تبرز للوهلة الأولى بوجهها الإشكالي، لمجرد تصور طرفيها. يصبح الحديث عن التراث والحداثة تقابلياً، لجهة كونهما في وضع المتضايفين. حيث الحديث عن أحدهما يستدعي سؤال وصورة الآخر. وهذا هو الوجه الإشكالي.

وهو الموضوع الذي أثير حوله أكبر وأهم نقاش في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، ولا يزال محل نزاع لم ينقطع حتى الآن. وقد فسر البعض سريان هذا النزاع بعامل الفشل الذريع الذي آل إليه الوضع العربي. بينما تراءى سريان هذا السؤال في الفكر العربي والإسلامي المعاصر للبعض الآخر، كعلامة على ضرب من المحايثة. نظراً لاستمرارية حضور التراث في الوعي العربي والإسلامي الحديث والمعاصر.

هذا، بالإضافة إلى أن هذا الاهتمام، نابع من واقع لحظتنا، بوصفها لحظة تعيش على إيقاع السؤال الأعظم، الذي لا يزال مطروحاً بإلحاح في المجال العربي والإسلامي، ألا وهو سؤال: النهضة!(1)

وقد أرجع البعض، أسباب هذا التضخم في الاشتغال بسؤال التراث والحداثة، إلى حالة "الإخفاق والانسداد التي ولجتها البلاد العربية منذ مطلع العقد السابع من القرن العشرين بعد أن تعرض مشروع النهضة والتقدم فيها إلى انتكاسة فادحة"(2). وأيضا ترجع أسباب هذا الانهمام الكبير بمسألة التراث إلى "حالة التأجيل التي مازالت توجد عليها اليوم أسئلة الماضي [...]، إخفاق الحاضر: حاضر العرب، في إنجاز مطالب النهضة والتقدم والحداثة وسواها، أنتج كل الأسباب لتجديد سلطة التراث بوصفها سلطة ماضٍ لم ينته في حاضر لم يبدأ"(3).

إن الشرط الموضوعي الأهم الذي أذكى هذا الانهمام بمسألة التراث وعلاقته بالحداثة في الاشتغال النقدي العربي والإسلامي المعاصر، بهذا الحجم الكبير، واللافت للنظر، إلى حد جعل البعض يرى فيما تم إنتاجه من نصوص حول التراث في الربع قرن الأخير، "يناظر في الكم ما في حوزتنا -حتى الآن- من نصوص التراث نفسه"(4). أجل، إن الشرط الموضوعي الأهم، هو فيما أدت إليه نكسة حزيران -1967-، تلك التي ضغطت على الفكر العربي والإسلامي المعاصر باتجاه إعادة تأثيث إشكالياته على أرضية من التشخيص الجديد للمشكل العربي. وقد بدا تأثيرها على الوعي العربي واضحاً، رغم كل المحاولات التي رامت التخفيف من وطأتها النفسية إلى حد أعادت فيه الفكر العربي والإسلامي إلى وضعية الأزمة. أو لنقل بتعبير د. محمد جابر الأنصاري: إنها وضعته "تحت الحصار"(5). فهي النكسة التي كشفت "عن أقسى هزائم العرب، ليس بالمعنى العسكري فحسب، وإنما بمختلف الأبعاد الكيانية الأخرى"(6). وهذا ما يؤكد على أهمية حضور الهزيمة في تحليلنا للصراع الإيديولوجي في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. بوصفه فكراً يحمل انجراحات مرضية على حد تعبير د. علي زيعور، أو عقلاً في أزمة، حسب القراءة النقدية الجابرية في نقده للعقل العربي، أو عقلاً مهزوماً كما في "مساءلة الهزيمة" لمحمد جابر الأنصاري. لقد تعدى تأثير هذه الهزيمة إلى مجال العقل العربي بعد أن كانت الهزيمة هزيمة عسكرية. الأمر الذي أدى إلى هذا الاستنفار للحركة النقدية العربية والإسلامية المعاصرة -في نوع من الاستجابة للتحدي- باتجاه الدفع بالمسألة إلى أقصى حدود الاشتغال، حيث بات السؤال ملحاً: أين الخطأ، وأين المشكلة؟

ويعبر الناقد العربي د.عبد العزيز حمودة عن هذا الربط بين واقع النكسة والهزيمة، وإلحاحية سؤال التحديث قائلاً: "بالمنطق نفسه يمكن فهم ما حدث في السنوات التي أعقبت الهزيمة العسكرية عام 1967، حينما اعتبرها قطاع كبير من الشعب العربي هزيمة لعقل عربي متخلف، ومن ثم بدأ البحث المحموم، وسط إحباطات مؤلمة، عن تفسير انتهينا فيه إلى الرغبة المحمومة في تحديث الأداة العسكرية وفنون القتال وإدارة المعارك. وقد استغلت قلة منا رغبة الجماهير العربية في تحقيق تحديث كامل، لتحقيق (حداثة) انتهت بنا إلى الارتماء الكامل في أحضان الثقافة الغربية ومنجزات العقل الغربي دون تمحيص أو ترو"(7).

الجديد والقديم في الخطاب النقدي التراثي

إن الحديث عن إشكالية العلاقة بين التراث والحداثة في إطارهما الإيديولوجي كما تحدد بعد نكسة حزيران، تحت وطأة التحولات الفكرية والنقدية، وأيضاً تحت وطأة الهزيمة العسكرية. لا يعني أنها إشكالية لم تلق اهتماماً من قبل وفي المجال نفسه. نعم، ربما تم تداول الإشكالية في ضوء تعبيرات واصطلاحات مختلفة، وبمستوى من الاستشكال أقل وأخف مما حصل بعد عام النكسة. لا يخفى أن عبارة "الحداثة والتراث" ليست عبارة عريقة في التداول العربي الحديث بالمفهوم نفسه الذي يتم تداولها الآن، حتى ولو كان هناك جذر اشتقاقي عربي لمصطلح "حداثة" أو "تراث". لم تحضر العبارة بشحنتها المفهومية والإيديولوجية في أدبيات الإصلاح والنهضة العربية والإسلامية. لقد تحدث هؤلاء عن مسألة التقدم والتأخر بمعناهما المباشر، كما يشير إلى ذلك عنوان كتاب شكيب أرسلان: "لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم"!

لقد كان الاستعمال الأكثر حضوراً، لصالح اصطلاحات ومفاهيم، نظير: التقدم والمدنية وغيرهما، مما له جهة اشتراك مع مفهوم الحداثة في حدود معينة، وما به امتياز، يجعل مفهوم الحداثة أكثر تعقيداً وإيديولوجية من المفاهيم المذكورة. ولو أننا أطلقنا العنان، وتسامحنا في استعمال مفهوم الحداثة والتراث على غير حمولته المفهومية في مجال النقد الإيديولوجي العربي الإسلامي المعاصر، فسوف نجد أن سؤال الحداثة مقابل التراث، لها ما يقابلها في الخطاب التقليدي، نظير الأصالة والمعاصرة.. التقليد والاجتهاد.. الاتباع والإبداع. ففي نهاية المطاف، هو سؤال قديم لم يبرح، قط، الفكر العربي والإسلامي منذ قرون.

ولذا، نؤكد على أن المعنى العام للحداثة والتراث، بوصفهما تعبيرين عن واقعين متضايفين، كما تحيل عليهما المفاهيم التقليدية المذكورة، لا يخدم أغراض هذا البحث. وذلك لسبب بسيط جداً، وهو أنه لا نزاع حول الحداثة والتراث بالمعنى العام، وإن بداية النزاع، هو بداية تطور وتشعب المفهوم ذاته، أي بداية تكوّن الإشكالية المذكورة. حيث يبرز بشكل رئيس هاهنا مفهوم القطيعة.

في مفهوم القطيعة

يعتبر مفهوم القطيعة، المفتاح الأساسي لفهم طبيعة النزاع الإيديولوجي الذي شهده الفكر العربي والإسلامي المعاصر حول مطلب الحداثة والموقف من التراث. فلا وجود لقراءة جديدة حول التراث، لم تقترب أكثر أو أقل من هذا المفهوم، أو تستوظفه في سياق نقدها. وسواء أكانت المشاريع المهتمة بالتراث تنتمي للمقاربة الإيديولوجية أو المقاربة المعرفية الخالصة، فإن مفهوم القطيعة يحضر بشكل لافت للنظر. وإذن، فهو نفسه مفهوم قابل للتوظيف الإيديولوجي بقدر قابليته للتوظيف المعرفي. على هذا الأساس يمكننا القول، بأن مفهوم القطيعة، وإن كان منشؤه علمياً بحتاً وربما جاء ليقطع الطريق على الاختراق الإيديولوجي نفسه للمعرفة، إلا أنه يعتبر أفضل هدية قدمها النقد المعرفي إلى المقاربة الإيديولوجية. ومع أن هذا المفهوم المتداول بكثافة في النقد المعرفي والإيديولوجي العربي والإسلامي المعاصر، هو العنصر الجامع لمختلف الخطابات والمشاريع النقدية العربية والإسلامية المعاصرة، إلا أن هناك جانباً كبيراً من الاختلاف، لا يستهان به، في طبيعة وحيثيات القطيعة المنشودة. فهل يا ترى، هي قطيعة تامة وجذرية مع التراث، أم هي قطيعة موضعية جزئية انتقائية معه، أم هي قطيعة مع فهم معين للتراث، أم قطيعة مع التراث نفسه...؟

هنا تحضر ثلاث صور لهذه القطيعة، من خلال ثلاثة مشاريع نقدية، لعلها في تقديرنا، الأكثر أهمية والأوسع صيتاً من نظرائها. إذ ما دونها لا يعدو كونه سوى اجتراراً للصورة نفسها، أو أنه واقع في الضفة الأخرى للنقد الإيديولوجي العربي والإسلامي المعاصر، المناهض لفكرة القطيعة والمقوض لدعواها. وأعني هنا، ثلاثة مشاريع، لكل من عبد الله العروي ومحاولاته لنقد الوعي التاريخي العربي والإسلامي، ومحمد عابد الجابري في رباعيته الضخمة التي بلغت جزأها الرابع، ومحمد أركون، في مشروعه النقدي، الرامي إلى إعادة قراءة التراث في ضوء مناهج ألسنية وأنثربولوجية حديثة، في أفق ما يسميه بالإسلامية التطبيقية.

ومع أن المفكرين الثلاثة المذكورين، يقفون على أرضية مشتركة، قوامها النقد والدعوة إلى القطيعة، إلا أن حيثيات هذه القطيعة هي ما يشكل أرضية تمايز بينهم. وذلك، بحسب طبيعة التكوين وجغرافيته والإطار المعرفي والمسوغات الإيديولوجية لكل باحث على حدة. ويبدو، من خلال فحص فكرة القطيعة بالصورة التي تحضر بها في أعمال أولئك، أن هناك اختلافاً في المداخل. فمدخل العروي لمفهوم القطيعة يختلف عن مدخل الجابري. وأيضاً الأمر نفسه بين الجابري وأركون. وهذا يعني، أن وجود ما به اشتراك هذه المشاريع في بعض مفردات الرؤية، لا ينبغي أن ينتهي بنا إلى إعلان ما به اشتراكها على نحو تام، أو يحجب عنا ما به امتيازها في باقي المساحات الأخرى. فالقطيعة عند العروي، تأخذ معنى الطفرة التاريخية، بالمعنى الذي تذهب إليه المادية التاريخية، ما يجعل من العروي، تاريخانياً بامتياز.

أما القطيعة عند محمد عابد الجابري، فهي تأخذ معنى الثورة المعرفية، أو القطيعة الإبستيمولوجية كما هي عند غاستون باشلار ما يجعل منه بنيوياً بامتياز.

أما القطيعة عند أركون، فهي تعيش على إيقاع معطيات الثورة المنهاجية الجديدة، التي تمتد إلى مختلف الحقول، في اللغة والتاريخ والاجتماع والنفس. فهي بهذا المعنى قطيعة مع أساليب القراءة والفهم. وهو مفهوم يلتقي مع كافة الأطر المعرفية المتحكمة تداولياً في خطاب الحداثة الغربية، وإن كان يغازل من ناحية أخرى المنظور الإبستمي الفوكوني وعموم التقنيات التفكيكية لما بعد الحداثة. إلا أنه يستند إليها دعماً للحداثة، لا انتهاكاً لمشروعيتها.

 

الهوامش:

(1) يقول محمد عابد الجابري في رده على د. سعيد بن سعيد العلوي: "ومع ذلك فأنا أذكر أن الشاغل الإيديولوجي هو شاغل النهضة، شاغل توظيف التراث أو جعله حاضراً في النهضة العربية المعاصرة [..] نحن أيضاً لدينا مشروع مستقبلي لا زلنا نعبر عنه بـ(النهضة) لازال نهضوياً. والنهضة على كل حال، مرتبطة بالجانب الفكري إلى حد كبير" انظر وقائع الندوة التي عقدتها مجلة الوحدة؛ محمد عابد الجابري؛ التراث والحداثة دراسات ومناقشات، ص 282-283، ط1 -سبتمبر 1991- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- بيروت.

(2) عبد الإله بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، ص 86، كتاب المعرفة للجميع، ط1-مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء المغرب- أكتوبر 2001.

(3) المصدر السابق، ص 86-87.

(4) المصدر السابق، ص 83.

(5) د. محمد جابر الأنصاري : مساءلة الهزيمة، ص 12- ط1-2001، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت.

(6) المصدر السابق، ص12.

(7) د. عبد العزيز حمودة، (المرايا المقعرة)، ص28-عالم المعرفة مطابع الوطن -الكويت- أغسطس 2001.