ترجمة: هشام الميلوي***
ﷺ تقديم
في الآونة الأخيرة أضحى موضوع علاقة الغرب بالإسلام، يحظى باهتمام بالغ، سواء من طرف الباحثين المختصين أو حتى بالنسبة لأصحاب الشأن والقرار السياسي.
وأبلغ دليل على ذلك، هو الكم الهائل من الدراسات التي تناولت الموضوع بالإضافة إلى تعدد الندوات والمؤتمرات التي انعقدت مؤخراً.
والنص الذي بين يدي القارئ، يستمد أهميته من أن صاحبه كان من بين أصحاب القرار ولازال، وأيضاً لأنه يمثل أحد أبرز الوجوه السياسية في بريطانيا، كما تقلد منصب الحاكم لمدينة هونغ كونغ قبل استردادها من طرف الصينيين، وهو اليوم مسؤول عن قطاع حساس في الاتحاد الأوروبي، هو العلاقات الخارجية، إذ يشغل منصب المفوض الأوروبي لهذه العلاقات.
وهذا النص عبارة عن دراسة ألقاها بمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية في 24 مايو 2004.
ولقد حاول مناقشة الموضوع من خلال ثلاث قضايا اعتبرها أساسية ومحددة في علاقة الغرب بالإ سلام.
ﷺ النص المترجم
لو كان اليوم صامويل هنتنغتون عبارة عن سهم من أسهم البورصة لبلغ سعره قمماً عالية.
فلا يوجد مجال اليوم للتفاؤل وخطر صدام الحضارات الذي وصفه في مقاله الذي نشر سنة 1993 في مجلة فورين أفيرز، يلوح في الأفق ويلقي بظلاله على آفاق وكذا آمال توسع دائرة الحرية في العالم، يا للحسرة، الدمار الذي ساهمنا بقدر غير يسير في إحداثه يترصدنا.
إن بعضاً من المشاكل التي نواجهها خلال هذا القرن، من قبيل هل ستستطيع الصين الجمع بين الليبرالية الاقتصادية والسلطوية السياسية، هي مشاكل تخص بعضاً من أعضاء في نادٍ صغير للتقنوقراط في بكين.
أما المعضلات الأخرى كالتي في فيلم (اليوم التالي) فمردُّها إلى النهب البيئي والطمع الذي برهنَّا عليه. لكن صراعاً بين الحضارات، بين عالم يهوى التمثل بالعهد الجديد، وعالم إسلامي يتبنى كتاباً آخر، هي كارثة نُصرُّ على إحداثها بالإهمال أكثر من الأخطاء. فكيف وصلنا إلى هذه الحافة؟
اسمحوا لي بالعودة قليلاً إلى أطروحة صامويل هنتنغتون. هذا الأخير وبعد انتصار القيم الغربية، والمتمثل في سقوط جدار برلين، وآخر الإمبراطوريات الأوروبية، وانفتاح الأسواق بفضل التقدم التكنولوجي والتوقيع على الاتفاقيات الدولية، يحذرنا من مغبة الاعتقاد بأن زمن الحروب قد ولى، فقط لأن الحرب الباردة تم كسبها دون مساعدة من آلات الموت في حفر ومراكز الإطلاق في أوكرانيا. فبالنسبة إليه الحرب لم تصبح بعد في كتب التاريخ. إذ إن "الصراعات –يقول- في المستقبل ستتمحور حول خطوط التماس المتواجدة بين الثقافات والفارقة بين الحضارات" الاختلافات الثقافية هي اليوم أكثر أهمية من تلك الإيديولوجية. وبالتالي فكلما ساهم التقدم التقني في التقريب بين الثقافات زاد الإحساس بالتميز وبأهمية العامل الثقافي. وبإضعافها للهويات المحلية والوطنية، فإن العولمة خلقت فراغاً تم ملؤه بالدين. كما نشاهد رجوعاً إلى منابع الثقافات غير الغربية كما هو الحال في إعادة أسلمة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ذلك فإن الخصائص الثقافية (أو الدينية) هي أقل قابلية للتطور من تلك السياسية أو الاقتصادية "فالصراع على طول خط تماس الحضارة الإسلامية والغربية دام منذ 1300م" ويضيف >إن التفاعل بين الغرب والإسلام، تم اعتباره من الجهتين كصراع بين الحضارات". إن هذه شعبيتها في الدوائر الجامعية الغربية بقدر ما هي حاضرة في العالم العربي وعلى مواقع الإنترنت الداعية للجهاد.
ولقد تناول صامويل هنتنغتون أمثلة أخرى للصراع بين الحضارات، وعليَّ الاعتراف بأن استدلالاته لم تقنعني يوماً. لقد أمضيت زمناً طويلاً خلال إقامتي لسنوات مضت بهونغ كونغ في رفض أطروحة وجود شرخ ثقافي بين العالم المسمى بالكنفوشيوسي (كما يسميه أناس لم يقرؤوا لكونفوشيوس، وهم بذلك يخلطون بينه وبين لي كوان يو) والغرب الذي حرم الآسيويين من الحريات المدنية والديموقراطية، وكما لو أن صن يات سين لم يوجد يوماً، كان أغلبنا يؤمن بكونية حقوق الإنسان، وبأن الديموقراطية هي النظام الأمثل لممارسة الحكم، ومع الانهيار المالي الذي أصاب المنطقة، وخلع المصداقية عن النموذج الآسيوي، الذي هو عبارة عن خليط من التسلط (apitalisme de copinage)، بدا وكأن الفروق بين الجانبين قد اختفت، فنظرية صدام الحضارات ليست سوى اختراع لجامعيين محرضين. ثم تصطدم طائرة بالبرج التوأم وتغير العالم.
أكيد أن الأمور ليست بهذه البساطة. إن سرد حوادث الظلم (séatrocit) بمبرراتها وأسبابها قد بدأت قبل 2001. ولسنا بحاجة في العالم الجامعي الأكاديمي إلى من يدلنا ويعلمنا طريقة التفكير في القضايا، وبما أنه كانت لدي رغبة في أن أكون ناشراً لمؤلفات برنارد لويس، الأستاذ في برنستون، فإني مدين لأعماله، وقد قرأت باهتمام بعضاً من كتبه - والتي أتمنى أن تكون قد ساهمت فعلاً في تكويني. لكني بدأت أشعر بالقلق عندما قرأت أعمالاً مثل (ما الذي حدث) أو (أزمة الإسلام)، سؤال ألَحَّ عليَّ بقوة: أليس هناك من يريد توجيهي بحذر إلى اتجاه معين في التفكير. وإصدار حكم دون مداولة، دون قاضٍ ودون قضية؟ "إن أغلبية المسلمين ليسوا أصوليين" يقول برنارد لويس في (الإسلام في أزمة)، "وغالبية الأصوليين ليسوا إرهابيين، لكن أغلب الإرهابيين اليوم هم مسلمون، ويعرّفون أنفسهم كذلك وبفخر" فليكن. وهذه ملاحظة لاقت صدى إيجابياً لدى بعض المسؤولين في واشنطن. لكني أتساءل عن ردة فعل هؤلاء المسؤولين فيما لو قدمت ملاحظات شبيهة غداة هجوم الإيرا على محلات هارودز: "إن غالبية الكاثوليك ليسوا جمهوريين إيرلانديين متطرفين، وغالبية الجمهوريين المتطرفين ليسوا إرهابيين. لكن كل الإرهابيين تقريباً في بريطانيا اليوم هم كاثوليك ويعرّفون أنفسهم كذلك وبفخر" أراهن على أن هذه الجملة لن تساهم في توسيع دائرة التقدير التي أحظى بها في الولايات المتحدة، ليس لأنها خاطئة، ولكن لأنها تعبر عن كسب الجولة.
لقد قاموا بتلقيننا أن الغضب الذي يزداد في العالم الإسلامي، غضب يُستَمَدُّ جزء منه من التاريخ ومن الإهانة، ويغذي الكراهية تجاه الولايات المتحدة، وكذلك أوروبا أرض الصليبيين بالأمس. بلاد الكفار وملاذ الشيطان الأكبر اليوم، النتيجة: الحضارات تتصارع.
هناك أكثر من طريقة لتناول هذه المسألة، فيما يخصني سأظل نثرياً مبتذلاً، وأترك الاستدلالات الدينية للأساقفة المشرفين على التقاعد واللاهوتيين المميزين. وأقتصر على ملاحظة مفادها أنه حسب استطلاع لجريدة "صانداي تايمز" في شهر يناير أن المسلمين الذين يرتادون أماكن العبادة أسبوعياً هم أكثر من الأنكليكان. ولا أنوي كذلك المغامرة في النقاش حول ما إذا كانت أوروبا هي وحدها تمثل الحضارة المسيحية أو أنها نادٍ خاص جداً. إنها قصة نقاش طويل. ولكن كتلميذ سابق لريتشارد ساوثرن (Richard southern) الذي أشرف على مباراة ولوجي للأوكسفورد في سن السادسة عشرة. والذي درّسني التاريخ الوسيط، أمتلك بعض المفاهيم عن الموضوع. وما يكفي على أية حال لأتذكر ذلك الطبيب في (قصص كانتربوري) لسوسير، عندما أراد إثبات كفاءته عن طريق ذكر أسماء للأطباء يعرفهم: ست منهم أتوا من اليونان أو من روما، ثلاثة من العالم الإسلامي الوسيط. وماذا عن توماس الإكويني؟
ألم يقرأ النصوص الفلسفية والتي ترجمها المسلمون في طوليدو. والذين ندين لهم بالكثير مما نعرف من الأعمال الفلسفية، الدينية والعلمية للعصر القديم؟
أما فيما يخص الطابع الثقافي، الإثني أو الديني لنادينا الأوروبي، نذكر بأن أوروبا الغربية تضم حوالي 12 مليون مسلم: 4 ملايين في فرنسا، و2.5 مليون بألمانيا ومليونين في المملكة المتحدة. إن الإسلام هو أكثر الديانات انتشاراً في العالم. ويمارس في أوروبا وفي مجموعة من الدول التي قامت على أنقاض الحروب الدموية للقرن العشرين. إن تاريخنا الحديث، الموشوم بغرف الغاز والغولاغ، وكذا إرثنا المسيحي الملطخ بمعاداة السامية فاقعة أو على الأقل متحفظة، لا يسمح لنا بالتحدث إلى العالم الإسلامي باستعلاء، كما لو كنا أصحاب قيم أخلاقية متفوقة. أحكامنا المسبقة صفيقة. ومع ذلك لسنا في وضع يتيح لنا إعطاء دروس في الأخلاق.
ماذا عن هذا العالم الإسلامي الذي نزعم أنه كاره لحضارتنا؟ قد يغيب عنا أحياناً أن المسلمين والذين يبلغ عددهم 1.2 مليار يعيشون في ثلاثة أرباع من الدول البعيدة عن الجامعة العربية، ويقيمون في ديموقراطيات كماليزيا، إندونيسيا والهند. إن المجتمعات الإسلامية في آسيا ليست بمنأى عن الصعوبات التي يعرفها باقي دول العالم، فهم في مواجهة جيوب من التطرف، ومن السخرية أن نتصور موجة من الحنق الإسلامي تغرق دولاً بأكملها، من شواطئ الأطلسي إلى الهادي.
إذا قمنا بالتركيز على البلدان العربية في المغرب والمشرق العربي والخليج، ما الذي يمكن استخلاصه من بين الدول الموجودة في قلب الصراعات والخلافات المعاصرة؟ سنة 2002 تقدمت مؤسسة الفكر العربي إلى معهد الزعبي الدولي بطلب إجراء استطلاع للرأي في ثمان دول هي: مصر، إسرائيل، الأردن، لبنان، الكويت، المغرب، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، نتائج هذا الاستطلاع والذي شمل 3800 شخص، أكدت نتائج دراسات أخرى مماثلة، إن لم تكن متطابقة، قام بها مركز (بو) للأبحاث، وهي أن الشعوب العربية مثلها مثل الأمريكيين والأوروبيين، يشغلها الهاجس الأمني قبل أي شيء آخر، بالإضافة إلى إشباع حاجاتها الأساسية، ربما سنفاجأ بأنهم لا يكرهون قيمنا الغربية ولا تعبيراتها، سواء في الديموقراطية، الحرية، التعليم، السينما أو التلفزيون. بل سنجد أن أفضل البرامج التلفزيونية والتي حققت نجاحاً هناك هو برنامج (من سيربح المليون). دراسات أخرى أكدت النتائج نفسها فيما يخص القيم الأساسية. إن تقرير التنمية البشرية الثاني في العالم العربي، والذي نشر في 2003 -سأتناول التقرير الأول لاحقاً- ذكّر باستطلاع الرأي العالمي (eyvWorld Value sur)، الذي خرج بأن المجتمع العربي هو أكثر المجتمعات قناعة بأفضلية الديموقراطية كنظام للحكم، بعيداً عن الأوروبيين والأمريكيين أنفسهم، بل وأكثر نزوعاً ثلاثة أضعاف من الشعوب الآسيوية.
إن مثل هذه النتائج لا تشير إلى وجود صراع بين القيم، الإشكالية تبدو أكثر بساطة مما نظن، ليس لدى العالم الإسلامي شيء ضد القيم الأمريكية والأوروبية، فقط لا يتحمل السياسات التي تقودها الولايات المتحدة، وبالتالي نفس هذه السياسات المتبناة أو المتسامح معها من قبل الأوروبيين. إذن فالعالم العربي له انطباع سلبي تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا، (مع رأي إيجابي تجاه القيم الأمريكية كالحرية والديموقراطية حسب الدراسة نفسها). ما هي أسباب انحدار شعبية المملكة المتحدة في العالم العربي؟ جانب يعود في نظري إلى ما تقوم به، وآخر إلى ما لا تقوله وتعبر عنه. لا أدري هل توماس مور مقروء بشكل جيد في العالم العربي، لكن عبارة "من يصمت يشارك في الظلم" صحيحة في كل مكان من العالم، وسنتوافق عندما نعلم أن فرنسا هي الأفضل ترتيباً في هذه الاستطلاعات بنتائج جيدة متبوعة باليابان، ألمانيا ثم كندا.
ما هي السياسات التي لا تروق للعالم العربي؟ يمكن المراهنة اليوم على أن العراق يحتل القائمة. لكن في سنة 2002 قد لا نفاجأ إذا علمنا أن موضوع انعدام السلام في الشرق الأوسط كان الأكثر تردداً في الاستطلاع الذي قامت به مؤسسة الزعبي. واسمحوا باستعراض بعض ما أفاد به أصحاب الدراسة:
"... بعد ثلاثة أجيال من الصراع، ومن الخيانة والتنكر للحقوق الفلسطينية، أصبحت هذه القضية إشغالاً أساسياً يهم كل العالم العربي. وليست مشكلة تتعلق بالسياسة الخارجية، بل على العكس، إن وضعية الفلسطينيين أصبحت مشكلاً شخصياً". وكما أفادت الأعمال الأخيرة لريتشارد بيرل ودافيد فروم، فإن هذه الحقيقة البَدَهِيَّة تتجاهلها بفظاعة إحدى مدارس الفكر الأمريكي.
إن معالجة القضية الفلسطينية هي أحد أربعة مجالات، يمكن للسياسة المتبعة من طرف الولايات المتحدة وأوروبا إطفاء وإشعال نار الكراهية في العالم العربي، وبناء -عوضاً عن هدم- الجسور التي تربط بين الغرب وباقي العالم الإسلامي.
المجالات الثلاثة الأخرى التي أود مناقشتها هنا هي:
- ما هي أفضل السبل لتناول مسألة الإصلاح في العالم العربي؟.
- أي اتجاه ومنحى سنتبنى في معالجة الأزمة الرهيبة في العراق؟.
- ما هي الإجابات عن تطلعات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي؟.
وقبل تناول الموضوع الرئيسي، أود فتح قوس هنا لمناقشة كيف يمكن لهذه القضايا مساعدتنا على تخطي تهديد الإرهاب، هذا الموضوع الذي فاقم من حدة النقاشات.
إن محاولة فهم أسباب الإرهاب حيث يكون ذلك ممكناً ومرغوباً فيه، لا يعني بالضرورة التسامح مع فظاعات القتل من أجل الأهداف السياسية. إن تاريخنا من كينيا إلى إسرائيل مروراً بأيرلندا، طافح بأمثلة الحركات الإرهابية التي ساقتها الأحداث إلى أتون السياسة. كما من الممكن أن يكون للإرهاب أغراض وأسباب عدة -نشير هنا إلى مو- مو، عصابة شيترن، إيرا وأنس، لكن أهدافه أقل تمييزاً وتحديداً. وكما هو شأن سياسة "الدعاية عن طريق الحدث" التي أعلن عنها إينريكو مالاتستا. من أجل إثارة الانتباه للظلم وإضعاف النخب الحاكمة، وذلك بقتل الأمراء، الرؤساء، القياصرة والملوك، فهو مثل الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية، والتي استطاعت بفضل التقدم التقني زعزعة استقرار المجتمعات، وقريب إلى الحركات الفوضوية منه إلى هؤلاء السياسيين المسلمين أنصار السلام وصناديق الاقتراع. إن الأفكار التي ينادي بها أسامة بن لادن، والذين يشاطرونه طريقة التفكير دون أن يكونوا جميعهم أعضاءً في شبكة شريرة ذات تقنية عالية، لا تعدو أن تكون مجموعة من المشاعر الظلامية وغير المتجانسة، والتي لا ترقى إلى مستوى الأفكار السياسية، هذا إن لم تتجاوز الشعار القديم (Yankee go home)، لكن ومع ذلك فهذه الأفكار تشكل نوعاً من الاستلاب الثقافي، الاجتماعي والسياسي الذي يجب علينا فهمه.
جوزيف كونارد حاول تسليط الضوء على بعض مساحات الظل هذه في (العميل السري)؛ "فهو ليس رجل الفعل والمبادرة، أو حتى خطيباً مفهوماً يقود الجموع في مسلك حماسي مزبد. دقيق في نواياه. يلعب دور المحفز الخبيث للنوازع التي تختبئ في الرغبة العمياء (...) وفي بؤس الفقر، في الأوهام النبيلة والمليئة بالأمل الغاضب، الرحمة والعصيان. إن طريق الثورات وإن كانت عادلة تقودها نزعات شخصية تتنكر في الإيمان".
ليس من الطبيعي أن يستيقظ المرء صباحاً والرغبة تملؤه في تحويل جسمه أو أبنائه إلى قنابل بشرية موقوتة موجهة للتدمير والقتل. كيف يستطيع الإحساس بالظلم والذي غالباً ما يقود إلى التبسيط الديني أن يثير هذه البربرية؟ ما هي الأسباب التي تجعل من رغبتنا في ضرورة نشر الحرية، الرأسمالية والديموقراطية تبدو في نظر الآخر كدعوة إلى الفجور والجشع والاستعمار الجديد؟ من الواجب علينا تحليل الإجابات، وفهم كيفية الحد وكذا تفاقم هذه الأسئلة. ثم هل الإقرار بإمكانية وجود سياسات تساهم في الحد من انتشار الإرهاب يعد خضوعاً له؟ أظن أن القضايا الأربع التي سبق أن ذكرتها -والتي هي على أية حال ليست بالجديدة- تندرج في هذا السياق.
سأستهل حديثي بمعالجة بعض الحجج التي جاءت بها المبادرة الأمريكية المسماة (بالشرق الأوسط الجديد).
إن التقرير حول التنمية البشرية في العالم العربي، والذي نشرته الأمم المتحدة، يعد حسب مجلة تايم (Time magazine) أهم المنشورات لسنة 2002. وهو التقرير الذي أثار زوبعة من النقاش في العالم العربي، فيما يخص أسباب التخلف مقارنة مع النتائج غير المرضية في المنطقة. هناك أكثر من مليون نسخة تم سحبها من الإنترنت.
كيف نفسر الإقبال على هذا العمل الأكاديمي؟.
أولاً: لأن هوية الذين كتبوا التقرير فاجأت ومنحت مصداقية لهذه الوثيقة: فالأمر يتعلق بجامعيين عرب وليس بمراقبين أجانب موجهين. ثم لأن التقرير قدّم مثالاً عن النزاهة وشجاعة سياسية كبيرة.
كيف نفسر أن المنطقة الوحيدة التي سجلت كفاءة اقتصادية أقل من البلدان العربية خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة كانت هي بلدان إفريقيا جنوب الصحراء؟ لماذا استقر دخل الأفراد طيلة هذه الفترة؟ لماذا مستوى الغنى لكل فرد لا يمثل سوى 1/7 من المتوسط مقارنة مع بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) بعد أن كان في حدود 1/5؟ لماذا مستوى الإنتاج، وفاعلية الاستثمارات كذا الأجنبية ضعيفة؟ كيف أصبح الناتج الداخلي الخام (GNP) للدول العربية مجتمعة أقل من بلد أوروبي واحد، وهو إسبانيا؟ لقد حاولت التوصيات التي استخلصتها المديرة الجهوية لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) في الدول العربية الإجابة عن هذه الأسئلة بالقول: إن الدول العربية عليها أن ترتكز في عملية إعادة بناء مجتمعاتها على:
1- الاحترام المطلق للحريات وحقوق الإنسان، أساس التدبير الجيد للتنمية البشرية.
2- التحرير الكامل للمرأة العربية، وذلك عن طريق كل الوسائل الكفيلة بإثبات وجودها وكفاءتها، وكذا السماح لها باستثمارها.
3- تعزيز امتلاك واستخدام فعّال للمعرفة.
التدبير الجيد، وضعية المرأة، التعليم: هي الصيغ نفسها التي يطالب بها العالم العربي من أجل التحديث، والتي يحاول شركاؤه في الضفة الأخرى للمتوسط تشجيعها بلطف -ربما زائد أحياناً- وبواسطة مسلسل برشلونة منذ عشر سنوات تقريباً. كما نحاول إقامة منطقة للتبادل الحر حول المشترك بهدف إنجازه سنة 2010، وذلك قصد مضاعفة العلاقات الخارجية بين الدول العربية، وتقديم المساعدة لتلك المنخرطة في التحديث والإصلاح الديموقراطي، وتعزيز المجتمع المدني الفاعل، كالمغرب والأردن.
إن هناك تناسباً طردياً بين نظام حكم جيد، وبين التنمية الاقتصادية، وأيضاً بين هذه الأخيرة وبين تعزيز الاستقرار. إن الحكومات المتسلطة هي أبعد ما تكون عن حسن التدبير. فهي تشجع الفساد وتقمع التعددية -كحرية الصحافة مثلاً- ضمان التدبير الاقتصادي الشفاف.
عادة ما تكون نتائج التسلط السياسي على مستويين:
الأول: ضعف في النمو الاقتصادي، لا يسمح بخلق فرص شغل تتناسب مع النمو الديموغرافي الذي يعرفه العالم العربي، وحرمان الشباب من الموارد والكرامة التي يوفرها العمل، مما يجعله عرضة وفريسة سهلة لقضايا أخرى بعيدة عن هم البطالة.
ثانياً: إن التنكر للحريات المدنية يحوّل النقاشات من أنوار القاعات والشوارع إلى ظلمات الأقبية، كما أن ضعف وسوء القدرة الاقتصادية، خاصة عندما تكون مصحوبة بفروق هامة بين الثروات والمداخيل، تعقبها حملات قمع للمعارضة. النتيجة عامل آخر لتعزيز عدم الاستقرار.
كيف يتسنى للغرب، لجيران العالم العربي الأوروبيين، دعم مسلسل التحديث الذي يصب حتماً في مصالحهم، مادام يقلص من ضغط الهجرة غير القانونية، ينمي الأسواق ويخلق أخرى ويصدر الاستقرار لجيراننا القريبين؟ إنني أرفض بشدة الفكرة القائلة بأن مصيرهم لا يهمنا. بل بالعكس إنه أمر في غاية الأهمية أن يكون لنا جيران مستقرون ومزدهرون. كما لا أشاطر أولئك الذين يقولون بأن تشجيع الديموقراطية في العالم العربي، لن تزيد إلا في عدم الاستقرار، وخطر صعود أنظمة أصولية تعوض تلك المتسلطة والصديقة، عن طريق الوسائل الديموقراطية، والتي سرعان ما سيتنكرون لها. لم أكن يوماً مقتنعاً بفكرة أن الحرية السياسية هي أقل استقراراً من التسلط السياسي.
يبدو أنه على أصحاب النيات الحسنة، أن يراعوا بعض المبادئ والأسس، عندما يهتمون ببلدان أجنبية ونفوس أخرى "إذا لم يتموا ما تستطيع أنت إنجازه بصوره كاملة، فذلك لأن الأمر يتعلق ببلادهم. وبمنطقهم" يؤكد ت. أ. لورنس (والذي هو نفسه ليس بالنموذج الأمثل لقمة الدول الثمان المقبلة فيما يخص هذه القضايا)، من الضروري أن تخضع أهداف التحديث لمعايير الدول العربية في ميادين التربية، احترام دولة القانون، الحكومة التشاركية، تحرير النساء، النهوض بالمجتمع المدني. الإقرار بأن ذلك يتطلب وقتاً ويجب انتظار مسلسل طويل، ليست دعوة إلى التأجيل والإرجاء. الديموقراطية لا تتطور كما لو كانت قهوة سريعة التحضير. علينا كذلك الكف عن مراعاة -كما كنا نفعل دائماً- الاختلافات لدى مخاطبينا، يجب أن تكون متطلباتنا واحدة بالنسبة للجميع، حتى وإن بدت بعض النظم المتسلطة متعاونة عندما تفرض ذلك مصالحها العابرة، إذا كانت محاولاتنا للتحديث الديموقراطي عبارة عن تكتيك للغرب من أجل الحفاظ على مصالحه، فإننا نخاطر بنزع المصداقية عن المبادئ التي نؤمن بها، ومنح الأصدقاء العرب الذين يشاطروننا في الفكر صورة تابعين فقط. أخيراً وهو الأهم، لا يمكن إقامة مجتمع حر عن طريق الاستعمار والعمل العسكري، وعلينا ألَّا نأمل أن تولد الديموقراطية من تحت مزنجرات المدرعات.
لقد أكد كل هذا تقرير التنمية البشرية الذي نشر سنة 2003 إن لم يكن أكثر. مما لم يجعل قراءته سهلة لدى البعض في واشنطن، (وأخشى أن أضيف لندن أيضاً). ومع ذلك فإن أفضل ما يمكن القيام به هو تتبع نصائح الجامعيين العرب الذين كتبوا التقرير. وفتح حوار مع الإصلاحيين حول استراتيجيتهم، وأن ننتبه لرؤيتهم فيما يخص أخطاءنا، وتعزيز مساعداتنا - خاصة المالية - من أجل تحديث البرامج، إنني أؤيد ملاءمة البرامج السخية للتنمية مع الشروط الإيجابية الأكثر أهمية في المنطقة، من أجل توفير دعم أكثر لمن هم أكثر التزاماً بطريق الإصلاح.
كل هذه الأفكار تقودني إلى الموضوع الثاني وبحزن، إلى ما يسميه ونستون شرشل "الصحراء القاسية لبلاد الرافدين" ولا أستطيع نسيان ما كتبه في (حياتي المبكرة).
"أبداً، أبداً، أبداً، لا يجب الاعتقاد بأن الحرب ستكون سهلة وبسيطة، أو بأن من سيرتاد هذا السفر الغريب باستطاعته توقع الجموع والعواصف التي سيواجهها. إن على رجل الدولة الذي أخذه جنون الحرب أن يعلم بمجرد إعطائه إشارة البدء، بأنه لم يعد سيد الموقف، بل إنه عبد لأحداث مفاجئة وغير محكمة"، هذا فيما نحن عليه اليوم. أو بعبارة الأمين العام للجامعة العربية "لقد فتحنا أبواب جهنم" ونحاول جاهدين غلقها من جديد، أو في حالات مشابهة الهروب إلى الأمام آملين بأن تنغلق تلقائياً. على الأقل في هذه النقطة أتفق مع الوزير الأول البريطاني: بالنسبة لبريطانيا والولايات المتحدة، ليس مقبولاً (إخلاء) العراق قبل إقامة حكومة عراقية ديموقراطية وعملية. ليس في مصلحتنا في الأمد القريب ولا في مصلحة العراق.
لا يمكن إرضاء ضميرنا بالتفكير في إلقاء مسؤولية العراق على عاتق الأمم المتحدة واعتبار ذلك خدمة للتعددية. إن الغرض بقدر ما هو واضح صعب، سلطة الأمم المتحدة ضرورية، لكنها تتطلب تضافر جهود المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، هذه الجهود التي لن يكتب لها النجاح إذا لم تعرف هذه الأخيرة خطورة التصرف كما لو أنها تطبق عبارة ماكيافلي "أن تكون مهاباً أفضل من أن تكون محبوباً". علينا منح المؤسسات المحلية المستقلة في العراق أكبر الصلاحيات الممكنة، مع تحديد سلطاتها وشرعيتها ما لم تجر الانتخابات بعد.
أما بالنسبة للموضوع الثالث، فسأعرج على القضية التي ذكرت سابقاً، على أنها ليست مشكلاًً يتعلق بالسياسة الخارجية لغالبية العرب: إن قضية الفلسطينيين والإسرائيليين، هاتين الطائفتين اللتين جُرَّتا إلى دوامة من القتل والتدمير. تجربتي أثبتت لي أن كل محاولات الحياد والموضوعية مهما كانت دقيقة فإنها لا تمنع من تساقط الاتهامات بالتحيز. سأكتفي فقط بالآتي: (مما يكفي لجر سيل من النقد)، لدي انطباع بأن هناك نوعين من الغضب المشروعين، وروايتين للأحداث وليست واحدة. واليوم وأمام هذا التدفق اللامحدود للعنف، وتتابع عمليات الانتقام الدموي، أود استمداد وحي قصة الصغير والإمبراطور العاري.
إننا نعرف كيف نضع حداً لحمام الدم هذا. لقد فشلنا في ذلك بكامب ديفيد منذ أربع سنوات ثم في طابا. ولقد شرحت لنا لجنة ميشيل ما الذي يتطلبه المسلسل، كما قدمت لنا ورقة الطريق تحليلاً سياسياً للوضع. وبرهنت مبادرة جنيف على وجود رجال ونساء شجعان في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل قادرين على إيجاد طريق للسلام. ونعرف المجهودات التي يجب بذلها من أجل هذا السلام، ومن أجل أن تتعايش هاتان الدولتان جنباً إلى جنب فوق هذه الأرض التي نعتبرها أرضاً مقدسة.
إن السياسة المتبعة من طرف المجموعة الدولية ترتكز على ثلاث مقدمات أو مسلمات:
أولاً: إن حكومة شارون تؤمن بقيام دولة فلسطينية حقيقية.
ثانياً: عرفات والقيادة الفلسطينية، باستطاعتهم إقناع شعبها بأن الوصول إلى هذا الهدف يتم عن طريق التخلي عن العنف، وإن كان ضد ما يعتبرونه احتلالاً قمعياً لأراضيهم.
ثالثاً: إن شارون وحكومته يقومون بتفكيك المستوطنات مثلاً من أجل مساعدة عرفات على إقناع شعبه.
هل لا زلنا نعتقد بهذه المسلمات؟
يجب أن تكون هذه المسلمات حقيقية إذا أردنا الوصول إلى السلام الدائم، أما إذا ساورتنا الشكوك حول صحتها، يجب إذاك على المجتمع الدولي مضاعفة الجهود من أجل الدفع والضغط وتذليل الطرفين من أجل التقدم. على الأوروبيين والعرب أن يبرهنوا على صرامة أكثر مع القيادة الفلسطينية، لكن هذا الحزم لن يثمر إذا لم تتخذ الولايات المتحدة نفس النهج مع إسرائيل.
الآن وصلت إلى موضوعي الأخير، والذي هو في نظر العديد من المراقبين امتحان أساسي، لالتزام الاتحاد الأوروبي مقاربة تعددية ومنفتحة على الإسلام، ليس في علاقته مع بلد أو آخر من البلدان العربية وإنما حله لقضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وهي مسألة لا زالت تطرح أسئلة وأجوبة مترددة حرجة وغامضة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. والتي سيتم إعادة طرحها نهاية السنة، حيث يتوجب على الاتحاد الأوروبي الإقرار إذا كان سيقيم مفاوضات مع تركيا، مع اعترافه بعضويتها كمرشح منذ خمس سنوات في المجلس الأوروبي بهلسينكي 1999.
قد يكون من المبالغة القول بأن هذه القضية أساسية في علاقتنا بالعالم الإسلامي، لكن موقفنا من تركيا ليس أقل أهمية. هناك حديث طويل عن كيفية تصورنا للأمور، وكيف نريد أن يرانا الغير سواء على الصعيد الثقافي أو الجيوسياسي.
لنبدأ بالثقافة، والتي ربما هي المظهر الأهم. ما هي الشروط التي يجب توافرها من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي؟ حسب الاتفاقيات، فإن الاتحاد مفتوح أمام كل الدول الأوروبية التي تؤمن بمبادئ الحرية، الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، والمبادئ الأساسية لدولة القانون.
هناك سؤالان أساسيان، الأول طبيعي وهو هل تركيا دولة أوروبية؟ ثانياً: هل تحترم مبادئنا الغالية؟
هل تركيا دولة أوروبية؟ إذا كان من اللازم الثقة بطموح هذه الدولة فإن الإجابة هي (نعم) صريحة وكبيرة. لقد اتجهت تركيا صوب أوروبا مند أن ألغيت السلطنة من طرف أتاتورك سنة 1922، إنها رغبة عميقة عبرت عنها كل الحكومات المتعاقبة على هذا البلد. إن تراث أتاتورك، هذا الذي ولد في سالونيك، والذي تملؤه الثقة بأن مستقبل بلاده يوجد في الغرب، رغم التعجرف الذي برهنت عليه الدول الأوروبية في تلك الفترة، كما أن حضوره هو أكبر من حضور مجازي أو رمزي: كل اجتماع في أي مكتب للإدارة التركية يدور تحت أنظار (الغازي) بزيه الغربي تماماً.
هل تحترم تركيا المبادئ الأوروبية؟ هنا يأخذ تراث أتاتورك انعطافاً سلبياً: فمن بين إنجازاته العديدة نجد إنشاء (دولة في العمق) -دولة الظل-، فقد كان يرى أن الأقليات العرقية والدينية تشكل خطر الانقسام، فأعطى للجيش الدور السياسي الأساسي. ولقد كانت هذه المظاهر ولا زالت غير متطابقة مع التصور الأوروبي، الذي ما زلنا نحاول إحياءه مند الحرب العالمية الثانية. صحيح أن المجموعة الاقتصادية الأوروبية CEE عندما وقعت سنة 1963 أولى اتفاقيات الشراكة مع تركيا، كانت أثناء فترات الديكتاتوريات العسكرية التي عرفتها البلاد.
ولقد صرح والترهالشتين بمناسبة التوقيع على اتفاق الشراكة هذا "أن تركيا هي جزء من أوروبا. وهنا يكمن المعنى الأعمق لهذه العملية، وتحمل في طياتها التأكيد على حقيقة، هي أكثر من تعبير مختصر عن واقع جغرافي، أو إقرار تاريخي منذ قرون عديدة". لذا فالعديد من المراقبين التركيين يفاجؤون عندما يجدون هذا التصريح أقل حقيقة اليوم. خاصة وأن الحكومة قامت وعززت سياسة إصلاح دستور لتعزيز الديموقراطية، والدفع بحماية الأقليات، والحد من سلطة الجيش في الحكومة، ولقد حلت تركيا هذه الإشكالية الأساسية على حساب تحول اقتصادي ونشاط إيجابي، واختارت أوروبا، فلماذا لا يلقى هذا الاختيار قبولاً لدى الغرب، يتساءل المسؤولون؟.
إن الإجابة عن هذه التساؤلات ترتبط بمصالحنا الجيوسياسية، كيف يمكننا الاهتمام بمصير حليف جار، يتوفر على حدود مشتركة مع العراق، إيران، سوريا وجنوب القوقاز؟ إلى متى سنظل نستضيف جاراً برهن على عدم صحة التعارض بين الإسلام والديموقراطية؟ وحتى إذا اهتممنا بالأمر، هل سننظر إلى تركيا كشريك محترم أم كتلميذ طائش؟ يجب التفكير في هذه الأسئلة في أفق انعقاد المجلس الأوروبي شهر ديسمبر. وأرغب في تقديم نموذج لمبادرة مؤسفة.
غداة الحرب على العراق، قام نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوفتيز بزيارة لأنقرة، من أجل لوم الجنرالات لعدم التدخل بقوة لإلغاء قرار البرلمان بعدم إرسال قوات إلى العراق.
ولحسن الحظ فإن الجنرالات لم يتدخلوا، وتم احترام السير البرلماني. لقد أحسنت الحكومة التركية الاختيار، وعلينا الحكم -على ضوء الوضع في العراق اليوم- هل كان هذا الخيار مناسباً؟.
ما الذي كان سيحدث لو تصرفت الحكومة بأسلوب آخر؟ هل ستستمر الولايات المتحدة بالضغط على أوروبا من أجل قبول تركيا بين أعضائها؟ إن تدخل العسكر في المجال السياسي لا يشكل جزءاً من مبادئنا الديموقراطية. إننا لسنا مجرد حلفاء. إننا اتحاد لدول ديموقراطية تقتسم جزءاً من سيادتها.
إن تركيا تتواجد إذن على مفترق الطرق، بين الاتحاد الأوروبي الحالي والعالم الإسلامي. وعلى مر التاريخ فإن استانبول (قسطنطينية قديماً) كانت الرابط بين العالمين. وخلال حقبة أخرى، وحينما كانت أوروبا عبارة عن بقعة متوحشة، كان الترك وتركيا يجسدان التهديد الخارجي. لكنه التاريخ الذي كانت فيه أوروبا والمسيحية مترادفتان. وكما قلت سابقاً تجاوزنا هذه الحقبة. ويمكنني إضافة أن أساقفة الكنيسة السورية الأرثوذكسية وبطارقة الكنيسة الأرمينية سيفاجؤون بأنهم لا ينتمون إلى هذا النادي.
أرى أنه من الخطورة تعريف أوروبا على أساس الدين. إن الاتحاد الأوروبي وعبر العديد من المظاهر، هو ردة فعل فكرة تعريف الآخر بالانتماء الديني أو الاثني، وإقصاء من لا يستجيبون لهذا التعريف.
ويجب الإقرار أيضاً بأن القول (لا) لتركيا سيفقدنا محبة العالم العربي هي مبالغة. تركيا ليست هي الإسلام، وليست كما قلت دولة عربية. ومع ذلك لا يمكننا تجاهل الحمولة الرمزية، التي يمكن أن تتجسد في قرار يرتبط بدولة غالبية سكانها مسلمون. إنني أنتظر النقاش الذي سيسبق قرار الجمعية حول الموضوع في الخريف. وتعرف أن هذه المسألة ستفتح الطريق أمام اتحاد أوروبي مختلف، إنها حقيقة يجب مواجهتها بصراحة ووضوح، قد يبدو من الصعب سياسياً مناقشتها وإدارياً تدبيرها، لكن من الضروري فتح النقاش والاعتراف بأن المفاوضات مع تركيا كيفما كانت النتيجة، ستساهم في تغيير عميق لهذا البلد، وكذا بالنسبة للعلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي.
إذا أحسنا الاختيارات السياسية فيما يتعلق بالقضايا الأربع التي قمت بطرحها هنا، فإني أظن أنه باستطاعتنا تجنب الصدام بين الغرب والإسلام، الذي توقعه البعض ويثيره الآخر. إن الصراع الحقيقي ليس بين الحضارات، إنه بين الحضارات والبربرية - عدوة الكل. إنها الحرب التي يجب خوضها وكسبها.
لقد فتحت يوماً كتاباً عن نقد السياسة الخارجية الأمريكية - وهو نشاط مربح منذ زمن، والذي بدأه مؤلفه بمقطع شعري من قصيدة كتبتها كاترين لي باتس، مؤلفة لحن (أمريكا الجميلة). ويجب أن تكون أمريكياً لسرد هذه الكلمات، وسأرددها هنا ليس لأنني متفق معها أو أجدها صحيحة، وإنما لأنها تعبر عن إحساس مهم:
And what of thee.
What gloom
Is
Is darkening above the
Vowed champion of Liberty، de plume.
Thy war crest، bow thy knee.
Be for God ansewer thee.
V
هناك ثلاثة أسباب تمنعني من الصياح (alleluia) - تعبير عن الابتهاج - أولاً لأنني أنفر دائماً من استدعاء الله في النقاشات السياسية الخارجية. ثم يجب أن تكون على درجة لا توصف من الوقاحة أن تطلب مهانة الآخر. أخيراً وأمام الخطر الذي يواجه العالم، فإننا بحاجة إلى أن ترتدي الولايات المتحدة قبعة الحرب من وقت لآخر.
الهوامش:
* نشرت الدراسة في الموقع الرسمي للمفوضية الأوروبية:
www.europa.eu.int/external_relations
** المفوض الأوروبي للعلاقات الخارجية.
*** كاتب ومترجم مغربي.