شعار الموقع

مؤتمر: "دور التفاعل الثقافي في بناء السلام العالمي"

محمد تهامي دكير 2006-06-17
عدد القراءات « 897 »

مؤتمر: "دور التفاعل الثقافي في بناء السلام العالمي"

بيروت بين 28-30 سبتمبر (أيلول) 2005م

"إن الشرق والغرب مثل زوجين يعيشان معاً ولم يتفقا قط، يعرف كل واحد منهما كل شيء عن الآخر، ولا يستنكفان عن التخاصم، لقد فات الأوان على الطلاق بين الشرق والغرب، لأن الانفصال سيفرقهما جميعاً..".

دومينيك مالي

السلام العالمي بين الثقافة والسياسة

لا أحد يشك في أهمية ودور الثقافات في صناعة الحضارة، وخصوصاً عندما تتفاعل إيجابياً وتتلاقح وتتثاقف فيما بينها.. لكن كيف يتاح لأي ثقافة أن تتفاعل مع أخرى في ظل عولمة ثقافية أحادية، تعمل جاهدة للهيمنة والاكتساح وإلغاء الثقافات الأخرى وتهميشها والحط من قيمتها، أنى لثقافة محاصرة من داخلها بعقول متحجرة ترفض نفض الغبار عن معالمها وتجديدها وبعث الروح في مفاصلها لتدب الحياة فيها من جديد.. ومن جهة أخرى محاصرة من خارجها بترسانة مهولة من وسائل الاتصال والإعلام والنشر والتوزيع والإعلان، لثقافة مغايرة ومدعومة بمنظومة اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعلمية، وقدرة تسويقية لا يمكن الوقوف أمامها أو مقاومة إغرائها..؟؟

كيف سيتم التفاعل بين ثقافة حية وحيوية ومواكبة للتطور، مع ثقافات محنطة وثاوية في زوايا الذاكرة التاريخية، أو ساكنة على رفوف المكتبات وأوراق المخطوطات؟؟ كيف نتحدث عن قيم مشتركة وعن التثاقف، ونحن متخمون بثقافة الآخر المغايرة؟؟

من جهة أخرى، كيف نحمل الثقافة مسؤولية تحقيق التنمية والسلام في العالم أو على الأقل المساهمة في تحقيقهما؟؟

من يتحكم في إدارة الصراع بين الأمم الآن؟ هل السياسة والمصالح الاقتصادية أم المبادئ والقيم الثقافية؟ وقبل ذلك كله، من فجّر ولا يزال يفجر الصراعات والحروب القائمة الآن؟ هل الاختلافات الثقافية أو الدينية والمذهبية هي المسؤولة فعلاً عن هذه الحروب والمآسي، أم المصالح السياسية، التي تستغل هذه الفروقات والاختلافات والتنوعات الثقافية والدينية، وتركبها لتعميق هذه الخلافات وتغذيتها، لإضفاء المبررات على شن الحروب ونهب ثروات الأمم وإبادة الشعوب المستضعفة واستعمارها؟؟

إن الثقافات والأديان عوامل وعناصر يمكن الاستفادة منها في تحقيق السلام العالمي والتعايش بين الشعوب والأمم، وفي الوقت نفسه يمكن استغلالها لتفجير الحروب والصراعات وتدمير العلاقات الإنسانية..

للتأكيد على أهمية التفاعل بين الثقافات لتحقيق السلام في العالم، وللكشف عن القيم المشتركة بين الثقافات، وضرورة التعايش بينها للحيلولة دون التحارب والصراعات وما ينجم عنها من مآسٍ عانت البشرية ولا تزال تعاني من ويلاتها، نظّم المجمع الثقافي العربي في بيروت مؤتمراً دولياً تحت عنوان: >دور التفاعل الثقافي في بناء السلام العالمي< وذلك بين 28-30 أيلول (سبتمبر) 2005م.

شارك في فعاليات المؤتمر عدد من المفكرين والسياسيين والأكاديميين من العالم العربي وأوروبا وروسيا والهند وإندونيسيا.. فيما يلي متابعة لفعاليات هذا المؤتمر.

انطلقت أعمال المؤتمر بـ(الجلسة الافتتاحية) التي تحدث فيها في البداية الأمين العام للمجمع الثقافي العربي د. عبد الرؤوف فضل الله الذي أشار في البداية إلى الشعور المتنامي بأهمية ودور الثقافة الفاعل في المساعدة على إخراج الإنسان المعاصر من مآزقه والمساعدة على دعم جهود إحقاق السلام والأمن في العالم.. لأن الثقافة في نظره اعتبرت بحق وعبر العصور العامل الأساس في تغيير المجتمعات البشرية نحو الأفضل..

وفي جوابه عن سؤال: كيف تستطيع الثقافة إقامة علاقات سليمة تقارب بين الشعوب، وما مستقبل هذه العلاقات؟ أكد د. فضل الله أن المنحى الصحيح للتقارب بين الشعوب يجب أن يتوقف على أساس التفاهم القائم على العدل والإنصاف والفهم الموضوعي.. وبخصوص نظرية صدام الحضارات فقد رأى فضل الله فيها نظرية تُغلِّب عوامل التنافر وتراها أقوى من عوامل التقارب والتكامل، ونقيضها يجب أن يكون حوار الحضارات حيث تتغلب عناصر التواصل والتكامل على عناصر الصراع والتنافر. ولتغليب الحوار الحضاري على الصدام والفوضى، لابد من العمل على إيقاف جشع القوى الكبرى المتسلطة ومطامعها وهيمنتها والحيلولة دون انتشارها.. وذلك بإصلاح النظام الدولي، وإشاعة قيم الحق والعدل والمساواة والقيم الإنسانية بين مختلف الشعوب.. وأضاف: يلزمنا إيمان جديد بالمثل العليا وتوعية الناس بحقوقهم، بالمحبة والحرية، كما نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية تتجسد في وضع أطر جديدة لتيار يتنامى يوماً بعد يوم في كل أقطار الدنيا، وهو تيار (الأنسنة) أو العولمة الحضارية الجديدة التي تهدف إلى إحلال الوئام والسلام بين البشر والتسامح والمحبة والإخاء الإنساني والعلم والمعرفة بديلاً عن العولمة الاقتصادية المهيمنة على العالم، والتي توظف كل شيء وخاصة الثقافة لخدمتها..

وبعد انتقاده لثقافة العصر المادية، التي لا تعير الاهتمام للبعد الروحي والإخلاقي، أكد أن الثقافة قادرة على تحرير ساحاتها وتحقيق شيء هام في هذا الليل العالمي الطويل.. لأنها كانت ولا تزال العامل الأساسي في تغيير مجرى التاريخ.. وفي الأخير وجه د. فضل الله نداءً إلى طلائع وضمائر القوى الحية، وخصوصاً الثقافية منها، داعياً إياها إلى التواصل والتحاور وتحمل المسؤولية لتحقيق العدالة والسلام بين الشعوب..

تناول الكلمة بعده وزير الثقافة اللبناني د. طارق متري الذي أشار إلى أهمية موضوع المؤتمر، وأنه يأتي في سياق العقد الدولي الذي أعلن سنة 2000م بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لثقافة السلام، مؤكداً أن التركيز على التفاعل بين الشرق والغرب، يتكامل مع الدراسات التي سوف تتناول العولمة وآثارها على التنوع الثقافي وفي مواجهة دعوى صدام الحضارات.. داعياً إلى تفعيل الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات..

بعد ذلك ألقى سفير المملكة المغربية في لبنان د. علي أومليل كلمة المثقفين العرب، فتساءل في البداية عن سبب اشتداد النقاش في السنين الأخيرة حول العلاقات بين الثقافات في العالم. وهل هي علاقة صراع وصدام أم علاقة تعايش وتفاعل؟ والسبب في نظره يعود إلى كون العالم قد أصبح مترابطاً نتيجة لثورة الاتصالات، لكن هذا الترابط لن يؤدي إلى تفاعل بين الثقافات لأنه في حقيقة الأمر ليس ترابطاً وإنما ربطاً، أي ربط العالم المستهلك للمعرفة والمعلومات والبضاعة الثقافية بمراكز إنتاجها في الدول المتقدمة وشركاتها المعولمة. وهذا الربط يستهدف إيصال بضاعة ثقافية منمطة لا تراعي خصوصيات المستهلك الثقافية، وهي على تناقض كبير مع واقعه، لذلك سرعان ما تبعث في نفسه الإحباط، من هنا يقول د. أومليل: كانت هذه العودة إلى الثقافات المحلية كسلاح دفاعي ووسيلة لإثبات الذات..

 وبما أن الثقافة اليوم أصبحت قضية استراتيجية تبنى عليها السياسات والاختيارات الاقتصادية والقيم والأهداف التي يبنى عليها النظام التربوي.. فإن التعايش والتفاعل بين الثقافات، أصبح ضرورياً -في نظر د. أومليل- لاستتباب الاستقرار والسلم في العالم، لأن الصراع الثقافي قد يؤدي إلى تهديد السلم في العلاقات الدولية، كما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار والسلم الأهلي داخل المجتمع الواحد.. أما قيام حوار حقيقي بين الثقافات فيتطلب -في نظره- الاعتراف المتبادل بينها والتوافق على قيم عالمية مشتركة، أما بالنسبة للثقافة العربية، فلكي تكون مقبولة في سوق القيم الثقافية العالمية أو يكون بينها وبين الثقافات الأخرى حوار حقيقي فلابد من أن تستند إلى قوة اقتصادية وسياسية، لأن النِّديَّة في الاقتصاد والأداء السياسي، والتنظيم المتطور للمجتمع، هي شرط للنِّديَّة الثقافية التي بغيرها لا يكون هناك حوار حقيقي..

ثم ألقت وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيدي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، كلمة أكدت فيها أن عمل الآسكوا جزء من الجهد الدولي والتوافق العالمي حول ضرورة الحوار والتفاعل الثقافي والحضاري.. لبناء السلام العالمي.. بالإضافة إلى العمل من أجل نقل أوضاع المنطقة وهمومها ومقومات حضارتها وثقافتها إلى المجتمع العالمي ووصل ما يجري دوليًّا من تطورات ومستجدات مع واقع المنطقة..

أعمال اليوم الأول

انطلقت أعمال المؤتمر بجلسة أولى ترأسها الدكتور جعفر ميرغني (رئيس معهد حضارة السودان) وتحدث فيها د. فكتور الكك (رئيس مركز اللغة الفارسية وآدابها وأستاذ الحضارة العربية الإسلامية بالجامعة اللبنانية) الذي قدم ورقة بعنوان: "لمع سلام من شمس الثقافة الحقة" أشار فيها في البداية إلى وحدة الإنسان والأديان، وأن الأصل هو التعارف بين الشعوب والقبائل، كما أشارت إلى ذلك آيات القرآن الكريم. فالتعارف في نظره هو أصل العلاقات الاجتماعية والمدخل إلى الثقافة في معناها اللغوي الأصلي، من هذا المنظار لا يكون الآخر آخر، بل أخاً في الإنسانية التي ابتدعها الله سبحانه.. مؤكداً على أن ترسيخ أسس السلام بين الأمم للوصول إلى السلام العالمي، يتطلب العمل من أجل السلام مع الذات أولاً وتحقيق السلام الأهلي ثانياً..

كما أشار إلى أهمية الحوار بين الآديان لأنه في نظره يعتبر حواراً بين الثقافات "فالتفاعل فيما بينها من شأنه أن يفضي إلى الفهم والتفهم.. فأسس الثقافة في نشأتها وحضنها هو الدين، منذ بداية الخلق، والثقافات الحديثة التي يبشر بها تحمل في رواسبها ومنطلقاتها مفاهيم أساسية من الأديان، وإن تلبست بلبوس آخر، أليست شعارات الثورة الفرنسية من حرية ومساواة وإخاء هي بعض القيم التي حفلت بها التوراة والإنجيل والقرآن..".

كما أشار د. الكك إلى أن العولمة الاقتصادية وما يستتبعها من عولمات فرعية لا يمكن مواجهتها إلا بنظام عولمة أخلاقية تؤنسنها فتحد من هجمتها الضارية التي نسقت مع الهجمة الثقافية التي أعلنها هنتنغتون وأضرابه، وذلك بتقديم نماذج من تراثنا الثقافي الديني الإسلامي المسيحي الشرقي، تدحض مقولة صراع الثقافات، وتفعيل تيار الحوار بين الأديان..

وبعد أن قدم نماذج من التفاعل الثقافي بين المسلمين والمسيحيين في الحضارة الإسلامية وحركة الاقتباس التي قام بها المسلمون من باقي الحضارات، وكذلك الاقتباس الذي قامت به الحضارة الغربية الحديثة من الحضارة الإسلامية والحضارات السابقة لها، خلص الباحث إلى أن الحوار بين الأديان هو خشبة الخلاص إلى السلام..

كما تحدث في هذه الجلسة الباحث ديميتري بونداركو (من الأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو) الذي قدم ورقة بعنوان: "هل تلغي العولمة الحضارات الخاصة الإقليمية؟ مقدمة نظرية ومستقبل بعض الحضارات غير الغربية".

أعمال اليوم الثاني

في اليوم الثاني عقدت الجلسة الأولى تحت رئاسة د. أسعد دياب (وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني) وتحدثت فيها في البداية د. ليلى تشي مينغمين (من جامعة الدراسات الأجنبية في بكين) عن "القراءة الصينية لما يسميه هنتنغتون تصادم الحضارات" فأشارت إلى ما تشهده الصين من مناقشات لتحليل نظرية هنتنغتون التي ذهبت إلى أن الصدام الأكثر احتمالاً سيكون بين الحضارة الغربية والحضارة الصينية، أو بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وإمكانية قيام التحالف بين الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية لمواجهة الحضارة الغربية.. وقد قسمت بحثها إلى فصلين: الفصل الأول قدمت فيه تعريفاً عاماً بالمناظرات الصينية حول نظرية هنتنغتون في صدام الحضارات، وعرضت في الفصل الثاني أهم المحاور التي دارت المناظرات الصينية حولها..

فبخصوص المناظرات الصينية حول صدام الحضارات أكدت الباحثة أنها جاءت مواكبة لانطلاق الحركة الصينية العارمة للمناقشات حول الحداثة والثقافة الصينية التقليدية، وارتفاع مكانة الصين في المجتمع الدولي، وما حصل من متغيرات نفسية بعد ذلك.. أما المحاور التي دار حولها النقاش والمناظرات الصينية، فهي حسب كتاب "الحضارة والسياسة الدولية" لأحد المفكرين الصينيين:

* منظور جديد للسياسة الدولية

* مشكلة التصادم العالمي بعد الحرب الباردة

* التنبؤ غير الشامل ولا المنصف

* التهديد الإسلامي ومصلحة الولايات المتحدة

* العقدة النفسية الثقافية الأمريكية ونظرية صدام الحضارات

وغيرها من العناوين الأخرى..

وقد أشارت الباحثة إلى أن هذه المناظرات الصينية حول نظرية هنتنغتون تطورت ونمت لتصل إلى مرحلة عقلانية وتأملية حين توسعت أبعاد هذه المناظرات وازداد عمقها، فحسب إحصاء أخير بلغ عدد المواد المتعلقة بصدام الحضارات 450 مادة في المواقع الصينية..

أما بالنسبة للمحاور التي دارت حولها المناظرات الصينية، فقد حددتها الباحثة في أربعة محاور رئيسة: المحور الأول عن النظرية ذاتها، حيث تناولها المفكرون الصينيون من حيث منطلقها الفلسفي ومنهجها البحثي، فأكد بعضهم مساهمتها في إقامة إطار نظري حديث لنظرية السياسة الدولية، وفتحها لأفق نظري جديد بصدد معالجة السياسة الدولية، بالإضافة إلى تأثيرها وإيحائها، فيما انتقدها البعض الآخر، معتبراً إياها نظرية مفارقة، مع رفضه فرض الحضارة الغربية كحضارة كونية على نطاق العالم، وكذلك عدم التفات هذه النظرية لقوانين التطور والنسبية للحضارات.

وقد أشار آخرون إلى أهمية معرفة الخلفية الفكرية والنفسية لصاحب النظرية، ويؤكدون أنها نابعة من "العقلية المركزية الغربية أو القيم الإمبريالية أو القومية الأمريكية الضيقة أو أنها آتية من الخوف من تحدي الحضارات غير الغربية لهيمنة الغرب وخاصة هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية..".

وقد أكدت الباحثة في معالجتها لهذا المحور على أن تعليقات المفكرين الصينيين تركزت على مفهوم الحضارات والمعيار لتقسيمها ودور الحضارات في السياسة الدولية.. أما بخصوص حتمية صدام الحضارات، فإن هؤلاء المفكرين وإن كانوا يعترفون بوجود صراعات حضارية في العالم، لكنهم لا يوافقون على حتمية حدوثها على مستوى العالم. فكما أن هناك نقاط اختلاف بين الحضارات هناك نقاط تشابه وتطابق يمكنها أن تكون قاعدة للتعايش.. وبالتالي فإن أفضل وأنفع طريق -تقول الباحثة:- لتجنب الصدام الحضاري المفترض هو زيادة التواصل والتفاعل المتكافئ بين الحضارات مما يحقق التفاهم بين الحضارات دون ترك خصائص كل منها..

اما بخصوص ما ذهب اليه هنتنغتون من ضرورة تحقيق الحداثة في الدول غير الغربية، وأن الحداثة لا تعني التغريب، فإن المفكرين الصينيين ينظرون بارتياب إلى هذه الآراء والأفكار، لأن مفهوم الحداثة لدى هنتنغتون يرتكز على النمو المادي السريع وكذلك هناك صعوبة للتفريق بين الحداثة والتغريب.. وفي الأخير تحدثت عن رد فعل المفكرين الصينيين تجاه ما أسماه هنتنغتون بالتهديد الصيني، فقد أنكر هؤلاء هذا التهديد المزعوم بالتأكيد على أن الحضارة الكونفوشيوسية - الصينية تؤمن وتدعو إلى فكرة "التجانس بين المختلفين"، وفكرة "الاعتدال من صميم هذه الحضارة"، واعتبارها "الدعوة إلى: الدنيا أسرة" من المثل العليا، بالإضافة إلى التأكيد على أن الكونفوشيوسية لم تكن في يوم من الأيام ديناً بل نظاماً للقيم العلمانية، أي حضارة علمانية وبامكانها أن تتبنى أي حضارة علمانية أخرى بسهولة....

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. جورج قرم وزير المالية اللبناني السابق، بعنوان "مفهوم التفاعل الثقافي وبناء السلام: صدام حضارات أم صدام ذاكرات تاريخية في صراعات الشرق الأوسط" في البداية أشار د. قرم إلى أن أسباب التناقض الحاد في النظرة إلى طبيعة النزاعات في منطقة الشرق الأوسط ليس فقط بين العرب والغرب وإنما أيضاً بين العرب أنفسهم، والسبب يرجع في نظره إلى الذاكرات التاريخية وأنظمة الإدراك التي من خلالها ينظر كلاهما للآخر، رافضاً ما أسماه بالطرح الضيق والأحادي الذي يجعل من الدين المحدد الوحيد للهوية.. وبعد أن قدم الصراع العربي الإسرائيلي كنموذج للصراع وأسبابه، أكد أن النزاع ليس نتاج حضارات مختلفة أو أديان لا يمكن أن تتعايش فيما بينها، وإنما هو نتاج تصادم تجربتين تاريخيتين مختلفتين تماماً، وبالتالي فالنزاع لا ينحصر في العامل الديني، لذلك فأي تفكير ودراسة لإيجاد حلول لتفادي هذا الصراع يجب أن تنطلق في نظره من إعادة النظر والقراءة الموضوعية لهذه الخلفيات التاريخية، أو ما أسماه بالذاكرات التاريخية بعيداً عن التعصب، أو النظرة الأحادية للتاريخ.. وهذا المنهج نفسه يصلح لمعالجة وتغيير التصورات وأنظمة الإدراك التاريخي فيما بين العرب أنفسهم لتخفيف حدة الاختلاف والصراع بين المذاهب والتيارات المتصارعة..

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة، كانت للباحث دومينيك مالي (أستاذ في جامعة بوردو الثالثة - فرنسا) وجاءت تحت عنوان: "الشرق والغرب في رأي أحمد أمين" حاول فيها الكشف عن رأي أحمد أمين في العلاقة بين الشرق والغرب من خلال كتاب له ألفه بعد عودته من رحلة إلى لندن سنة 1947م ونشر في القاهرة سنة 1950م. فمن الملاحظات النقدية التي يوردها على أحمد أمين، تمييزه الواضح بين الحضارات وانتقاده للحضارة الغربية وتنبؤه بانحطاطها وزوالها، وقلة تعاطفه -كما يقول الباحث- مع الغربيين ويعيب عليهم جشعهم وعنفهم ورياءهم.. في المقابل يرسم للشرق صورة مختلفة حافلة بالكرم والروحانية، لكن هذا الموقف سرعان ما يعتدل عندما يعترف أحمد أمين بإيجابيات الحضارة الحديثة ويدعو إلى الاستفادة منها واحتضان كل ما هو أفضل فيها. عندما يقول: نستطيع إن نقول: إن الشرق إذا قدر له أن يبني، استطاع أن يقدم للعالم ما ينقص الغرب من روحانيات وأديان وتأملات، ولكن هذا لن يأتي إلا إذا استفاد من الغرب نظم إنتاجه وروحه العلمية.

هذا الموقف الانتقائي من أحمد أمين لم يعجب الباحث الذي رأى أن مسيرة الأحداث جاءت بما لا يهوى أحمد أمين، لأن الفرار من جاذبية الحضارة الغربية لم يعد ممكناً، وبالتالي فهناك حقيقة لا يمكن تجاوزها في نظره وهي: أن الشرق والغرب مثل زوجين يعيشان معاً ولم يتفقا قط، يعرف كل واحد كل شيء عن الآخر ولا يستنكفان عن التخاصم.. لقد فات الأوان على الطلاق بين الشرق والغرب، لأن الانفصال سيفرقهما جميعاً..

الجلسة الثانية في هذا اليوم ترأسها د. نيكولا فيرماني (مدير المركز الثقافي الإيطالي في بيروت)، وتحدث فيها د. أنطونيو بيلتيري (أستاذ تاريخ البلدان الإسلامية بجامعة باليرمو - إيطاليا) عن: "الرحلة وتبادل الثقافات"، وتحدث د. أنزوغاراسي (أستاذ الجغرافيا بجامعة باليرمو - إيطاليا) عن "المدينة المتوسطية كمركز للقاءات الثقافية"، كما قدم د. أنطونيو بوتينا (عالم إنثروبولوجيا - باليرمو - إيطاليا) ورقة بعنوان: >البحر المتوسط: محور التبادل الثقافي".

كذلك تحدث د. إبرهيم جانان (أستاذ في كلية الإلهيات بجامعة مرمرة -إستانبول) عن: "التعارف بين الناس طريق السلام في الأرض"، أشار فيها إلى الحاجة إلى المعرفة والتعارف بين بني الإنسان وأن توافر وتطور وسائل الاتصال يساعد على هذا التعارف، مؤكداً على الحقيقة القرآنية التي ترى أن الأصل في العلاقات البشرية هو التعارف المتبادل، لا العداوة والبغضاء. وهذا التعارف يؤدي إلى الترقي والتعاون وقيام الحضارات ويحول دون التحارب بين الأمم والشعوب..

وبما أن الإنسان في الإسلام مخلوق مكرم يبحث عن الحق، فإن التعارف في نظر الباحث يؤدي إلى إظهار الحق قولاً وحالاً، والعمل من أجل هذا التعارف هو من موارد الجهاد في نظره. كما أكد على خطورة الجهل وأنه منبع الخوف العام، داعياً إلى الانفتاح والاستفادة من العناصر الثقافية الأجنبية بشرط ألّا تخالف القيم الأصيلة..

أما بخصوص إزالة النظرة القبيحة السائدة في حق المسلمين، فقد اعتبرها الباحث وجها آخر من أوجه الجهل الذي يتحمل المسلمون جزءاً منه بتصرفاتهم المناقضة لهذا الدين ومبادئه، وختم بحثه بقول بديع الزمان: "لو أظهرنا بأفعالنا كمالات الأخلاق الإسلامية والحقائق الإيمانية لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعات وأفواجاً بل لدخلت بعض الدول والقارات في الإسلام، ولقد علمنا أن هذه النتيجة ليست إلا ثمرة التعريف بالإسلام ونشر حقائقه..".

الجلسة الثالثة ترأسها د. ديميتري بونداركو (من الأكاديمية الروسية للعلوم - موسكو) وتحدث فيها كل من د. شفيق المصري (أستاذ القانون الدولي - الجامعة اللبنانية) عن: "التلازم بين الثقافة وبناء السلام العالمي"، ود. جيردجش بنت (أستاذ بكلية الدراسات الدولية - جامعة جواهر لال نهرو بالهند) عن: "نحو مرونة ثقافية شاملة"..

أعمال اليوم الثالث

انطلقت أعمال هذا اليوم بـ(جلسة صباحية) ترأسها د. عبد الله العثيمين (أمين عام جائزة الملك فيصل العالمية) وتحدث فيها كل من د. سماحة خوري (مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة بوردو - فرنسا) عن: "السلم العالمي بين العولمة وصدام الحضارات"، فانتقد بشدة النظام العالمي الجديد والعولمة التي وصفها بأنها "مجرد شبكة اقتصادية أمنية قمعية خالية من أي بعد حضاري تنموي" وهذا ما يحول دون تحقيق السلم العالمي ويدفع باتجاه الصدام والصراع..

اما د. ايكاترينا دمينتسيفا (من الأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو) فقد تحدثت عن "تأثير المهاجرين العرب في انخراط الشباب المغربي في المجتمع الفرنسي"، حيث سلطت الضوء على مظاهر تأثير التبادل الثقافي بين المهاجرين العرب والمجتمع الفرنسي في انخراط فئة الشباب واندماجهم في هذا المجتمع الغربي الذي يختلف اختلافاً بيِّناً عما ألفوه في مجتمعاتهم من أعراف وقيم وسلوكيات.. وأهمية هذا التبادل في تحقيق هذا الاندماج، والعوائق التي تحول دون هذا الاندماج..

كما قدم رئيس معهد حضارة السودان د. جعفر مرغني ورقة تحت عنوان: "أثر الخطاب الثقافي على السلام العالمي" أشار فيها إلى أن سبب تعثر عملية السلام يرجع إلى قصور الخطاب المتعلق بها عن تمثُّل الواقع في مفرداته ومفاهيمه، مقدماً على ذلك مجموعة من المفردات للتدليل على ذلك. مبتدئاً بمصطلح الحرب الباردة، ففي نظره كانت هذه التسمية قاصرة في التعبير عن حقيقتها وبالتالي رصد نتائجها رصداً منهجياً فضلاً عن علاج مخلفاتها، مما حال دون السير في الطريقة المثلى لصنع السلام العالمي.. فالاختفاء وراء هذه المفردات حال دون تقييم عواقبها بالقياس إلى ما أدت إليه الحربان العالميتان قبلها من نتائج، وبالتالي فإن الأمم المتحدة فشلت في مهمتها المتمثلة في الحيلولة دون قيام الحرب..

وبعد أن استعرض مفردات معادلة السلام والأثر السلبي للتوظيف الانتقائي لهذه المصطلحات، على صياغة السلام، خلص إلى أن مفردات الخطاب المؤثر في رؤى الفكر المتعلق بقضية السلام هي من مسكوكات طرف واحد في القضية وتعبر عن منظوره المحكوم لموقعه من زوايا النظر، لكن حري بنا -يضيف الباحث- في ظل العولمة التي فرضتها الطفرة المهولة في أسباب الاتصال وأوجبها التواصل الوثيق بين جميع أرجاء المعمورة أن ننظر إلى الأمور من قبل أهل الأرض جميعاً، وصولاً إلى ثقافة عالمية جامعة تعبر بمفردات خطابها عن رؤية جامعة تستوعب كل معطيات معادلة السلام الشامل..

الجلسة الثانية ترأستها د. هدى عبد الناصر وتحدثت فيها د. جينا مارتن فوندو (من جامعة مدريد - أسبانيا) عن: "أسبانيا والعالم العربي من منظور تاريخي: من الأندلس إلى لقاء الحضارات"، أما القاضي د. غالب غانم رئيس مجلس شورى الدولة في لبنان، فقدم ورقة بعنوان: "من خصوصية لا تشكل جداراً إلى تفاعل لا يشكل طغياناً" رأى فيها في البداية أن الكلام عن التفاعل الثقافي لا يصح إلا إذا كانت هناك خصوصيات ثقافية، هذه الخصوصيات تسبق التفاعل الذي لا محل لتلمسه ونشدانه إلا في ظل تلون الحضارات وتعدد الثقافات، وهذا التفاعل لا يكون سوياً في نظر الباحث وإنسانياً وذا محصول حضاري إلا إذا تم في رحاب الحرية وفي ظلال سماحتها وانفتاحها، تماماً كما هي الثقافة التي لا نتصورها سوية وإنسانية وذات محصول حضاري إلا إذا عاشت في كنف الحرية..

وبما أن العولمة أصبح لها الدور الأكبر في تقرير مصائر الشعوب فإن الباحث يرى أنها بحاجة إلى الأنسنة وإلى روح الأخوة الإنسانية وروح العدالة.. كي تتجاوز الطغيان ويكون هناك مكان للخصوصيات وللتفاعل بين الثقافات.. كذلك قدم د.حمد عبد العزيز الكواري ورقة بعنوان: "الثقافة ودورها في العلاقات الدولية" أشار فيها في البداية إلى أن تحقيق السلام والعدالة والأمن يحتاج إلى الكثير من الإنصاف والاحترام الثقافي المتبادل، كما أن رد الاعتبار للثقافات ككائنات حية متساوية ومتطورة دليل على الثراء العالمي وهو الرد الحقيقي على موجات العنف الثقافي..

نعم -كما يقول الباحث- هناك صراعات بين الثقافات ولكن أيضاً هناك حوارات وتبادل ثقافي غالباً ما يؤدي إلى تلاقح يؤدي بدوره إلى تغيرات في المنظومات الحضارية.. وقد أوجدت التحديات المشتركة الآن والثورة الاتصالية من التشابهات الثقافية بين الأمم ما لم تعرفه البشرية من قبل، كما أوجدت أيضاً الفرص لبروز الاختلافات وأحياناً الصدامات.. اما بخصوص معالم تفعيل دور الثقافة في العلاقات الدولية، فلابد من التفريق بين جوانب عديدة للثقافات العالمية، قسمها الباحث إلى قسمين أولهما: روافد التمايز والمقاومة، أي المكونات الثقافية الثابتة في أي ثقافة، وثانيهما: روافد التواصل والعلاقات الدولية والثقافية، وهي تبدأ من الهوية البشرية المشتركة ومن المشتركات الثقافية عابرة الحدود..

تحدث في هذه الجلسة كذلك د. خالد وانغ باوهوا (أستاذ في كلية اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية - بكين) عن: "الصين ترفع من شأنها الثقافي في الصعود السلمي"، أشار فيها إلى ما حققته الصين من نمو اقتصادي هائل دفع بالمسؤولين الصينيين إلى تبني استراتيجية >الصعود السلمي" والهادفة إلى المساهمة في الحضارة الإنسانية مادياً وروحياً وتحقيق السلم والأمن والازدهار الاقتصادي.. لكن مع تصاعد وتيرة الانفتاح الصيني على العالم بدأت الثقافة الغربية تغزو عقول الصينيين، وهي ثقافة ترفيهية سطحية، مما كان له تأثير سلبي دفع المفكرين الصينيين للدعوة إلى تطوير الثقافة الصينية وتأكيد التمسك بالهوية الحضارية والذاتية الثقافية في عصر العولمة..

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات وضعت الحكومة الصينية سياسات حماية وتطوير الثقافة الصينية وتحسينها كمًّا ونوعاً مما حقق إنجازات عظيمة في هذا المجال.. مع التأكيد على أهمية التفاعل والتعايش واحترام الآخر لأن الثقافة الصينية ثقافة سلام وحوار..

وفي ختام المؤتمر ألقى الأمين العام للمجمع الثقافي العربي كلمة الختام، ثم أعلن د. فكتور الكك أمين المجمع توصيات المؤتمر، أهمها:

1- إن التنسيق والتعاون بين الأقطار العالمية ليس مجرد قناعة سياسية فحسب بل ضرورة تنموية وحياتية.

2- إيجاد مجلس أعلى للتخطيط يتولى إعداد التخطيط العالمي المشترك وتحرير الاقتصاد من الاعتماد على بلدان القوى المتقدمة.

3- تنمية الروابط المتزايدة المادية والمعنوية بين أقطار العالم لا في ثورة الاتصال فحسب، بل في العلاقات الفكرية والثقافية والاقتصادية أيضاً..

4- اعتبار هذه التوصيات مدخلاً لحوار بنّاء يأخذ بالاعتبار الروافد الثقافية للمجتمعات البشرية، بغية توسيع ثوابتها وقيمها..