شعار الموقع

قراءة في مصادر التقعيد النحوي وجهة نظر أصولية

قطب مصطفى سانو 2004-10-14
عدد القراءات « 2731 »
تـمهيد: منهج البحث
تهدف هذه القراءة المعرفية في مصادر تقعيد النحو من وجهة نظر أصولية إلى مراجعة التصنيف التقليدي لمصادر اللغة والاحتجـاج لدى رواد المدارس النحويَّة التقليديَّة، قصد تجاوز بعض الأخلال المنهجيَّة الخطيرة التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً في تعسير تعلم قواعد النحو، وفي صيرورة القواعد النحوية مجرد النظريات والأمثلة الخياليّة.
وتهدف هذه القراءة قبل ذلك إلى تقديم تصنيف منهجي عملي لمصادر تقعيد النحو بغية تيسير تعلمه، وبغية ربط متعلم القواعد بالقيم والأخلاق الواردة في الكتاب والسُنّة بدلاً من الأمثلة الافتراضية غير الواقعية ولا العملية.
وتهدف هذه القراءة أيضاً إلى دعوة النحاة المعاصرين إلى إيلاء الجانب المقاصدي شيئاً من الاهتمام في الدراسات النحوية الحديثة، إذْ أنَّ هذا الجانب لم يحظ ـ حسب علمنا ـ بالاهتمام اللائق به على الرغم مما له من أهميةٍ قصوى.
وقد انطلقت هذه القراءة من مبدأ مفاده أنَّ مصدرية نص للتقعيد النحوي تتوقف على ما يتمتع به ذلك النص من فصاحةٍ عاليةٍ، وقوةٍ بليغةٍ، فمقتضى ذلك أن يتمَّ تصنيف النصوص التي تعتبر مصادر للغة حسب قوتها ودرجة فصاحتها. وإذ ذلك كذلك، فإنَّه قد ترجحت لهذه القراءة غياب هذا الجانب المنطقي في حركة التقعيد النحوي، مما جعل تصنيف المدارس النحوية التقليدية لمصادر اللغة تصنيفاً معكوساً غير منضبطٍ، فلغة القرآن التي تعتبر اللغة العربية النموذجية الفصحى لم يتم استقراؤها استقراءً تاماً، وقدَّمت عليها لغة قبائل البدو، وأما لغة الحديث النبوي، فقد أُبْعِدَ من دائرة الاحتجاج والاستشهاد لأعذار غير علميَّة ولا منهجيَّةٍ، على الرغم من كون المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفصح من نطق بالضاد، وعلى الرغم من غلبة الفصاحة وقوة البيان على جلِّ الصحب الكرام ـ عليهم رضوان اللـه ـ ولهذا، فقد عنيت هذه القراءة بتقديم تصنيفٍ منهجي آخر لمصادر التقعيد النحويّ أملاً في أن يتمَّ به تجاوز وتصحيح الأخلال المنهجيَّة التي وقعت فيها المدارس النحويَّة التقليديَّة عند تصنيفها مصادر التقعيد.
أولاً: نظرة في جدلية العلاقة بين لغة القرآن الكريم واللغة العربية: يذهب علماء اللغويات إلى تعريف اللغة بأنها: «مجموعة اللهجات التي تنتمي إلى بيئة معينة» (1) وبتعبير آخر عند ابن جني عبارة عن «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» (2)
وأما اللهجة، فيعرِّفونها بأنها «مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة». (3)
وبالنظر في تعريف كل من اللغة واللهجة نجد أن اللغة أعم من اللهجة، وأن بينهما ـ كما يقولون ـ عموماً وخصوصاً من كل وجه، كما نستطيع أن نلحظ بأن أية لغة لابد لها من أن تكون مشتملة على جملة من اللهجات لقبائل شتى ومختلفة، ولئن أطلق على لهجة قبيلة واحدة من القبائل وصف «اللغة»، فلا يعدو ذلك أن يكون مجازاً في واقع الأمر. ويمكننا أيضاً أن نلحظ وجود مرونة وسعة في اللغة لا نجد شبيهاً لها في اللهجة، إذ بينما تتسع اللغة لتستوعب جملة من اللهجات وطرائق التعبير لمختلف القبائل نجد أن اللهجة لا تعترف إلا بطريقة واحدة في التعبير، وأية طريقة تحيد عنها سواء في التعبير أو في التركيب أو في التأليف، فإنها تعتبر خروجاً على المألوف، وابتعاداً عن الجادة، مما يعني تميّز اللهجات بالمحافظة وعدم الانفتاح، وما ذلك إلا لأنها تتميز بكونها أسلوباً لأداء الكلمة وتوصيل المعنى إلى السامع، ولهذا فلا غرو أن يسهل على أصحاب اللهجات معرفة الغرباء والدخلاء على ساحتهم، وليس كذلك الحال في اللغات التي يتميز العقلاء من أربابها بالانفتاح على سائر اللهجات، وبتقبُّل شتى القبائل بلهجاتهم إضافة إلى ابتعادهم عن التفاضل بين اللهجات.
وبناء على هذا، فإنه يمكننا أن نقرر القول بأن للقرآن الكريم لغة وليست لهجة، ويمكن تعريف تلك اللغة بأنها: مجموع لهجات القبائل التي اشتهرت بالفصاحة والبيان قبل نزول القرآن، واستخدم القرآن أساليبها وقوانينها تبييناً وتفصيلاً وتأسيساً، وتأكيداً تنتمي هذه اللهجات ـ جغرافياً ـ إلى كبرى قبائل الجزيرة العربية، وهذه اللهجات التي تتكون منها لغة القرآن الكريم لابد لها من أن تكون سائدة في ذلك الحين، مما يعني أن اللهجات الأخرى التي تولدت بعد اكتمال نزوله لا يمكن إدراجها ضمن لهجات القرآن، كما هو الحال في جل اللهجات العربية الحديثة التي ينطق بها اليوم السواد الأعظم في الدول العربية، فلئن كانت لهجات تلك الدول تنتمي في أصولها إلى بعض اللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، غير أنها في واقع نشأتها اختلطت بجملة من اللهجات التي كانت سائدة كالآرامية (4) في الشام وغربي بلاد الرافدين، والقبطية (5) بمصر، والفارسية في عراق العجم، والبربرية في المغرب العربي الخ... وأما اللغة العربية، فيراد بها: مجموع لهجات القبائل العربية العاربة والمستعربة سواء منها تلكم التي اشتملتها لغة القرآن، أم تجاوزها القرآن إن استغناءً أو لأي سبب آخر. وتنتمي تلكم جغرافياً إلى الجزيرة العربية وشبهها ولواحقها. وبناء على هذا، فإنه يمكن القول بأنه ثمة فرقاً بين ما يصطلح عليه بلغة القرآن واللغة العربية، فلغة القرآن أخص من اللغة العربية، وذلك لأن لغة القرآن تنحصر في لهجات القبائل التي اشتملتها لغة القرآن، وهي قبائل معدودة ومعروفة من حيث الإجمال، وأما اللغة العربية، فتشتمل تلك اللهجات ـ بوصفها أمهات اللهجات العربية العاربة ـ واللهجات التي لـم ترد في القرآن إما بسبب نشوئها المتأخر كاللهجات التي نشأت بعد اكتمال نزول القرآن، كلهجات العرب المستعربة.. أو بسبب تجاوز القرآن تلك اللهجات وقت نزوله كاللهجات الحبشية، والفارسية، والرومية... وعليه، فإننا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن العلاقة الجدلية بين لغة القرآن الكريم واللغة العربية هي علاقة عام بخاص، فلغة القرآن أخص من اللغة العربية، وذلك لأن لغة القرآن لم تشتمل على جميع لهجات العرب العاربة ناهيك عن لهجات العرب المستعربة، كما أنَّ لغة القرآن تتميز بكونها فصحى لهجات كبرى القبائل وأجزلها معنى، وأوقعها في النفس جرساً، بل أخفها نطقاً على اللسان، وأعلاها شاناً ومنزلة.
1ـ اشتمال القرآن على ألفاظ أعجمية وعلاقة ذلك بموضوع لهجات القرآن: ثـمة اختلاف بين العلماء ـ أصوليين ومفسرين ولغويين ـ قديماً وحديثاً حول اشتمال لغة القرآن الكريم على ألفاظ أعجمية غير عربية في أصلها، وغير منتمية إلى لهجات القبائل العربية عموماً، ويمكننا حصر أهم الآراء الواردة حول هذا الموضوع في ثلاثة آراء رئيسية هي:
أ ـ رأي يرى أنه ليست في القرآن ألفاظ أعجمية، وكل لفظ فيه عربي أصلاً وفصلاً واستعمالاً، ويتزعم الشافعي ـ رحمه اللـه ـ هذا الرأي، وشد نكيره على المخالفين له في هذا عندما قال:
«... وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن في القرآن عربياً وأعجمياً. والقرآن يدل على أن ليس من كتاب اللـه شيء إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه، تقليداً له، وتركاُ للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، واللـه يغفر لنا ولهم...» (6) وأسهب الإمام الشافعي ـ عليه رحمة اللـه ـ في الرد على مخالفيه، وتبعه عدد لا يستهان بهم من فطاحلة علماء الأصول من بعده كالباقلاني، الذي لـم يقل عن الشافعي تحمساً في رده على المخالفين لهم في هذا الرأي (7) .
ب ـ وأما الرأي الآخر، فيرى أن في القرآن الكريم ألفاظاً اعجمية غير عربية الأصل، وردوا على جميع ما أورده أصحاب القول الأول من ادلة، ومن أقوى ردهم ما قاله الامام الغزالي:
«إن اشتمال القرآن على كلمتين، أو ثلاث كلمات، أصلها أعجمي وقد استعملتها العرب، ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربياً، وعن اطلاق هذا الاسم عليه، فوجود مثل هذه الالفاظ فيه لا يتمهد للعرب حجة، ذلك أن الشعر الفارسي يسمى فارسياً، وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية اذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس...» (8) .
ج ـ ثمة رأي ثالث ينحو أصحابه منحى توفيقياً بين الرأيين السابقين، اذ ينتهي إلى القول بانه لا خلاف حقيقياً بين الرأيين السالفين، إذ أن الالفاظ التي اعتبرها أصحاب الرأي الثاني ألفاظاً أعجمية، إنما ذلك بالنظر إلى أصول تلك الألفاظ، فقد كانت اعجمية، ولكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها إلى ألفاظها، عندئذ صارت عربية، ثـم نزل القرآن والحالة هذه، ولذلك، فمن قال إن هذه الألفاظ عربية فهو صادق بالنظر إلى ماصارت عليه... ومن قال إنها أعجمية، فهو الآخر صادق بالنظر إلى ما كانت عليه قبل.. (9)
هذا ملخص الآراء التي قيلت في هذه المسألة، وقد أوسع كل طائفة رأي الأخرى جانب النقد والابطال والرفض، ويرجع للاستزادة إلى تفاصيل ذلك في مظانها.
وأيَّــا ما كان الأمر، فإن الباحث ليرى في رأي الطائفة الثانية سداداً ووجاهة وقوة لما يتميز به من تفصيل دقيق، ونظرة عميقة، ولكن وجود تلك الالفاظ أو الكلمات في القرآن الكريم لا ينبغي اتخاذها أساساً للقول باشتمال القرآن الكريم على لهجات الأمم ولغاتها، وذلك لأنه لا علاقة ـ في نظر الباحث ـ بين ورود كلمة او لفظة او بضع كلمات وألفاظ في القرآن مجردة غير مصاغة في قالب لهجة وبين اشتمال القرآن أسلوباً واستعمالاً على لهجة من لهجات القبائل، فاللهجة ليست عبارة عن كلمة أو كلمتين او لفظة أو لفظتين، أو بضع كلمات وبضعة ألفاظ، ولكنها ـ كم أسلفنا ـ عبارة عن اسلوب خاص في أداء الكلمة إلى السامع وفي تركيب الجمل وترتيب المفردات وأدائها وفق قانون يتفق عليه أبناء قبيلة من القبائل، بحيث يغدو ذلك الاسلوب بعد ذلك صفة لغوية وعادة كلامية لتلك القبيلة، ومن مجموع لهجات القبائل المختلفة تتألف اللغات، كما هو الحال في لغة القرآن الكريم التي تألفت من لهجات فصحى القبائل العربية في الجزيرة العربية وشبهها.
وعليه، فاشتمال لغة القرآن على كلمة او لفظة أو بضع كلمات والفاظ أصولها أعجمية لا علاقة له باشتماله على لهجات القبائل العربية الفصحى التي أشرنا إليها من ذي قبل. فاللهجة ـ كما أسلفنا ـ أسلوب مقنن في أداء الكلام وفي التعبير، ويتألف من مجموع الكلمات والألفاظ.
2ـ لهجات القبائل التي تتألف منها لغة القرآن الكريم: ليس من اليسير حصر اللهجات التي وردت في القرآن الكريم في عدد معين، بل من المتعذر الوصول إلى قول فيصل في هذه المسألة التي حظيت في وقت مبكر باختلاف الآراء وتعدد وجهات النظر، ولعل مرد هذه الاختلافات برمتها إلى ذلك الحديث الشهير المتفق عليه الذي يرويه عدد من الصحابة ـ رضي اللـه عنهم ـ بطرق مختلفة عن أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «اقرأني جبريل على حروف فراجعته، فلم أزل استزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة احرف»(10) وفي رواية أخرى شهيرة عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللـه عنه ـ قال سمعت هشاماً بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللــه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لـم يقرئنيها رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم ثـم لببته بردائه أو بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ قلت له: كذبت، فواللـه إن رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ أقرأني هذه السورة متى سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ فقلت: يا رسول اللـه إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لـم تقرئنيها، وانت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول اللـه ـ صلى عليه وسلم ـ أرسله يا عمر: اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ هكذا نزلت. ثـم قال رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه» متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري (11) فهذا الحديث على الرغم من شهرته وبلوغه درجة التوتر المعنوي عند الامام أبي عبيد بَـيْـد أن تحديد المراد بالأحرف فيه قد كان ولايزال حتى هذه اللحظة محل نزاع واختلاف بين العلماء من قديم الزمان إلى وقتنا الحاضر، ولعل أهم الآراء التي قيلت في تحديد المراد بالأحرف مما ينسب إلى الأئمة أبي عبيدة، وأبي حاتـم السجستاني، والطبري وغيرهم(**) من أنَّ المراد بها هي لهجات القبائل التي تشتمل عليها لغة القرآن، والتي تعرف بكونها أفصح لهجات القبائل العربية وقت نزول القرآن الكريم، وقد استند ارباب هذا القول على جملة من الادلة والحجج العلمية التي كانت محل اعتراض ورد ونقد. واذا ماجال المرء نظراً ثاقباً فيما أورده المعترضون عل ى هذا الرأي، فسيجد أن اهم اعتراض وأعمقه يرتكز على القول باشتمال القرآن الكريم على لهجات أخرى لقبائل خارج القبائل العربية السبعة الفصحى، مما يؤكد على عدم ارادة اللهجات بالأحرف في الحديث. ثمة جملة من الاعتراضات على هذا الرأي عني الشيخ الزرقاني بسردها في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن».
وأياً ما كان الأمر، فإننا لا نرى من جدوى في فصل القول في المعنى المراد بالأحرف السبعة في الحديث(12) ولكنا نعتقد أن ثـمة بصيصاً من نور الصواب يخالج رأي القائلين بأن المراد بالأحرف في الحديث هي لهجات أفصح القبائل العربية عند نزول القرآن، وذلك لأن سياق عدد من روايات الحديث يدل على ذلك دلالة غير مباشرة، بل أن الناظر في جلِّ الآيات القرآنية التي أكدت نزول القرآن الكريم باللسان العربي يجد صفة الابانة ملازمة للسان كما قوله تعالى {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} النحل ـ 103. وكذلك في قوله في آية أخرى مؤكداً على صفة الإبانة {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} 192 الشعراء ـ 195. والإبانة عند علماء اللغة هي الفصاحة، وهذا يؤكد انتفاء الأسلوب القرآني واشتماله أفصح لهجات القبائل العربية ايامئذٍ. ولئن اختلف ارباب هذا الرأي في تعيين تلك القبائل في ذلك الحين، فإن ذلك لايدل على وهن أو ضعف في هذا الرأي، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء الذين رفضوا هذا الرأي معللين بأن «.. القبائل العربية الواردة لغاته ا (لهجاتها) في القرآن الكريم لا يصح تقييدها بعدد معين، وقد بلغت في كتاب أبي عبيد» لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم «بضعاً وثلاثين»(13)، فهذا الاعتراض نخال صاحبه قد أخطأ الرمية وليس بالوجيه في شيءٍ، وذلك لأنَّ ما أورده أبو عبيد في كتابه الموسوم «لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم». لا يتعارض في شي مع مانحن بصدده هنا، ولاعلاقة له البتة بمفهوم اللهجة التي هي عبارة ـ كما أسلفنا ـ عن اسلوب أداء الكلمة إلى السامع وتتألف من مجموعة الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة يشترك فيها جميع أفراد تلك البيئة، وهي أيضاً ـ كما قلنا ـ عبارة عن الطريقة المتفق عليها لدى قبيلة من القبائل في التعبير بحيث تقوم تلك الطريقة على التأليف بين المفردات والجمل من ناحية، واختيار طريقة معينة في أداء الكلام إلى السامع من ناحية اخرى.
واما صنيع الامام أبي عبيد في كتابه، فقد كان عبارة عن التركيز على معاني الكلمات القرآنية عند مختلف القبائل والامم العربية والاعجمية على حد سواء، ولم يعن قط بالتركيز على الاسلوب الذي وردت فيه تلك الكلمات، والطريقة التي استعملت بها تلك الكلمات، بل إن المرء ليجد في أحيان كثيرة الامام أبا عبيد يركز تركيزاً على تحديد معنى الكلمة عند قبيلة من القبائل مجردة عن السياق الذي ترد فيه تلك الكلمة، وعن الصياغة التي تؤدى فيها الكلمة، ويعتبر هذا الأمر في نظرنا أقرب إلى أن يكون ابرازاً لمعاني بعض الكلمات والمفردات لدى القبائل وأمم الارض الحاضرة وقت نزول القرآن، ولاشك أن هذا الصنيع من الامام ابي عبيد محل نظر، وذلك لتعذر معرفة أول قبيلة استخدمت الكلمة قبل القبائل الأخرى، إذ بامكان كل قبيلة أن تذهب إلى القول بأنها هي اول من استعملت الكلمة الفلانية، ولقبيلة اخرى أن تعارضها في ذلك، ممايعني أن القطع باعتبار كلمة فارسية أو عبرية او سريانية لا يعدو أن يكون توسعاً في ادعاء الأولوية والسبق في قضية يصعب الفصل فيها بين المتعارضين، وأضف إلى هذا أنه قد تكون الكلمة مشتركة بين اكثر من قبيلة، ممايعني أن حصر انتمائها إ لى قبيلة دون اخرى أمر لا يشهد له واقع تاريخي متزن.
وأياً ما كان الامر، فإن صنيع أبي عبيد لايصلح للاعتراض على القائلين بنزول القرآن في أفصح لهجات القبائل العربية، وذلك لأن اشتمال القرآن على كلمة او لفظة لقوم أو قبيلة أو أمة يختلف عن اشتماله لهجة من لهجات القبائل، فعلاقة اللهجة في نظرنا بالسياق والاسلوب أكد من علاقتها بمعاني المفردات والكلمات والالفاظ.
ولئن ظل المعترضون متمسكين بوجود عدد من اللهجات يفوق اللهجات السبع، فإنه من المقرر عند بعض العلماء كالقاضي عياض ومن تبعه أنه لا يراد بالعدد الوارد في الحديث حقيقته، وإنما هو كناية عن الكثرة في الآحاد كما ان السبعين تستعمل كناية عن الكثرة في العشرات، والسبعمائة كناية عن الكثرة في المئات..(14) الامر الذي ينفي وجود اشكالية بين اشتمال القرآن الكريم على اللهجات السبع وبين ورود لهجات أخرى غير السبعة في القرآن الكريم. وبغض النظر عن صحة هذا التأويل، فإن الحقيقة التي لايمارى فيها هي أن لغة القرآن تتألف من أفصح لهجات القبائل من حيث الجملة، فتوافر معيار الفصاحة في لهجة من اللهجات اساس في اشتمال لغة القرآن عليها، ولهذا، فقد كانت ميزة الفصاحة والبلاغة والبيان ـ دوماً وأبداً ـ من أهم مزايا الاسلوب القرآني، إذ لـم يرد فيه قط لهجة يمكن وصمها بعدم الفصاحة(15)
ومهما يكن من شيء، فإننا نخلص إلى تقرير حقيقة مفادها: ان اللهجات التي اشتملتها لغة القرآن قد كانت أفصح لهجات القبائل آنذاك، ونقرر أيضاً أن ثمة تداخلاً بين لهجات القبائل مما يجعل الاختلاف في تعيين القبائل التي اشتملت لغة القرآن لهجاتها خلافاً نظرياً غير جوهري. واذ الأمر كذلك، فإنه لحري بنا أن نلقي نظرة في القبائل التي تتألف من لهجاتها لغة القرآن وهي:
ـ قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوزان، وسعد بن بكر ويرى آخرون أن القبائل المرادة هي: قريش، وهزيل، وسعد بن بكر، وثقيف، وخزاعة، وأسد وضبة والفافهما، وتميم وقيس ومن إنضاف إليهم.. وتذهب جماعة ثالثة إلى القول بأنها هي: قريش، وكنانة، وأسد بن خزيمة، وهذيل، وتميم أو تيم الرباب، ضبة، وقيس(16).
إن النظرة التحليلية الفاحصة في هذه الأقوال الواردة حول القبائل السبع نجد أن ثمة اتفاقاً على قبائل ثلاثة وهي: قريش، وهذيل، وتميم، واما القبائل الأخرى، فقد تتوزع فيها، والذي يبدو لنا أن ذلك النزاع في واقع أمره ليس من المتعذر التأليف بين هذه الآراء، وذلك انطلاقاً من اعتبار وجود تداخل ملحوظ بين بعض القبائل، وبمعرفة العلائق بين القبائل بعضها ببعض، كعلاقة تميم بقيس، وبضبة، وبأسد بن خزيمة يستطيع المرء أن ينتهي إلى اعتبار هذه القبائل قبيلة واحدة ذات أفخاذ أربعة بدلاً من اربع قبائل، كما هو الحال في لهجة قريش التي هي عبارة عن معظم لهجات قبائل الحجاز، ولكنها تشتهر بلهجة قريش، وبناء على هذا يمكننا ان نقلص لهجات القبائل في الآتي:
قريش، وهذيل، وتميم، وكنانة، وسعد بن بكر، وهوزان، وثقيف، فهذه القبائل السبعة يمكن اعتبار لهجاتها مجتمعة لغة القرآن الكريم، واذا ما وردت لهجة في كتابات العلماء منسوبة إلى قيس، أو أسد، أو ضبة، فإنها يمكن اعتبارها لهجة تميم بوصفها اللهجة الأم لقيس وضبة وأسد وغيرها من لهجات اهل نجد، وبهذا يتم حل الاشكال في احتمالية وجود لهجات مختلفة في القرآن الكريم عن اللهجات السبع التي أشرنا اليها.
واذ الأمر كذلك، فإننا نخلص إلى القول بأن لغة القرآن الكريم عبارة عن لهجات تلك القبائل السبع وما اعتبرت لهجة لغيرها من القبائل. فإنها تؤول في نهاية امرها إلى لهجة أحداها ولامحالة. ولسائل أن يتساءل عن المقاصد الشرعية إزاء اشتمال القرآن في أسلوبه على لهجات تلكم القبائل المذكورة؟ وقبل الاجابة عن تساؤل منهجي ـ كهذا ـ فإننا نستعجل القول بأن ما قلناه لايتعارض مع الشائع لدى الناس من أن القرآن الكريم قد نزل بلغة قريش، وذلك لأن المراد بهذا الأمر في نظرنا التغليب ليس إلا، نعني أن جل نصوص القرآن الكريم قد نزل بلهجة قريش، ولكن جزء آخر لايستهان به قد نزل بلهجة غيرها من القبائل، كلهجة كنانة، ولهجة هذيل، وغيرها من اللهجات، وعليه، فلا تعارض في واقع الامر بين هذا الشائع وما نسعى إلى تقريره في هذا الموضوع!
ثانياً: مقاصد الشريعة في تعدد لهجات لغة القرآن الكريم: ليس من الأمر الهين ادعاء حصر مقاصد الشريعة في تعدد لهجات القرآن في بضعة مقاصد، بل ليس بوسع أحد أن يختلف إلى القطع في هذه المسألة، وكل ما يمكننا فعله هو الاشارة إلى بعض تلك المقاصد على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وعليه، فنقول:
1ـ الحفاظ على اللهجة التي قطعت شوطاً في انتقاء أفصح اللهجات وتلقتها بقية القبائل بالقبول: إن لهجة قريش قد كانت قبيل نزول القرآن الكريم افصح لهجات القبائل العربية، وأعلاها شاناً، وما ذلك إلا لـ«.. أن قريشاً كانوا ينزلون من مكة بواد غير ذي زرع لا يستقل أهله بتكاليف الحياة... وكانت الكعبة ـ شرفها اللـه ـ وجهة العرب، وبيت حجهم قاطبة في الجاهلية، فكان لكل قبيلة منهم صنم يحجون اليه... وكانت تلك القبائل بطبيعتها متباينة اللهجات. فكان قريش يسمعون لغاتهم، ويأخذون ما استحسنوه فيديرون به ألسنتهم.. فلما اجتمع له هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها...» (17) وغدت لهجتها بعد ئذ أفضل لهجات القبائل العربية، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس. ولهذا، فلم يكن ثـم عجب ان ينزل القرآن في شطر كبير من نصوصه في هذه اللهجة التي اجتمعت فيها جل حسنات لهجات القبائل العربية، وأصبحت أفصحها وأكثرها تقبلاً لدى معظم القبائل، ولم يكن الأسلوب القرآني بحاجة إلى اعادة بناء هرم من فصيح اللهجات مخالفاً لما تعوده الناس، وألفوه ولذلك، فقد كفت لهجة قريش الأسلوب القرآني في هذا الأمر، وتحقق فيه ما تحقق في الجانب التعبدي الأخلاقي من الحاجة إلى التكميل بدلاً من التأسيس من صفر «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
2ـ تطوير معيار منهجية لانتقاء الفصحى من لهجات القبائل :بحيث يتم اضافة لهجات لـم تدرج ضمن اللهجات الفصحى التي اختارتها قريش إما لكونها غير فصحى في المفهوم القرشي للفصحى وإما للنظرة الدونية إلى ارباب تلك اللهجات، وإما لأي شيء آخر:
لئن قدرت قريش على ان تقطع شوطاً في التنقيب عن أفصح اللهجات وأبينها من لهجات قريش، فإنها في جميع أحوالها لـم تبلغ الحد النهائي في اختيارها سائر الفصحى من اللهجات، بل إنه ليس من مستبعد ان تذهب بها الحمية إو العصبية أو غير ذلك إلى تجاوز لهجات واعتبارها لهجات غير فصحى، والحال أن تلك اللهجات تتوافر فيها الفصاحة التي تتوافر في غيرها من اللهجات المنتقاة، ولذلك، فما كان الأسلوب القرآني ليكتفي بتقرير ماأقرته قريش، ولا العكوف عند ذلك الحد بل ما كان الأسلوب القرآني ـ في الوقت نفسه ـ اسلوباً يتجاوز القدر الفصيح الذي اعتمدته قريش واستوعبته من اللهجات، بل بدلاً من ذلك لاذ بضم لهجات ربما ترفعت قريش عن تقبلها، واعتبرتها في عداد غير الفصيح من اللهجات، ويمكن للمرء أن يلمس خيوطاً رفيعة تؤكد على اختلاج هذا الشعور لدى قريشاً في تعامل عمر بن الخطاب ـ رضي اللـه عنه ـ القرشي مع هشام بن حكيم عندما استنكر قراءته واعتبرها فحشاً ولحناً، ليس لأي سبب إلا لكونها قراءة مشتملة على طريقة لأداء الكلمات غير مقبولة لدى قريش. بل إن المرء يستطيع ان يكشف عن هذا الجانب النفسي في تعامل قريش مع لهجات القبائل الأخرى في اعتراض أبي بن كعب ـ رضي اللـه عنه ـ هو الآخر على قراءة ذينكما الرجلين اللذين لا نشك في كونهما غير قرشيين، ولا نرتاب في كون قراءتهما مخالفة للهجة القرشية التي تشبع منها أبي بن كعب ـ رضي اللـه عنه. ولئن سلكت قريش في تعاملها مع لهجات القبائل منهج استيعاب ما تروق لها من لهجات القبائل وما تعتبره الفصيح، ثـم هضم تلك اللهجات وضمها إلى لهجتها، فإنها قد انتهجت في نظرنا منهجاً آخر يتمثل في استيعاب لهجات القبائل الوافدة، فالاستنكاف عن هضمها، وربما اعتبرتها مستقبحة غير فصيحة. وقد كان منطلق قريش في كلا المنهجين قائماً على استشعارها مكانتها بين القبائل والتي تميزت في أكثر الاحيان بالترفع والتعالي والتسامي. ولهذا، يمكننا القول بأنه تصحيحاً للمنهج القرشي في انتقاء الفصحى من اللهجات وهضمه وتوسيعاً لدائرة اللغة الفصحى، بل تجاوزا الحد الذي توقفت عنده قريش اقتضت الحكمة الالهية على ألا ينزل القرآن الكريم برمته في لهجة قريش، وعلى أن يشتمل الاسلوب القرآني على لهجات قبائل أخرى ليقضي القرآن بذلك على نزعة الترفع، ونظرة التعالي لدى قريش وغيرها من قبائل العرب، ولا يخفى ما في هذا الأمر من تأليف لقلوب ارباب تلك اللهجات، وانتقالٍ بهم من مؤخر الصفوف إلى مقدمتها، إذ أكرم بالقرآن الكريم سجلاً خالداً يكسو اللهجة ثوب الفصاحة والمكانة بين اللهجات.
3ـ ضبط الاطار العام للغة العربية الأم الفصحى التي لا تجارى ولا تضاهى وإنما تقتدى: إن القرآن الكريم قد جاء مؤصلاً للإطار العام للغة التي ينبغي لها ان تغدو اللغة الأم الفصحى لسائر القبائل القائمة واللاحقة، ومن شان المؤصل والمؤسس مراعاة الواقع المعاش، والانطلاق من النظرة الكلية لا الجزئية بحيث يصبح ما يرسيه قاعدة وأصلاً لسائر الناس، وهذا الجانب المنهجي في التأسيس والتأصيل قد راعاه الاسلوب القرآني عند اشتماله على فصحى لهجات القبائل العربية من ناحية، وعند تعديله من مفهوم الفصاحة لدى قريش، إذ جعل للفصاحة معياراً مختلفاً من حيث النتائج عن المعيار الذي كانت قريش تعتمده في الانتقاء والتلفيق والاختيار. الامر الذي يمكن تفسيره بضبط الاطار النظري العام للغة الفصحى، ولهذا، فما كان للأسلوب القرآني ـ وهو المؤطر لهذا الاطار ـ ليغفل هذا الجانب، فيتجاهل لهجات القبائل، ويقف عند لهجة قريش أو غيرها فقط، وإنما بدلاً من ذلك انطلق الأسلوب القرآني مؤصلاً ومؤسساً للإطار العام للغة النموذجية الصالحة للقياس عليها واتخاذها أصلاً لكل تقعيد وتصحيح وهذا المقصد ينسجم مع قول أولئك الذين نفوا أن يكون المراد بالأحرف الس بعة الحقيقية العدد، وإنما ذكر ذلك العدد من باب الدلالة على الكثرة ليس إلا... ويمكن للمرء ان يلمس أثر هذا المقصد على كثير من القواعد النحوية التي اعتمدتها بعض المدارس النحوية في التقعيد، إن اعتماداً شبه كلي كما الحال في مدرسة الكوفة، او اعتماداً جزئياً كما هو الحال في مدرسة البصرة. وقد أورثت نسبة الاعتماد على هذا الجانب كلتا المدرستين مزايا وخصائص، ومن أهمها: إما التوسع في التأويل المتنطع والتخريج المتكلف كما هو الطابع الغالب على مدرسة البصرة. أو عدم التوسع في التأويل المتنطع والتخريج المتكلف كما هو الطابع الغالب على مدرسة البصرة، أو عدم التوسع في الامرين المذكورين كما هو الحال لدى كثير من رواد مدرسة مصر.
ومهما يكن من شيء، فإن هذا المقصد الكلي مرعي في الشريعة الاسلامية على سائر المستويات العقدية والاخلاقية والعملية، فأما على مستوى الأحكام العملية فإن ضبط إطار العمل الحسن أو القبيح لـم يعد شأناً متروكاً للحس الانساني أو العقل البشري، بحيث ينحصر الحسن أو القبيح فيما حسنه، أو قبحه، بل غدا تحديد الحسن والقبيح ـ بعد ورود الشرع ـ امراً موكولاً إلى الشرع فالشرع وحده هو الذي يملك سلطة رسم الخطوط الفاصلة بين حسن الأفعال وقبيحها. واما على مستوى العقائد والاخلاق، فإن للمرء أن يلحظ حضور هذا المقصد، إذ أن الشرع قد عني بتأطير الحدود التي يقوم عليها الاعتقاد الصحيح، وبوضع المقاييس والمعايير الثابتة للخلق الفاضل الحري بالتحلي، ولم تعد مهمة رسم حدود العقيدة الصحيحة، أو الاطارالعام للخلق الحميد متروكاً لأذواق الناس ورغباتهم، وقد انتهج الشرع في تحقيق هذا المقصد على جميع المستويات المذكور منهج المراجعة والتصديق، إذ راجع جملة من الافعال والعقائد والأخلاق مراجعة جذرية، فنبذ ما كان منها جائراً بائراً، واعتمد ما كان صالحاً للبقاء والدوام، وثلث ذلك بتأصيل الاطر العامة لهذه القضايا كلها واضعاً بذلك النهاية لكل ادعاء أو خروج او تمرد على مقاييسه ومعاييره، وقد تـم تحقيق هذا الامر للشرع بوصفه المهيمن المطلع على ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى قيام الساعة.
وبنـاءً على هذا، فإنه ليس بوارد أن يكون الشرع قد استبعد هذا المقصد الكلي في اشتمال القرآن الكريم على فصحى لهجات القبائل، وسعيه من وراء ذلك إلى وضع ضابط الفصحى وتحديد الاطار العام للغة الفصحى النموذجية. ولئن غاب استكشاف هذا الجانب في الدراسات اللغوية والنحوية بسبب عدم ربط النحاة بين المقاصد الالهية في هذا الشأن والقواعد النحوية، فإن ذلك لا يعني عدم وجود هذا الأمر على مستوى القواعد.
وعلى كل، تلك جملة من المقاصد الكلية وراء اشتمال القرآن على فصحى لهجات القبائل، وليس ثـم ريب أن هنالك مقاصد أخرى كثيرة ولكننا نرى أن السير قد يطول بنا إذا حاولنا الوقوف عليها كلها، ولذلك، فإننا نرى أن ما أوردناه، فيه الغنية والكفاية، وتعتبر ـ في نظرنا المتواضع ـ من أمهات تلك المقاصد العلّية. وعليه، فإنه حري بنا أن نتساءل عن مدى استحضار علمائنا النحاة هذه المقاصد وغيرها عند تقعيدهم وضبطهم القواعد النحوية، وقمين بنا أن نتحقق عن مدى مراعاتهم هذه الأسس في التأصيل والتقعيد.
ثالثاً: حركة التقعيد النحوي ولغة القرآن الكريم: نروم من حركة التقعيد المدارس النحوية التي رامت من منتصف القرن الأول الهجري وضع قواعد وضوابط لتسهيل فهم القرآن الكريم، وتوضيح ما غمض وانبهم من الالفاظ لمن لـم تكن ألسنتهم عربية في الأصل، كما نروم منها تلكم الجهود الجبارة التي نهض بها الغير في صيانة لغة القرآن الكريم، وحمايته مستقبلاً من كل تحريف أو تبديل خدمة لهذا الكتاب العظيم. شأن تلك الحركة العلمية كشأن بقية الحركات العلمية التي نشأت مستهدفة تيسير فهم النص الشرعي ـ قرآناً وحديثاً ـ وتوضيح معانيه للناس، كما هو الحال في علم الفقه، وعلم الأصول، وعلم البلاغة وغيرها من العلوم التي دونت ولا تزال تُدَّون خدمة لكتاب اللـه العزيز.
1ـ ولئن نسج بعض المؤرخين حول نشأة النحو صوراً من الاخبار تنتهي إلى القول بنشأة النحو نشأة فجائية بسبب حادثة لحن سرت إلى مسمع أحد التابعين ـ أبي الأسود الدؤلي ـ من ابنته أو أخته أو جارته بل لئن ذهب الذاهبون إلى اعتبار زياد بن أبيه قد استهدف من وضعه النحو القضاء على اللحن الذي شاع أمره وفشا خطره في مملكته، فإنّه مما لا يشكُّ فيه أن تلك الأخبار بجملتها وتفاصيلها لا تخلو من أن تندرج تحت جملة الأساطير التي نسجها وأشاع أمرها القصِّاص ورواة الغرائب واللطائف والنكت في دنيا الناس، وذلك لأنّه لو كانت مواجهة اللحن في اللغة هي الغاية في نشأة النحو، فإنَّ المنطق يقتضي أن ينشأ النحو في فترة مبكرة، وذلك لأنَّ اللحن قد وجد قبل حادثة تلك الجارية، بل من المتفق عليه أنَّ الإنسان في حقيقته ينشأ مع اللحن، ويمكن ملاحظة ذلك في لغة الطفل أيام الطفولة، فالمراهقة ثـم الشباب.. بل لو أنَّ سبب النشأة يعود إلى تلك الحادثة، فقد كان بالأمر اليسير معالجتها كما يعالج لحن الطفل، وليس من حاجة إلى استنهاض جيشٍ بكامله في مواجهة حادثة كهذه.
ولهذا، فإنه لا يخالج الباحث ذرة من شكٍّ من كون تلك الأخبار غير علميَّةٍ وكل ما يمكن قوله هو أنَّ علـم النحو نشأ كغيره من العلوم نشأة طبيعية ومرت بما تمر به كل العلوم من مرحلة اجتنان، ومخاض، وولادة، وطفولة وشباب الخ.. وليس صحيحاً في شيءٍ أن يكون قد نشأ نشأة فجائَّية دون أن تسبقها إرهاصات.
وعليه، فكلُّ ما يهمنا التأكيد عليه هي تلك الرغبة الصادقة التي دفعت الأجيال التي نمت على سواعدها أركان هذا العلم إلى تدوين هذا العلم ليغدو كغيره من علوم القرآن علماً يسهِّل فهم المراد الإلهي من نصوص كتابه لكلِّ متدبِّرٍ، ويصون حماه من كل ما هو مستقبح من الألفاظ والأساليب ويمكن للمرء أن يلمس أثر هـذه الرغبة واضحةً في اعتبار المدارس النحوية باختلاف مواقعها ـ البصريَّة والكوفية والبغدادية والشامية والمصريَّة ـ القرآن الكريم أحد مصادر التقعيد والتأصيل.
2 ـ وإذا كان ثـمة اتفاق بين المؤرخين على اعتبار مدرسة البصرة أولى المدارس النحوية وأقدمها نشأة، بل لئن كان هنالك اتفاقٌ على وجود أسباب علميَّة واجتماعية وراء نشأة هذه المدرسة البصرية، فإنَّ للمرء أن يستقرىء ذات الأسباب العلمية المنهجيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة وراء نشأة بقية المدارس النحوية، بل للمرء أن يتعرف على الجديد الذي رامت المدارس النحوية استدراكها على المدرسة البصرية العتيدة. وليس من ريبٍ في أن الوقوف على هذه الجوانب التاريخية لخير مساعدٍ على فهم مناهج المدارس وخصائصها وأهدافها. وبما أنَّ المقام لا يتسع لأن نوسع هذه الأمور جانب التفصيل والتوضيح، فإننا سنكتفي بالتعرف على جزء هام من التساؤل الأول، وهو الأسباب المنهجيَّة الكامنة وراء نشأة المدارس النحوية بعد المدرسة البصرية.
3 ـ إنَّ منهجيَّة المدرسة البصرية في تقعيد القواعد النحويَّة يمكن استيعابها من خلال النظر المتأمل في مصادر التقعيد التي اعتمدتها.. ويمكن تلخيصها في المصادر التالية:
أ ـ القبائل البدوية التي لـم تختلط بغيرها من الأمم، وهي القبائل التي كانت تعيش في قلب الجزيرة العربية كقريش التي كانت أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وقبائل العرب من قيس وأسد، وهذيل، وكنانة، وبعض الطائيين.. وتتميز هذه القبائل بالتعمق في التبدي، والالتصاق بحياة البادية، وهم أهل شيح وقيصوم وحرشة ضباب، بل أكلة يرابيع، وقد حدَّدهم الفارابي عندما قال منبهراً: «.. والذين نقلت عنهم اللغة العربية، وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب، هم قيس وأسد، فإنَّ هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب، ثـم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.. وبالجملة، فإنه لـم يؤخذ عن حضريِّ قطُّ..»(18). فما تكلمت به هذه القبائل من لغةٍ ـ نثراً أو شعراً ـ ينبغي اتخاذها أصلا للقياس، ومصدراً للغة الفصحى، وأما ما عداها من القبائل التي جاورت الأمم الأخرى، واختلطت بها، وسكنت البراري، فإنَّ لغتها لا يحتج بها، ولا يصلح للقياس عليها البتة. وبناء على ذلك، فلا تؤخذ اللغة من لخم ولا من جذام لمجاورتها أهل مصر، ولا من قضاعة، أو غسان، أو إي اد لمجاورتها أهل الشام، ولا من تغلب، أو بكر لمجاورتها النبط والفرس الخ..(19)

القرآن الكريم في بعض قراءاتــه
ليس صحيحاً ما يشاع عن مدرسة البصرة من عدم احتجاجها بالقرآن الكريم، وعدم اتخاذها قراءاتها ـ جملةً وتفصيلاً ـ أصلاً من أصول القياس، ولكن الصحيح أنَّ استقراء هذه المدرسة لقراءات القرآن الكريم المتعددة كان ناقصاً نقصاً واضحاً، مما جعل عدداً من الناس يخيَّل إليهم أنهم لا يعتمدون القرآن الكريم أساساً للتقعيد والتأصيل، بل الأسوأ من ذلك أنَّ كثيرا من رجالات هذه المدرسة ربطوا الاحتجاج بالقراءات القرآنية بموافقتها شعراً أو كلاما من أشعار وكلام القبائل البدوية السالف ذكرها، فإذا لـم يكن للقراءة شاهدٌ من شعر شاعرٍ جاهلي أو كلامٍ منسوبٍ إلى أولئك القبائل المتعمقة في التبدي لا يلفت إليها، ولا يحتج بها البتة، بل لا يشك في ضعفها وشذوذها بغض النظر عن سندها الذي قد يكون متواتراً أو مستفيضاً عند القراء.
إن هذا القيد الذي ربطوا به الاحتجاج بالقرآن الكريم جلب لمنهجهم في التقعيد نقوداً لاذعة، وجعله مجالاً لتحاملات واسعة النطاق والآفاق من قبل العلماء قديماً وحديثاً، فها هو الإمام الظاهري الفقيه اللغوي الأديب المحدِّث ابن حزم ـ يوسعه جانب النقد والانتقاد قائلاً:
«.. من النحاة من ينتزع من المقدار الذي يقف عليه من كلام العرب حكماً لفظياً، ويتخذه مذهباً ثـم تعرض له آية على خلاف ذلك الحكم، فيأخذ في صرف الآية عن وجهها.. ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرىء القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح، أو لأعرابي أسديٍّ أو سلميٍّ أو تميميٍّ أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعرٍ أو نثرٍ جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثـم إذا وجد للـه تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لـم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرِّفه عن موضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه اللـه عليه..»(20). وأما الرازي، فقد عبَّر عن دهشته من هذا المنهج المعوَّج، فقال:
«.. إذا جوَّزنا إثبات اللغة بشعر مجهولٍ، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، وكثيراً ما ترى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهولٍ فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقها دليلاً على صحتها، فلأن يجعلوا ورود القـرآن الكريم دليــلاً عـلى صحـتها كان أولى..»(21) وأما الدكتور الأنصاري، فقد تحامل عليهم تحامُّلاً مبالغاً، وشدَّ نكيره عليهم أيما شدَّة فقال:
«.. ألا ترى معي أن النحويين بوجه عامٍّ ولا سيما البصريين قد جاوزوا الحدَّ المعقول، وأسرفوا على أنفسهم في اللغة وفي الدين.. فأي منهجٍ لغويٍّ سليمٍ يهدر قدراً كبيراً من شواهدها الموثوق بها دون أن يدخلها تحت القاعدة العامة؟ ولو كان إدخال هذه الشواهد يهدم القواعد هدماً تاماً إذاً لالتمسنا لهم المعاذير.. وقلنا إن اللغة تحتاج إلى شيءٍ من التقعيد.. وكل الذي يحدث هو ان تتسع القاعدة فتشمل جميع الوارد من الشواهد... ولكن العصبية تعمي وتصمُّ.. فلا يسمع المتعصبون نداء العقل والدين والمنهج السليم..!»(22)
وأما المحقِّق الشيخ سعيد الأفغاني، فقد وصف هذا الاضطراب المنهجي هازئاً عندما قال:
«.. يريدون بناء قواعدهم ـ يقصد البصريين ـ على كلام العرب، فيجمعون نتفاً نثرية وشعرية من هذه القبيلة ومن تلك، ومن أعرابي في الشمال إلى امرأة في الجنوب، ومن شعر لا يعرف قائله إلى جملة غير منسوبة، يجمعون هذا إلى أقوال معروفة مشهورة، ويضعون قواعد تصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الناقص الذي لا يستند إلى خطَّة محكمة في الجمع، ثـم يسدِّدون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام، حتى إذا أتت بعضهم قراءة صحيحة السند تخالف قاعدته القياسية طعن فيها، وإن كان قارئها أبلغ وأعرب من كثير ممن يحتج النحوي بكلامهم!! فلا استقراؤه كاملٌ أو كافٍ، ولا لشواهده التي استند إليها بعض ما للقراءة الصحيحة من القوة، ولا اللغة تخضع للمقاييس المنطقية التي ابتدعها..»(23) ولئن كان ذلك هو موقفهم من مصدرية القرآن بقراءاته المتواترة وغير المتواترة في التقعيد، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبويِّ، وخاصّة أنَّ النصَّ القرآنيَّ قد أوفى على قمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وانتقى في أسلوبه فصحى لهجات القبائل سواء كانوا من أكلة اليرابيع أو من باعة الكواميخ، ولكن مع كل ذلك كان لهم من ذلك المواقف غي ر المشرِّف، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبوي والحال كذلك؟
4) الحديث النبوي والتقعيد النحوي: وأما الحديث النبويُّ الشريف، فقد استبعده نحاة البصرة ـ عن بكرة أبيهم ـ جملةً وتفصيلاً من دائرة الاحتجاج والاستشهاد به، واختلقوا لذلك عذراً يعوزه الدقة والسلامة، والسداد، فقالوا إنَّ من الثابت كون الحديث النبويِّ يروى بالمعنى حيناً، وباللفظ حيناً آخر، ونظراً لتعذُّر معرفة المرويِّ منه بالمعنى من المرويِّ باللفظ تجاوزا الاحتجاج بأي حديث نبوي مطلقاً تغليباً لجانب الرواية بالمعنى على جانب الرواية باللفظ، وفي ذلك يقول أبو الحسن بن الضائع في شرح الجمل معلِّلاً ومدافعاً عن نحاة البصرة ومن سار على نهجهم في في هذا الموضوع: «.. تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ لأنه أفصح العرب..»(24). وأما أبو حيان، فقد دافع وعلَّل عدم الاحتجاج بالحديث النبوي قائلاً: «..إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أنَّ ذلك لفظ رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ إذْ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلَّية، وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أنَّ الرواة جوَّزوا النقل بالمعنى.. الأمر الثاني أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأنَّ كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك...» (25)
إذاً، خلاصة القول هي أنَّ مدرسة البصرة اكتفت باعتماد لغة القبائل البدوية غير المتاخمة للأمم الأجنبية ـ نثراً وشعراً ـ مصدراً للقياس كما اعتمدت اعتماداً صوريّاً على صريح النقل من القرآن الكريم الذي يشهد له شعر أو كلام من لغة القبائل البدويَّة غير المختلطة بالأمم الأجنبية. وأما الحديث النبوي، فقد تجاوزوه، ورفضوا الاحتجاج به والتقعيد عليه. وبناءعلى ما سبق، فإنه يمكننا القول بأنَّ لقياس المدرسة البصريَّة في واقع أمرها مصدرين: أحدهما مصدر أصيل ووحيد وهو لغة القبائل البدوية التي لـم تختلط بالأمم الأجنبية، وأما الآخر، فهو ثانويٌّ، وهو القرآن الكريم وبتعبير آخر بعض قراءات القرآن التي يشهد لها شعر أو كلام منثور من لغة تلك القبائل البدوية الخلّص.
رابعاً: المنهجية البصريَّة في التقعيد ودورها في نشأة المدارس النحويَّة الأخرى: تلك هي المنهجية التي انتهجتها مدرسة البصرة في التقعيد، وقد لقيت قبولاً لدى جماعة من النحاة. كما حظيت بالمقابل بجملة من الانتقادات المنهجيَّة والعلميَّة عند كثيرٍ من العلماء المحقِّقين، شأنها في ذلك شأن كل المناهج البشرية التي تخضع للاختبار والتجريد. وأما أهمُّ الانتقادات المنهجيَّة التي تؤخذ على هذه المدرسة، فيمكن حصرها في ثلاثة أخلالٍ، وهي:
أ ـ الاستقراء الناقص الجليِّ لمصادر التقعيد المعتمدة لدى المدرسة، سواء على مستوى المصدر الأصلي وهو لغة قبائل البدو، أو على مستوى المصدر الثانوي وهو بعض قراءات القرآن المتواترة، إذْ إنه قد فاتت المدرسة جملة من لهجات قبائل البدو، كما فاتتها جملة أخرى من القراءات المتواترة والآحاد.
ب ـ اعتماد المدرسة تصنيفاً معكوساً لمصادر التقعيد، إذْ إنها لـم تراع في التصنيف قوة الفصاحة وضعفها في المصادر، ولذلك، فقد قدَّمت في الاحتجاج القبائل البدوية على قراءات القرآن المتواترة. والعكس صحيح، وذلك لأنَّه لا خلاف بين العلماء في كون لغة القرآن أفصح اللغات بلاغة وبياناً.
جـ ـ إبعاد المدرسة الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد اعتماداً على عذرٍ مفتعلٍ لا نصيب له في الواقع، وقد كان حريّاً بها التفريق بين الأحاديث المروية باللفظ والمروية بالمعنى، إذْ إنها لا تملك هي ولا غيرها أيَّ دليلٍ علميٍّ منضبط لإثبات هذه القضية الشائكة.
هذه هي أهم الأخلال المنهجية التي يمكن ملاحظتها في مصادر التقعيد في مدرسة البصرة، وغنيُّ عن القول بأنَّ كل خللٍ منها كافٍ لإيساع المدرسة وروادها جانب النقد والانتقاد، بل إنَّ كل خلل منها شاف في الدعوة إلى الاستغناء عن هذه المنهجية ذات الأخلال الخطيرة.
وعليه، فلا غرو أن تكون هذه الأخلال المنهجية مجتمعة ـ وخاصة الخللين الأولين ـ قد عجَّلت بميلاد مدرسة أخرى حاولت أن تتجاوز قدر الإمكان هذه الأخلال برمَّتها، إنها مدرسة الكوفة التي انتقلت بالمصدر الأصلي والمصدر الثانوي من الدائرة الضيقة، فوسعت من المصدر الأصلي، فاعتمدت في التقعيد على لغة عرب البدو حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وعلى لغة عرب الأرياف أكلة الشواريز وباعة الكواميخ. كما وسَّعت من دائرة المصدر الثانوي، فاعتمدت جلَّ القراءات القرآنية المتواترة ـ إن لـم يكن كلها ـ في التقعيد، وتبرأت من ضرورة وجود قيد وجود شاهد من شعر جاهليٍّ أو كلام بدويٍّ لصحة الاحتجاج بالقراءة القرآنية في إثبات صحة قاعدة نحويَّة.
ولكن لئن نجحت المدرسة الكوفية في تصحيح الخللين المنهجيين الأولين بعض الشيء، فإنها لـم تستطع التخلص من جميع أدرانهما، بل ظلت في بعض الأحيان متأثرة بترسبات المدرسة البصريَّة، فكان لها بعض المواقف الشبيهة بمواقف البصريين من بعض القراءات المتواترة، والسبب في عدم تمكن المدرسة الكوفية من التجرد الكلي من جميع رواسب المدرسة البصرية يعود إلى كون الكوفيَّة في واقعها مدرسة منبثقة من رحم البصريَّة، وكون كثير من رجالاتها خارجين على أساتذتهم البصريين. بل إنَّ المدرسة الكوفية بجميع فطاحلتها قفوا أثر المدرسة البصرية في الخلل المنهجي الثالث المتمثل في إبعاد الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد، وما حاولوا في شيء التخلص من هذا الخلل وتصحيحه كما صحَّحوا الخللين الأولين.
وتمضي الأيام حبلى، فيشاء المولى القدير أن ينتقل مقر الخلافة إلى الأندلس، فتنشأ على ربوعها حركة تقعيد نحويَّة تلعن كل المناهج التي لا تقدر كتاب اللـه ولا سُنّة رسوله ـ صلى اللــه عليه وسلم ـ حق قدرهما، فتدعو إلى ضرورة إعادة تقعيد القواعد في ضوء توجيهات وأساليب القرآن الكريم بقراءاتها المتواترة والآحاد، وفي ضوء أساليب الحديث النبوي الشريف، إضافة إلى كلام العرب بدويهم وريفيهم، ويمكن للمرء أن يتلمس هذا التوجُّه الجديد في منهجية رواد المدرسة الأندلسية كالنحويِّ الأندلسي الشهير ابن مضاء ـ رحمه اللـه ـ الذي قاد حركة تقعيد جديدة ثائرة ضدَّ حركات التقعيد البصريَّة والكوفيَّة بأسرها، بل يجد المرء هذا التوجه التجديدي في تجاوز سائر الأخلال المنهجية في التقعيد عند ابن مالك الذي تجاهَلَ تجاوز نحاة البصرة والكوفة الحديث النبوي مصدراً للتقعيد، فاتخذ منهجية ترى في الحديث النبوي مصدراً خصباً للتقعيد، بيْد أنه لـم يشأه أن ينصَّ على ذلك تنصيصاً، الأمر الذي جعل أبا حيَّان الأندلسي يتهمه بالابتداع ومخالفة النزعة السائدة لدى جبابرة النحو وأساطينه، فقال متذمِّراً:
«.. قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكليَّة في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.. والمصنِّف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقباً بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك، ولا صحب من له التمييز..» ولا غرو أن يجد مثل هذا التوجه التجديدي طريقه مفروشاً بالورود في دولة الموحِّدين، وذلك لأن نزعة التجديد والاجتهاد في سائر المعارف الإسلامية عمَّت جميع الأرجاء، بل تسربت هذه النزعة إلى الدول الإسلامية الأخرى، فعلى مستوى ذات النزعة نشأت في مصر حركة تقعيد نحويَّة حاولت التخلص من الأخلال المنهجيَّة متمثلة في زعامة النحوي العلامَّة ابن هشام الذي قيل إنه كان أعلم بالنحو من سيبويه. ولئن تشابهت حركة التقعيد النحوية الأندلسية والمصرية، بيْد أنه من الإنصاف الإشارة إلى وجود فارقٍ بينهما على مستوى أسلوب تأسيس المنهجية الجديدة في التقعيد النحوي، إذ إنّه قد اتسم أسلوب جلّ رواد المدرسة الأندلسية في أكثر الأحيان بالهجوم والانتقاد الشديد اللاذع، وأما أسلوب المدرسة المصرية متمثلة في ابن هشام وغيره، فقد اتسم بانتهاج الأسلوب ال هادىء الفعال في عرض المنهجية الجديدة. وبناء على ذلك، فإنَّ الفرق الجوهريَّ بين الحركتين التجديديتين يتمثل ـ كما قلنا ـ في تميز الحركة الأندلسيَّة بالحرارة وروح اجتثاث ما بنته المدرسة البصرية خاصة من هرم حول القياس وتوسعاتهم في التأويلات والتخريجات (26).. وأما حركة التقعيد المصريَّة، فقد كانت تتسم بروح المراجعة الهادئة الفعَّالة المؤثِّرة.
لئن كتب اللـه لتلكما الحركتين التجديديتين في التقعيد شيئاً من النجاح، فإنِّهما لـم تقدرا على إزالة جميع آثار الأخلال المنهجية الثلاثة، ولم تقويا على محو نتائجهما في الأذهان إلى يومنا، مما يمكن القول بأنه على الرغم من كل المحاولات الجريئة الصريحة والخفيَّة في إقصاء المنهجية البصريَّة الملأى بالأخلال المنهجية عن ساحة التقعيد، فإنّها لا تزال ـ إلى يومنا هذا ـ منهجية متبعة في الدراسات النحوية، بل إن الكتب النحوية الحديثة تكاد تعتمد على نتائج تلك المناهج ذات الأخلال المنهجيّة في تعلم النحو، وتقريبه ـ عبثاً ـ إلى الأفهام والعقول. فدعوات ابن مضاء، وكثير من اجتهادات ابن هشام وابن مالك ـ رحمهم اللـه ـ ذهبت مع أدراج الرياح، ويكاد الزمان ان يضن بأمثالها.
فخلاصة القول هي أنَّ الأخلال المنهجية التي رافقت منهجية البصريين ـ منذ بداية نشأتها ـ في التقعيد النحوي قد كانت وراء نشوء المدرسة الكوفية التي استهدفت الإصلاح والتصحيح والتعديل والتقويم، كما أنّ عدم اكتمال دور التصحيح للأخلال البصريّة على يد الكوفيَّة قد مهَّدت لنشأة الأندلسية والمصرية فالشامية، بيْد أنَّ الأخلال المنهجية لـم تتمكن منها حركات الإصلاح إلى يومنا هذا تمكناً عميقاً جذرياً، مما يبرر تقديم منهجية بديلة قادرة على تجاوز تلك الأخلال المنهجية وآثارها على تعلم قواعد اللغة العربية من حيث التقعيد والتعسير والتجريد.
إنّ معالجة أي قصور أو خلل منهجيين في حركة التقعيد النحوي ينبغي أن تتم على مستوى المصادر التي أنتجت تلك القواعد وولَّدتها، ولذلك، فإننا نرى أنَّ تجاوز الأخلال المنهجية وآثارها يتم عن طريق الاستغناء عن التصنيف التقليدي مصادر التقعيد النحويّ التقليدية برمتها، وتبديلها باعتماد تصنيف منهجي آخر لمصادر التقعيد في ضوء ما أسلفناه بحيث تغدو مصادر التقعيد النحويّ مرتبةً حسب الترتيب التالي:
خامساً: نحو تصنيف منهجي لترتيب مصادر التقعيد النحوي من وجهة نظر أصولية :
1 ـ ـ المصدر الأول الملزم للتقعيد النحوي: لغة القرآن الكريم بجميع قراءاته المتواترة والآحاد:
لئن اعتبرت لغة القبائل البدوية غير المختلطة بالأمم الأجنبية أهمَّ مصدر للقياس النحوي عند نحاة مدرسة البصرة، فإن مرد ذلك ـ بلا شك ـ إلى مستوى الفصاحة الرفيع الذي كان غالباً على سكان البوادي، إضافة إلى بعدهم عن مواطن اللحن بسبب عدم الاختلاط بأية أمةٍ أجنبيةٍ أخرى.
وبناءً على ذلك، فإنَّ المنهج العلمي الرصين يقتضي ضرورة الالتزام بهذا المبدأ في كل الأحوال بحيث يتم التفاضل بين مصادر التقعيد على أساس مستوى قوة الفصاحة وتمكنها، فتقدَّم لهجة قبيلة على لهجة قبيلة أخرى إذا كانت لهجة الأولى أفصح من الثانية، فالعبرة في التقديم والتأخير تكمن في مستوى الفصاحة وعدم اللحن، وليست العبرة في سكنى البادية أو الحضر أو غير ذلك في واقع الأمر.
وإذ الأمر كذلك، فللمرء أن يتساءل عن مدى وجود لغةٍ أفصح من القرآن الكريم، فإذا ما ألفيناها قدَّمناها واعتمدناها مصدراً أولاً للتقعيد النحويِّ والاحتجاج. وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأنه قد كانت للهجات بعض القبائل قبل نزول القرآن الكريم مكان الصدارة، وما كان في الإمكان العثور على أية لهجة أفصح من لهجاتها، بيْد أنَّ هذا الأمر لـم يعد وارداً ولا قائماً بعد نزول القرآن الكريم، وبعد اشتماله على لهجات تُكوِّن في مجموعها فصحى لهجات القبائل البدوية والريفية، فغدت لغة القرآن أفصح لغةٍ لا تدانيها لغة أية لغة في الفصاحة والبيان والبلاغة، وتحدث فصحاء العرب وبلغاءهم بدوييهم وريفييهم على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عجزاً أبدياً على قبول التحدي.
بناءً على ذلك، فإنَّ المنهج العلمي يقتضي تقديم لغة هذا الكتاب الكريم عند الاحتجاج والاستشهاد والتقعيد على جميع لغات القبائل سواء أكانوا أكلة يرابيع أم كانوا باعة كواميخ، وذلك لأن لغته تمثل اللغة الفصحى التي لا يمكن أن تجارى أو تضاهى لتألفها ـ كما أسلفنا ـ على فصحى لهجات القبائل العربية. ولئن اقتضى الالتزام بالمنهج العلمي المذكور أن يكون مصدر التقعيد النحويّ الأول والأصيل هي اللغة القرآنية الفصحى بحيث يتم تقديم الاحتجاج بها على لهجات تلك القبائل.
2ـ المصدر الثاني للتقعيد النحوي: الحديث النبوي الصحيح بشقيه: المروي بلفظه ومعناه، والمروي بالمعنى دون اللفظ:
من المتفق عليه أنَّ الرسول ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ أفصح من نطق بالضاد، ولا يمكن قياس فصاحته على فصاحة أحدٍ من العرب سواء كانوا بدواً أو ريفيين، ويكاد أن يكون الإنسان العربي الوحيد الذي لـم يسجَّل عليه لحنٌ قطٌ، ولم يمازج لغته ضعفٌ أو وهنٌ أبداً، فقد أوتي جوامع الكلم، ورزق بياناً كان له عوناً في الإقناع والتبليغ والتأثير، كما زاده الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم قبل كل ذلك فصاحةً وبياناً كان يبهر بهما السامع، ويؤثر بهما في المخاطب. ومن مجموع ما تحدَّث به المصطفى ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ يتكون ما يطلق عليه بالحديث النبوي الشريف، وهو عبارة عن أقواله الشريفة خاصّة وعن أفعاله وتقاريره عامَّةً. وإذا كان إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب يتوقف على صحة المصدر الذي تقوم عليه تلك القاعدة، وإذا كانت المدارس النحوية تعتمد في تقعيدها القواعد على لغة عرب البادية أو عرب الأرياف لما في لغتهم من فصاحة وبيان، بل إذا كانت المصادر تعتمد أصولاً للقياس والتقعيد النحويِّ لما تتوافر فيها من فصاحة، وسلامة من اللحن والتحريف، فإنَّ مقتضى ذلك أن تكون لغة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أهمَّ مصدرٍ بعد لغ ة القرآن الكريم وأولاه اعتداداً في التقعيد والتأصيل النحويين، وذلك لأن الفصاحة التي تتوافر فيها لا تتوافر في لغة أيِّ بدويٍّ سواء أكان من آكلة اليرابيع أم كان من آكلة الشواريز.
وبما أن هذه اللغة النبويَّة الشريفة هي الموضوعة فيما يصطلح عليه بالحديث النبوي، فإنَّ المنطق والعقل يحكمان بضرورة الاحتجاج به، والاستشهاد به واتخاذه أصلاً للتقعيد والتأصيل، بل إنَّ المنهج العلميَّ يلزم تقديم الاحتجاج به على الاحتجاج بشعر شاعر جاهليٍّ مغمورٍ، أو بنثر متكلمٍ بدوي مدمن على أكل اليرابيع أو على شرب الشواريز، وذلك لكون لغته ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ أفصح من لغات أولئك البدو حرشة الضباب، ومن لغات أولئك الريفيين باعة الكواميخ. وبناءً على ذلك، فإننا نرى أنَّ إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحوي تقتضي أن يكون الحديث النبوي الشريف الصحيح سنداً ومتناً المصدر الثاني بعد لغة القرآن الكريم للتقعيد. ولئن ادَّعى مدَّعٍ كون الحديث النبوي موضوعاً في لغة غير لغة النبي ـ صلى اللـه عليه وسلّم ـ وذلك نتيجة تجويز رواية الحديث بالمعنى عند بعض أهل العلم بالحديث، فإنَّ هذا الادعاء لا يعدو في نظرنا أن يكون ترجيحاً للوهم على الحقيقة، وبيان ذلك هو أن دعوى تجويز الرواية بالنقل لا تقوم على حجة مقنعةٍ، وإن ردَّدها عدد كبير من العلماء قديماً وحديثاً، وذلك لافتقار الدعوى إلى الأسس العلمية المنضبطة، نعني أنّ َ الأصل في الرواية هي الرواية باللفظ، وأما الرواية بالمعنى فليست بأصلٍ، ولذلك، فلم يُجِزْها بعض أهل العلم بالحديث، وأضف إلى ذلك أنَّ الغالب في جل الأحاديث كونها مروية باللفظ لا بالمعنى.
3) المصدر الثالث للتقعيد النحوي: القبائل البدوية والريفية:
وأما المصدر الثالث للتقعيد النحويِّ المُعِين على تجاوز أخلال المدرسة البصرية المنهجية، فهو لهجات قبائل العرب بدوييهم وريفييهم، وذلك انطلاقاً من عدم اشتمال القرآن الكريم على جميع لهجات قبائل العرب، وبطبيعة الحال يمكن تقديم كلام البدو على كلام الريفيين في حالة وقوع تعارضٍ بينهما عند التقعيد، وذلك ترجيحاً لواقع حياة البدو التي كانت أعمق في التبدي، وألصق بالعيشة الفطرية، وأبعد عن تأثير لهجات الأمم الأجنبية في كلامها شعراً ونثراً. وأما إذا لـم يكن ثمَّ تعارضٌ فلتعتمد لهجاتهم ضمن اللهجات الفصيحة لا الفصحى.
سادساً: وسائل تطبيق هذا التصنيف المقترح لإعادة تقعيد القواعد النحويَّة
لئن انتهينا إلى القول بضرورة إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحويّ وتصحيح الخلل المنهجي المخَّيم على التصنيف الموروث، فإنَّ دعوتنا تلك تظل نظرةً مثاليَّة ما لـم نُبدِ الوسائل العلمية المنهجيَّة المعينة على إخراج ذلك التصنيف المقترح من عالـم النظر إلى عالـم التطبيق.
1ـ إنَّ اعتماد لغة القرآن الكريم مصدراً وأصلاً للقياس يقتضي القيام باستقراء جميع لهجات القبائل التي تتألف منها لغة القرآن، كما يقتضي اعتماد تلك اللهجات أصلاً لكل تقعيد وتأصيلٍ دونما تأويل أو تخريجٍ، ومقتضى هذا المنطلق ضرورة الوقوف على جميع القراءات ومعرفة عـلاقتها بالقبائل التي تتألف من لهجاتها لغة القرآن الفصحى بحيث يتم إدراج ذلك الأسلوب ضمن الأساليب العربية الفصحى، ويتم إخراجها من عالـم الشذوذ (قلة الاستعمال أو ندرته) إلى عالـم الفصاحة، فليس صحيحاً الإبقاء على لهجة قرآنية في دائرة عالـم الشذوذ، بل ليس مقبولاً اللجوء إلى التأويلات المتكلفة والتخريجات المضيعة للعمر والصحة إذا ما استعمل القرآن لهجة مخالفة لقاعدة نحويَّة وضعها رجالٌ لـم تكن بضاعتهم في معرفة القراءات القرآنية ثقيلة. فإذا نصب القرآن اسم «إنَّ» في حالة التثنية في موضع، وكانت علامة نصبه الألف، ونصب اسمه في موضع آخر، وكانت علامة النصب الياء، لا ينبغي أن تؤوَّل الحالة الأولى أو تخرَّج بتخريجات، للخيال فيها نصيبٌ وافرٌ، كما لا ينبغي أن تؤوَّل الحالة الثانية لتوافق الحالة الأولى، وإنما ينبغي أن يعرف أنَّ القرآن في الحالة الأ ولى استعمل لهجة كنانة، واما في الحالة الثانية، فقد استخدم لهجة قريش، وكلتا اللهجتين داخلتان ضمن فصحى لهجات القبائل، وذلك بسبب اشتمال القرآن عليها. فإذا ما تَكَّلَف مُتَكلَّفْ في تأويل إحدى الحالتين، فإن ذلك لا يعدو أن يكون استغفالاً للمقصد الشرعي الكامن في اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة كما لا يعدو أيضاً أن يكون مصادرة للمقصد القرآني في ضبط الإطار العام للغة النموذجية، مما يجعل الأسلوب القرآني حاكماً على شتى اللهجات والقواعد والأصول السابقة عليه... واي استبعاد لهذا البعد الكلي تقليب لما ينبغي أن يكون، ومصادرة للواقع التاريخي الي يؤكد علىوجود القواعد القرآنية قبل ميلاد نحاة البصرة والكوفة أجمعين.
لو تأمل المرء في كل التخريجات النحوية التي أوردها النحاة بصرييهم وبعض كوفييهم حول قوله عز وجل في قصة موسى {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتك المثلى} طه 63، فلن يفلح بأي تخريج علمي رصين دقيق، بل سيجد نفسه أمام ركام هائل من التأويلات كان بوسعهم ألا يلوذوا بها لو أنهم عنوا قبل تقعيد القواعد باستقراء القراءات الواردة في تلك الآية وعنوا بمعرفة القبائل العربية التي تنصب اسم «إن» بالألف في حالة التثنية مطلقاً أو في حالة كون اسمها اسم اشارة فقط، لكفاهم ذلك من كل أولئك التخريجات والتأويلات المبعدة عن المقاصد العلية. بل لكان يسعهم عند تقعيدهم القواعد النحوية أن يقولوا إن في إعراب اسم «إن» اذا كان مثنى وجهين: إما النصب بالألف، أو النصب بالياء، وكلا الوجهين فصيح. وإذا كان يعز عليهم تعميم القضية، فقط كان يكفيهم القول إن في اعراب اسم «إن» إذا كان مثنى وكان اسم اشارة وجهين: النصب بالألف، أو النصب بالياء، وكلا الوجهين شاف كاف. فهذا المنهج كان أسلم وأريح وأولى من المنهج التأويلي التخريجي المتكلفين أيما تكلف.. وخاصة أن هذه القراءة تنسب إلى احدى اللهجات التي تتألف منها لغة القرآن، وهي لهجة كنانة، وفي ذلك يقول أبو حيان الاندلسي ـ في بحره المحيط متجاوزاً كل تأويل أو تخريج متكلفين:
«... والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من اجراء المثنى بالألف دائماً، وهي لغة لكنانة، حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم، وزبيد وأهل تلك الناحية ـ حكى ذلك عنهم الكسائي ـ ولبني العنبر وبني الهجيم، ومـراد، وعـذرة ـ وقـال أبـو زيد سـمعت مـن العـرب مـن يقـلب كل يـاء ينفـتح ما قبـلها ألفاً...»(27)
وقس على هذا جميع الاساليب التي استعملها القرآن الكريم من فصحى لهجات القبائل العربية، وذلك من منطلق وضع إطار عام للغة العربية الفصحى، ولكنه ـ مع الأسف الممّض ـ لـم يسلم أي منها من طائلة التأويل والتخريجات الموغلة في التكلف والتنطع، وكان يكفيهم تصحيح قواعدهم المدونة في ضوء الشواهد القرآنية، والحديثية بدلاً من أن يلوذوا بحمى التأويل والتخريج لكل أسلوب مصحح لقواعدهم المصطنعة على عجل.
2ـ ومهما يكن من شيء، فإنه يمكن تجاوز صنيعهم عن طريق التركيز على تصحيح المنطلق الذي قام عليه التقعيد النحوي لدى جميع المدارس النحوية بشكل عام ولدى المدرسة البصرية بشكل خاص، وذلك بأن يغدو الأسلوب القرآني المحكم بجميع قراءاته ـ المتواترة أو الآحاد ـ مؤصلاً ومقعداً للقواعد النحوية، وليس مقرراً أو مؤكداً لها، وشتان ما بين التأسيس والتأكيد، وما بين التأصيل والتقرير، فكل ماورد وصح أنه قرىء به وجب الاحتجاج به في العربية، ووجب تقديمه على غيره من مصادر التقعيد النحوي سواء أكان متواتراً، أو آحاداً، أم شاذاً.. وهذا الأمر ـ كما قررنا من قبل ـ لا يبنغي أن يمارى فيه ما دام القوم يرون الاحتجاج بالأشعار التي لا تعرف أعيان قائليها، بل لا سند صحيحاً يقطع بكونها أشعاراً منسوبة إلى أكلة اليرابيع أو أكلة الشواريز، فالقراءات التي تعرف أعيان أصحابها وعدالتهم سواء كانت متواترة أو آحاداً أولى بالاحتجاج.
ولكي يتحقق ذلك التصحيح المنهجي للمنطلق، فإنه ينبغي عرض القواعد النحوية التي اعتمد في تقعيدها وتأسيسها على القبائل البدوية أو الريفية على لغة القرآن الكريم الفصحى، وذلك بغية مراجعتها فتصحيحها في ضوء اللغة النموذجية الفصحى ـ لغة القرآن ـ فما خالف منها القاعدة القرآنية اعتبرت شاذة، وما وافق القاعدة القرآنية أقرت واعتمدت، وهذه المراجعة القرآنية للقواعد النحوية خاصية من خصائص صفة الهيمنة الثابتة للقرآن الكريم بنص قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما انزل اللـه ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} المائدة 48، فكما أن المراجعة تطبق على سائر الأحكام الاجتهادية العقدية والعملية والخلقية فإنها كذلك ينبغي ان تطبق على القواعد النحوية بوصفها اجتهادية بشرية لا تسمو على الخطا والنقد، إذ إن هنالك علاقة مطردة بين جميع جوانب حياة الانسان، فالجانب اللغوي مرآة للجانب الحكمي، والعكس صحيح، وقد سبق أن أسلفنا القول بأن من مقاصد اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة تصحيح النظرة القرشية إلى أصحاب اللهجات الأخرى، وتعديل المعيار القرشي للفصيح من القول وعليه ، فإن عناية القرآن الكريم بتصحيح كثير من المعتقدات، والمنطلقات، والتصرفات التي كانت حائدة عن الصراط القويم هي ذات العناية التي عني بها على مستوى اللهجات ومواقف القبائل من لهجات بعضها ببعض. فإذا ما تـم تصحيح منطلق النحاة في تقعيد القواعد، وتـم تجاوز تصنيفهم لمصادر التقعيد، فإنه يمكن إحداث منهجية قادرة على محو الأخلال المنهجية عند البصريين وبعض الكوفيين، وأتباعهم في العصر الحاضر. ولئن استصعب امرؤ القيام بعمل كهذا، لما يحتاجه من إلمام وافٍ بالقراءات والقبائل التي تستعمل تلك اللهجات، بل لئن استحال امرؤ القيام بهذه العملية الصياغية للقواعد النحوية في ضوء المقاصد الشرعية ـ التي اشبعناها حديثاً من قبل ـ بعد مضي هذه القرون الطويلة على تدوين القواعد من عهد الخليل الفراهيدي.
3ـ إن تحقيق هذا الامر لايستلزم إعادة تقعيد للقواعد، ولا اعادة تدوين لها، وإنما يستلزم القيام بعملية مراجعة ودمجلة، فتصفية لأمهات كتب النحو، بحيث يتم الاستغناء عن القواعد النحوية المخالفة للأسلوب القرآني مخالفة صريحة أو خفية، أما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة صريحة، فنقصد بها تلك القواعد التي تصادر القراءات المتواترة، وتعتدي على قداستها بتخطئة القراء حيناً، أو بوصف القراءة بالسماجة أو القبح أو الشذوذ حيناً آخر. وأما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة خفية فتتمثل في القواعد النحوية التي تـم بناؤها قبل استقراء القراءات القرآنية استقراء شبه كامل، فرسموا الدائرة النهائية لتلك القواعد، واعتبروا أي شاهد خارج عن الدائرة لحناً أو خطأً أو غير ذلك. إن تطبيق هذه المراجعة وتحقيقها يقتضي تجاوز كثير من تأويلات وتخريجات النحاة المتكلفة المتنطعة بحيث يتم اعتبار ما ورد في القرآن الكريم من لهجة أوأسلوب قاعدة جديدة تضاف إلى القواعد المرسومة، ويتجنب السعي غير المفيد في المحاولات الهادفة إلى اخضاع الأسلوب القرآني للقاعدة النحوية المصطنعة على عجلة من الأمر. فإدخال الشواهد الجديدة في عالـم قواعد النحو لايزيد النحو إلا توسعاً وتيسيراً، كما أن ذلك لايعدو أن يكون استمراراً لحركة التقعيد التي ماكان ينبغي لها ان تتوقف في أي عصر من العصور، وإنما كان حرياً بها أن تتجدد وتزداد نمواً وتقدماً.
4ـ إن تصحيح المنطلق التقعيدي يمكن ان يتم أيضاً عن طريق الترجيح بين الآراء النحوية المتعددة حول قبول قاعدة أو ردها بحيث يتم ترجيح أي رأي يتخذ من الشاهد القرآني دليلاً أو مرجعاً في النزاع، فإذا كان ثـمَّ خلاف بين النحاة كما هوالحال دائماً بين البصريين والكوفيين حول مسألة من المسائل النحوية، ووجدنا إحدى الطائفتين تستند في دعواهم على شاهد قرآني في اثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب، عندئذ يرجح أصحاب ذلك الرأي ـ بصريين كانوا او كوفيين ـ وذلك لانطلاقهم من المنطلق الأصيل الذي ينبغي الانطلاق منه في التقعيد، ولا ضير في شيء أن لا يشتهر ذلك في زمان نحاة بصرة أو من بعدهم شاهداً على اثبات لغة. ويعني هذا تجاوز كثيرمن دعاوى البصريين في نزاعهم مع الكوفيين الذين تمركزت معارضتهم لهم حول ضرورة الاحتجاج بالقرآن الكريم في جميع قراءاته المتواترة في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول. ولعل ما عني بجمعه الإمام النحوي الانباري في كتابه «الانصاف في مسائل الخلاف» لخير معين على تحقيق هذا الأمر وتطبيقه إضافة إلى جل كتابات نحاة المدرسة الكوفية والأندلسية والمصرية والشامية.
وينبغي أيضاً الاستفادة من بعض الكتابات المعاصرة في النحو القرآني الذي لا يزال يعاني ضعفاً في الاستجابة والتقبل، وذلك خوفاً من مخالفة القديم الموروث، وعكوفاً على ما انتهى اليه نحاة البصرة من قرون غابرة، ولعل كتابات ومؤلفات الأستاذ الدكتور «أحمد مكي الانصاري» من أجّل المؤلفات في هذا الشأن، ومن اكثرها جرأة ونقداً للنحاة، وكذلك الحال في بعض مؤلفات الدكتور «محمد عبد الخالق عضيمة» ككتابه القيّم «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» وغيرهما كثير. ولئن سجلنا بمداد من التقدير والتبجيل لتلك الكتابات الحديثة الغاية الحميدة النبيلة التي تعهدت بالنهوض بهذه المهمة، فإننا لن ننسى ان ننبه بأن تلك الكتابات حصرت جهودها في الدعوة إلى النحو القرآني، وهو النحو الذي ينطلق من القرآن، ويرى في القرآن مصدراً اساسياً للتقعيد والمرجعية النحوية، بيد أنه لايجد المرء في خضم تلك الدعوة أية دعوة منهم إلى اعتبار الحديث النبوي هو الآخر مصدراً للنحو،وإننا نعتقد أن في ذلك نظراً وخاصة ان الاعذار بل العذر الذي يعتمد عليه في عدم الاحتجاج بالحديث النبوي لا يكفي في مصادرة ذلك الكم الهائل من النصوص الحديثية.
سابعاً: التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي وعلاقته بتيسير تعلم اللغة:إذا كنا قد انتهينا إلى الدعوة إلى ضرورة تجاوز الترتيب الموروث لمصادر التقعيد النحوي، وذلك لما ينطوي عليه ذلك التصنيف من قلب وأخلال منهجية ولما كان له من دور في تقعيد تعلم النحو، وتعسير استيعاب فصوله ومباحثه، بل اذا كنا قد أبرزنا ذلك القصور المنهجي الجلي في صنيع كثير من النحاة، وخاصة بصرييهم ومن ساروا على نهجهم، فإنه لابد لنا من تأصيل القول فيما سيفرزه التصنيف المقترح لمصادر التقعيد والقياس من نتائج علمية منهجية مفيدة من ناحية، وما سيقوم به من دور جبار في تيسير تعلم النحو واستيعابه، فهضمه دونما ملل ولا كلل.
1ـ إن من المتفق عليه أن المرونة والسعة سمتان رئيستان تتميز بهما شريعتنا الغرّاء في شتى نواحيها واحكامها وقضاياها، وقد كانتا السبب الأساس في بقاء الشريعة شريعة خالدة تمد الحياة الانسانية بين الحين والآخر السُرَجْ الوهاجة التي تنير لها درب الخلاص في تيهها، وتأخذ بيدها سواء السبيل بين ركام الأهواء والشهوات، فتغدو الحياة المهتدية بهديها حياة سعيدة هادئة، للأمن والأمان والسلام نصيب وفير فيها. إن افتقاد وافتقار شرائع من قبلنا هاتين السمتين ـ المرونة والسعة ـ قد كان أحد الأسباب الرئيسة وراء انقراض تلك الشرائع وعدم خلودها، وذلك لأن الحياة البشرية في تغير وتبدل مستمرين ولم تعرف توقفاً عن هذين الأمرين في أية لحظة من اللحظات.
إن كثيراً من علمائنا الفقهاء والاصوليين والمفكرين قد ادركوا هذه الخاصية للشريعة الاسلامية، وفي ضوئها قعّدوا قاعدة لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والاحوال والعادات والتقاليد، بل على اساسه قرروا بأن كل مجتهد مصيب، وأن الطرق الموصلة إلى الحق قد تتعدد، وإن لـم يتعدد الحق ذاته، وعلى درب الايمان بمرونة الشريعة وسعتها كانت المدارس الفقهية المتعددة في تاريخنا الاسلامي، ولا تزال الأيام حبلى بكثير من الاجتهادات الواعية التي تصدر عن فهم دقيق للواقع وللنصوص بغية إرشاد البشرية جمعاء نحو سبيل الرشاد والفلاح.
2 ـ لئن كانت مرونة الشريعة وسعتها بارزة في جانب الاحكام الفقهية أو العقدية أو الخلقية، فإن ذلك لا يعني ان المرونة أو السعة قاصرتان فقط على تلك الجوانب المذكورة كما قد يختلف بعض إلى ذلك، بل المرونة والسعة أجلُّ من أن تنحصرا في دائرة الاحكام فقط، بل لايمكن ان تحدهما حدود، ولا أن تقفا عند محطة دون اخرى، بل تشملان الشريعة في جميع جوانبها، ولعل من أهم الجوانب التي يمكن ملاحظتهما فيها جانب الاسلوب المتمثل في قراءات القرآن الكريم المتعددة، وفي أحاديث المصطفى ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ سواء منها ما كان مروياً باللفظ او بالمعنى، ولكن الأمر الملحوظ أن جمهرة نحاتنا ـ وخاصة البصريين منهم ـ الذين قعّدوا القواعد النحوية تجاوزوا هذا الجانب الأساس في الأسلوب القرآني، فضيقوا ماكان واسعاً وعقّدوا أمراً كان يمكن ان يكون أسهل الأمور وأيسرها على الراغبين في تدبر القرآن وتفهم معانيه. ولعل السبب الرئيس في هذا الأمر يعود في نظرنا إلى قيام الدراسات النحوية ومدارسها على النظرة المجردة الجافة التي لا تهمها سوى وضع القواعد دونما أخذ في الاعتبار المقاصد العلية في اشتمال القرآن الكريم على فصحى لهجات القبائل العربية، ويعود السبب أيضاً إلى التسرع في وضع القواعد بناء على استقراء ناقص، وعلى خلط في تحديد العلاقة بين مصادر التقعيد، ولم يأخذوا في الاعتبار ما ينتج عن التسرع في وضع القوانين من تضييق وتعسير على الممتثلين بها، كما لـم يلتفتوا إلى ماطرأ على الواقع العربي بعد نزول القرآن وبعثة المصطفى ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ من تغيير جذري على سائر مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واللغوية والتربوية. واذا كان المعهود من ان واضعي القوانين البشرية الناجحين في تقانينهم يستفرغون طاقاتهم في استقراء أحوال المقننين لهم، ومآلات القوانين المراد وضعها بغية ضمان نجاح تلك القوانين، فإن كثيراً من نحاتنا ـ غفر اللـه لنا ولهم ـ لـم يسعهم ادراك هذا الجانب في التقنين النحوي، وفي وضع الاحكام القيمية للأسلوب العربي بشكل عام وللاسلوب الشرعي بشكل خاص. إذ انهم لو ادركوا ذلك عند تقعيد القواعد لورثونا قواعد نحوية مرنة سهلة الاستيعاب يسيرة الهضم والفهم، ولما احتاجت صناعاتهم النحوية إلى كثير عناء أو كبير جهد في البحث عن اعرابي بوال على قدميه في الشمال، أو عن اعرابية مغرمة بأكل القديد في الجنوب لاثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب، وإنما كان يكفيهم استقراء الاسلوب القرآني المرن، والاسلوب النبوي الواسع ليخرجوا من كنوزهما القواعد النحوية يسيرة الادراك والاستيعاب.
وبما أنهم قد تجاوزوا ادراك هذا الجانب المرن في الشريعة بشكل عام، وفي الاسلوب القرآني والحديثي بشكل خاص، فإن ذلك لايبرر للأجيال اللاحقة بهم الابقاء على تلك القواعد التي لـم تراع هذا الأمر قواعد سارية المفعول واجبة الالتزام بها، بل حري بهم تجاوز ذلك القصور، واصلاحه من جذوره، إن بتعديل جزئي أو كلي، أو بتطوير خاص أو عام، او بالغاء جزئي أو كلي للقواعد النحوية التي قعدوها واعتبروها قانوناً واجب الالتزام به عند التحدث أو الكتابة على الرغم من شذوذها لمخالفتها لـما أوثق منها وهي اللغة القرآنية النموذجية.
3ـ إن التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي سيلعب ـ في حال تطبيقه ـ دوراً مهماً في تيسير تعلم اللغة العربية بحيث تصبح القواعد النحوية قواعد مرنة مواكبة لمرونة الشريعة الغراء في سائر جوانبها، كما تغدو قواعد واسعة بسعة الشريعة بحيث تصبح التخطئة والتلحين في اللغـة شــأناً ذا دائـرة ضيقة، فلئن كان جمهور النحاة ـ على سبيل المثال ـ قد قرروا من قبل عدم جواز العطف بالرفع على موضع «إن» قبل تمام الخبر، واعتبروا مخالفة ذلك لحناً، فإن الأسلوب القرآني جاوز هذه القاعدة في قوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن باللـه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون} المائدة 137، ويعني هذا أن قاعدتهم المبنية في غياب استقراء تام للاسلوب القرآني المرن لابد من مصادرتها وتبديلها بقاعدة نحوية أخرى سديدة ترى جواز العطف بالرفع على موضع «إن» قبل تمام الخبر أو بعد تمامه، وفي ذلك تيسير على متعلم النحو ومتفهمه. بل لئن اختلف فطاحلة النحاة إلى عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، وذلك لقاعدتهم التي ترى أن المضاف والمضاف إليه في حكم الشيء الواحد أو الكلمة الواحدة، وإ ما الاسلوب القرآني المرن فقد صادر هذه القاعدة النحوية الضيقة في قوله عز من قائل {وكذلك زيّن لكثيرمن المشركين قتل أولادهم شركائهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء اللـه ما فعلوه} الانعام 137. ولئن أقطع جمهور النحاة بعدم جواز اضافة «إذا الشرطية» إلى الجملة الاسمية، وإنما تضاف إلى الجملة الفعلية في كل الأحوال، فإن الاسلوب القرآني المرن تحدى هذه القاعدة بإضافته «إذا الشرطية» إلى الجملة الاسمية في كثير من الآيات كما في قوله {إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذاالجبال سيرت، وإذا العشار عطلت....}وفي قوله {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت...}. واذا كانت جهابذة النحاة قد قضوا بأنه لايجوز إضافة «مائة» إلى الجمع مطلقاً فإن الاسلوب القرآني قد صادر هذا الاجماع في قوله {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} الكهف 25، وذلك في قراءة الكسائي المتواترة دون تنوين تاء لفظ «المائة».
ثمـة قواعد نحوية تفوق العد والحصر قد أسهمت في تعقيد تعلم النحو، وتعسيره على الفهم لأنها تقوم على التضييق والالزام في غير ما ملزم، ولو تـم مراجعتها كلها في ضوء التصنيف المقترح لأحدث ذلك تغييراً جذرياً في تعلم النحو. وبطبيعة الحال ليس بغائب عنا ما سيقوله اتباع نحاة البصرة أو الكوفة ممن اشربوا بابتلاع تأويلاتهم وتحريجاتهم المتكلفة، إنهم سيقولون بأن الاسلوب القرآني لايتعارض مع القواعد النحوية، ويكفي المرء أن يلجأ إلى التأويل أو التخريج، فيجد توافقاً وانسجاماً والتئاماً بين القواعد النحوية. إننا نقول لهؤلاء بأن حكم الجواز والوجوب والحرمة والكراهة لايملك نحوي أي نحوي ـ كائناً من كان ـ ولو أن اللغة كانت من اختراع النحاة، ومن صنعهم هم لحق لهم أن يحكموا على أي اسلوب مخالف لقواعدهم بالقبح والرداءة وبالشذوذ.. بل لو أنه أوحي إليهم عدم جواز اضافة «إذا الشرطية» أو عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف اليه بغير ظرف، أو نصب اسم «ان» بالألف في حالة التثنية، أو غير ذلك من الأحكام التي أصدروها وقعدوها إن وجوباً أو جوازاً، أو منعاً أو كراهية.. لو كان تـم وحي في ذلك الشأن لما جاز لأحد الخروج على قواعدهم .. وأما واللغة ليست من اختراعهم ولا من صنعهم، وليس هنالك وحي منزّل في قواعدهم، فإن المرجعية في الحكم ينبغي أن تكون لكتاب اللـه ولسنّة رسوله ـ عليه السلام ـ وليس من حاجة في شيء أن نفني أعمارنا القصيرة في افتعال التأويلات والتخريجات للأسلوب القرآني المرن، وللغة المصطفى الواسعة. ولهذا، فعلى إثركم يا قوم!
ومهما يكن من شيء، فإن تيسير تعلم النحو في نظرنا يتوقف على احياء هذا الجانب المرن في الأسلوب القرآني المتمثل في قراءاته المتواترة والآحاد، وفي ادخال الحديث النبوي المروي باللفظ، أو بالمعنى مادام صحيحاً في سنده ومتنه في دائرة الاحتجاج والاستشهاد، وليتـم استبدال القواعد النحوية القائمة بالقواعد النحوية المنبثقة من التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي، بحيث يمحى في الدرس النحوي تلك الأحكام النحوية التي جادت بها قرائح نحاة بصرة، او كوفة أو بغداد قبل أن يستقرؤوا ـ استقراء تاماً ـ الأسلوب القرآني ولغة رسول الاسلام ـ عليه أفضل الصلاة وأتـم التسليم ـ بل ولهجات قبائل البدو، فليس في مجاوزة قواعدهم الضيقة الاطار، المعقدة التركيب، المملة الترتيب أي محظور شرعي يعاقب عليه فاعله يوم القيامة مادام القرآن الكريم وسنّة النبي العظيم قبلته ووجهته التي يوليها عند التحدث أو الكتابة.
4) إن التصنيف المقترح ـ إضافة إلى ما سيلعبه من دور في تيسير تعلم اللغة، فسيعنى ـ أيضاً ـ بربط متعلم القواعد النحوية بمعايشة كتاب اللـه وسنّة رسوله ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ في كل حين، بحيث تغدو الامثلة والنماذج كلها مشتقة منهما، مما يعني في واقع الأمر الدعوة إلى اتخاذ مصدري الشريعة ـ الكتاب والسنة ـ مرجعية للأحكام سواء منها الاحكام الاجتهادية الفقهية أو القواعد النحوية. وإذا كان من المقرر أن مصدري الشريعة ـ الكتاب والسُنّة ـ قد سلكا في عرضهما للأحكام الفقهية والعقدية والخلقية مسلك التيسير والتسهيل، فلا ينبغي أن يتوقفا على تلك الجوانب المذكورة، وانما ينبغي أن يتجاوزا سائر الحدود البشرية، ولذلك، فحري بتصنيف ـ كهذا ـ أن يجعل القواعد النحوية مزاحمة للقواعد الفقهية والأصولية والتفسيرية في هذا المسلك. إننا نعتقد أنه يوم أن تتاح لهذا التصنيف الفرصة لأن يصبح واقعاًً ملموساً معاشاً، فسوف يتـم ـ عندئذ ـ الاستغناء عن تلك الأمثلة التجريدية النظرية التي ما فتىء النحاة يتمثلون بها عند تقريب فهم قاعدة إلى الأذهان.

ثامناً: اقتراحات الدراسة
أولاً: اعتماد تصنيف مصادر التقعيد النحوي الذي أوسعناه جانب التفصيل والتوضيح في هذه الدراسة، بأن يصبح القرآن الكريم بجميع قراءاته المتواترة أو الآحاد مصدراً أولياً وأساساً للتقعيد النحوي، ولا حاجة البتة إلى اللجوء إلى التأويل أو التخريج لموافقة القواعد النحوية التي بناها النحاة قبل استقراء النص القرآني على مستوى جميع قراءاته. فكل ما ورد في القرآن أصل وقاعدة يصح الاحتجاج والاستشهاد به، وذلك لايماننا جميعاً بكون لغة القرآن فصحى، وما عداها من لغات قبائل العرب فلا تخلو إما أن تكون فصيحة أو تكون دون ذلك.
واذا اعتمد كل أسلوب قرآني بأية قراءة صحيحة كانت ـ متواترة أو شاذة ـ أصلاً وقاعدة نحوية، فليكن الحديث النبوي الصحيح المصدر الثاني بعد القرآن الكريم سواء كان الحديث مرويا باللفظ أو بالمعنى، فالمروي منه باللفظ تعتبر لغته أفصح من أية لغة أخرى، وأما المروي منه بالمعنى فيصدق عليه ما يصدق على لغات قبائل البدو والأرياف من سليقة وفصاحة وبيان. وكل ما ينبغي مراعاته في ذلك هو جانب الصحة في الحديث لاغير. وإذا ما استوعب الحديث النبوي جاز الاحتجاج بلغات قبائل البدو وأهم ما نؤكد عليه في هذا المجال هو ضرورة مراعاة الترتيب السلمي بحيث لايقدم مصدر ادنى على مصدر أعلى، فالقرآن بقراءاته المتواترة أولاً، وبقراءاته الشاذة ثانياً، ثـم الحديث النبوي المروي باللفظ ثالثاً، والحديث النبوي المروي بالمعنى رابعاً، ثـم لغات قبائل البدو خامساً، ولغات قبائل الريف سكان البراري سادساً.
ثانياً: اتخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار الاسلامية المعنى نماذج وأمثلة للقواعد النحوية، بحيث يتـم استبعاد الامثلة الافتراضية غير الواقعية كما هو الحال دائماً في «ضرب زيد عمراً»، و«أكلت الكمثرى ليلى» وإن «أباها وابا أباها قد بلغا من المجد غايتاها»، فبدلاً من هذه الامثلة التي يغلب عليها طابع التجريد والتخييل يمكن ايراد جملة من الآيات القرآنية أو الاحاديث النبوية للتطبيقات النحوية، وهذا اقتراح في واقعه تتمة للذي أسلفناه آنفاً.
ثالثاً : الشروع في تطبيق التصنيف المقترح للتقعيد بالتدرج بحيث يبدأ بتعديل القواعد النحوية التي يغلب عليها طابع التضييق، كالقواعد التي تتخذ حكماً واحداً فترى عدم جواز وقوع الاستثناء المفرغ بعد الايجاب، فتعدل هذه القاعدة لتصبح جواز وقوع الاستثناء المفرغ بعد الايجاب لقوله {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين البقرة 45، ويتبع تصحيح أمثال هذه القواعد تطوير بعض القواعد بحيث تصبح دائرتها أوسع كما هو الحال في القاعدة التي تحصر دخول لام الامر على المضارع الغائب، وتعدل هذه القاعدة بتطويرها عن طريق تجويز دخول لام الأمر على المضارع الغائب أو المتكلم أو المخاطب لقوله تعالى «وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياكم من شيء إنهم لكاذبون» العنكبوت 12 {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهـدى ورحـمة للمـؤمنين قـل بفـضل اللــه وبـرحمته فبـذلك فليفرحـوا هـو خيـر ممـا يجمعون} يونس (5) وفي قراءة شاذة «فلتفرحوا»، ولتل هذا التطبيق مصادرة القواعد النحوية التي تقوم على تلحين القراءات الصحيحة المتواترة أو الآحاد، وهذا ال طابع غالب على كثير من القواعد النحوية التي اعتمدتها مدرسة البصرة وتمردت عليها مدرسة الكوفة... إذاً، بالتدرج العملي المخطط يتـم احلال التصنيف المقترح لمصادر التقعيد محل التصنيف الشائع المعمول به منذ قرون غابرة.
رابعاً: إحياء دراسة الجانب المقاصدي في الدراسات النحوية، بحيث يتـم استقراء المقاصد الشرعية سواء على مستوى الجانب الأسلوبي او الجانب الادبي، فمن الواضح جداً استبعاد هذا الجانب في الدراسات النحوية الحالية، ويمكن تحقيق هذا الاقتراح عن طريق دراسة أسباب اشتمال القرآن الكريم على لهجة قبيلة من القبائل، وعن طريق دراسة الظروف الاجتماعية والنفسية للقبائل العربية المختلطة بالأمم الاجنبية وغير المختلطة بأية أمة، وأثر الاختلاط على المستوى النفسي والاجتماعي والتربوي، كما يمكن إحياء هذا الجانب في الدراسات النحوية عن طريق الاهتمام بدراسة لغة النبي ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ لكونه أفصح من نطق بالضاد، فأساليبه في التعبير والتحدث ماكانت خلواً من تحقيق مقاصد سامية علّية. بل اشتملت على مقاصد جمة تنكشف لمن يرغب في معرفة تلك المقاصد.
ـ وأخيراً لابد من التنبيه على ضرورة تجاوز وتجاهل تلك الدعوات التي ستجرّم هذا الأمر، والتي ستشكك ـ حتماً ـ في نوايا فاعليه، بل ينبغي عدم ضياع الوقت في الانصات إلى الدعوات التي سينهض بها قوم مبهرون بنحاة بصرة أو كوفة أو بغداد أو اندلس أو مصر أو شام ولو كانت قواعدهم مبنية على جرف هار منهار، فلا حاجة البتة إلى سماع دعاة التأويل والتخريج المتكلفين المتنطعين، وكل ما في الأمر أن يستحضر القائمون على هذا الأمر المقتنعون بجدواهم في تيسير تعلم النحو قوله جلت قدرته «كذلك يضرب اللـه الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب اللـه الأمثال» الرعد 17، فعسى اللـه أن يجعل أمرنا مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض، وما توفيقنا إلا باللــه عليه توكلنا وإليه ننيب.


الهـوامـش :

(1) أنظر: السيوطي، المزهر في اللغة (طبعة القاهرة، بدون سنة الطبع...) ج1 ص7.
(2) أنظر: المرجع السابق ج1 ص7.
(3) أنظر: الدكتور انيس، ابراهيم، في اللهجات العربية (مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثامنة 1990م) ص17.
(4) واللهجة الآرامية هي اللهجة التي كان يتحدث بها قبائل إرم البدوية التي كانت تعيش الشام، وغربي بلاد الرافدين، وهذه اللهجة هي التي أقصت اللغة الآشورية بعد تمكن الآراميين من الحكم، وقد أقصت لغة القرآن هذه اللهجة الآرامية بعد تمكن المسلمين من فتح بلاد الرافدين غرباً وشرقاً.. انظر: قلعجي، الدكتور محمد رواس، لغة القرآن ـ لغة العرب المختارة (بيروت، دار النفائس، طبعة أولى 1988م) ص8 وما بعدها.
(5) اللهجة القبطية هي التي كان أهل مصر يتكلمون بها قبل الاسلام، وقد أقصتها لغة القرآن الكريم بعد تمكن المسلمين من فتحها، وغدت القبطية لغة ثانوية بعد أن كانت سائدة.. انظر: أنظر: قلعجي، الدكتور محمد رواس، لغة القرآن، ص8 وما بعدها.
(6) أنظر: الشافعي، الرسالة بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر (طبعة ثانية 1969م، مكتبة دار التراث بالقاهرة) ص41 ـ 42 باختصار.
(7) وأورد القاضي هو الآخر ـ كما نقل عن الغزالي ـ جملة من الأدلة التي تساند ما ذكره الشافعي في هذا الموضوع، ويمكن تلخيص تلك الأدلة في الآتي:
أ ــ قوله تعالى {.. ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي، وعربي، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء...} فصلت 43 ـ 44.
ب ـ قوله تعالى: {ولقد تعلم أنهم يقولون أنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} النحل 103
ج ـ لو كان فيه ألفاظ أعجمية لما صح كونه عربياً محضاً، كما مر ذلك في الآيتين وانما كان يصح أن يقال: انه قرآن عربي، واعجمي، واذا لـم يقل دل ذلك على أن القرآن كله عربي محض، لا اعجمي فيه...
د ـ لو كانت فيه ألفاظ أعجمية لصح لقريش أن يدعوا عجزهم عن الاتيان بالالفاظ غير العربية لغرابتها، لا عن الاتيان بالألفاظ العربية، ولو ادعوا ذلك لما صح التحدي، والاعجاز ولكنهم اذ لـم يفعلوا، دل ذلك على أن القرآن كله عربي محض، لا أعجمي فيه، وخاصة أن قريشاً كانوا حريصين كل الحرص، وولعين كل الولع على الاتيان بمثل تيك الدعوى، ومع ذلك لـم يفعلوا... وحاول القاضي أن يرجع الالفاظ التي يدعى أنها غير عربية إلى أصول عربية، وزعم أن أصول تلك الالفاظ كلها عربية، لكنما القوم هم الذين غيروا فيها تغييراً كما غير العبرانيون بعض الألفاظ مثل «اله» إلى «لاهوت» و«ناس» إلى «ناسوت» وهلم جرا... انظر تفاصيل هذا الرأي في: الغزالي، المستصفى من أصول الفقه، (المكتبة التجارية، الطبعة الأولى 1937م، ج1 ص105، والأمدي، الاحكام في أصول الاحكام، (مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع) ج1 ص50 والسبكي، الابهاج شرح المنهاج (مكتبة الكليات الأزهرية طبعة 1982م) ج1 ص281.
(8) أنظر: الغزالي، المستصفى من علـم الأصول ج1 ص106.
(9) انظر: السيوطي، المهذب ص65.
(10) الحديث متفق عليه، والرواية المذكورة عن ابن عباس ـ رضي اللـه عنهما.
(11) إنه من المؤسف حقاً ألا يجد المرء في الدراسات التي عني بها كثير من العلماء حول هذا الحديث أية محاولة تهدف إلى استخلاص المعنى المراد بالأحرف من هذا الحديث، وذلك عن طريق تطبيق كل الأوجه المذكورة على سورة الفرقان، فينظر ـ على سبيل المثال ـ مدى اشتمال هذه السورة على لهجة قبيلة من القبائل الواردة لهجاتهم في القرآن الكريم، فإذا ما ألفى الباحث لهجة غير قرشية حقّ له أن يدعي أن المراد بالأحرف السبعة هي اللهجات، وليست الأوجه، وإذا ما عجز عن العثور على أية لهجة في السورة برمتها غير لهجة قريش لاذ بالتنقيب عن مدى ورود الأوجه التي يقع بها التغاير، فإذا لـم يفلح على ورود أي وجه من الأوجه السبعة نبذه وراءه ـ ظهرياً ـ الرأي القائل بأن المراد بالأحرف الأوجه، ولينتقل بعد ذلك إلى التحقق من مدى ورود القراءات السبعة أو جلها ـ على الأقل ـ في السورة. وبهذه المنهجية يمكن التوصل إلى المعنى المراد بالأحرف، ولاشك أن تطبيق هذه المنهجية ليس بالأمر العسير. وعسى اللـه ان يمد لنا في الأجل، فنعنى بتأصيل القول فيها الامر بإذنه تعالى.
(**) أنظر: الطبري، تفسير الطبري، بتحقيق آل شاكر، (مصر، طبعة المعارف) ج1 ص48، والقسطلاني، لطائف الاشارات لفنون القراءات بتحقيق عامر عثمان وعبد الصبور شاهين، (القاهرة طبعة 1972م) ج1 ص33، والزرقاني، مناهل العرفان ج1 ص180.
(12) لقد عني الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن» ج1 ص180 وما بعدها ـ بعرض الأقوال الواردة حول المراد بالأحرف السبع في الحديث المذكور أعلاه، بيد انه اختار رأياً دافع عنه بضراوة شديدة، واعتبر بقية الآراء باطلة وضعيفة، وعرضها في معرض غلب عليه انتهاج التعسف في فهم بقية الآراء، وما ذلك إلا انه رسم لنفسه هدفاً يتمثل في الحفاظ على ما إرتآه، وتوهين ما عداه لأن يكون أي من الآراء المخالفة حجر عثرة في طريق من يقتنع بما اختاره وأيده، وقد رد المذهب الذي يرى أن المراد بالأحرف اللهجات قائلاً بأن في القرآن ألفاظ كثيرة من لغات قبائل أخرى غير السبعة... وهو بذلك يكرر ماذكره أبو عبيدة في كتابه «لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم»، وليت الشيخ توقف عند هذا الحد في الرد على الرأي الذي اخترناه، ولكنه رد على نفسه بعد سطور بطريقة غير مباشرة، فقال ما نصه ـ بعد أن نقل قول الواسطي من «أن في القرآن أربعين لغة..»
«.. ولايغيبن عن بالك أن هذه اللغات كلها تمثلت في قريش باعتبار أن لغة قريش كانت المتزعمة لها، والمهيمنة عليها، والآخذة منها ما تشاء مما يحلو لها ويرق في ذوقها، ثـم يأخذه الجميع عنها، حتى صح أن يعتبر لسان قريش هو اللسان العربي العام، وبه نزل القرآن..»
فهذا القول يعني أن كل لهجة في القرآن لا تخفى على قريش، والحال خلاف ذلك، بل ينطوي ماذكره الشيخ على تناقض سافر وذلك أنه ينطلق من اعتبار لغة قريش مؤلفة من لغات العرب، وأن العرب جميعاً تعود بعد ذلك لتاخذ عن قريش..!!
ومما يضاف إلى تعسف الشيخ الزرقاني ـ رحمه اللـه ـ في حمل الرأي المخالف ذهابه إلى أن القول بأن المراد بالأحرف السبعة اللهجات يقتضي أن يكون القرآن أو بعضاً منه ما هو بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هديل، وهكذا... ولاشك أن ذلك غير محقق لحكمة التيسير الملحوظة للشارع الحكيم في نزول القرآن على سبعة أحرف..
هذا القول تخال صاحبه مخطئاً الرمية، وذلك لـم سبق أن قررنا أن لغة القرآن أوسع وأشمل من لغة قريش، صحيح أن نسبة لغة قريش فيه أعلى من نسبة أية لغة أخرى، ولكنه صحيحاً أنه ليست فيه إلا لغة قريش، وليس أدل على ذلك جملة مسائل وأمثلة ستأتي معنا تدل على هذا الأمر. وأما القول بأن ذلك يتعارض مع حكمة التيسير، فالعكس هو صحيح، ولاتيسير ـ في نظرنا المتواضع ـ أجل من إقرار قوم على اتباع لهجتهم عند النطق بالقرآن الكريم بدلاً من أمره بقراءته على لغة غيرهم.
وعلى كل، لسنا في معرض رد تفصيلي على ماذكره الشيخ الزرقاني، وإنما وددنا أن نتوقف هنيهة أمام ما أورده من اعتراض على هذا الرأي والذي تحاله فيه غيرمصيب البتة!.
(13) أنظر: أحمد مختار عمر، لغة القرآن دراسة توثيقية فنية، (طبة أولى 1993م، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي) ص58.
(14) انطر: الزرقاني، مناهل العرفان ج1 ص173 باختصار.
(15) إننا لن ننسى أن نثير في هذا المقام اشكالية تتمثل في العلاقة بين فصاحة لهجة برمتها بسبب اشتمال القرآن على جزء منها وبين انحصار الفصاحة في الجزء الذي اشتمل عليه القرآن، واما ما عدا ذلك الجزء فلا يلزم بالضرورة كونه فصيحاً أو عدمه. وهذه الاشكالية تؤكد على المقصد الذي سنورده بعد قليل والذي يتمثل في وضع القرآن الكريم منهجية لانتقاء الفصيح من اللهجات وتجاوز المنهجية القرشية في تعاملها مع لهجات القبائل إن استيعاباً وهضماً أو استيعاباً فقط.
(16) أنظر: الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن بتحقيق محمد ابو الفضل (طبعة الحلبي الثانية) ج1 ص217 وما بعدها.
(17) انظر: الرافعي، مصطفى، تاريخ آداب العرب (نشر المكتبة التجارية الكبرى، طبعة ثانية) ج1 ص85 ومابعدها بتصرف.
(18) انظر: السيوطي، جلال الدين، الاقتراح في علـم أصول النحو بتقديم وضبط وتعليق د. أحمد الحمصي، و د. محمد قاسم (جروس برس طبعة أولى 1988م) ص24.
(19) يروي السيوطي في الاقتراح ص 129 عن الأندلسي أنه قال في «شرح المفصل»: الكوفيُّون لو سمعوا بيتاً واحداً، فيه جواز شيءٍ مخالفٍ للأصول جعلوه أصلاً، وبوّبوا عليه بخلاف البصريين.. ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حرشة الضبا وأكلة اليرابيع، وأنتـم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ..» اهـ.
(20) انظر: ابن حزم، علي بن محمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل (.. طبعة سنة 1928م) ص29.
(21) انظر: الرازي، أبو بكر الحسين، مفاتيح الغيب الشهير بالتفسير الكبير ج3 ص159 أو ص193.
(22) انظر: الدفاع عن القرآن الكريم ضد النحويين والمستشرقين ـ د. أحمد الأنصاري ـ (مصر، دار المعارف 1973م) ص هـ و ز.
(23) انظر: الأفغاني، سعيد، في أصول النحو (بيروت، المكتب الإسلامي طبعة 1987م) ص31.
(24) انظر: البغدادي، خزانة الأدب (المطبعة السلفية 1347هـ) ج1 ص23.
(25) انظر: مجلة مجمع اللغة العربية العدد 3ص ص199 بحث للشيخ محمد الخضر الحسين بعنوان «الاستشهاد بالحديث». نقلا من كتاب في أصول النحو للأفغاني ص47 ـ48 بتصرف واختصار.
(26) من المعلوم أنَّ ابن مضاء الأندلسي المتوفى سنة 592 هـ قد قاد حملة شعواء على نحاة المشرق وخاصة البصريين، وألف جملة من الكتب للرد على نحاة المشرق، ومن كتبه «المشرق في النحو، والرد على النحويين، وتنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان...» ولعل أهم حملة عني برفع لوائها هي دعوته إلى إلغاء نظرية العامل التي يقوم عليها النحو منذ عهد الخليل، وإلغاء القياس واعتماد السماع بدلاً منه، وكثيراً ما ضاق ذرعاً بتأويلات النحاة وتخريجاتهم للآيات القرآنية.. لمزيدٍ من الإحاطة بثورة ابن مضاء على نحاة المشرق يراجع كتابه: «الرد على النحاة» بتحقيق شوقي ضيف (طبعة دار الفكر العربي).
(27) أنظر أبو حيّان، البحر المحيط، ج6 ص255 وما بعدها..

(*) أستاذ محاضر في أصول الفقه بكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية ـ الجامعة الإسلامية العالمية ـ ماليزيا.