شعار الموقع

التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي المعاصر

زكي الميلاد 2006-06-20
عدد القراءات « 870 »

* تمهيد

التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي يكتسب أهمية كبيرة، ونحن ندرس ونتأمل المشروع الإسلامي الحضاري المعاصر ، وإلى أين يسير ذلك أننا في مرحلة حساسة ودقيقة للغاية بحاجة إلى تشخيص دقيق وشامل لأن العالم من حولنا يتغير بحركة سريعة يكاد يطوي مرحلة ليجدد نفسه مع مرحلة جديدة من تاريخ الحضارة الإنسانية..

والعالم اليوم بكل مؤسساته وخبرائه يدرسون باهتمام شديد هذه المرحلة وما فيها من تحولات كبرى ومتغيرات نوعية لا تقل أهمية وخطورة عن تلك التحولات التي حصلت في القرن السادس عشر الميلادي مع بداية مرحلة العلم الحديث.. أو التي حصلت القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي مع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي.. كل ذلك إعداداً وتخطيطاً لمستقبل جديد من تاريخ الحضارة الإنسانية.. وفي هذا السياق تأتي الدراسة الهامة التي كتبها المفكر والمؤرخ البريطاني المعروف الدكتور بول كنيدي تحت عنوان – من أجل الإعداد للقرن الواحد والعشرين – وبالتأكيد هناك العشرات من هذه الدراسات.. ويهمنا أن نعرف موقع الإسلام في مستقبل الحضارة الإنسانية الذي يطرح اليوم كأحد الخيارات العالمية الكبرى في مستقبليات البشرية.. والأهم من كل ذلك هو كيف نقدم الإسلام إلى العالم.

هذا هو السؤال الخطير وهنا نرجع إلى الإنسان المسلم وإلى العقل المسلم الذي ينبغي أن يكون النموذج القدوة والأسوة الحسنة في الدعوة إلى الإسلام والتبليغ لقيمه ومبادئه وأخلاقه ومثله كما كان النبي محمد(ص) قدوة حسنة لتبليغ الإسلام في مجتمع مكة والمدينة وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم في نشر الإسلام إلى العالم.. ومن هنا تأتي أهمية التشخيص الدقيق لهذه المرحلة من تاريخ أمتنا والعالم، لأن على هذا التشخيص يتوقف مستقبل المشروع الإسلامي ومناهجه في التغيير..

ومناهج التغيير ومستقبلياتها تتوقف على التجديد الثقافي والحضاري في أنظمتها المفاهيمية وجهازها في التفكير وطريقتها في التخطيط والإدارة..

* ماذا نعني بالتجديد الثقافي ؟

التجديد الثقافي نعني به ما يقابل الجمود الثقافي في المفاهيم المتجددة تلك المفاهيم التي تزود العقل بحيوية وصحوة في فهم الواقع ومتغيراته والزمن وتحولاته التي يترتب عليها كيفية تنزيل الأفكار والمفاهيم عل الواقع.. لأن الحركة في الأفكار تتحقق في معايشة هذه الأفكار مع الواقع ومن غير هذه المعايشة تصاب الأفكار بالجمود..

وهذا يعني أن الفهم الخاطىء أو الناقص للواقع سوف ينعكس على حيوية الأفكار وحركتها السليمة في التطبيق، والحركة هي أساس الحياة.. والأفكار الحية هي الأفكار الفاعلة، والأفكار الفاعلة هي الأفكار المؤثرة على الواقع، والأفكار المؤثرة على الواقع هي الأفكار التي نزلت بصورة سليمة.. وكما في القاعدة الأصولية – الأحكام تتبع موضوعاتها - .

والخلاصة أن الجمود الثقافي نمطية عقلية في التفكير والمنهج، والتجديد الثقافي نمطية أخرى تختلف في التفكير والمنهج.. ومن المفارقات بين هذين النمطين أن نمط عقلية الجمود تميل إلى الماضي وعقلية التجديد تميل إلى المستقبل، العقلية الأولى تميل إلى السكون، والثانية تميل إلى الحركة وهكذا.. إذاً التجديد الثقافي هو في المتغيرات وليس في الثوابت وفي الذي يقبل الاجتهاد وليس النص حيث لا اجتهاد أمام النص..

والتجديد الثقافي هو للخروج من حالة الجمود الثقافي إلى الابداع والتجديد والاجتهاد في مناهج التغيير الإسلامي في فهم الواقع واصلاحه وإدارته.. في حين أن الجمود الثقافي ينعكس على جمود في مناهج العمل والتغيير، لأن الأفكار هي روح الأعمال كما يقول المفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي (1905-1073م) وهذا يعني أن التجديد الثقافي هو تجديد في روح الأعمال في مناهج التغيير وتطوير لها..

* التجديد الثقافي لماذا ؟

هذا السؤال يضعنا على آفاق ومعطيات التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي بلحاظ المرحلة وما لها من خصوصيات ذاتية وموضوعية، حالية ومستقبلية، مع برمجة وتنظيم في الأوليات..

أما ضروريات التجديد الثقافي فهي :-

أولاً : نحو قفزة فكرية

كل مطلع عل شؤون العمل الإسلامي وكل خبير لا يشك في أن الحركة الإسلامية بحاجة ماسة إلى قفزة فكرية ثقافية نوعية ترتقي بالعمل الفكري الإسلامي بما يواكب حركة التطور العالمي الشاملة والمتجددة ويستجيب للمشكلات الاجتماعية بمعالجات معمقة وللتحديات بكيفية مدروسة وسعياً نحو بلورة وصياغة المشروع الإسلامي الحضاري المعاصر، وقد باتت الحاجة إلى هذا المطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى (1) .

ثانياً : اختلاف المرحلة

ما أن استقبلت الحركة الإسلامية حقبة التسعينات حتى وجدت نفسها أنها على مفترق طرق وأمام ظروف بالغة الحساسية تعج فيها النظريات والأ فكار الجديدة والمستقبلية ولعل الكثير من خيارات ومناهج المرحلة الماضية قد لا تكون صالحة والمعطيات الراهنة، والإشكالية هنا ليست بالضرورة في النظرية كما في تأويل البعض وإنما بلحاظ التطبيق وعنصر الوقت وتوفر الشروط الموضوعية.

وهذا يعني أن ما أنتجته الحركة الإسلامية من مفاهيم وأفكار إذا لم تكن قد استهلكت مع حقبة الثمانينات فإنها افتقدت شروطها الموضوعية للتطبيق في هذه المرحلة، بالطبع ليس على سبيل الاطلاق لكن على سبيل الأغلبية.

ثالثاً : صياغة البديل

(لم نعد حتى الآن في مرحلة المناداة بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان فإن تلك المرحلة قد انتهت، وينبغي تجاوزها بكل شعاراتها. لم نعد كذلك في حاجة إلى ايجاد موازنات بين الإسلام وغيره لأن هذه المرحلة أيضاً قد انتهت وتجاوزناها. نحن الآن في مرحلة أخرى هذه المرحلة هي مرحلة تحدٍ كامل، اما أن نكون قادرين على اقناع الأمة بأننا البديل الحضاري المناسب، وأننا الأقدر على تقديم الفكر السليم والثقافة الصحيحة والحضارة القويمة والعمران الأكيد، وأننا نحن المؤهلون لأن نجتاز بالأمة حاجز التخلف ونحقق لها أهدافها في الانماء والبناء وفي العمران.. والوسيلة الوحيدة لاثبات صحة ما ندعو إليه هي في تقديم البديل الإسلامي لكل ما قدمه الغرب، وتجربة هذا البديل ونجاحه..

والتحدي الإسلامي لا يتم إلا بتقديم البدائل الناجحة أو المتفوقة في كل جانب، من جوانب الفكر والثقافة والمعرفة والحضارة) (2) .

رابعاً : الأفكار قوة

إن الأفكار قوة كما أن الاقتصاد قوة والسياسة قوة والاجتماع قوة ومن حيث المبدأ المطلوب القوة الشاملة فقد جاء في قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (3)

بالآية الكريمة لم تقيد القوة أو تحصرها مما يفيد الاطلاق والشمول بشرط القدرة والاستطاعة..

وميزة قوة الأفكار أنها تدعم وتنشط وتخصب عناصر ومكونات القوة الأخرى، إلا أننا لم ندرك قوة الأفكار كادراكنا لقوة الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع. والتجديد الثقافي إنما يتأسس على الوعي بقوة الأفكار التي بدورها تنعكس على حيوية وفاعلية مناهج التغيير الإسلامي.

خامساً : الثقافة والتطور الشامل

العمل الثقافي من عناصر التطور والنمو الشامل في الأمم والمجتمعات والمؤسسات.. فالثقافة الحية هي التي تنهض بالأمم والحضارات والثقافة الميتة هي التي تدمر الأمم والحضارات. وفي اطار الجماعات الإسلامية فإن جمود العامل الثقافي والفكري أو توقفه يسبب شللاً عاماً ينعكس على كل مرافق الجماعة وميادين الفعل والتأثير فتضعف البرامج التربوية وتهبط فاعلية النشاط الاجتماعي وتنخفض القدرة الانتاجية بشكل عام في الجماعة.

لأن الفكر وتقدمه يرفع من مستوى القدرة على التفكير والبرمجة والتخطيط والابداع وهذه الخصائص هي التي تفتح آفاق التطور الشامل. والتطور الثقافي أو التجديد الثقافي ينعكس على مناهج التغيير الإسلامي في تحسين مستوى البرمجة والتخطيط والإعداد..

سادساً : استيعاب التحولات العالمية

من غير التجديد الثقافي لا يمكن استيعاب التحولات العالمية والمتغيرات الجديدة التي بحاجة إلى نظام تفكيري جديد يجعلنا على درجة كبيرة من الوعي في فهم وتحليل هذه المتغيرات التي تركت بصماتها لى كل المجتمع الدولي ولا زالت تداعياتها تتفاعل. وقد دخل العالم عصر التحول السريع وبدأنا نعايش التحولات الكبرى ان على مستوى تطور تكنولوجيا الفضاء والاتصالات بين قارات العالم أو على مستوى تقدم العلوم كابتكار علم – البيوتكلنولوجيا – والذي يعرف باسم التقنية الحيوية أو الهندسة الوراثية ومن هذه التحولات الكبرى سقوط أكبر ايديولوجية وضعية صاغها الإنسان في العصر الحديث وهي الايديولوجية الشيوعية وهي امتداد لفلسفات ومذاهب فكرية قديمة في أوروبا وهي من الفلسفات الموسوعية فقد أخذت الفلسفة من ألمانيا والاقتصاد السياسي من بريطانيا والاشتراكية من فرنسا. وقد لا نستطيع أن نقدر حجم ومساحة الفراغات والتحولات التي أفرزتها سقوط الماركسية في العالم من الناحيتين الفكرية والسياسية.. وهذا يعني أننا بحاجة إلى تحليل حضاري لفهم هذه التحولات. والجماعات الإسلامية ومناهجها في التغيير لا تستطيع أن تفصل نفسها عن هذه التحولات وأن تدعي بأن هذا لا يعنيها بشيء بل أن هذه التحولات فرضت تحديات حضارية تطلبت وبدرجة كبيرة وتجديدات ثقافية في المنظومة الفكرية للجماعات الإسلامية وتحديث مناهجها في التغيير..

والحركة الإسلامية ليست مشروعاً سياسياً فحسب بل هي في خطتها العامة مدرسة فكرية اجتهادية تسعى للارتقاء بالفكر الإسلامي والانطلاق به لتجديد الحياة الإسلامية بما يواكب مشكلات العصر وتحديات الحضارة.

 

* التجديد الثقافي ومناهج التغيير

( إن الفكر الإسلامي الحركي في الستينات وأوائل السبعينات قد اتسم بردة فعل أججتها سنوات المحنة والابتلاء ، فنضج فكر – محنوي - لا زلنا نعاني منه حتى الآن لذلك فإن الكثير من معالجات المفكرين وأطروحاتهم الحالية تتوجه صوب ذلك الفكر محاولة تغييره أو الدفع في اتجاه تجاوزه وتبني منطلقات حركية جديدة إلا أنها لا تحظى بذلك المستوى من المصداقية التي تؤهلها لإيصال رؤيتها وتبني نظراتها داخل الإطارات الحركية بنفس الكفاءة والتقبل التي استقبلت بها الأجيال ثقافة وفكر العقدين السادس والسابع من هذا القرن مما تسبب في خلق حالة عدم توازن بين قوى التوجيه ومدارس التنوير الحركية داخل مساحات الاجتهاد ومنهجيات التقييم الحالية.

فالناظر إلى ساحة التحرك الإسلامي وخلفية الفكر الدافع لها سيجد أن الكثير من القضايا المتداولة قد تم ترحيلها وتحميلها لعقود الثمانينات والتسعينات بينما هي تنتسب لعقد أو عقود سابقة وقد تبلورت فيها قناعات وخلصت عنها نتائج مؤداها اجتهادات لتجاوزها وطرح بدائل أكثر تفهماً وتعايشاً للواقع وأشد حرصاً على التعامل معه في اتجاه البناء والاصلاح إلا أن فكر المحنة واشكالياته لا زال سائداً تتناوله الأقلام وتعيد فيه القول تأكيداً أو ترسيخاً برغم وجود الحاجة إلى نمطية جديدة ورؤية جديدة ) (4).

 هذا الرأي يكشف عن أزمة في مناهج التغيير الإسلامي وارتباط هذه الأزمة بالتجديد الثقافي كما أن هذا الرأي يؤرخ لحقبة الستينات والسبعينات واسقاط مفاهيمها في التحرك والتغيير على عقدي الثمانينات والتسعينات. أما عن هذين العقدين الأخيرين فإن الحدث الكبير الذي حصل في إيران مع بداية الثمانينات ولأنها – أي الحركة الإسلامية – لم تتنبأ بهذا الحدث الكبير وحجمه ومساحته وتأثيره على الواقع الإسلامي والدولي لهذا فإنها لم تبلور وتعد التصورات الفكرية وتنضج المفاهيم النظرية بما يتناسب وتحولات المرحلى مما جعلها تتعامل مع هذا الحدث الضخم بعاطفة كبيرة وعفوية مبالغة كما انشغلت بمكاسب المرحلة والاستجابة السريعة لتفاعلاتها الدراماتيكية. والنشاطات السياسية التي حصلت في ذلك الوقت لم تؤصل على وقف الأسس الفكرية والنظرية بحيث تتكامل والنظام الفكري عند تلك الجماعة. والأكثر من هذا أن النظام الفكري عند العديد من الجماعات الإسلامية حصل فيه اهتزاز وارتباك الأمر الذي دفع ببعض هذه الجماعات إلى تغيير بعض مفاهيمها ومن مضاعفات هذه الحالة أن نشأت فراغات فكرية ليس أنها لم تسد بكيفية معمقة فحسب بل أن بعض الجماعات لم تعِ ولم تدرك هذه النواقص والفراغات نتيجة استرسالها مع حركة الأحداث الصاخبة التي غطت لفترة معينة على قسم من النواقص والثغرات البنيوية والمنهجية والمفاهيمية.

ومن أخطر الثغرات المنهجية والمفاهيمية والتي كان لها أكبر الأثر على صعوبة تقدم وتطور الحركة الإسلامية ثغرة منهج التغيير الإسلامي الذي لم يتوافق والظروف المكانية والزمانية عند بعض الجماعات الإسلامية، وعند جماعات أخرى لم يتوافق المنهج في التغيير وحساب الامكانات والطاقات المتوفرة وهكذا. وإن كنا نعترف بأن حالة من التطور والنضج حصلت في مناهج التغيير الإسلامي بعد أن توفرت لهذه المناهج فرص حيوية وكبيرة للتطبيق والتفاعل المباشر والواسع مع الواقع ومع تعددية هذه المناهج وتعرضها للتلاقح، إلا أنها لا زالت بحاجة إلى معالجات معمقة تجعلها أكثر واقعية وأكثر تكاملاً.

* اتجاهات التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي

حركات الاصلاح الإسلامي في العصر الحديث هي التي نهضت بالتجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي وفي اتجاهات مختلفة حسب نوعية التقويم الخاص بالمرحلة ومتطلباتها في الاصلاح والتجديد وسوف نؤرخ لهذه الاتجاهات مع انطلاقة السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1315هـ/1838-1897) والتي تعتبر في نظر كثير من المؤرخين بداية نهوض الحركة الإسلامية في العصر الحديث وهذه الاتجاهات التجديدية :-

1-             التجديد الثقافي في اتجاه فكر الاصلاح والنهضة

مناهج التغيير الإسلامي المعاصرة باتجاهاتها الكفرية والسياسية المختلفة تجد في فكر النهضة والاصلاح الإسلامي مرجعاً حيوياً في الفكر الحركي والسياسي الإسلامي وإلى هذا الوقت وفكر الاصلاح الإسلامي يبعث في العالم الإسلامي روح اليقظة والنهوض ويعبر عن ذلك بوضوح الأستاذ مالك بن نبي بقوله – لقد كان جمال الدين إلى جانب أنه رجل فطرة رجلاً ذا ثقافة فريدة عدت فاتحة عصر الثقافة والعلم في العالم الإسلامي الحديث ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة إلى اقتفاء أثره في اسطنبول وفي القاهرة وفي طهران وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الاصلاح – (5).

ومن الرموز الآخرين لحركة الاصلاح الإسلامي الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (1270-1320هـ/1854-1902م) والشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935م) والمفاهيم الأساسية التي تبلورت مع حركة الاصلاح الإسلامي وكانت حيوية جداً في ذلك العصر – الوحدة الإسلامية والجامعة الإسلامية – التي كانت رداً قوياً مع ما كان يخطط له ويمارسه الاستعمار الأوروبي في البلاد الإسلامية من مخططات التجرئة والتفرقة والانقسام الجغرافي والمذهبي واللغوي والعرقي ومفهوم الحرية ورفض الاستبداد والديكتاتورية وقد تبلور هذا المفهوم بصورة مركزة في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ومفهوم الاسلام والحاجات العصرية وكذلك تحرير العقل المسلم من الخرافات والتقاليد والتقليد.

2-             التجديد الثقافي في اتجاه تجديد فكر الاصلاح الإسلامي

في طور آخر حصل ما يشبه التجديد في فكر الاصلاح الإسلامي وكان امتداداً فكرياً متكاملاً معه وهذا التجديد في فكر الاصلاح الإسلامي كان في بعدين أساسيين هما :

أ- تعميق وتنضيج فكر الاصلاح والنهضة.

ب- إضافة مفاهيم وحركة أفكار جديدة تتكامل والمفاهيم التي بشرت بها حركة الاصلاح الإسلامي .

وإبرز من مثل هذا التطور ثلاثة من المفكرين الإسلاميين الاصلاحيين الكبار وهم محمد أقبال، مالك بن نبي ، وعلي شريعتي (1933-1977م) وقد تأثر هؤلاء الثلاثة في فكرهم ومنهجهم بحركة الاصلاح الإسلامي في تلك المرحلة وبالذات من حركة السيد جمال الدين الأفغاني ، فعن تأثر محمد اقبال يقول الدكتور عبدالباسط محمد حسن – إذا قارنا بين آرائه وآراء جمال الدين لوجدنا أثر جمال الدين واضحاً عند اقبال وخاصة في نواحي السياسة والدين – (6)

وسبق وأن بينا رؤية مالك بن نبي من السيد جمال الدين الأفغاني وعلي شريعتي هو الآخر كان متأثراً بفكر السيد جمال الدين. من جهة أخرى إن فكر هؤلاء كان مؤثراً وحاضراً بدرجة كبيرة في مناهج التغيير الإسلامي المعاصرة كما كانوا على ارتباط وثيق بمناهج التغيير الإسلامي في بلادهم. والمفاهيم والقضايا الأساسية التي تبلورت في حركة هؤلاء كتجديد ثقافي في مناهج التغيير الإسلامي مفهوم – الثقافة والحضارة والنهضة – (7) ومفهوم – تجديد التفكير الديني – (8) – نقد الحضارة الغربية- (9).

3-             التجديد الثقافي في اتجاه مفاهيم العمل والتغيير

مع تحول حركة الاصلاح الإسلامي إلى مرحلة العمل الإسلامي المنظم في النصف الأول من القرن الأخير كان مؤشراً على تطور في مناهج التغيير الإسلامي فرضته ظروف الواقع ومتغيراته فانتقل العمل الاصلاحي إلى مرحلة العمل الجماعي المنظم في اطار الجماعات والحركات الإسلامية فالتجديد الثقافي تطور بما يتوافق وتحولات الواقع الإسلامي والانتقال من مسار الحركة الإسلامية. وأهم من ساهم بالتجديد الثقافي في هذا الاتجاه الشيخ حسن البنا (1906-1949م) وأبو الأعلى المودودي (1903-1979م) وسيد قطب (1324-1386هـ).

والمفاهيم الأساسية المنتجة كتجديد ثقافي في هذا الاتجاه كانت مفاهيم العمل الإسلامي والتغيير الإسلامي والجماعة الإسلامية وفي اطار هذه المفاهيم كانت هناك مفردات ثقافية حركية كثيرة.

والتجديد الثقافي في مفاهيم العمل والتغيير والجماعة كان يتطور بين مرحلة وأخرى استجابة للمعطيات الجديدة وإلى هذا الوقت والتجديد في مفاهيم – العمل الإسلامي ، والتغيير الإسلامي ، والجماعة الإسلامية – يتلاحق ويتقادم ومن أوساط إسلامية كثيرة لا يسعنا حصرها في هذه الورقة.

ومناهج التغيير الإسلامي المعاصرة تكتسب ملامحها وخصائصها ومكوناتها من تلك المفاهيم التي تتلاحق عطاءً وإبداعاً في قضايا العمل الإسلامي وتعدد مناهج التغيير الإسلامي بتعدد المصادر والمراجع الفكرية التي تنظر وتبلور العمل الإسلامي.

4-             التجديد الثقافي في اتجاه المشروع السياسي الإسلامي

في تطور نوعي وصل المشروع الإسلامي إلى مستوى إدارة المجتمع والدولة وما يترتب على ذلك من تنزيل القيم والقوانين الإسلامية على الواقع وأسلمة الأمة والدولة ومرافقها المختلفة – السياسية والاقتصادية والتربوية والاعلامية والاجتماعية – هذا التطور أعاد طرح المشروع السياسي الإسلامي باهتمام كبير ولمرحلة الدولة الإسلامية ولأهمية هذا التطور برزت كتابات كثيرة في مفاهيم المشروع السياسي الإسلامي كمفهوم – الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي –(10) ومفهوم – الحريات والحقوق –(11) ومفهوم – العلاقات الدولية –(12) و – أسلمه القوانين والمجتمع - ... الخ.

5-             التجديد الثقافي في اتجاه اسلامية المعرفة واصلاح الفكر الإسلامي

من الاتجاهات الحديثة في مناهج التفكير الإسلامي ومناهج التغيير الإسلامي الاتجاه الذي يتبنى منهج إسلامية المعرفة(13) وإصلاح الفكر الإسلامي(14) بناء على تحليل الأزمة الفكرية كجذر أساسي في سقوط الأمة الإسلامية وتخلفها الأمر الذي يتطلب صياغة مناهج لإصلاح الفكر الإسلامي مع الاهتمام وبأولوية لإسلامية المعرفة في مجال العلوم الاجتماعية والانسانية كحقل معرفي حيوي وفي نفس الوقت مهمل في أدبيات الفكر الإسلامي ويعبر عن هذا الاتجاه ويعمل له – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – بواشنطن الذي يمثل أحد المسارات التجديدية في مناهج التغيير الإسلامي.

* أوليات التجديد الثقافي في مناهج التغيير

قاعدة الأولويات من القواعد النسبية والمتغيرة حيث تخضع لطبيعة المرحلة ومكوناتها الذاتية والموضوعية وبالتالي لنوعية الحاجات والمتطلبات.. وبدقة تشخيص المرحلة، تكون الدقة في تحديد الأولويات.. واختلال الأولويات واحدة من المشكلات الخطيرة في مناهج التغيير الإسلامي والعمل الإسلامي لأن هذا الاختلال ينعكس على كل تفاصيل وجزئيات المنهج والخطة وأولويات التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي من وجهة نظري.

1-             بلورة وصياغة البدائل الإسلامية

في العقود الماضية كان الخطاب الإسلامي يبلور البدائل الإسلامية في إطار النظرية لرفع النفي وتأكيد الاثبات.. فأمام نفي الاتجاهات الفكرية الوضعية لوجود نظام اقتصادي في الإسلام كان الخطاب الإسلامي يرد على هذا النفي باثبات أن في الإسلام نظام اقتصادي في اطار النظرية.. وهكذا في نفي نظام الإدارة والحكم والدولة في الإسلام.. أما اليوم فالخطاب الإسلامي مطالب بأن يبلور البدائل الإسلامية في اطار التطبيق لأن المشروع الإسلامي اليوم على احتكام كبير بالواقع ومطالب بأن يقدم الحلول الناضجة والواقعية لمشكلات صعبة وخطيرة.. ففي الاقتصاد مثلاً ما هو البديل الإسلامي لحل مشكلة البطالة أو التضخم وتوزيع الثروة وحل مشكلة الفقر وتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وهكذا في المجالات الأخرى.

2-             تجديد مناهج التغيير الإسلامي

مناهج التغيير هي التي تمثل مسارات الجماعات وتستوعب فعالياتها وطاقاتها، وكلما كانت مناهج التغيير متقنة ومحكمة انعكس هذا الاتقان على تنظيم وحركة الفعاليات.. والنظرة التقويمية لمناهج التغيير الإسلامي تكشف عن وجود أزمة ومشكلات حقيقية في هذه المناهج ويعبر عن هذه الأزمة كنقد ذاتي الأستاذ راشد الغنوشي بقوله: - اننا اصبنا بعجز عن فهم واقعنا وعن ادراك سننه وقوانين تطوره الأمر الذي جعل حركتنا تراوح في كثير م الأحيان في مكانها لأنها لم تهتد إلى الطريق الأسلم وبالتالي كانت قدراتها على التخطيط محدودة. وهذا ما أفهمه من التخلف. ولا شك أن مسؤولية الفكر في هذا التخلف مسؤولية عظيمة ومعظم أمراضنا من هذا القبيل – (15).

والناظر بعمق لواقع الجماعات الإسلامية ومساراتها في العمل وأين وصلت يدرك الأزمة الواقعية في مناهج التغيير الإسلامي وضرورة نقد وتجديد وتطوير هذه المناهج وعلى قاعدة التجديد الثقافي والفكري.

3-             مسألة الحريات والحقوق

الحريات والحقوق من العناوين الكبرى والأساسية في الخطاب العالمي وتفرض نفسها بالحاح على الخطاب الإسلامي ، وتساؤلات كثيرة لمعرفة الرأي والتصور الإسلامي من قضية الحريات والحقوق.. والواقع المر في العالم الإسلامي لا ينفك يعيد انتاج هذه القضية ويطرحها باهتمام كبير وفي السنوات الأخيرة تنامى الاهتمام بقضايا الحريات والحقوق في مناهج التغيير الإسلامي وهذه خطوة حسنة بحاجة إلى تدعيم أكبر وإلى تأصيل معرفي معمق وتطبيقي..

4-             الاختلاف والعلاقات والحوار

من أهم جوانب النقد والذي لا يختلف عليه أحد، التمزق الخطير بين الجماعات الإسلامية، الذي يصل في بعض الحالات إلى الصراع بأدوات عنيفة كما حصل في أفغانستان وغيرها.. وفي أغلب الساحات الإسلامية وبشكل ظاهر نجد أن الخلاف والتمزق والصراع هو الذي يحكم العلاقات بين الجماعات الإسلامية وفي هذه الأوضاع الخطيرة والحساسة.. من هنام كانت الحاجة إلى تدعيم الحوار وأدب الأختلاف ومنطق التقارب وقيم التلاقي والتعاون. وهذه العناوين ينبغي أن تأخذ حضورها الأساسي في الخطاب الإسلامي وفي عملية التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي. ومن القضايا الأساسية التي بحاجة إلى معالجة حادة وموضوعية قضية المذهبية في العلاقات بين السنة والشيعة وبالذات بين الجماعات والحركات.

5-             الديموقراطية والتعددية والعلاقة بالآخر

ما من حوار وما ندوة وما من اجتماع وكتاب ودورية إلا ويطرح موضوع الإسلام والديموقراطية، والإسلام والتعددية، وهكذا العلاقة بالآخر. وكل التيارات والجماعات والنخب خارج المرجعية الإسلامية تطالب وبوضوح كيف يفهم الإسلاميون الديموقراطية وأين موقع التعددية في مشروعهم ونمط العلاقة بالآخر مما يؤكد ضرورة بلورة إجابات صريحة وتصورات واقعية من هذه المفاهيم.

والحقيقة أن هذه المفاهيم ما باتت غائبة في الخطاب الإسلامي وفي مناهج التغيير الإسلامي حيث الادراك والوعي بضرورة الالتفات العلمي والمعرفي لهذه المفاهيم. ونذكر هنا بندوة – التعددية الحزبية والطائفية والعرقية في العالم العربي – التي نظمها – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – بواشنطن بالتعاون مع وزارة الأوقاف في الكويت في الفترة ما بين 16 – 30 نوفمبر 1993م والتي كانت في الحقيقة محاولة جادة وواعية لقراءة التعددية من وجهة نظر إسلامية.

6-             العلاقة بالغرب

العلاقة بين الإسلام والغرب واحدة من القضايا الشائكة والمعقدة تاريخياً ومعرفياً وحضارياً وتستقطب الاهتمام بدرجة كبيرة وحساسة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى وعلى مستوى متقدم جداً ليس في الديار الإسلامية فحسب بل في أرفع مستويات المراكز والمستويات في الغرب.. وبين وقت وآخر تطالعنا الكتب والدوريات والاعلاميات بهذه القضية. وقد دخلت على هذه القضية عناصر جديدة ومعطيات هامة ترتبط بمستقبل الإسلام في الغرب(16).

وهذه القضية واحدة من القضايا الحضارية التي ترتبط بحاضر ومستقبل منهج التغيير الإسلامي.. ولا زالت هذه العلاقة بحاجة إلى معالجات معرفية وحضارية في خطاب التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي.

7-             اسلامية المعرفة

أعتقد أن الأطروحة الفكرية التي يتبناها – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – وعناوينها الأساسية – ( اسلامية العلوم الاجتماعية والانسانية، المنهجية الإسلامية، منهجية التعامل مع القرآن الكريم، منهجية التعامل مع السنة النبوية الشريفة، كيف نقرأ ونتعامل مع التراث الإسلامي في فكر المسلمين، كيف نتعامل مع التراث الإنساني وبالذات مع التراث الغربي) هذه العناوين تطرح القضايا الفكرية الكبرى في الفكر الإسلامي ، ومعالجتها يعني الارتقاء بمناهج التغيير الإسلامي نحو الآفاق الحضارية.

هذا هو اجتهادي في تحديد أولويات التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي.

وما هذه الندوة بهذا الموضوع إلا محاولة جادة في التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي ووسائله المعاصرة.

والله الموفق وهو المستعان

 

 

.........................

المصادر والمراجع

(1) الحركة الإسلامية وآفاق العمل الفكري. وكي الميلاد، بيروت، دار البيان العربي،ط1 ، 1993 ، ص 20 .

(2) الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج.. د.طه جابر العلواني، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1989 ، سلسلة المحاضرات (1) ، ص 11 .

(3) القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 60 .

(4) مستقبل العمل الإسلامي، الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية وأزمة الخليج. ندوة، أعداد أحمد بن يوسف، شيكاغو، المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، ط1، 1991 ، دراسات في الوعي السياسي والحركة الإسلامية(1)، ص 421 .

(5) وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي ، دمشق، دار الفكر، 1986 ، ص 49 .

(6) جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث، د. عبدالباسط محمد حسن، القاهرة، مكتبة وهبة.

(7) انظر كتاب – مشكلة الثقافة – و – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – و – شروط النهضة – و – وجهة العالم الإسلامي – لمالك نبي ، و – الإنسان والإسلام – لعلي شريعتي ، و – هكذا تكلم علي شريعتي – لفاضل رسول.

(8) انظر كتاب – تجديد التفكير الديني في الإسلام – لمحمد اقبال ، و – الأمة والإمامة – لعلي شريعتي.

(9) انظركتاب الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية – لأبي الحسن الندوي، و – الصراع الفكري في البلاد المستعمرة – لمالك بن نبي.

(10) انظر كتاب – نظام الإدارة والحكم في الاسلام – و – في الاجتماع السياسي الإسلامي محاولة تأصيل فقهي تاريخي – للشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهناك كتابات كثيرة في هذا الموضوع.

(11) انظر كتاب – الحريات العامة في الدولة الإسلامية – للأستاذ راشد الغنوشي.

(12) انظر كتاب – النظرة الإسلامية للعلاقات الدولية اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية – للدكتور عبدالحميد أبو سليمان.

(13) انظر كتاب – اسلامية المعرفة – الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

(14) انظر كتاب – اصلاح الفكر الإسلامي – للدكتور طه جابر العلواني.

(15) راجع كتاب – ندوة الحوار القومي الديني – الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وهذه الندوة انعقدت في القاهرة في الفترة ما بين 25-27 أيلول سبتمبر 1989 بتنظيم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وانظر أيضا كتاب – الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية أوراق في النقد الذاتي – إعداد د. عبدالله النفيسي ، وكتاب – تحولات الفكر والثقافة في الحركة الإسلامية – لكاتب هذه الورقة وكتاب – في النقد الذاتي ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية – للأستاذ خالص جلبي.

(16) انظر كتاب – الاسلام دين المستقبل – لرجاء غارودي. وكتاب – الإسلام كبديل – لمراد هوفمان.