شعار الموقع

منهج الاختلاف عند الاسلاميين بين الرؤية والموقف

محمد العلي 2006-06-20
عدد القراءات « 721 »

هذا بحث يحاول عبر المنهج التاريخي رسم صورة موضوعية لسبب الاختلافات عند المفكرين الإسلاميين. حيث يعيد هذه الاختلافات إلى منابعها المعرفية الدينية، والفلسفية كما يعيدها إلى اختلاف الرؤية عن الموقف، وتأثير كل منهما في الآخر.

* أولاً : ما هي الرؤية ؟

الرؤية لغوياً هي: المشاهدة بالبصر . ولكن مفهومها أخذ في الانزياح حين تعدت نطاق الحس إلى نطاق التصور، أي منذ عرفها ديكارت بأنها: ( عمل ذهني يقوم على قوة الحكم ).

غير أنه ليس بعيداً أن خروجها من عالم الحس إلى عالم المعقول، وإن استخدم حديثاً في الساحة الفكرية، إلا أنها انحدرت إلينا من التراث الصوفي، فقد اشتهرت عبارة من أحدهم تقول: (إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة).

ونحن نقصد بها هنا ما يرادف (التصور) في تعبير أحد المفكرين الإسلاميين المعاصرين (سيد قطب) أو ما يرادف (الأيديولوجيا) في تعبيرنا الحديث بصورة عامة.

أي أنها: منظومة من القيم والاعتقادات، تقوم على أساسها علاقة الإنسان بالله، وبالكون والحياة، كما تقوم على أساسها علاقة الإنسان بالنظام الاجتماعي الذي يعيش في ظله.

هنا نطرح السؤال المركب التالي:

هل الرؤية ظاهرة فردية، أم هي ظاهرة اجتماعية، أم هما معاً ؟ وإذا كانا معاً، فما هي حدود الفردية في فعل الرؤية، وما هي حدود الجماعية فيها ؟

المفكرون الاسلاميون قديماً وحديثاً لم يقفوا على هذا السؤال بتفرعاته وقوفاً فلسفياً طويلاً، بل قاربوا الوقوف عليه عند تفسير بعض الآيات الكريمة التي تشير إلى ذلك.

غير أن التفسير لطبيعته ( التجزيئية ) كما يعبر الإمام الصدر، أو لقصوره كما يعبر سيد قطب والدكتور حسن حنفي، لا يعطينا إجابة ناضجة حتى إجمالية عن هذا السؤال.

نعم هناك بعد آخر من أبعاد الإجابة عليه نلتقي به عند إجابتهم على سؤال آخر أكثر مباشرة منه هو :

ما هو سبب الظاهرة الدينية ؟

في تفسير الآية الكريمة ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. الخ ).

في تفسير هذه الآية يتفق الإمام الصدر، وصاحب تفسير الميزان وسيد قطب على قول ما يلي :

وينبىء عن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة، لا اختلاف بينهم، حتى نمت من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانات المتفاوتة، واتسعت آفاق النظر، وتنوعت التطلعات، فنشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس، فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ويردهم إلى وحدة الاجتماع (1).

مع اختلاف لا يمس المضمون في بعض المفردات يتفق هؤلاء المفكرون الثلاثة على أن سبب الظاهرة سبب اجتماعي لا فردي. إنه ( وضع موازين تضمن استمرار الوحدة البشرية بما تضع من تحديد الحق، وتجسيد العدل.

هنا ينطلق سؤال أرهف حداً من الأول هو :

كيف يقع الخلاف في الرؤية ؟ لماذا هذه الفرق الكثيرة التي يصل الصراع بينها في كثير من الأحيان، وعلى مر التاريخ.. إلى حد التناحر والتصفية الجسدية ؟

إن أي سؤال يحتفظ بتماسكه فترة من الزمن، فمعنى ذلك: أن الإجابة عليه لم تزل ناقصة. وهذا من ضمن الأسئلة التي احتفظت بتماسكها، ولا زالت طوال قرون.

جميع الذين كتبوا عن الفرق أجابوا على هذا السؤال اجابات يفترعها النقص من هنا، أو هناك، وبقي هو محتفظاً بكل نشاطه.

لقد أجاب عليه ( الشهرستاني) وهو من أبرز الذين كتبوا عن العقائد والفرق الاسلامية، أجاب بقوله :

(إن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوله) ويزيد الأمر إيضاحاً حين يذكر واقعة ذي الخويصرة التميمي، فيعقب بقوله: (أوليس ذلك قولاً بتحسين العقل وتقبيحه في مقابلة النص ؟) ثم يختم بقوله: (أعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص) (2).

إن هذه الإجابة الميتافيزيقية للشهرستاني تغفل التطور الاجتماعي، وتجعل الزمان والمكان ساكنين سكوناً مطلقاً، ومع ذلك فهو يعود في موضع آخر من كتابه ، فيناقض الأساس الذي ذكره ( وهو : أن التحسين والتقبيح العقليين هما المسؤولان عن الاختلاف ) يعود فيناقض هذا الأساس بقوله (إن شبهات هذه الأمة نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي ) وقد رد عليه أحد الكتاب الاسلاميين المعاصرين وهو الدكتور محمد علي الريان بغضب شديد(3).

بعض الباحثين القدماء، ومن أبرزهم: عبدالناصر البغدادي في ( الفرق بين الفرق ) والمقريزي في (الخطط) والغزالي في (المنقذ من الضلال) اتخذوا من حديث الافتراق إلى 73 فرقة أساساً لبحوثهم .

وقد كفانا مهمة الرد على هؤلاء الإمام ابن حزم حين قال: (قال أبو محمد: ذكروا حديثاً عن رسول الله - ص – أن القدرية، والمرجئة، مجوس هذه الأمة. وحديثاً آخر، تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار، حاشا واحدة فهي في الجنة.

قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به !! واحتجوا بالخبر الثابت: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بالكفر أحدهما)(4).

غير أن الإمام ابن حزم، وهو يدحض الأساس الذي أقام عليه بعض المؤلفين بناءهم، نراه يقع في كتابه الجليل (الفصل في الملل والأهواء والنحل) في نفس المأزق:

فهو يعيد الاختلاف إلى سبب اجتماعي يوضحه بقوله:

"قال أبو محمد : الأصل في خروج هذه الطوائف عن ديانة الاسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك (..) يعدون الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا يزوال الدولة منهم على يد العرب (...) تعاظمهم الأمر ، وراموا كيد الإسلام (...) فرأوا أن كيده على الخيانة أنجع"(5).

هذا التعليل يمتاز بأنه ليس تجريدياً، ليس افتراضاً، أنه مبني على طبيعة المجتعات، وبعض شواهد التاريخ، ولذلك كان تأثيره على من جاء بعد ابن حزم تأثيرا ساحقاً منذ القرن الخامس حتى الآن.

غير أنه تعليل ذو بعد واحد فهو بالإضافة إلى أنه يعلل الظاهرة من خارجها، وليست هناك ظاهرة اجتماعية لا تحمل قوانينها داخلها أساساً ، بالإضافة إلى هذا نراه يغض عينيه عن تأثير الأمم الأخرى التي دخلت في الاسلام، وهي كلها ذات تاريخ عريق كما غض عينيه عن الجانب الإيجابي في التأثير الفارسي.

لقد اندفع الكاتب الاسلامي المعاصر فهمي هويدي بحماسة جامحة وهو يرد على هذا النوع من التعليل حين قال:

"عندما ثار الفرس على العهد الأموي لم يثوروا من عصبية فارسية، بل ثاروا من الظلم، وطلباً للعدل، لذا كتبوا على رايتهم: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير).

ثم راح بنفس الحماسة يوضح الجانب الإيجابي ويقول:

إن ( أصحاب كتب الصحاح الستة جميعاً من إيران، بينما اثنان من أئمة المذاهب الأربعة من خراسان بالذات، وهما : أبو حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل)(6).

إن ابن حزم وهويدي كليهما قد نظر إلى هذه المسألة رغم واقعيتها، وتاريخيتها، من زاوية ايديولوجية، لذلك رأينا السلب وحده من جانب، والإيجاب وحده من جانب آخر.

على الرغم من أن ابن القيم ينطلق من الأساس الذي حاول الإمام ابن حزم هدمه، وهو حديث (افتراق الأمة) إلا أنه يتقدم بتعليل شامل في جميع الأديان والأيدلوجيات فيقول:

( سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة حتى دخلها التأويل.. ) ويضيف بعد كلام طويل: (.. وإنما دخل أعداء الإسلام من المتناسنة، والقرامطة، والباطنية والإسماعيلية من باب التأويل)(7).

هذا التعليل الذي نجد جذره في تعليل ابن حزم يفتح أمامنا باباً واسعاً هو: مسألة (التأويل) الذي تركه ابن القيم بدون تحديد.

التأويل كلمة وردت في القرآن الكريم أكثر من مرة، وجذرها اللغوي معروف. وأول من حذر منها عملياً، بعد القرآن الكريم، هو الخليفة عمر بن الخطاب، حسب الرواية التالية:

جاء في العقد الفريد:

(كان عبدالله بن عباس من أحب الناس إلى عمر، وكان يقدمه على أكابر الصحابة، ولم يستعمله قط، فقال له يوماً: كدت استعملك ولكني أخشى أن تستحل الفيء على التأويل. فلما صار الأمر لعلي استعمله على البصرة فاستحل الفيء على التأويل)(8).

وهو هنا يطرح كلمة التأويل، وقد استخدمت كسلاح للوصول إلى هدف آخر. ومن هنا تبدو خطورة هذه الكلمة.

فما هو التأويل ؟

وهل يمكن أن تقوم رؤية بدون تأويل ؟

وإذا لم يمكن فما هي حدوده ؟

التأويل هو : ( .. صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله.. ) إذن: استنطاق النص، إيصاله إلى دلالة أخرى غير دلالته الظاهرة، هو الأساس الذي يقوم عليه تعريف الجرجاني هذا (9).

لماذا التأويل ؟

وما هي حدودة ؟

منذ تحولت كلمة تأويل من كلمة مفردة إلى (اصطلاح) معرفي، على يد المتكلمين الأوائل، ثم بلغت مداها على يد بعض المعتزلة.. وحتى وقتنا الحاضر، لم يجد هذان السؤالان جواباً كاملاً، بل إننا نجد غابة من الآراء المتضاربة، ولنضرب مثالين على ذلك من القديم والحديث:

1- في كتابه الجليل ( درء تعارض العقل والنقل ) يقول ابن تيمية:

"قال أبو حامد (..) زاد الفلاسفة، فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية روحانية، ولذات عقلية.. إلى أن قال : وهؤلاء هم المسرفون في التأويل. وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع.. "

"قلت: وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات"(10).

التأويل الذي يراه أبو حامد الغزالي ضرورياً، ولا يطلع عليه إلا الموفقون يراه ابن تيمية أصلاً من أصول الإلحاد.

وهكذا نجد هذا التناقض في كل الآراء القديمة حول التأويل وأهدافه.

2- المثال الحديث :

الميزان في تفسير القرآن نجد في أجزائه الكثيرة وبخاصة الثاني والثالث آراء كثيرة في (التأويل) تحتمل آراء متعددة.

فهو تارة يلتقي مع ابن القيم في أن الأساس الاختلاف هو التأويل واتباع المتشابه دون الرجوع إلى المحكم لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

وتارة يقول: ".. إن وراء ما نقرأه من القرآن أمراً هو منزلة الروح من الجسد (..) ليس من سننه الألفاظ المغرقة المقطعة، ولا المعاني المدلول عليها بها. وهذا بعينه هو التأويل".

وثالثة يقول :

(التأويل ليس المعاني المرادة باللفظ، بل هو المعنى العيني الذي يعتمد عليه الكلام)(11).

المعنى الثالث هذا طرحه بحماس شديد، وهو يعني : إعادة المفاهيم إلى الواقع، أي : إعادة الماهية إلى الوجود بالتعبير الفلسفي. غير أن هذا يستند أساساً إلى النظرية الحسية في المعرفة.

التأويل في ميدان النقد الحديث يعني: ( ما ينقله القارىء إلى النص ) أي أنه يدخل المستوى المعرفي، والزمان والمكان.. في توليد الدلالة من النص صريحة أو ضمنية.

وهذا ما يمكن لمس ملمح من ملامحه في قول أبي حيان التوحيدي قديماً ، وهو يعدد أنواع البلاغة، يقول :

"البلاغة ضروب: فمنها بلاغة الشعر، ومنها بلاغة الخطابة، ومنها بلاغة العقل، ومنها بلاغة التأويل" ويضيف :

".. وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج، لغموضها، إلى التدبر والتصفح. وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة، كثيرة، نافعة، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار المعاني، معاني الدنيا والدين)(12).

حين نغادر هذا عائدين إلى مسألتنا المحورية وهي : كيف يحدف الخلاف في الرؤية ؟

نجد ابن خلدون يقول :

" وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل.. المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم "(13).

هذا التعليل الجارح الذي يعيد جذور الاختلاف إلى الغفلة، والجهل ( بطبائع الكائنات) نجده أكثر إيلاماً عند الجاحظ الذي يقول عن أصحاب الحديث :

" .. وليس هؤلاء ممن يفهم تأويل الأحاديث، وأي ضرب منها يكون مردوداً متأولاً، وأي ضرب منها يقال إنما هو حكاية عن بعض القبائل، ولذلك أقول : لو لا كان المتكلمين لهلكت العوام، واختطفت، واسترقت، ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون "(14).

في العصر الحديث، ابتداءاً من عصر النهضة ( تكسرت النصال على النصال ) لقد راح المفكرون الإسلاميون، والمفكرون التراثيون يضعون الأجوبة تلو الأجوبة على نفس السؤال.

فمنذ الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وحسين عبدالرازق مروراً بعشرات غيرهم، إلى طه حسين وسيد قطب ومحمد قطب وحسين مروة ومحمد عمارة، ومحمد عابد الجابري، إلى بعض المستشرقين.

كل هؤلاء على اختلاف بناءاتهم المعرفية، واختلاف أهدافهم، قدموا أجوبة تختلف جذرياً، أو قليلاً عن أجوبة المتقدمين الذين عرضنا بعض آرائهم.

هذا الاختلاف الجذري، أو الاختلاف القليل، يتمثل في أن معظم هؤلاء قد التمسوا تعليلهم من الواقع الاجتماعي، وقد تمكنوا من الوصول إلى ذلك لأنهم لم يصدروا من فكرة جاهزة، لقد كانوا يمتازون، أو بعضهم على الأقل، بنظرة موضوعية إلى موضوع بحثهم، في حين كان المفكر القديم يأتي إلى موضوع بحثه والفكرة تسبقه إليه، لذلك لا يمكن إلا أن يكون ذاتياً وإذا أصبح الباحث ذاتياً أفلت الموضوع من يديه.

لماذا ؟

لأنه : ليس بالرغبة الذاتية يكون الشيء حقيقة أو لا يكون. ولا بطلاقة البيان أو الخيال، إن الحقيقة موضوعية لا ذاتية.

لقد كان بودي استعراض أهم آراء هؤلاء حتى نتعرف على ما فيها من نقاط القوة أو الضعف، ولكن هذا البحث محدود بزمن لا يمكن أن يتسع لمثل هذا الطموح.

كان السؤال هو : كيف ينشأ الاختلاف في الرؤية ؟ وقد شاهدنا غابة كثيفة من الأجوبة عليه. فماذا لو طرحنا نفس السؤال بصيغة أكثر تعقيداً. ماذا لو طرحناه هكذا ؟

كيف يجري التفكير الفلسفي في الرؤية ؟

قبل الخوض في الإجابة على هذه الصياغة الجديدة، وحتى نصل إلى ما فيها من عمق وخطورة لا بد من سلوك ذهني متدرج عبر خطوات، أو لا بد من رسم الصورة جزءاً فجزءاً.. ولنرسمها هكذا :

1- ما هو الاعتقاد ؟

في سياق نظرية المعرفة يعرف الاعتقاد بأنه: " أي فكرة تسيطر على إنسان ما ، بحيث يهتم بها، وتدفعه إلى السلوك وفقاً لها، وقد لا يستطيع تفسيرها، أو تفسير اعتقاده بها"(15).

هذا التعريف النفسي يفتح أمامنا نوافذ كثرة الأولى: أن الفكر العقدية تملك السيطرة على معتنقها. الثانية: أن هذه السيطرة دافعة إلى السلوك. أما النافذة الثالثة : وهي أكثرها اتساعاً، فهي أن الفكرة قد لا يستطيع معتنقها تفسيراً لها.

النافذة الثالثة هذه تضع علينا سؤالاً يجب أن نواجهه بقدمين ثابتتين، وهو: هل الاعتقاد معرفة ؟

أول من تصدى للإجابة على هذا السؤال هو: أفلاطون، وعنده أن الاعتقاد ليس معرفة، لأنه قد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً والمعرفة لا تكون إلا صادقة. وإذن فالاعتقاد ليس معرفة.

لن يغير من الأمر شيئاً أن نوافق أفلاطون، أو نخالفه، لأن الواقع التاريخي يضرب لنا الأمثال على أن أكثر المعتقدات قبل الإسلام، ومن بعده هي عقائد كاذبة. ثم إننا هنا نتكلم عن الانشطار ضمن الرؤية الواحدة، وإذن لنطرح السؤال بصيغة أخرى بعيدة عن مجال الصدق والكذب، ولتكن هكذا :

هل الاعتقاد إرادي ؟

الرواقية ، وهي إحدى المدارس الفلسفية القديمة، طرحت تشبيه العقل باليد (.. فإذا كانت مفتوحة حصل التصور، وإذا أمسكنا بالشيء إمساكاً بسيطاً حصل الرأي، وإذا قبضت عليه بقوة حصل الاعتقاد، وإذا قبضت عليه بقوة، واستعانت باليد الأخرى على قبضه حصل اليقين. وهذا كله فعل إرادي)(16).

هذا التشبيه الرواقي الجميل شطر الفكر الفلسفي قديماً وحديثاً إلى رأيين: فهناك من يرى أن الاعتقاد فعل عقلي، وهناك من يرى أنه فعل إرادي.

والمقصود بالإرادة هنا معناها الفلسفي،وهو : ذلك النزوع المرتبط بالعاطفة، أي ما حدده الفيلسوف البرغماتي وليم جيمس حين أطلق مصطلح (إرادة الاعتقاد) ويعني به: "التسليم باعتقادات لا يستطيع العقل أن يبرهن على صدقها، ولكنه يقبلها مع ذلك لعدم تناقضها لديه"

إن نظرة واحدة على الواقع، وعلى التاريخ، توضح أن الرأي الثاني هو الأكثر صواباً، ذلك لأن :

"المقلدين جميعاً، في كل زمان ومكان، ومن جميع الأديان والايديولوجيات.. لم يصلوا إلى اعتقادهم عن طريق العقل، بل عن طريق العاطفة، إن أكثر الناس يساقون إلى الفعل بعواطفهم، ورغائبهم ومنافعهم، لا بأفكارهم وعقولهم"(17).

يقول بعض الفلاسفة :

(نحن لا نريد ما نتيقن، بل نتيقن ما نريد).

ويقول الشيخ محمد عبده: ( أكثرهم يعتقد فيستدل، وقلما نجد منهم من يستدل ليعتقد).

2- بحث الانسان منفرداً :

هذا هو الجزء الثاني من الصورة التي نحاول رسمها. ويبدأ بالتعرف على أكبر خطأ وقع فيه علم النفس، ولا يزال وهو: أنه بحث الإنسان منفرداً.

الإنسان كائن اجتماعي.

هذا أحد تعريفات الإنسان. ومعنى بحثه منفرداً يطرح نتائج تجريدية، لا صلة لها بالحقيقة، لأنها تخلو من البحث عن تأثير الاجتماع فيه، فتجرده من الشروط الموضوعية الاجتماعية لكل فعالياته الجسمية والروحية.

"الحياة الاجتماعية ليست موجوداً مادياً مؤلفاً من أجسام الأفراد، وإنما هي فضلاً عن ذلك، موجود معنوي مؤلف من الأفكار والاعتقادات والآراء والعواطف المشتركة، فهي إذن مجموع ظواهر نفسية إلا أنها مشتركة"(18).

المجتمع لا يعني فلسفياً مجموع الأفراد، بل يعني ما بينهم من علاقات. وهذا لا يحتاج إلى برهنة، فالمجتمع اللغوي وحده بسياقاته الذهنية والعاطفية، وما يوصله لمتلقيه من خبرات الماضين وقيمهم.. المعجم هذا يغرس في وجدان متلقيه نوعاً من الرؤية (فكأن لكل لغة مذهباً في الوجود والعالم)، إن علاقة الفكر باللغة أصبحت من الأمور البدهية، مثل بداهة أن اللغة ظاهرة اجتماعية.

وإذن، فكون الانسان اجتماعياً، يضيف احتمالات هائلة إلى أن التصورات العقدية غالباً ما تكون فعلاً اجتماعياً بكل منزلقاته، ونوازعه وصراعاته التي لا علاقة لها بالفعل العقلي، بل بالعقل الجمعي، ولهذا ظهر أخيراً مفهوم (المدلول الاجتماعي للنص) وهو مفهوم حديث يدل على فهم الفقهاء الذين طرحوه للحركة الاجتماعية فهماً عميقاً.

نمو ا لمعرفة :

هذا هو الجزء الثالث من أجزاء الصورة ، ولأنه دقيق ومثير للجدل أمهد له بما يلي :

"يؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض، فكل معرفة تتولد من معرفة سابقة، وهكذا.. حتى ينتهي التسلسل إلى المعارف الأولية العقلية التي لم تنشأ من معارف سابقة، وتعتبر لهذا السبب العلل الأولى للمعرفة.

إذا نقلنا هذا الكلام من سير الفكر البشري ككل إلى سيره في ميدان الرؤية فماذا ينتج عن ذلك ؟

ينتج أن نمو المعرفة، وهو من ضرورات الاجتماع البشري، هذا النمو قد يكون خاطئاً، لأن أساسه خاطىء وليس بالضرورة وصوله تراكمياً إلى المعارف العقلية الأولية.

ما الذي يضيفه هذا ؟

يضيف أن بعض البناءات الهرمية في محيط الرؤية ما هي إلا تصورات تجريدية خاطئة.

بعد رسم أجزاء الصورة وهي : ( طبيعة الاعتقاد، وطبيعة الانسان الاجتماعية، وطبيعة نمو المعرفة ) تكتمل أمامنا بصورة ناصعة النتيجة التالية:

ان الاختلاف أمر تكويني، تقتضيه طبيعة الانسان الاجتماعية التي تتخذ من العقيدة – أحياناً – سلاحاً من أسلحة الدفاع عن الذات، وعن مصالحها، وحتى أهوائها.

غير أن الاختلاف له جانبان: جانب إيجابي مضيء ، وهو البحث الدائم عن الحقيقة، ومحاولة الوصول إليها، وجانب سلبي معتم، وهو نفي الآخر.

وهنا يجب طرح السؤال التالي:

كيف نجعل الاختلاف إيجابياً ؟

سؤال كثيراً ما سمعنا الإجابات عليه، إجابات متشابهة. إنه يغري بالإنشاء، ولذلك انهمرت سحب الكلمات المتتابعة، والمتقاطعة طوال تاريخنا، ومن كل الطوائف، تدعو إلى الجماعة، ونبذ الفرقة، ويوماً فيوماً يزداد الداعون أنفسهم ابتعاداً عن بعضهم البعض.

لماذا ؟

لأن المسألة بقيت مبارزة إنشائية لا يمكن أن تصيب هدفاً. إن المسألة لا بد أن تطرح طرحاً آخر. لا بد أن تبحث فلسفياً إذا أريد لها أن تصل إلى حل.

أعيد السؤال :

كيف نجعل الاختلال إيجابياً ؟

وأجيب على الفور :

"إن الخروج من ساحة الصراع النظري يستدعي إعادة النظر، لا في تصورات الآخر، بل في تصورات الذات أولاً وقبل كل شيء"(19).

هذه القاعدة لا نجد لها صدى عند أي من الفرق، أو الطوائف الإسلامية على مر العصور، فكل فرقة تخوض في تصورات الفرق الأخرى بسيف يقيني مسلول مسبقاً، هو : أنها على حق والفرق الأخرى على باطل.

يقول أحد المفكرين النفسيين:

"إن الحاجة إلى امتحان الاعتقاد لا تتولد تلقائياً لسببين:أولاً – لأن الأفكار لا تتولد إلا لأسباب عملية. الثاني – أن الفرد يميل بطبعه إلى الاعتقاد، ولا تتولد الحاجة إلى امتحان هذا الاعتقاد إلا إذا اصطدمت أفكاره مع أفكار الآخرين".

هل يكون كلام هذا المفكر صحيحاً حين ننظر إليه من خلال معرفتنا للفرق الإسلامية ؟

لا أبداً..

فالأسباب العملية لتوالد الأفكار بين الطوائف كانت على أشدها، كما أن تصادم الأفكار هو الآخر كانت أصداؤه تسمع من مسافات بعيدة، لا بين الفرق العقدية وحسب، بل على صعيد الفكر والفلسفة والأدب والفن.

ولكن كلام هذا المفكر يقرر إحدى الحقائق النفسية، إنه صادق، فلماذا إذن لا ينطبق علينا؟

الجواب يقدمه لنا التاريخ :

فليست هناك فرقة لم تقمع، ولم تطارد. الفرق هو في النسبة وحسب، فهناك فرق طوردت وقمعت لفترة، وهناك فرق طوردت حتى أبيدت في وكتبها مثل المعتزلة، وهناك فرق استمرت على الرغم من القمع الدائم لها.

ويكفي أن نلقي نظرة على سيرة أئمة المذاهب، لنجد أن أباحنيفة مات في السجن، ومالك وأحمد ضربا بالسياط، والصادق سيرته معروفة. لقد كان أسعدهم حظاً الشافعي الذي نجا من الموت بعد أن عفا عنه الرشيد.

أما المفكرون الاسلاميون على مر العصور فلم ينج منهم إلا وعاظ السلاطين، ويكفي أن نتذكر سيرة ابن حزم وابن تيمية، أو نتذكر كيف مات الصدر والمطهري.

يقول المقريزي :

"وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الأشعري، فاستمر الحال عليها بديار مصر، وبلاد الشام، وأرض الحجاز، واليمن (...) حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، وبحيث أن من خالفه ضرب عنقه"(20).

هذا مثل واحد فقط من أمثلة التاريخ، مثل يقول: ( إن من خالف ضربت عنقه ).

إن هذا الوضع التاريخي وهو المطاردة المستمرة والدموية للفكر، ولأهله ماذا يولد يا ترى ؟ يولد أول ما يولد ( التعصب ) كوسيلة للدفاع عن النفس.

ما هو التعصب ؟

يقول القاموس النفسي:

"التعصب عبارة عن اتجاه نفسي موجب أو سالب، يجعل الشخص يقف موقفاً معارضاً، أو مؤازراً لفكرة أو موضوع معين، دون أن يكون ذلك مبنياً على دليل منطقي، بحيث يكون ذلك مصحوباً بشحنة انفعالية تحول بين الفرد وبين السلوك السليم.

ويؤدي التعصب إلى عزل الأفراد، والجماعات المتعارضة وإلى إقامة الحدود الفاصلة بينهم، كما يؤدي إلى التهديد،والخوف والصراع والسلوك العدواني"(21).

وقديماً وقبل نشوء علم النفس وصف الغزالي هذا التعصب فقال :

"أما اتباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى، وإن أردت أن تجرب هذا في الاعتقادات، فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جليلة، فيسارع إلى قبولها. فلو قلت له: إنه مذهب الأشعري لنفر ، وامتنع عن القبول. وانقلب مكذباً بعين ما صدق به، لما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمراً معقولاً عند العامي الأشعري، ثم تقول له: إن هذا قول المعتزلي، فينفر من قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب.

ولست أقول: هذا طبع العوام، بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العام، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل(..) فيضعون الاعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً، وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه"(22).

نقلت هذا النص على طوله لأبي حامد الغزالي للتأكيد على أن : ألذع ثمار التعصب مرارة، وأسرع معاوله هدماً.. هي: الرؤية الايديولوجية للوقائع والتاريخ، بدلاً من الرؤية الموضوعية. إن اللحظة الغائبة في سلوكنا الفكري "هي اللحظة المعرفية بأداتها التي هي التحليل الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية"(23).

ومن العجب الفادح أن السيوف القديمة لا تزال بأيدينا، على الرغم من أن الدهر قد أتى عليها تثليماً. وإذا كان السبب واضحاً في الأزمنة القديمة، وهو القمع والمطاردة، وادعاء امتلاك الحقيقة.. فما هو السبب الآن، وقد أخذت الرماح التي توجه إلى الآخر في الإبطاء إلى حد ما !!

وعجب آخر، يصل إلى حد الذهول، حين يقرأ الانسان ما أنتجته بعض الفرق من تناسل الأفكار، والنضج في الإبداع، بل وحتى على نطاق الأفراد. فمن لا تأسره الدهشة وهو يقرأ قديماً كتاب (درء تعارض العقل والنقل) لابن تيمية، وينظر ما فيه من خصب تناسل الأفكار، أو يقرأ كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء للإمام الرائد الصدر، ولا يصرعه العجب، حين ينظر إلى هذا الجهد الهائل، فيراه قد اقتصر على جانب من جوانب التفكير هو : الجانب الابتكاري، أما الجانب النقدي للذات فلا يجد له أثراً على الإطلاق.

إن التفكير واقعي وذاتي

تلك حقيقة علمية، غير أن التفكير الذاتي له جانبان: "جانب إيجابي وآخر سلبي، فالايجابي يمثل عنصر الابتكار وبدونه لا يستطيع أحد الخروج من إطاره المعرفي إلى أرحب منه. أما الجانب السلبي من التفكير فهو : أن ينغمس الفرد فيه منفصلاً عن الواقع، ويرفض كل ما لا يؤكد أفكاره، أو يسايرها"(24).

بحثنا هذا يدور حول (الفرق بين الرؤية والموقف) وقد أخذتنا الرؤية حتى كاد الزمام يفلت من أيدينا، وعلينا الآن الوقوف على الجانب الثاني وهو الأكثر أهمية وعمقاً.

* ثانياً – ما هو الموقف ؟

يطلق الموقف لغوياً على : وضع الموجود بالقياس إلى ما يحيط به من الشروط الواقعية، أي أنه هو: الموقع يقف فيه شاخص ما. أما في علم النفس الاجتماعي بالموقف هو:

وضع الكائن الانساني من حيث تفاعله في وقت من الأوقات مع بيئته الاجتماعية والطبيعية والفكرية.

هنا نقف عند أول زاوية من زوايا الفرق بين الرؤية، والموقف. فالرؤية حسب التحديد السابق، هي: مرجع معرفي. إنها بناء قائم بذاته، قبل أي موقف وخارج أي موقف، بل هي معطى ليس للانسان تدخل في بنائه، لأنه منفصل عن الزمان والمكان.

أما الموقف فهو: تفاعل آني، أي أنه: وليد الزمان والمكان، أي: وليد الظروف الموضوعية، تدخل في بنائه إرادة الإنسان، وأشواقه ومدى تقديره واستجابته للظروف.

هذه أول زاوية، أما الزاوية الثانية، والأهم فهي ما يطرحه السؤال التالي:

هل الرؤية بناء ذهني مجرد، أو تصورات اعتقادية قائمة في الوجدان، تتسع وتضيق حسب اتساع وضيق الأفق الذهني لهذا الفرد أو ذلك، أو حسب قناعة هذا الفرد أو ذلك ؟

أم أن هذه المنظومة من التصورات والاعتقادات لا بد أن تتحول إلى سلوك ؟ وهي حين تتحول إلى سلوك لا بد من التقائها، واصطدامها بالموقف، لأن الموقف ما هو إلا سلوك متفاعل مع الظروف الموضوعية.

حين نأخذ بالجانب الوجداني الأول من الأسئلة، أي أن الرؤية بناء من القيم، والاعتقادات والإذعان الوجداني وحسب، تبقى المسألة مسألة تجريدية، يستوي فيها كل الأفراد: الجبان والشجاع ، الصادق والكاذب ، والسوي وغير السوي ، إنها العودة إلى ( الإرجاء ) .

أما حين نتحول إلى الجانب الآخر من الأسئلة، وهو: لابدية تحول الرؤية إلى سلوك. فهنا نصل إلى غابة من التعقيدات.

أهم هذه التعقيدات:

تحول المطلق إلى نسبي، واللازماني إلى زماني،والوجدان إلى حركة في محيط اجتماعي متغير دوماً.

إن الرؤية الايديولوجية تتصف ( بالثبات ) ولذلك تتسم جميع الايديولوجيات (الوضعية) بالسمات التالية :

1- أنها تتخلف دائماً عن الواقع.

2- أنها تقمع النشاط الفكري.

3- أنها تقوم على أحكام مسبقة.

والرؤية (الاعتقادية) وإن كانت ليست قريبة من هذه الاتهامات، إلا أنها ذات ثبات مطلق. وإذن كيف السبيل لتحولها إلى سلوك يستجيب للظروف الموضوعية ؟ أي تحولها إلى موقف دون أن يعيق أحدهما الآخر، فلا الرؤية تعيق سلامة الموقف، أو يعيق الموقف سلامة الرؤية ؟

السؤال هذا رهيب :

وتتضح رهبته من أن جميع الاختلافات، داخل أي رؤية وحول أي ايديولوجية، قديماً وحديثاً نشأت من هذا السؤال: كيف تتم العلاقة بين الرؤية والموقف. دون أن يهدم أي منهما الآخر ؟

زيادة في الإيضاح لنضرب بعض الأمثلة:

1- جاء في الكامل لابن الأثير ما يلي:

"قال عبدالله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله مقاماً كدنا نهلك فيه، لولا أن الله من علينا بأبي بكر. أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاض، وابنة لبون، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم"(25).

ويضيف الشهرستاني بعد أن يذكر أن الخلاف حول حرب الردة هو الخلاف السابع في الاسلام، يضيف قائلاً :

"وقد أدى إجتهاد عمر في أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم، وإطلاق المحبوسين منهم، والإفراج عن أسراهم".

فيما ذكر ابن الأثير والشهرستاني نلاحظ ثلاثة أشياء :

1- أن هناك إجماعاً من الصحابة على عدم القتال ما عدا أبا بكر .

2- أنه حين قرر أبو بكر القتال دخل الصحابة طاعته .

3- أن اجتهاد عمر أدى إلى رفع العقوبة عنهم .

هنا يأتي السؤال :

هل الاختلاف هنا اختلاف في الرؤية، أم اختلاف في الموقف؟ لا شك في أن الصحابة جميعاً يؤمنون بالاسلام إيماناً كاملاً، ومطلقاً، إن الاختلاف هنا في الموقف. ولكن ما هو مدى اتفاق الرؤية مع الموقف هنا ؟؟

2- يقول التاريخ :

حين نفي أبو ذر إلى الزبذة كان في وداعه إلى ظهر المدينة ثلاثة هم : الإمام علي والحسن والحسين.

علي والحسن والحسين لا يحتاجون إلى تعريف (فصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً) أما أبوذر فهو : من الذين نبذوا عبادة الأصنام قبل البعثة النبوية، وبالتحديد قبلها بثلاث سنوات، حتى سماه قومه (الصابىء) وكان رابع، أو خامس من أسلم، وقد ساواه الخليفة عمر بن الخطاب بمن شهد بدراً، اعترافاً بفضله، في حين أنه لم يشهدها، وقد قال فيه الرسول قولاً مشهوراً(26) وفي (نهج البلاغة) كلام رائع قاله الإمام له أثناء وداعه.

هنا يأتي السؤال :

هل تختلف رؤية أبي ذر الاعتقادية عن رؤية الإمام علي ؟ الإجابة: لا حتماً. فرؤية أبي ذر مستمدة من رؤية علي : ولكن هل موقف أبي ذر هو موقف علي ؟ الإجابة لا. بالضرورة، إذن يأتي السؤال الآخر: ما هو مدى انسجام الموقفين مع الرؤية ؟

3- يروي نهج البلاغة من وصية الإمام علي ، وهو على فراش الموت ، ما يلي :

" .. لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل، فأصابه".

تفسيره أن الخوارج خلطوا الرؤية بالموقف، والموقف بالرؤية، ومن يقوم بمثل هذا السلوك ليس بعيداً عن العودة إلى الصواب والتفريق بينهما، وإن كان هذا لم يحدث.

هذه الأمثلة البسيطة من التاريخ، وقد تركنا عشرات أمثالها، توضح بكفاءة ان ارتباط الرؤية العقائدية بالموقف،وارتباطه بها، منزلق خطير، يؤدي – أحياناً إلى هدم أحدهما للآخر.

وكما يجري هدم العلاقة بين الرؤية والموقف.. يجري كذلك خلط كبير بين إضفاء الرؤية الصحيحة على الموقف الخاطىء، وإضفاء الموقف الصحيح على الرؤية الخاطئة.

ما تقدم من استعراض بعض الزوايا والأمثلة يوضح لنا الخطورة الهائلة في تقييم ارتباط الرؤية الاعتقادية بالموقف، وانفصامها عنه. ذلك خطير بلا شك، ولكن الأخطر منه هو السؤال التالي :

"هل نفهم الواقع بالنص، أم نفهم النص بالواقع. أي : هل نفهم الموقف من الرؤية، أم نتفهم الرؤية من الموقف ؟ هل يمكن التنظير المباشر للواقع دون النص، وهل يمكن أن يوجد نص بدون واقع".

هذه الأسئلة في غاية الخطورة. لأننا حين نقول: إن الرؤية لا بد أن تستجيب للموقف ننزع عنها حينئذ صفة الثبات، وصفة الشمول، وهما صفتان لا بد منهما في كل رؤية اعتقادية صادقة.

وحين نقول : إن الموقف لا بد أن يستجيب للرؤية ننزع عنه أهم شروطه الموضوعية، وهو: الآنية، والتطور. وهما صفتان لازمتان لأي موقف سوي.

إذن : كيف الخروج من هذا المأزق ؟

سأستعرض هنا إجابتين اثنتين :

1- في كتابه (الاسلام يقود الحياة) يقول الإمام الصدر : هناك ".. أحكام منصوصة في الكتاب والسنة، تتجه كلها نحو هدف واحد مشترك، على نحو يبدي اهتمام الشارع بذلك الهدف. فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشراً ثابتاً. وقد يتطلب الحفاظ عليه وضع عناصر متحركة، لكي يضمن بقاء الهدف، أو السير إلى ذروته الممكنة".

2- في كتابه (خصائص التصور الاسلامي) يقول الداعية سيد قطب : "وهو (التصور الاسلامي) تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره وترتقي في إدراكه، وفي الاستجابة له".

الفرق بين الإجابتين يكاد يلمس باليد، لا بالذهن وحسب، فالسيد قطب قد اقفل أي إمكانية لتحرك الرؤية. إنها ثابتة بشكل مطلق، وعلى الموقف أن يتكيف للوصول إليها. إن الزمن هنا واقف, أو هو معدوم.

أما الصدر فقد وضع الهدف الذي تسعى إليه الرؤية مقياساً لها، وبالتالي مقياساً للموقف أيضاً.

ما يقوله السيد الصدر حين ننزع عنه لغته الحديثة، وطابعه الفلسفي نجد مضمونه عند ابن القيم، فهو يقول في كتابه ( أعلام الموقعين) :

" .. إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت إمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرح الله ودينه ورضاه وأمره (...) فأي طريق استخرج بها الحق، ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها.." (27).

هذان النصان للصدر وابن القيم، اللذان يؤكدان: أن المحور الثابت في الرؤية هو : تجسيد العدل، أو تحقيق (المصلحة) ومن ثم فهما مصباحان يضيئان سلامة الموقف..

هذان النصان يزجان بنا في (ثنائية) من تلك الثنائيات التي اندلعت كاللهب في الفكر العربي الاسلامي، وهي ثنائية:

الرأي والحديث.

أو الاجتهاد والنص.

لقد كتب الباحث القدير أحمد أمين كتابه (فجر الاسلام وضحاه) صفحات عديدة حول هذا الموضوع، حيث اعتبر الرأي والحديث (مدرستين) لكل مدرسة روادها ومنظورها.

واعتبر هذا الباحث، الخليفة عمر قائداً لمدرسة الرأي، معدداً بعض المواقف التي كان يجتهد فيها، ويحكم رأيه، لا مع غياب النص وحسب، بل ومع وجود النص، مثل: عام الرمادة حيث أوقف حد السرقة، ولم يأحذ الصدقة، ومثل: إيقاف مصرف من مصارف الزكاة، وهو ما للمؤلفة قلوبهم، وغيرها. (إذ كان يجتهد لتعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث)(28).

وقد أوضح محمد عمارة في كتابه ( مسلمون ثوار ) الأسباب وراء هذه الاجتهادات للخليفة عمر. وكلها تدور حول: أن الموقف يحقق الشيء الثابت في الرؤية وهو (المصلحة).

أما الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين في كتابه (النص والاجتهاد) فقد خاض في تعداد هذه المواقف خوضاً مسهباً، وبأسلوب جدلي مشرق، يخالف في نتيجته كثيراً من الآراء التي عرضها محمد عمارة بحماس بالغ.

وقد امتدت مدرسة الرأي عبر عبد بن مسعود، حيث ازدهرت في العراق على يد أبي حنيفة النعمان، وحيث نجد لها منظرين هنا، وهناك.

يقول الشهرستاني: " والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى.. علم قطعاً أن الاجتهاد (..) واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادث اجتهاد "(29).

ونجد هذا النص من قبل الشهرستاني عند الغزالي، ويكاد يكون بنفس الألفاظ، في كتابه (المنقذ من الضلال).

كما نجد التأكيد على (المصلحة) عند نجم الدين الطوني، وبعده ابن القيم الذي كتب فصلاً طويلاً في كتابه (اعلام الموقعين) بعنوان (في تغير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد).

وبعدهما عند أبي اسحاق الشاطبي الذي حول بجهد كبير وعميق(30) وضع قواعد لـ (مقاصد الشريعة) أما في الفكر الشيعي فقد بذل كثير من الأصوليين جهوداً كبيرة في بحث قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) التي هي التعبير الآخر عن المصلحة أو مقاصد الشريعة.

لكن تلك الجهود جاءت عبر نظرة (تجزيئية) أي أنها لم تدرس قاعدة (لا ضرر) على ضوء الآيات الكريمة التي تنحو هذه القاعدة نحوها. مثل الآية (185) من سورة البقرة، والآية (78) من الحج، والآية (90) من النحل.

كما أنها حصرت نفسها، إلا نادراً، في الأمور العبادية، مثل الوضوء الضروري، والصوم الضروري.. أما حين تدخل في ميدان المعاملات – وهو المهم – فإننا نرى الاضطراب على أشده بين أقوالهم.

نظرية الظروف الطارئة، أو مقاصد الشريعة، أو المصلحة، أو اتجاه التشريع، أو الاستصلاح.. هذه المصطلحات، وأمثالها، فتح الوقت الحاضر البحث فيها على مصراعيه.

فبينما نرى قديماً أن الإمام الشافعي ينكر الأخذ بالمصلحة، وأن الإمام مالك يعتبر الأخذ بها (31) نرى في الحاضر أن الآراء حولها أخذت تسير في اتجاه أكثر تقارباً، وأكثر إضاءة.

وقد حسم هذا ما قاله أستاذنا الحجة السيد محمد تقي الحكيم، في مقدمته لكتاب (النص والاجتهاد) فبعد أن نقل تحديد مفهوم الاستصلاح للأستاذ معروف الدواليبي.. يقول :

(والحقيقة أن هذا البحث مما ضاق أداء قسم من الباحثين عن تحديد مفهومه) ثم يضيف :

إذا قلنا (.. إن مرادهم بالمصاع المرسلة أو الاستصلاح هو هذا فليس لدى الشيعة ما يردع من الأخذ به، ما دام مستنداً إلى القواعد العامة الواردة عن الشارع.. الخ).

لماذا كل هذا الاضطراب قديماً وحديثاً ؟ ولماذا لم يتوصل أحد – حتى الآن – إلى وضع قواعد ثابتة، وذات جلاء ؟

وأجيب على الفور :

لأن مفهوم (الاجتهاد) بقي دون تحديد، حتى جاء الشيخ المطهري فأخرج الاجتهاد من (صومعته) الفردية إلى الجماعية فهو يقول :

"ما من ضرورة تدعو أن يقلد الناس شخصاً واحداً في جميع المسائل، بل الأفضل أن يقسم الفقه إلى أقسام تخصصية، (..) كأن يتخصص بعض بالعبادات، وبعض آخر بالمعاملات، وآخرون..) في مجالات أخرى(32).

ويقول :

(.. إن معنى الاجتهاد يصح في تطبيق السنن الكلية على الجديد من الحوادث المتغيرة. فالمجتهد الحقيقي هو الذي أدرك هذا المعنى، وعرف كيف أن المواضيع تتغير، مما سيتتبع تغير أحكامها..)(32).

إن الاجتهاد كلمة عظيمة ، ولكنك لن تجد مثله مفهوماً أهين بغلطة ، بل سحق سحقاً، فكل من حفظ عشر مسائل عن ظهر قلب سمي مجتهداً.

لا, أبداً.. الاجتهاد ليس هذا .

الاجتهاد هو : تلك القدرة الذهنية والمعرفية التي تحفظ للرؤية ثباتها، وللموقف أنيته وجدته.

لقد مضى وقت طلاقة اللسان، وحل بضراوة وقت طلاقة الفكر، وعلينا أن نختار.

 

 

*************************

الهوامش

* كاتب وأديب – المملكة العربية السعودية

(1) الإسلام يقود الحياة ص4 والميزان 4/93 وفي ظلال القرآن 1/215.

(2) الشهرستاني الملل والنحل 1/21 .

(3) د. محمد علي الريان ، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص119 .

(4) ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/292 .

(5) نفسه 2/273 .

(6) فهمي هويدي ، العرب وإيران ، ص 43 .

(7) ابن حزم ، أعلام الموقعين ، 4/250 + 256 .

(8) أحمد أمين ، فجر الاسلام 147 .

(9) الجرجاني ، التعريفات 76 .

(10) ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل 5/348 .

(11) الميزان في تفسير القرآن 3/41 و 54 و 45 و 49 و 2/122 .

(12) التوحيدي ، الإمتاع والمؤانسة 2/141 .

(13) المقدمة من أحمد أمين ، ضحى الاسلام 2/132 .

(14)

(15) د. محمود زيدان نظرية المعرفة 14 .

(16) د. جميل صليبا ، علم النفس 536 .

(17) نفسه 542 .

(18) نفسه 100 .

(19) د. برهان غليون ، اغتيال العقل 75 .

(20) المقريزي ، الخطط 2/343 .

(21) محمد خليفة بركات ، علم النفس التعليمي 158 .

(22) الاقتصاد والاعتقاد 98 .

(23) جورج طرابيشي ، جريدة الحياة 6/1/93 .

(24) د. عبدالسلام ، علم النفس العام  ، 270 .

(25) ابن الأثير ، الكامل 2/231 .

(26) د. محمد عمارة ، مسلمون ثوار 75 .

(27) ابن القيم ، أعلام الموقعين 4/373 .

(28) أحمد أمين ، فجر الاسلام ، 238 .

(29) الشهرستاني ، الملل والنحل 1/199 .

(30) د. محمد عابد الجابري بنية العقل العربي 538 .

(31) فهمي هويدي ، تزييف الوعي ، ص 86 .

(32) المطهري – الاجتهاد في الاسلام ص 26 + 29 .