شعار الموقع

أضواء على كتاب «كيمياي سعادت» للغزالي

خالد زَهري 2006-11-09
عدد القراءات « 770 »

د. خالد زَهري*

لا جرم أن العنوان هو سمة الكتاب([1])، فهو خلاصة الموضوع الذي يخوض غماره المؤلف وزبدته، وهو الأثر الذي يدرج هذا الموضوع في الفن الذي يليق به. إنه وسيلة ضرورية لاستفزاز القارئ، من أجل القيام بعملية تخمين ذهني، وتساؤل عميق، عن مدى مطابقة العنوان لمضمون الكتاب، إنه كلمة -كما يقول الدكتور عبدالفتاح كيليطو- «يفتح أفق انتظار، أفق قراءة»([2]).

والعنوان الذي يستفزنا في هذا المقال، ونصبو إلى تسليط بعض الضوء عليه هو «كيمياي سعادت»، وهي عبارة فارسية، معناها بالعربية؛ كما هو متبادر إلى الأذهان؛ هو «كيمياء السعادة».

عنوان يستلزم منا التمعن في مؤداه قبل إماطة اللثام عن محتوى الكتاب.

تؤدي كلمة «كيمياء» على الأقل ثلاثة معانٍ؛ وهي:

1- «كيمياء: لغة مولدة من اليونانية([3])، وأصل معناها: الحيلة
والحذق»([4])، وهذا المعنى عام، وهو في الوظيفة الصناعية أظهر، حيث يجرنا هذا إلى المعنى التالي.

2- «علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وإفادتها خواصَّ لم تكن لها»([5])، فالحيلة والحذق لهذه الوظيفة أليق، وبمقاصدها ألصق.

بيد أن الصوفية مزجوا مزجاً إضافياً بين كلمة «كيمياء» وكلمة «السعادة»، لتؤدي الإضافة معنى أعمق، وتنتج دلالة روحية ذات وظيفة أخلاقية؛ وهي:

3- «تهذيب النفس باجتناب الرذائل، وتزكيتها عنها، واكتساب الفضائل، وتحليتها بها»([6])، ولا يخفى ما في هذه الدلالة من حذق لا يؤتاه إلا خواص البشر، ممن اطلعوا على خفايا النفس ومكائدها، وتصدوا لحيلها الشهوانية، بحيل شرعية، وممارسة أخلاقية عميقة.

وهذا المحتوى هو الذي وعد به عنوان «كيمياي سعادت» لأبي حامد الغزالي. إن النظر في مضامين الكتاب يجعلنا نجزم بأن معنى «كيمياء السعادة» هو علم التصوف، وبعبارة الغزالي: «علم طريق الآخرة».

وقبل تقرير ذلك نحقق في نسبة الكتاب إلى صاحبه.

نسبة الكتاب إلى الغزالي

توجد نسخة بعنوان «كيمياء السعادة» باللغة العربية، منشورة ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي([7])، وقد نسبها يوسف سركيس إلى الغزالي دون أي تعليق([8]).

والقول الفصل أن النسخة العربية غير صحيحة النسبة للغزالي، فقد قال في المستصفى: «ثم أقبلت بعده([9]) على علم طريق الآخرة، ومعرفة أسرار الدين الباطنة، فصنفت فيه كتباً بسيطة ككتاب إحياء علوم الدين، ووجيزة ككتاب جواهر القرآن، ووسيطة ككتاب كيمياء السعادة»([10]).

فهذا يقتضي أن كتاب «كيمياء السعادة» يحتل حجمه موقعاً وسطاً بين «الإحياء» و «الجواهر»، وبكلمة أخرى: يقتضي أن «الجواهر» أصغر من «الكيمياء».

لكن عند النظر في النسخة العربية المذكورة([11]) يستبين لنا أنها أصغر من «الجواهر»([12])، وهذا خلاف مدَّعى الغزالي، بل يتضمن إقراره بعدم صحة نسبتها إليه. بيد أن النسخة الفارسية([13]) تتوافر على الوصف الذي قرره في «المستصفى»، فهي أصغر من «الإحياء» وأكبر من «الجواهر».

وممن تكلم على هذا الكتاب، ونسبه إلى الغزالي، الحافظ الذهبي الذي ذكر أنه كان سبباً للنقمة عليه، لما ورد فيه من الألفاظ الفارسية المستبشعة، واحتوائه على ما يخالف مراسم الشرع، وظاهر ما عليه قواعد الملة([14])، وحاجي خليفة الذي وصفه بأنه «فارسي في الموعظة والأخلاق»، وأفادنا بترجمته من لدن غير واحد بالتركية، كالمولى محمد بن مصطفى، المعروف بالواني، المتوفى سنة 1000هـ، ونجاتي الشاعر، المتوفى سنة 940هـ، والشاعر حسام الدين بن حسين، المعروف بسحابي الدركزيني، المتوفى عام 970هـ، سماه «تدبير أكبر». وترجمه كامي للسلطان سليم ولم يكمله([15])، وسمى إسماعيل باشا العراقي ترجمة السحابي بـ«كيمياء خزائن عرفا»، ولم يحسم في مضمون الترجمة، وبعبارته: «يقال ترجمه من كيمياء السعادة للغزالي»([16])، لكن كلام حاجي خليفة أولى بالاعتبار لأنه تركي وأدرى بما هو مزبور بالتركية.

مضمون «كيمياي سعادت»

بعد الديباجة والكلام على مقاصد تأليف الكتاب، يقسم الغزالي «كيمياي سعادت» إلى أربعة أركان:

- الأول: اختص بالعبادات.

- والثاني: بالمعاملات.

- والثالث: بالمهلكات.

- والرابع: بالمنجيات.

وأسس كل ركن على عشرة فصول.

أما فصول الركن الأول فهي: اعتقاد أهل السنة، طلب العلم، الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم وشرائطه، الحج، تلاوة القرآن، ذكر الله تعالى، الأوراد وترتيبها.

وأما فصول الركن الثاني فهي: آداب الطعام، آداب النكاح، آداب الكسب والتجارة، الحلال والحرام والشبهات حولهما، حق الصحبة والمعاشرة مع الخلق، آداب الانزواء والعزلة، آداب السفر، آداب السماع والوجد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الولاية على الرعية.

وأما فصول الركن الثالث فهي: رياضة النفس، علاج شهوتي البطن والفرج، علاج آفات اللسان، علاج الغضب والحقد والحسد، علاج حب الدنيا، علاج حب المال وآفة البخل، علاج حب الجاه، علاج الرياء والنفاق، علاج الكبر والعجب، علاج الغرور وبيان فرق المغترين.

وأما فصول الركن الرابع فهي: التوبة، الصبر والشكر، الخوف والرجاء، الفقر والزهد، الصدق والإخلاص، المحاسبة والمراقبة، التفكر والندامة، التوكل والتوحيد، المحبة والشوق، الموت وأحوال الآخرة.

هذا، وإن كلام الغزالي على هذه الأركان والفصول توسل بالحدس العرفاني، والذوق الصوفي، في الكشف عن أسرار الدين وحكمه، والغوص في عمق الشرع، لاستكناه حقائقه ولطائفه.

علاقة «الكيمياء» بـ«الإحياء»

بمقارنة مضمون «كيمياي سعادت» بمضمون «إحياء علوم الدين»، وإجالة النظر في مدرجاتهما، يتبين الاشتراك في موضوعهما، بل نستنتج أن «الكيمياء» الفارسي لا يزيد عن كونه تلخيصاً لـ«الإحياء» العربي.

وبذلك نستطيع ضبط الخيط الرابط بين الكتابين. فوفق التعريف العرفاني الذي ذكرناه للكيمياء، ينجلي لنا التداخل بين وظيفة إحياء علوم الدين وهبة السعادة المحصلة بتهذيب النفس بسبيل المجاهدة.

فقد ذكر الغزالي في خطبة «الإحياء» سبب تأليفه لهذا الكتاب، وهو أن علم طريق الآخرة قد «أصبح من بين الخلق مطويًّا، وصار نسياً منسيًّا»، ثم أكد أن الاشتغال بتحريره كان مهمًّا إحياءً لعلوم الدين»([17]).

وهذا يثبت لنا علة تشابه مضمون الكتابين، بل إن أحدهما من الآخر ما دام تلخيصاً له. وكأن الغزالي يبتغي من ذلك تعريف «كيمياء السعادة» بأنها «إحياء علوم الدين». ومما يشفع لذلك ويزكيه، أنه يعتبر أسباب السعادة، وتتمة الطهارة، يكمن في نيل «أحوال النقباء، ومراتب النجباء، وخصوصية البدلاء، وكرامة الأوتاد، وفوائد الأقطاب»([18])، وهذا ينسجم مع علة أخرى في تصنيفه لـ«الإحياء» وهو أن يكون «كشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين»([19]).

بقي سؤال يطرح نفسه؛ وهو: من هو واضع نسخة «كيمياء السعادة» العربية؟ هل الأمر يتعلق بأحد تلامذة الغزالي؟ أو أحد المقتفين لأثره، ممن جاء بعده، ولخَّص أفكاره في كتاب، ثم نسبه له، من باب أن صاحب الفكرة أولى بها، بغض النظر عن اللغة التي كتبت بها؟

السؤال يبقى مفتوحاً، ولعلنا نفرد بحثاً في الجواب عنه مستقبلاً، إن شاء الله تعالى.

 

 


 



* كاتب من المغرب.

([1]) انظر لسان العرب: مادة «عنا».

([2]) الغائب لعبد الفتاح كيليطو، دار توبقال، الدار البيضاء، ط2، 1987، ص 27.

([3]) وذهب طاش كبرى زاده إلى أنها عبرانية معربة (انظر مفتاح السعادة ومصباح السيادة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/1985م، ج1، ص 317)، وقال ابن منظور: «قال الجوهري: هو عربي، وقال ابن سيدة، أحسبها أعجمية، ولا أدري أهي فعليا، أم فيعلاء» لسان العرب، مادة «كمي».

([4]) شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل لشهاب الدين الخفاجي، تحقيق محمد كشاش، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1418هـ/1998م، ص 253.

([5]) مفتاح السعادة: ج 1، ص 317.

([6]) اصطلاحات الصوفية للكاشاني، تحقيق عبد الخالق محمود، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1404هـ/1984م، ص 87، وانظر أيضا «التعريفات» للشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م، ص 188، تعريف رقم 1512.

([7]) المجموعة الخامسة من رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409هـ/1988م، صفحات 121-142.

([8]) انظر معجم المطبوعات، مكتبة الثقافية الدينية، ص1414.

([9]) أي علم الشريعة بشقيها العقلي والنقلي.

([10]) المستصفى، دار الفكر، بيروت، ج1، ص14.

([11]) توجد نسخة مخطوطة، محفوظة بالخزانة العامة بالرباط، مسجلة تحت رقم (2218 د)، ضمن مجموع من ص1 إلى 8.

([12]) حقق «جواهر القرآن» محمد رشيد رضا القباني، ونشرته دار إحياء العلوم في بيروت في عدة طبعات.

([13]) نشرت في طهران في مجلدين ضخمين من لدن (مركز انتشارات علمي وفرهنكي) بتحقيق حسين خديوجم سنة 1983م. وقد حصلت على نسخة من هذه النشرة على جهة الهدية من الأستاذ الفاضل الدكتور محمود المرعشي النجفي الأمين العام لمركز (آية الله العظمى المرعشي النجفي) بمدينة قم في إيران.

([14]) انظر تفصيل ذلك في «سيرة أعلام النبلاء»، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1405هـ/1984م، ج19، ص 326-327.

([15]) انظر كشف الظنون، طبعة بالأوفست، مكتبة المثنى، بغداد، ج2، ص 1533-1534. هذا وإن حاجي خليفة لم يشر البتة إلى النسخة العربية، فإما أنه لم يطلع عليها، وإما أنه لا يعترف بنسبتها إلى الغزالي.

([16]) انظر إيضاح المكنون، طبعة بالأوفست، مكتبة المثنى، بغداد، ج4، ص 396.

([17]) الإحياء، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص10.

([18]) الإملاء عن إشكالات الإحياء، ملحق بالإحياء، دار الكتب العلمية، بيروت، ج5، ص15.

([19]) الإحياء: ج 1، ص 10.