شعار الموقع

نموذج الدولة الإسلامية عند التيار المحافظ في إيران

توفيق السيف 2006-11-09
عدد القراءات « 644 »

تقدم هذه المقالة عرضاً مختصراً لنموذج الدولة الدينية الذي يطمح إليه التيار المحافظ في إيران، قاعدته النظرية والمفاهيم الرئيسة التي تشكّل قوامه. سوف نقارن هذا الخطاب بنظيره الليبرالي بغرض اكتشاف المسافة بينهما وليس التقييم. لكن على أي حال فإن انزلاق الكاتب إلى تقييم منحاز يبقى احتمالاً وارداً وإن لم يكن مقصوداً بالذات. غني عن القول أن تقييماً منصفاً لأي تيار ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار معايير قياسه الخاصة، بغض النظر عن رأينا فيها.

سوف نعتمد بشكل أساس على الأعمال المنشورة للمفكرين والفقهاء الأكثر تعبيراً عن النسق الرئيس لتيار المحافظين، مثل آراء مصباح يزدي وجواد لاريجاني.

وُلد آية الله محمد تقي مصباح يزدي في 1934 وتتراوح همومه بين الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية والفقه، واتّجه إلى السياسة منذ أواخر الثمانينات، ولا سيما بعد وفاة الإمام الخميني. أما محمد جواد لاريجاني، فقد درس الشريعة ثم الهندسة والفيزياء واهتم بالفلسفة، وخدم في البرلمان نائباً ثم مساعداً لوزير الخارجية. سوف أرجع أيضاً إلى آخرين، وبينهم باحثون من الجيل الجديد من المحافظين يقدمون منظورات متمايزة عن التيار العام التقليدي رغم اتفاقها في الأسس العامة والأغراض.

وُلد التيار المحافظ من رحم الشريحة التقليدية في المجتمع الإيراني، وهو يعتبر الممثل الأصلي للتيار الديني في إيران([1]). نشير هنا إلى أن تصنيفه كقوة يمينية أولاً ثم محافظة يرجع إلى منافسيه اليساريين (الإصلاحيين لاحقاً). لكن الوصفين متداولان بشكل واسع في الساحة السياسية.

حتى قيام الثورة الإسلامية بقيت المكونات النظرية والوظيفية لمفهوم الدولة الحديثة، مثل الجمهورية والانتخابات والإرادة الوطنية والمحاسبة الخ.. خارج اهتمامات الوسط الديني، المنشغل بالمجادلات الكلامية والفقهية بعيداً عن قضايا العصر وهمومه. إن توجه المجتمع الديني إلى هذا النوع من الاهتمامات هو -من جهة- ثمرة الجهود التي بذلها آية الله الخميني لتسييس التفكير الديني، ومن جهة أخرى استجابة للتحدي المتمثل في تحول الدين إلى إيديولوجيا للدولة. منذ قيام الجمهورية الإسلامية ظهرت على السطح أسئلة جديدة تتحدى في الشكل أو المضمون نظرية السلطة الموروثة والمتداولة بين دارسي الشريعة.

يحدد هيوود خمس سمات أساسية تجمع بين التيارات المحافظة، هي: الالتزام بالتقاليد، الإيمان بالكمال الإنساني هدفاً للعمل، الإيمان بنظام المجتمع العضوي، التركيز على أهمية السلطة، واحترام الملكية الفردية([2]). هذه السمات يمكن ملاحظتها -إلى حدود معينة- في الخطاب المحافظ الإيراني، كما سيظهر في الصفحات التالية.

نظرية السلطة في الخطاب المحافظ

يتبنى التيار المحافظ نظرية السلطة الشيعية التقليدية مصدراً لشرعية النظام السياسي الإسلامي. طبقاً لكديور فإن البنية الفلسفية لهذه النظرية هي خلاصة لتفاعل تاريخي بين أربعة مكونات رئيسة هي:

1- نظرية الإمامة المعصومة التي طورها فقهاء الشيعة القدامى.

2- نظرية المَلِك-الفيلسوف التي طورها إفلاطون.

3- نظرية ابن عربي التي تربط السلطة المطلقة بالكمال الإنساني.

4- الحكمة العملية الموروثة عن تقاليد الملك في فارس القديمة([3]).

1- جوهر مفهوم الإمامة هو التعيين بالنص. وحسب مونتغومري وات فإن المكون الكاريزمي لفكرة القيادة - سواء ذلك المتعلق بمواصفات القائد أو المتأتي من اتصاله بالغيب - كان هو المهيمن على تفكير الشيعة السياسي([4]). ضمن هذا الإطار فقد ارتبط مفهوم الشرعية والعدل بأشخاص الأئمة المعصومين. ورغم ميل التيار العام من المسلمين - سنة وشيعة - إلى القبول بالدولة بوصفها منظومة عرفية ضرورية لضمان النظام العام، منذ القرن العاشر الميلادي على الأقل، إلا أن الإمامة، أي النظام الذي يرأسه الإمام أو نائبه، بقيت هي الصورة المثالية للسلطة المشروعة، وبالتالي فقد تمحور النقاش حول شخص الحاكم، ولم تحظ الدولة - كمؤسسة قائمة بذاتها - إلا بالقليل فقط من اهتمام مجامع العلم الديني.

2- يصور سقراط رجل السياسة بأنه متخصص في هذا الفن بين مجتمع من غير المتخصصين([5]). ولأنه أعلم بموضوع عمله فليس عليه الخضوع لقيود قانونية تحدد له دوره([6]). أما أفلاطون فقد رأى أن المدينة الفاضلة هي تلك التي يحكمها ملك- فيلسوف، يحمل لقب الحافظ([7])، ويتميز بملكة العدالة واستيعاب الجمال والحقيقة والمعرفة الكاملة([8]). وتعتقد آن لامبتون أن فقهاء الشيعة قد تعرفوا على فكرة الملك-الفيلسوف من خلال أعمال الكليني وابن بابويه، المحدثين البارزين في القرن العاشر([9]). وأثرت الفكرة بعمق على البحث الفقهي، ولا سيما في التأسيس النظري لمرجعية الفقيه، حيث نجد أن الدليل الوحيد المجمع عليه هنا هو -حسب آية الله منتظري- وجوب رجوع المكلف الفاقد للعلم إلى العالم وطاعته([10]). ويقر محسن غرويان، وهو فقيه محافظ، بالأصل اليوناني للفكرة، لكنه يصر على تناغمها مع القواعد الإسلامية، ويرى أن المعرفة، والحكمة، والعلم تتمتع بسلطة ذاتية على ما سواها، حتى لو انطوى ذلك على نوع من التسلط: «في ظل حكومة إسلامية فإن شيئاً من التسلط هو أمر ممكن، لكنه مبرر. [..] يمكن تصور حكومة متسلطة لكنها تستند إلى المنطق والدليل العلمي. اعتقد أن ولاية الفقيه تمثل نوعاً من هذه الحكومة»([11]).

هناك بالطبع فقهاء يرفضون الربط بين الفقه وممارسة السلطة، مثل الأصفهاني (ت 1942) الذي قرر أن «الفقيه بما هو فقيه أهل النظر في مرحلة الاستنباط دون الأمور المتعلقة بتنظيم البلاد وحفظ الثغور وتدبير شؤون الدفاع والجهاد وأمثال ذلك، فلا معنى لإيكال هذه الأمور إلى الفقيه بما هو فقيه»([12]). ويتطابق هذا مع رأي شتاينبرغر الذي رأى أن نظرية أفلاطون غير متسقة منطقياً، فعمل الفيلسوف هو صناعة الأفكار في حين أن عمل الحافظ -أو الملك- تقني يدور أساساً حول تطبيق أفكار أو أهداف صيغت وحددت سلفاً([13]).

3- طبقاً لمحمد جواد لاريجاني، فإن ما يميز الدولة الإسلامية من غيرها هو الأغراض التي تسعى لتحقيقها. وهو يرى أن على الدولة أن تسعى لتحقيق الهدف المحوري للدين وهو مساعدة الأفراد على بلوغ الكمال الإنساني([14]). انتقلت فكرة الكمال من التراث اليوناني القديم، ولعل أبرز من اهتم بها هو محيي الدين بن عربي (ت 1240)، الفيلسوف والمتصوف المعروف. رأى الفيلسوف اليوناني أرسطو (ت 322 ق. م) أن بلوغ الإنسان مرتبة الكمال رهن بقدرته على تفضيل وتنمية الحسن والصفات الحسنة. ووسيلته إلى ذلك هي تنشيط العقل ونيل المعرفة ولاسيما الفلسفة. أما ابن عربي فربط وصول الإنسان إلى الكمال بتطهير الذات والتسليم المطلق للخالق. فإذا صفت النفس أشرق نور الله وعلمه في قلب الإنسان وأدرك مرتبة الكمال([15]). وتبنى فكرة الإنسان الكامل عدد ملحوظ من فلاسفة إيران، مثل صدر الدين الشيرازي وحيدر آملي والفيض الكاشاني([16]). ورأى الشيرازي أن السعي للكمال أرفع الطاعات، ومن بلغه فقد تأهل لنيل خلافة الله سبحانه([17]).

رجوعاً إلى لاريجاني، فإن «الحق» هو مدار عمل الدولة الإسلامية، وهذا يتحقق من خلال السعي لتحقيق هدف الحياة الأول، أي الكمال. ومن هنا فإن قيمة الدولة رهن بسعيها في هذا الطريق، فإن لم تفعل فليس لها أي قيمة([18]).

4- طبقاً لرضوان السيد، فإن «عهد أردشير» مؤسس الإمبراطورية الساسانية (حكم بين 212-241 ق. م) ربما يكون المصدر الأكثر تاثيراً على التفكير السياسي لعلماء القرن العاشر المسلمين، وقد تكرر الرجوع إلى إحدى فقراته نحو ست وأربعين مرة في الكتب التي تركها علماء تلك الحقبة. في هذه الفقرة، يقرر أردشير أن «الدين والملك توأمان. الدين أسّ والملك حارسه، وما لا حارس له فضائع وما لا أسّ له فمهدوم»([19]). الملك هو محور فكرة السلطة في عهد أردشير كما في نظرية أفلاطون، لكن الأول يركز على دوره في صيانة النظام العام. بينما ينظر إليه الثاني بوصفها مصدراً للحكمة أو عقل الجماعة في المقام الأول.

التنظيم الاجتماعي

تبعاً لتوماس هوبز، يعتبر المنظرون الليبراليون النظام الاجتماعي ثمرة لعقد بين أعضاء المجتمع([20]). كما يعتبرون المجتمع تركيباً تعاقدياً من أفراد أكفاء ومستقلين، يؤدي ارتقاؤهم إلى تحسين حياة المجتمع ككل. سياسياً، فإن مفهوم الفردانية الليبرالي يتعارض مع كل أشكال الهيمنة على الفرد، ويحصر سلطة الدولة في حدود تطبيق القانون وصيانة النظام العام وإدارة المصالح المتعارضة للأفراد([21]). ضمن هذه الرؤية أيضاً فإن قدرة المجتمع على فرض قيمه على الأفراد مشروطة بقبول هؤلاء لها، وإن هذا القبول هو ما يضفي على القيم الأخلاقية سلطة الإلزام([22]). واعتبر فريق من الليبراليين هذا المفهوم متطرفاً. وهم يفضلون نسبة القيم إلى الجماعة ككل ويرون أن الأساس القيمي لسلوك الأفراد هو الخير العام للمجتمع أو بكلمة أخرى التعريف الاجتماعي للحَسَن والقبيح([23]).

يرفض المحافظون الإيرانيون فكرة العقد الاجتماعي كما يرفضون فكرة الهوية المستقلة للفرد. وحسب لاريجاني فإن «المجتمع السياسي هو منظومة عمل تشد أجزاءها عقلانية مشتركة [..]. جوهر الرابطة الاجتماعية هو العمل المشترك الذي تتحدد أغراضه واتجاهاته على ضوء العقلانية المشتركة»([24]). يتقارب هذا التعريف مع نظرية جون لوك عن مجتمع ما قبل الدولة([25]). ويجادل لاريجاني بأن الفرد غير قادر على تحديد هويته خارج إطار الجماعة، وأنه التحق بها لحاجته إلى المنافع التي لا يمكن توفيرها خارج إطارها. بهذا المعنى فإن الفرد قد اختار مسبقاً قبول العقلانية أو العقيدة المشتركة للجماعة وما يترتب عليها من التزامات([26]). يشير هذا المفهوم ضمنياً إلى أن حقوق الأفراد ليست طبيعية «أي مستحقة بالولادة» كما يرى الليبراليون، بل هي نتاج لتكييف اجتماعي، وبالتالي فهي مشروطة ومحددة وفقاً للشروط الخاصة بالعقيدة الاجتماعية. على النسق نفسه فإن الدولة لا تمثل مصالح المواطنين الأفراد بل مصلحة الجماعة الواحدة وغير القابلة للتقسيم. هذا المفهوم للمجتمع يتطابق إلى حد بعيد مع المفهوم السائد بين المحافظين الأوروبيين حول العلاقة بين المجتمع والدولة، والذي يتضمن تعريف المجتمع كنظام عضوي هو تطور طبيعي لحاجة الأفراد للأمان والتعارف، لا كنتاج لعقد بين الأفراد([27]). ويعارض لاريجاني المفهوم الليبرالي للعقلانية:

تحصر الليبرالية عقلانية الأفعال في كونها قابلة للإدارك الحسي، قابلة للحساب، ومتسقة مع الحقائق المشهودة [..]. في هذا المفهوم فإن إرادة الفاعل والمعنى المعبر عنه من خلال الفعل مغفلة تماماً [..]. إن الأفعال لا تصبح ذات معنى إلا إذا انطلقت من تعريف الفاعل لنفسه وعلاقته مع العالم المحيط [..]. إن أكبر أخطاء الليبرالية هو إغفالها لارتباط الإنسان بعالمه([28]).

ويشدد مصباح يزدي على أن الفرد غير قادر على إدراك حاجاته الحيوية جميعاً، فبعضها يتطلب قدرات تتجاوز إمكاناته الفكرية والسيكولوجية الاعتيادية. في العادة فإن الفرد مشدود إلى حاجاته المادية الملحة، رغم أنها أدنى قيمة من حاجاته المعنوية والوجودية([29]). ويرى لاريجاني أن العقد الاجتماعي قد لا يكون عقلانياً في كل الأحوال، لأنه ببساطة قائم على إرادة البشر الذين يتوقع منهم الخطأ. وإذا اجتمعوا على الخطأ أو اللاعقلاني فلا يمكن اعتبار عملهم عقلانياً([30]). والواضح أن مفهوم لاريجاني للمائز بين العقلاني واللاعقلاني يركز على الفعل كمحور للقيمة وليس الفاعل.

الغرض الرئيس للنظام الاجتماعي طبقاً للمذهب الليبرالي هو إدارة المصالح المتعارضة لأعضائه. بينما يرى لاريجاني أن الفلسفة الإسلامية تحدد هذا الغرض في مساعدة أعضاء النظام على الارتقاء الشخصي وصولاً إلى الكمال الإنساني. هذا الغرض، الوسائل التي تتخذ لبلوغه، ومنظومة القواعد التي تقوم عليها تشكل جميعاً ما يصفه بالعقلانية الجمعية أو العقيدة المشتركة. هذه العقيدة هي الأساس في تحديد هوية الجماعة، وتشخيص الحسن والقبح، إضافة إلى منظومة الحقوق والواجبات في النظام الاجتماعي([31]). طبقاً لهذا المفهوم فإن الأفعال تعرف على أساس مادي ومعنوي في الوقت ذاته([32])، مع التشديد على أن البعد المعنوي فيها ليس متروكاً لقرار الفرد، بل هو مستمد من الدين.

بدلاً من مفهوم «الحقوق الطبيعية» الذي يراه قاصراً عن استيعاب متطلبات المشاركة الشعبية في الشأن العام([33])، يقترح لاريجاني مفهوم «التكليف» كأساس للرابطة الاجتماعية. طبقاً لهذا المفهوم فإن مشاركة الأفراد في الشأن العام هي التزام مستمر مدى الحياة، وأن المناصب العامة هي مسؤوليات وليست امتيازات «تكليف لا تشريف»([34]). وتشير هذه الفكرة إلى أن الحقوق السياسية للفرد ليست موضوعاً للنقاش، بل واجباته بوصفه عضواً في المجتمع السياسي، وبالتالي قدرته على تحمل المسؤولية، أي خدمة الغير في المستويات المختلفة.

المواطنة

يشير مفهوم المواطنة إلى منظومة من الحقوق الدستورية التي يتمتع بها الفرد مقابل ولائه لوطنه. وصيغت على هذا النحو لتمييز المواطن ذي الحقوق عن المفهوم السابق الذي يعتبر الخاضعين لسلطة الملك رعايا أو أتباعاً يتوجب عليهم طاعة السلطات من دون مناقشة([35]).

يستمد الخطاب المحافظ فكرته الخاصة حول المواطنة من مفهوم «الرعية»، وهو من المفاهيم الإسلامية الكلاسيكية يشير إلى علاقة أفقية قائمة على الرعاية المتبادلة «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، إضافة إلى مفهوم المساواة بالولادة القرآني {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}([36]). ولم يتطور مفهوما الرعاية المتبادلة والمساواة الأصلية إلى ما يشبه مفهوم المواطنة المعاصر. ذلك أن المسار التاريخي للدولة الإسلامية القديمة اتخذ منحى يحصر الحقوق كلها في الحاكم ويعتبر السكان أتباعاً. ولم يصبح مفهوم المواطنة بالمعنى الدستوري موضوعاً للنقاش في مجامع العلم الديني إلا مؤخراً، ولهذا فإن صيغته الدينية ما تزال فقيرة.

بالنسبة للشيعة على وجه الخصوص فقد تطور الفكر السياسي في الأطار الفقهي، الأمر الذي حمل الكثير من القيم والمفاهيم السياسية مضموناً فقهياً([37]). في هذا الصدد فإن الفرد ينظر إليه بوصفه عضواً في الجماعة الدينية، متديناً أو مكلفاً، لا بوصفه مواطناً([38]). على النسق نفسه فقد تعارف الروحانيون على تقسيم المجتمع إلى شريحتين: العامة والخاصة، وفي العادة فإن الأولى تقرن بالجهل في حين تقرن الثانية بالمعرفة([39]). وتتألف الخاصة من حملة العلوم الشريفة (أي الدينية) وحملة العلوم العادية (أي غير الدينية)([40]). ويترتب عليه أن مكانة الفرد الاجتماعية وحقوقه السياسية تزيد أو تنقص تبعاً لمقدار ونوعية ما يحمل من علم، لا سيما علم الدين([41]). وحسب يزدي فإن المواطنة لا تمنح صاحبها بالضرورة حقوقاً معينة ثابتة. حق الوصول إلى المناصب العامة يتقرر بناء على معايير الكفاءة الأخلاقية وليس الحقوق الدستورية أو الطبيعية:

في الوقت الذي يعتبر المواطنون - من حيث المبدأ - متساوين، فإن حقوقهم ولا سيما الحق في اشغال المناصب العامة ليس على هذا النحو [..]. نعتقد أن الأساس في هذه الحقوق هو رضا الله. أولئك الذين يعيشون في مجتمعات ليبرالية أو مجتمعات ديموقراطية لا تتبع أحكام الله يقولون بأن الرأي العام هو المعيار الذي يجب مراعاته، لكننا نقول: إنه بالإضافة إلى الرأي العام، فإن رضا الله أولى بأن يراعى ويتبع. يجب ألَّا يكون هناك أي رأي أو مطلب أو حق يعارض رضا الله وقانون الله([42]).

هذا التأكيد يبدو طبيعياً من جانب المحافظين، ذلك أن المناصب العامة تعتبر كما أشار لنكراني «أمانة» لا يقوم بها غير من ثبتت كفاءته وأمانته([43]). رغم أن دستور الإسلامية يقرر حقوقاً متساوية نسبياً للإيرانيين، إلا أن رجال الدين التقليديين لم يرضوا أبداً بفكرة الحقوق المتساوية. ومنذ أوائل الثمانينات جرت محاولات لفرض مفهوم «الأمانة» المشار إليه. وفي 1982 طلب من جميع المتقدمين للوظائف إثبات أدائهم للشعائر الدينية. لكن هذه السياسة أثارت غضب الإمام الخميني الذي أمر بحل «هيئات التوظيف» التي شكلت للتحقق من صلاحية المتقدمين([44]).

في السنوات الأخيرة أصبحت مسألة المواطنة وما يتعلق بها من حقوق دستورية أبرز موارد الصراع بين المحافظين ومنافسيهم، ولعل أحدث تجسيدات هذا المسألة هو قرار مجلس صيانة الدستور الذي يسيطر عليه المحافظون بمنع 550 من الروحانيين والوزراء والنواب السابقين من خوض الانتخابات النيابية لعام 2004 بسبب اتجاهاتهم الإصلاحية. واحتج المجلس يومئذ بأنه لم يحرز ولاء أولئك المرشحين للولي الفقيه، وأن مجرد الانتماء للإسلام أو الولاء للدستور ليس كافياً([45]). وخلاصة الكلام أن مفهوم المحافظين للمواطنة يفصل بينها وبين أي حقوق دستورية محددة. ولا سيما حق الوصول إلى المناصب السيادية.

الشرعية وحاكمية القانون

في الأدبيات السياسية المعاصرة يعتبر الفعل شرعياً إذا جرى وفق القانون، وتعتبر سلطة الحاكم مشروعة إذا حصل على تفويض شعبي. ويحترم الخطاب المحافظ كلا العنصرين، لكن ضمن أبعاد مختلفة واستناداً إلى تأسيس فلسفي مختلف مما يستدعي بالضرورة نطاقاً من الآثار القانونية يختلف عما هو متعارف في الأدبيات الليبرالية.

تقوم المشروعية السياسية في النموذج الشيعي التقليدي على أرضية العلاقة بين الخالق والمخلوق. فكل ما طابق تعاليم الدين فهو حق، وكل ما هو حق فهو مشروع. ويقدم المحافظون تأسيساً فلسفياً لهذه الفكرة مستمداً من مفهوم الفعل الحق أو «البراكسيس praxis» الذي طرحه أرسطو. ويشير هذا المفهوم إلى نوعية من الأفعال هي في ذاتها غاية، وبهذا تتميز عن سواها من الأفعال التي هي وسيلة لنيل غرض آخر أو «بويسيس poiesis»([46]). ويستخدم لاريجاني هذا التمييز أرضيةً لمفهوم الشرعية السياسية بديلة عن الرضا العام أو القانون، فهو يرى أن «الفعل الحق مشروع بذاته سواء تطابق مع قانون محدد أم لا»([47]).

فيما يتعلق بحاكمية القانون فإن الجدل يتمحور حول حدود صلاحيات الفقيه الحاكم والأساس القانوني الذي يسمح بإخضاعه للمساءلة والمحاسبة. يستمد الفقيه هذه السلطة من كون الشريعة هي القانون الحق، وكونه مصدر العلم بإحكامها باعتباره مجتهداً يستنبط الأحكام الفرعية من مصادرها الأصلية. ويظهر لي أن الفهم العام كان يميل حتى أواخر العام 1987 إلى اعتبار سلطات الولي الفقيه محصورة في حدود الدستور. وهذا ما ذكره رئيس الجمهورية يومذاك السيد علي خامنئي في خطبة الجمعة في أول يناير 1988 ([48]). لكن آية الله الخميني عاتبه في رسالة علنية لما وصفه بالعجز عن استيعاب المعاني السامية للولاية المطلقة التي وصلت إلى الفقيه من النبي عن طريق الإمام المعصوم. وعرض الإمام الخميني في تلك الرسالة مفهوماً لسلطة الفقيه يتجاوز ما كان معروفاً حتى ذلك الوقت، حيث قرر أن الفقيه مخوَّل باتخاذ أي إجراء يراه ضرورياً لتأمين مصالح البلاد والدين، بما فيها تجميد التكاليف الدينية الفرعية والقوانين والعقود، بما فيها العقود الشرعية مع الشعب([49]). وقد أدت رسالة الخميني تلك إلى تحول مثير في فهم سلطة الفقيه، التي أصبحت توصف منذئذ بـ(الولاية المطلقة). وقد أضيف هذا الوصف إلى المادة 57 من الدستور في التعديلات التي أجريت عام 1989.

الجمهورية وسيادة الشعب

تأكيد الثورة الإسلامية وزعيمها على مبدأ «الجمهورية» يعدّ سابقة لا نظير لها في التراث الديني الشيعي. وقد أثارت منذئذ الكثير من الأسئلة حول ما يترتب عليها، ولا سيما نسبة الحاكمية إلى الشعب. ومنذ وفاة الإمام الخميني في 1989، أصبحت هذه الأسئلة ونظائرها زاداً يومياً للجدل بين التيارات المتنافسة ومفكريها. والمفهوم أن المحافظين التقليديين ينظرون إلى «الجمهورية الإسلامية» بوصفها مرحلة انتقالية بين الدولة الملكية العلمانية والدولة الدينية الكاملة([50]). طبقاً لمصباح يزدي فإن الجمهورية هي مجرد إطار وليست مبدأ: «لا ينبغي أن ننظر للجمهورية كإطار معياري للحكومة يلزمنا صياغة نظامنا وفقاً لمقتضياته [..] تصويت الشعب الإيراني المسلم لصالح الجمهورية كان في حقيقة الأمر أقرب إلى رفض النظام الملكي منه إلى تحديد بديل معين»([51]).

تردد المحافظين في قبول مبدأ الجمهورية يعود إلى مكونها الرئيس، أي الدور المركزي للشعب في تفويض السلطة، إضافة إلى الدور التشريعي لممثلي الشعب في البرلمان. طبقاً للمادة 107 من الدستور الإيراني، فإن مرشد الثورة يعين بأكثرية الأصوات في مجلس خبراء يأتي أعضاؤه بالانتخاب الشعبي المباشر. وتشي هذه العملية بأن تصويت الشعب هو مصدر سلطة الفقيه([52]). ويبدو أن إقامة مجلس الخبراء كان حلاًّ وسطاً للخلاف بين الحداثيين والتقليديين حول مصدر السلطة في النظام الجديد. يرى الروحانيون المحافظون أن انتخاب الشعب لأعضاء المجلس، وانتخاب هؤلاء للقائد لا ينطوي على تفويض للسلطة، لا من الشعب لهم ولا منهم للقائد، لأن السلطة، كما رأى يزدي، ليست في يد الشعب كي يفوضها، وفاقد الشيء لا يعطيه([53]). والانتخاب - حسب مكارم شيرازي - ليس من التقاليد المعروفة عند علماء الشيعة (ولو كَانَ لبَانَ)([54]). وعليه فإن دور المجلس حسب تعريف رئيسه الحالي علي مشكيني يتحدد في (اكتشاف) المرشح المرضي عند الله، وليس نقل السلطة من الشعب إليه، والمجلس يقوم بهذا الدور لأن عامة الناس تفتقر إلى الأهلية اللازمة لتشخيص القائد الكفء، ولهذا أوكل الأمر إلى كبار العلماء([55]).

على أي حال، ثمة ثلاثة تفسيرات يطرحها المحافظون لتفسير مفهوم الانتخاب وآثاره القانونية:

1- اتجاه يرى أن الانتخاب هو تعبير عن اعتراف الشعب بحق ثابت سلفاً للقائد، فهو بهذا المعنى علامة على سلطته - حسب تعبير آملي - وليست علة منشئة لها. الشعب ملزم - شرعاً - باكتشاف القائد الشرعي والاعتراف بسلطته الحقة([56]). المعنى الضمني لهذه المقاربة أن هناك على الدوام شخص واحد يملك الحق في السلطة، وأن على المجتمع التعرف عليه وتمكينه من بلوغ منصب القيادة([57]).

2- يرى آية الله الحائري أن جميع الفقهاء المجتهدين مؤهلون للقيادة، لكن واحداً منهم فقط يمكن أن يتولى السلطة في وقت معين. ويمكن اعتماد رأي الشعب لترجيح أحد المرشحين. لكن هذا لا ينطوي على تفويض سلطة من جانب المقترعين للمرشح الفائز، إنه فقط بمثابة إعلان الدعم والتشجيع له([58]). جوهر هذه الفكرة أنه لا يوجد في وقت معين قائد واحد مرضي من قبل الله كما في التفسير السابق، إلا إذا اعترفت أغلبية الشعب بسلطته.

3- يعرض قائممقامي، وهو من الجيل الجديد من رجال الدين المحافظين، تفسيراً غير معتاد نوعاً ما في وسط هذا التيار. فهو يرى أن منصب ولاية الفقيه وما يرتبط به من صلاحيات قائم على أرضية دينية بحتة، لكن سلطة صاحب المنصب قائمة على أساس دستوري، ومستمدة من تفويض الشعب([59]). ويذهب إلى أن المناصب السيادية في الدولة - عدا ولاية الفقيه - قائمة على أرضية الإرادة العامة، وأن دور الفقيه في هذا الصدد إشرافي وليس إدارياً أو تنفيذياً([60]).

بالمقارنة، فإن رؤية الاتجاهين الأولين تميل إلى اعتبار شرعية عمل الدولة مستمدة من وجود الفقيه على رأسها. بينما يميل الرأي الثالث إلى ربط الشرعية السياسية بالتفويض الشعبي.

فيما يتعلق بالعمل التشريعي، يميل أكثر علماء المسلمين إلى اعتباره وظيفة خاصة بالمجتهدين. لهذا السبب كان الدور التشريعي للبرلمان من بين أكثر المسائل إثارة للجدل بين الإسلاميين. وقد وضع الدستور الإيراني حلاًّ يقضي بإيكال البت في مخالفة قوانين المجلس للشريعة إلى هيئة من الفقهاء. نشير أيضاً إلى أن آية الله الخميني قد أعاد تعريف التشريع باعتباره تشخيص المصالح العامة. ويميل عدد من علماء الشيعة إلى تعريف المصالح والمفاسد على أساس عرفي. لكن يبدو أن هذه الفكرة ليست مقبولة تماماً بين شريحة واسعة من العلماء التقليديين، ربما بسبب انعكاسها السياسي، أي اعتبار البرلمان مركزاً للسلطة مستقلاً عن سلطة الروحانيين.

الإطار المرجعي لخطاب المحافظين السياسي

يمثل كل من التيارين المتنافسين في السياسة الإيرانية: المحافظين والإصلاحيين، منهجاً خاصاً في التدين والتفكير، هو ثمرة لفهمه الخاص للدين ومفهوماته وتطبيقاته في مجاري الحياة. يقوم منهج المحافظين على تركيب من ثلاثة مبادئ: الدين باعتباره شاملاً لجميع شؤون الحياة، الفقه الموروث باعتباره المنهج الرسمي في تفسير القواعد الأصلية للدين وتحديد كيفية تطبيق مفرداتها على حياة الأفراد والمجتمع، وأخيراً اعتماد مؤسسة الحوزة العلمية والمرجعية الدينية مصدراً رسمي للفكر والأحكام الدينية. بناء على المبدأ الأول فإن السياسة مثل باقي ضروب الحياة هي أمر ديني. في الحقيقة فإن الخطاب المحافظ يتحدث عن «حياة دينية» و«دولة دينية» وليس عن «دور الدين» الذي ربما يفهم منه نوع من النسبية في العلاقة بين الدين والحياة. بناء على هذا فإن عناصر الحراك السياسي والمعايير المتبعة في تقييمه ينبغي أن تعرف استناداً إلى منظومة القيم الدينية([61]). كما يجب اتباع آراء الفقهاء لأنها تجسد جوهر الدين، وحسب تعبير معرفت فإن الارتباط التاريخي للروحانيين بالعلوم الدينية قد جعلت لغتهم تعبيراً دقيقاً وكاملاً عن لغة القرآن([62]). يستهدف هذا المفهوم التمييز بين نوعين من فهم الدين، فهم الفقهاء الذي يركز على واجبات المكلف تجاه ربه، ويعرف باسم «الإسلام الفقهي»، وفهم الفلاسفة والمتصوفين والمفكرين الذين يركزون على الجانب الروحي والتربوي من الدين. ويعتبر المحافظون الفهم الأول المعيار الرئيس للتمييز بينهم وبين سائر التيارات الإيرانية([63]).

الفقه التقليدي

وجود قراءات مختلفة للمصادر الدينية ليس بالأمر الجديد على الفكر الإسلامي، فقد كان معروفاً منذ قرون، لكن تحوله إلى مورد جدل في الساحة الدينية الإيرانية يرجع فقط إلى أواخرالستينات من القرن العشرين. في ذلك الوقت اقتسم الساحة تياران عريضان في الفكر والممارسة الدينية: تيار يركز على ما يعتبره جوهر الدين مثل الروحيات والأخلاق والمعرفة وبدرجة أقل النظام القانوني «أو التكاليف». شاع هذا الاتجاه بين مفسري القرآن والفلاسفة والمتصوفة والمفكرين غير الروحانيين، وتركز تأثيره بين الأجيال الجديدة وطلاب الجامعات. في المقابل فإن تيار الأغلبية الذي تمثل في المرجعية الدينية ومدارس العلوم الشرعية ركز على فكرة التكليف أو الواجب الشرعي باعتباره عمود خيمة الاجتماع الديني ومحور العلاقة بين الإنسان وربه.

مع الثورة الإسلامية عام 1979 انقلبت أقدار التيارين، فقد عزز انتصارها مصداقية التيار الأول وطروحاته وشعبيته. لكن تيار الإسلام الفقهي بقي مهيمناً في مراكز العلم الديني والمدن المقدسة. وتصاعدت هذه الهيمنة بعد وفاة آية الله الخميني وتضاؤل القوة السياسية لليسار الديني. يستهدف الإسلام الفقهي تحديد خط واضح يفصل بين ما يعتبر موضوعات للمعرفة وموضوعات للممارسة. ويشدد على أن ما يهم المؤمنين الأفراد هو الجانب الثاني وليس الأول. وفي هذا الإطار فقد أصبح من التقاليد السارية أن يصدر المترشحون للمرجعية الدينية، وهي المنصب الأعلى في المؤسسة الدينية، كتاباً يسمى بالرسالة العملية، يجمع فيه الفقيه فتاواه وآراءه في مختلف القضايا التي هي محل اهتمام من جانب المكلف. وتمثل «الرسالة العملية» صلة الوصل الرئيسة - وغالباً الوحيدة - بين المرجع ومقلديه.

اتخذ الإمام الخميني موقفاً مزدوجاً من الفقه التقليدي، فقد دعا إليه، لكنه في الوقت نفسه وجه نقداً شديداً إلى الفقهاء التقليديين واتهمهم بضيق الأفق والتحجر. استعمل الإمام الخميني مصطلح «الفقه التقليدي = فقه سنتى» للمرة الأولى في سبتمبر 1981 ([64]). وطبقاً لمحامد فهذا المصطلح يشير إلى «منهج الاجتهاد الذي تطور من خلال عمل فقهاء الشيعة وبحوثهم طيلة عشرة قرون، وجرى توثيقه في كتبهم المرجعية»([65]). في العام 1983 عبر الإمام الخميني عن تفضيله لمنهج الجواهري في الاجتهاد، إضافة إلى الفقه المتجدد أو الديناميكي «= فقه بويا»:

فيما يتعلق بالمنهج فإني مؤمن بالفقه التقليدي ومنهج الجواهري. هذا المنهج سليم وينبغي الالتزام به. هذا لا يعني على أي حال أن الفقه الإسلامي ليس متجدداً. متغيرات الزمان والمكان هي عوامل مهمة، يجب مراعاتها للتوصل إلى اجتهاد دقيق. أحكام الدين وقواعده يجب أن تفهم على ضوء الحقائق الواقعية للحياة. كل نظام يشكل شبكة خاصة من العلاقات الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية تجعل موضوع الحكم الشرعي مختلفاً جوهرياً. كي يكون الفقيه كاملاً فعليه أن يتفهم الطبيعة المتغيرة للعالم الذي يعيش فيه([66]).

والجواهري المقصود في كلام الإمام الخميني هو محمد حسن النجفي صاحب الموسوعة الفقهية «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام». تولى الجواهري الزعامة الدينية في النجف الأشرف حتى وفاته في 1847 واشتهر برجوعه المتكرر إلى العرف والمباني العقلية في تعريف موضوعات الأحكام ([67]). واهتم كثيراً بالربط بين صيغة الحكم وتعريف موضوعه وطريقة تطبيقه في الواقع، خلافاً لسيرة الحوزات العملية التي جرت على البحث النظري المجرد. إضافة لذلك يعتقد فخر أن تفضيل الإمام الخميني له يرجع لاهتمامه بالقضايا العامة في بحوثه، خلافاً لمعظم أنداده الذين اقتصروا على ما يهم المكلفين الأفراد، ويذكر أن الإمام الخميني كان أكثر اهتماماً بالإطار الاجتماعي للحكم الشرعي من اهتمامه بالمكلف الفرد([68]).

كان تيار اليسار الديني قد اتخذ مصطلح الفقه المتجدد أو الديناميكي «فقه بويا» عاملَ تمييز بينه وبين الروحانيين التقليديين الذين صنفوا إلى جانب اليمين. لكن مع مرور الوقت فإن افتقار المصطلح إلى تعريف دقيق جعله عرضة لتفسيرات متباينة، لعل أبرزها تفسير الفريق البراغماتي في التيار المحافظ، الذي تعامل مع فكرة الفقه المتجدد باعتبارها إعادة تعريف الالتزامات الدينية في ضوء حاجات الدولة ومتطلباتها. وهذا الفهم يتباين بوضوح مع الفهم السائد بين المحافظين التقليديين الذين يدعون الدولة إلى تكييف نفسها ضمن حدود الإطار الفقهي وليس العكس، كما يتباين مع الفهم السائد بين الإصلاحيين الذين يدعون إلى فقه جديد تماماً، يقوم على قطيعة نهائية مع الفقه التقليدي.

منذ قيام الجمهورية الإسلامية كان تطبيق المفاهيم والأحكام الفقهية من خلال مؤسسات النظام السياسي وقوانينه موضوعاً ثابتاً للجدل. وقد أقر كبار الفقهاء بمن فيهم الإمام الخميني بالحاجة إلى تطوير منهج الاجتهاد وتوسيع آفاقه. ويبدو من التأمل في الظرف الخاص الذي شهد إعلان الإمام الخميني تمسكه بالفقه التقليدي، أن هذا الإعلان استهدف بالدرجة الأولى التأكيد على السلطة الدينية للروحانيين في مقابل محاولات المفكرين الدينيين - لا سيما المعارضين لسلطة الروحانيين - احتلال دور هؤلاء في زعامة المجتمع وتقديم الفكر الديني على السواء. ويمكن فهم هذا على ضوء التعارض التاريخي بين الطرفين، إذ إن تصاعد نفوذ المفكرين الدينيين كان على الدوام سبباً في انخفاض دور الروحانيين السياسي والاجتماعي. وقد وجه الإمام الخميني نقداً شديداً لمحاولات أولئك عرض ما يصفونه بفقه جديد واعتبرها «نقطة البداية لتدمير الحوزات الدينية»([69]). وفي الخطاب الذي شدد أثناءه على «الفقه التقليدي» انتقد الإمام الخميني اتجاه المفكرين لإغفال الدور القيادي لرجال الدين أو ادعاءهم لأنفسهم دوراً في قيادة المجتمع مستقلاً عن دور الروحانيين، وهو موضوع أظهر الإمام الخميني إزاءه حساسية ملحوظة وشكل محوراً بارزاً في خطابه وعمله السياسي.

يمكن القول إذن على سبيل الخلاصة إن مصطلح «الفقه التقليدي» يطابق منهج استنباط الأحكام الشرعية السائد في مجامع العلم الديني. لكن بالنسبة للإمام الخميني فإن هذا المنهج بحاجة إلى تطوير كي يستوعب المفاهيم الجديدة وحقائق الحياة العصرية. إن أبرز مضامين ومقتضيات الفهم الفقهي للإسلام هي:

1- تكييف الفلسفة والنظرية السياسية مع الإطارات المفهومية للفقه باعتباره قادراً تماماً على استيعاب متطلباتهما([70]).

2- الدين قادر على استيعاب وحل مشكلات الحياة الاجتماعية، وتطبيق الشريعة هو غرض الدولة الأول. وعليها أن تصوغ سياساتها وفقاً للمعايير الدينية. العلاقات في المجتمع السياسي والمصالح العامة يجب أن تعرف بالرجوع إلى المعايير الدينية([71]).

3- تصبح مطالب الجمهور شرعية، وبالتالي ملزمة للدولة، إذا وافق الحاكم الشرعي على اعتبارها مصلحة عامة. إذ المعيار في المشروعية هو كون الفعل المطلوب صحيحاً أو «حقًّا» وتشخيص الحق راجع إلى الحاكم الشرعي الذي يملك المعرفة الأعمق بالخير والشر([72]).

وقد نالت فكرة تعريف المصالح العامة على أساس ديني حظًّا وافراً من الجدل. وفي السنوات الأخيرة مال بعض المحافظين إلى إعادة النظر في الفكرة، واقترح بعضهم النظر إليها من زاوية وظيفية، يتمايز فيها تشخيص المصلحة عن اتخاذ القرار بناء عليها. طبقاً لهذه الرؤية فإن المجتمع يعتبر مؤهلاً لفهم مصالحه وتشخيص أولوياتها، بينما يترك إلزام الدولة بها إلى الفقيه أو الحاكم الشرعي([73]). ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن الأحكام الدينية تنطوي بذاتها على مصالح خفية لا يدركها عامة الناس، ولهذا يجب إنفاذها بغض النظر عن رأي الناس فيها([74]).

خلاصة

ظهر التيار المحافظ وتطور في الجانب التقليدي من المجتمع الإيراني وعبّر عن همومه. وقد برزت مواقف التيار السياسية على أنها رد فعل على التحدي الذي مثله قيام الدولة وانفتاح آفاق المشاركة في إدارتها للمجتمع الديني. اتّجه التيار لإعادة صياغة مفاهيمه ومواقفه في قوالب حديثة على أنها رد فعل على التحدي الذي تمثل في صعود تيار اليسار الإسلامي في أوائل عهد الثورة الإسلامية ثم ظهور التيار الإصلاحي في التسعينات الميلادية. وهو يتبنى مفهوم السلطة الدينية السائد في الفقه الشيعي التقليدي، والمستمد من نظرية الإمامة المعصومة.

خلافاً للفكر الليبرالي يركز الخطاب المحافظ على الجماعة والعلاقات العضوية داخلها، ويرفض فكرة العقد الاجتماعي أساساً للنظام السياسي. ويعرف المجتمع بوصفه منظومة عمل تشد أواصرها عقلانية جمعية هي العقيدة المشتركة التي تحدد أيضاً هوية الجماعة والأفراد وأدوارهم. محور التركيز في هذا النظام هو الواجبات لا الحقوق. وتعرف المصالح على أساس مادي ومعنوي معاً، ويحظى الثاني بأرجحية على الأول.

ويقر الخطاب المحافظ بالمساواة بين البشر جميعاً بالولادة، لكن هذا لا يتمدد إلى الحقوق السياسية، ولا سيما حق تولي المناصب السيادية العامة. كما يقر بحاكمية القانون ودور الشعب في توليد الشرعية السياسية لكن بصورة جزئية. فهو يربط الشرعية - وبالتالي الحق - بالفعل وليس الفاعل. وتشخص حقانية الفعل على ضوء المعايير الدينية، ويقوم به الفقيه الحاكم الذي يتمتع بسلطة مطلقة تتجاوز حدود القانون. السلطة السياسية هي أمر ديني في نظر المحافظين. ويقتصر دور الجمهور على اكتشاف الحاكم الشرعي وإيصاله إلى السلطة ومناصرته.

الإطار المرجعي للخطاب المحافظ يتمثل في القراءة الفقهية للدين، وعلى وجه الخصوص المنهج الذي أصبح يعرف بالفقه التقليدي. طبقاً لهذا الفقه فإن الدين ينظر إليه بوصفه إيديولوجيا شاملة لجميع مناحي الحياة. المهمة الأساسية للدولة الإسلامية هي تطبيق أحكام الشريعة وضمان التزام المواطنين بتعليماتها. وفي هذه الدولة يتمتع العلماء بدور قيادي لكونهم الناطقين باسم الدين والمفسرين الموثوقين لنصوصه المرجعية.

في الختام، نشير إلى أن الخطاب السياسي المحافظ قد تطور بوصفه رد فعل على تحدي التيار السياسي المنافس من جهة وعلى الدور الفعلي الذي تلعبه الدولة بوصفها أداة لعلمنة التقاليد الدينية - طبقاً لمفهوم ماكس فيبر -. وبالنظر لكونه رد فعل فقد تعامل مع التحديات النظرية من زاوية الدفاع عن استمرارية التقاليد الدينية وليس بابتكار منهج جديد في فهم الدين. وقد أدى ذلك - عملياً - إلى حصر العمل الفكري للمحافظين في إطار مجادلة الطروحات التي يقدمها منافسوهم الحداثيون. هذا المسلك سيؤدي على المدى القصير أو المتوسط إلى استنزاف المصادر النظرية لإيديولوجيا المحافظين. ذلك أن حصر العمل الفكري في مجادلة المنافسين يؤدي بالضرورة إلى ترسيخ القواعد النظرية لطروحات هؤلاء بوصفها مبادئ وقيم معيارية للفكر والممارسة السياسية على المستوى الوطني. وفي اعتقادي إن هذا الاحتمال يمثل مفتاحاً لفهم التطور المستقبلي للنقاش الدائر في الساحة الإيرانية حول الدين والدولة والتنمية السياسية.

 

 



([1]) هجري، محسن: «مقدمه بر سنخ شناسي راست در إيران» مقابلة مع جشم انداز إيران، العدد 9، (يونيو 2001) ص 59.

([2]) Heywood, Andrew, Political Ideologies, (New York 1998), p. 69.

([3]) كديور، محسن: دغدغهاي حكومت ديني، (تهران 2000)، ص 165.

([4]) Montgomery Watt, W., in Keddie, N., (ed.) Religion and Politics in Iran (New Haven 1983) p. 21.

([5]) Skemp, J. B., Platos Stateman, (London 1987), p. 40.

([6]) Stern, Paul, ‘The Rule of Wisdom and the Rule of Law in Platos Statesman’, The American Political Science Review, vol. 91, issue 2 (June 1997) 264-276, pp.267-8.

([7]) Plato, The Republic, translated by Desmond Lee, (London 2003), p.192.

([8]) Plato, ibid., p. 198.

([9]) Cited in Akhavi, S., Religion and Politics in Contemporary Iran, (Albany 1980), p. 9.

([10]) منتظري، حسين علي: دراسات في ولاية الفقيه (بيروت 1988) ج 2 ص 102.

([11]) ورد في حجاريان، سعيد: جمهوريت (تهران 2000) ص 786.

([12]) الأصفهاني: حاشية المكاسب 2/215 (قم. د.ت).

([13]) Steinberger, Peter, ‘Ruling: Guardians and Philosopher-Kings’, The American Political Science Review, vol. 83, issue 4 (Dec. 1989), 1207-1225: pp. 1207, 1213.

([14]) لاريجاني، محمد جواد: نقد دينداري ومدرنيسم (تهران 1997) ص 60-61.

([15]) Clark, Jane, ‘Fulfilling our Potential: Ibn Arabis Understanding of Man in a Contemporary Context’,The Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society, vol. 30, (Autumn 2001).

([16]) واعظي، علي: «ولايت مطلقه از ديدكاه ابن عربي ومير حيدر املي»، فصلنامه معرفت، العدد 49 (ديسمبر 2001).

([17]) جلالي، غلامرضا: «نظريه إنسان كامل از عرفان ابن عربى تا عرفان امام خميني» حوزه، العدد 94-95.

([18]) لاريجاني، المصدر السابق ص 61.

([19]) السيد، رضوان: الجماعة والمجتمع والدولة (بيروت 1997) ص 386.

([20]) Held, D., in McLennan, Hall, and Held (eds.).The Idea of Modern State. (London 1984), p. 32.

([21]) Hall, John, Liberalism: Politics, Ideology, and the Market , (Chapel Hill, 1988) p. 185.

([22]) Carse, Alisa, ‘The Liberal Individual’, Noûs, vol. 28, no. 2 (June, 1994) 184-209, p. 185.

([23]) Carse, A., ibid., pp. 185 - 6.

([24]) لاريجاني: المصدر السابق، ص 192.

([25]) See J. Locke, (1690) The Second Treatise of Civil Government, Ch. II, retrieved from: www.constitution.org/jl/2ndtr02.htm.

([26]) لاريجاني، محمد جواد: «إسلام: دولت قديم وجديد»، حكومت إسلامي، (صيف 2000) عدد 16.

([27]) Heywood, op. cit., p. 75.

([28])  لاريجاني: نقد.. ص- ص 141-2.

([29])  مصباح يزدي: نظريه سياسي إسلام (قم 2001) ص 150.

([30]) لاريجاني: المصدر السابق، ص 150.

([31]) لاريجاني: «حكومت إسلامى ومرزهاي سياسي» حكومت إسلامى، ع 2، (شتاء 1996).

([32]) لاريجاني: «إسلام ودمكراسى»، معرفت، العدد 12، (ربيع 1995).

([33]) لاريجاني: نقد.. ص 192.

([34]) لاريجاني: المصدر السابق ص 69.

([35]) For a brief discussion on the topic, see Held, David, Models of Democracy (Cambridge, 1997), p. 78.

([36]) الحجرات 13.

([37]) انظر مثلاً احتجاجات النوري في رسالته «حرمت مشروطيت»، في زركري نجاد: رسائل مشروطيت (تهران 1995) ص 160.

([38]) قائممقامي، عباس: قدرت ومشروعيت (تهران 2000) ص 112.

([39]) خامنئي، علي: «عبرتهاي عاشوراء: عوام وخواص» حديث للقادة العسكريين (تهران 9 يونيو 1996).

([40]) العاملي، جمال الدين: معالم الدين (قم، د. ت.) ص 22.

([41]) انظر مثلاً أية الله صادق روحاني: نظام حكومت در إسلام، المقالة الثامنة. ط. إلكترونية: www.imamrohani.com/farisi/kotob/hokomat/01.htm#a09.

([42]) يزدي: نظريه.. مصدر سابق، ص 311.

([43]) لنكراني، م. تئوري عدالت در حكومت إسلامى وولايت فقيه، ط. إلكترونية: www.lankarani.org/persian/najlehi/teori.html.

([44]) أصدر الإمام الخميني بهذا الصدد بياناً من ثماني نقاط في ديسمبر 1982. لتفصيلات حوله انظر مهريزي: «دولت دينى وحريم خصوصى»، حكومت إسلامي،العدد 12 (صيف 1999).

([45]) انظر الاحتجاجات التي عرضها مجلس صيانة الدستور لدعم اعتراضه على التعديلات البرلمانية لقانون الانتخابات. ايسنا (1 ابريل 2003).

([46]) Freeland, S., ‘Aristotelian Actions’, Noûs, vol.19, no. 3. (Sep., 1985), 397- 414, p. 397.

([47]) لاريجاني: المصدر السابق، ص 65.

([48]) خامنئي، علي: خطبة الجمعة (تهران 1 يناير 1988).

([49]) الخميني، روح الله الموسوي: صحيفه نور ج 20، ص 170.

([50]) حجاريان: المصدر السابق، ص 302، نقلاً عن شما (الجريدة الرسمية لحزب مؤتلفه) في 10 إبريل 1997.

([51]) يزدي، مصباح: «حكومت ومشروعيت»، كتاب نقد، العدد 7 (صيف 1998).

([52]) ارسطا، م.: «مجلس خبركان از ديدكاه نظريه ولايت فقيه»، حكومت إسلامي، عدد 8 (صيف 1998).

([53]) يزدي: المصدر السابق.

([54]) مكارم شيرازي: بحوث فقهية مهمة (قم. د. ت)، ص 472.

([55]) علي مشكيني: خطاب افتتاحي إمام مجلس الخبراء (تهران، 20 مارس 2001).

([56]) آملي، عبد الله جوادي: ولايت فقيه (قم 1988) ص 16-20.

([57]) ارسطا: المصدر السابق.

([58]) الحائري، كاظم: ولاية الأمر في عصر الغيبة (قم 1994) ص 164.

([59]) قائممقامي: المصدر السابق، ص 147-8.

([60]) قائممقامي: المصدر السابق، ص 145.

([61]) قائممقامي: المصدر السابق، ص 71-5.

([62]) معرفت، محمد هادي: «بلوراليزم ديني در بوته نقد»، انديشه حوزه، العدد 16 (ربيع 1999).

([63]) رفسنجاني، علي أكبر هاشمي: عبور از بحران (تهران 1999)، ص 60.

([64])  الخميني: صحيفه نور، ج 15، ص 150.

([65]) محامد: «فقه مصطلح حوزه در دنياي امروز»، حضور، العدد 34 (ربيع 2001).

([66]) الخميني: المصدر السابق، ج 18، ص 31.

([67]) معرفت، م: «فقه جواهري وويجكيهاي آن»، انديشه حوزه، (صيف 1997).

([68])  فخر، أ: «عوامل بويائي فقه»، قبسات، العدد 15-16 (ربيع 2000).

([69]) الخميني: المصدر السابق، ج 20، ص 102.

([70]) زنجاني، عميد: «نظريه سياسي إسلام»، حكومت إسلامى، العدد 1 (خريف 1996).

([71]) شريعتمدار، ن: «كارائي فقه سياسي»، علوم سياسى، العدد 14، (خريف 2001).

([72]) مؤمن، م: «دين ومشاركت سياسى» علوم سياسى، العدد 7 (شتاء 1999).

([73]) قائممقامي: المصدر السابق، ص 367.

([74]) أميني، آية الله: « رويكرد حكومت علوي» في اميني: حكومت علوي: بنيادها وجالشها، الفصل الأول ط. الكترونية: www.nezam.org/persian/books/hukoomate-e_alavi_bunyan_ha_va_chalesh_ha/02.htm.