كتابة جديدة لتاريخ الحركات المجهولة والمشوهة
أحمد صبري السيد علي*
المؤلف: محمود إسماعيل.
الكتاب: المهمشون في التاريخ الإسلامي.
الناشر: دار رؤية للنشر - القاهرة
سنة النشر: 2005.
يشمل الكتاب عرض خمس عشرة ثورة للمهمشين، وهذه الثورات هي:
ثورة الزنج الأولى - ثورة الخشبية في العراق - ثورة الحدادين في الأندلس - ثورة الزنج الثانية - دولة القرامطة في العراق والبحرين - ثورة عمر بن حفصون في الأندلس - ثورة حميم المفتري في المغرب الأقصى - ثورة العيارين في العراق - حركات الأحداث في الشام - حركات الحرافيش في مصر - حركات الفتاك في آسيا الوسطى - حركات الصقورة في المغرب - حركات الصقورة في الأندلس - دولة الحرفيين الصفارية في سجستان - حرافيش مصر والمقاومة باللسان.
ﷺ كلمة عن الكاتب والكتاب
في عرضنا النقدي هذا لابد من القول: إنه ربما لا يُعد اهتمام د. محمود إسماعيل بالحركات الاجتماعية شيئاً جديداً، من حيث تبنيه للمادية التاريخية منهجاً للبحث، وهو ما يشترك فيه معظم الباحثين التاريخيين الماركسيين، إلا أن أبحاث د. محمود إسماعيل تتميز بأنها الأكثر وعياً ونضجاً في استخدام المنهج المادي والتعامل مع النص، وهو ما تفتقر إليه مثيلاتها من الأبحاث الماركسية التي تعاني من الازدواجية في تعاملها مع النصوص فترفض بكل جرأة الاتهامات التي يوجهها مؤرخو السلطة لهذه الحركات بالفساد الأخلاقي، ومن ناحية أخرى تقبل بكل بساطة الاتهامات التي يوجهها المؤرخون أنفسهم وفي النصوص نفسها لهذه الحركات بالفساد الديني، وهي مفارقة لم يقع فيها الدكتور محمود إسماعيل الذي أدرك مدى الربط المتعمد والمدروس الذي تقوم به هذه النصوص بين الخروج على الحاكم والخروج عن الدين.
في كتابه الأخير «المهمشون في التاريخ الإسلامي» يواصل د. محمود إسماعيل رصده للحركات المجهولة والمشوهة في التاريخ الإسلامي المدون، وهو ليس الكتاب الأول في هذا المجال حيث سبقه كتاباه المهمَّان: «فرق الشيعة»، «الحركات السرية في الإسلام». وقد عالج فيهما الدكتور محمود إسماعيل العلاقة بين التطورات الاجتماعية ونشوء الفرق الدينية في التاريخ الإسلامي، والكتاب الأخير تتويج -ليس نهائياً- لأبحاثه في هذا الموضوع، وقد صرح الدكتور محمود إسماعيل في مقدمة الكتاب أن غايته الأساسية هو تقديم تاريخ لحركات المهمشين في صورة مقالات مبسطة للمثقفين العاديين لنشر الوعي التاريخي، الذي يؤكد الكاتب على أهميته في قراءة حاضرنا المعقد والمضبب في آن، ولعل هذا ما يفسر عدم احتواء الكتاب على أي هوامش توثيقية، على أساس أن الكتاب هو تجميع مختصر لنتائج أبحاثه ودراساته في كتبه السابقة.
في هذا الإصدار الأخير قدّم د. محمود إسماعيل عدة نماذج لحركات وهبّات المهمشين، وقد راعى أن تكون متضمنة لكافة الأشكال والأساليب التي استخدمها العوام في الثورة، وقد تنوعت ما بين الهبّات العفوية، والثورات المنظمة التي امتلكت فكراً عقائدياً وبرنامجاً بديلاً للوضع القائم، وأخيراً التنظيمات العشوائية التي رغم صدامها مع السلطة لم تكن تمتلك أي برنامج أو أهداف تسعى لتحقيقها، ورغم هذا التنوع فقد افتقد هذا الكتاب الإشارة إلى بعض الثورات الأخرى للمهمشين كانت أكثر قوة وأوسع تأثيراً، لعل أهمها ثورة «بابك الخُرمي» في آذربيجان، والثورة «السربدارية» في خُراسان، والواقع أن أحد سلبيات هذا التنوع هو وضع هذه الأشكال من التعبير الثوري في مستوى واحد فقد افتقد الكتاب تقييماً نهائياً لمدى جدوى هذه الأشكال من التعبير الثوري في تحقيق مصالح الكادحين، ورغم أن الأبحاث ذاتها احتوت على انتقادات خاصة بكل حركة إلا أنها لم تتطرق إلى نقد الشكل الأصلي بقدر ما انتقدت الممارسات التفصيلية.
ﷺ مقالات الكتاب
يقع الكتاب في خمس مقالات يبدو واضحاً منها استهدافها لتأكيد عدة قواعد في تاريخ الثورات الاجتماعية استقاها الدكتور محمود إسماعيل من أبحاثه الطويلة في هذا المجال:
1- عدم براءة المادة التاريخية المتاحة.
2- دور البرجوازية في رعاية الحركات التنويرية والثورية للمهمشين.
3- ضعف الوعي الطبقي في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي.
4- وحدة تاريخ العالم الإسلامي من حيث حركيته وصيرورته.
5- الدور الثانوي للمذاهب الدينية في الصراع الطبقي.
6- خاتمة عن ثقافة المهمشين
إن مناقشة هذه القواعد تمثل في الواقع مناقشة لجزء كبير من رؤية الدكتور محمود للتاريخ الإسلامي والتي تتضح في كتاباته عموماً وعلى الأخص الكتاب الأكثر أهمية في هذا المجال، والذي يمثل مشروعه الفكري والتاريخي «سوسيولوجيا الفكر الإسلامي».
المقالة الأولى: عدم براءة المادة التاريخية المتاحة
إن استعراض بدايات التدوين التاريخي يؤكد لنا صحة القاعدة الأولى التي تنص على عدم براءة المادة التاريخية المتوافرة، ففي عام 143هـ قام الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور بالتشجيع على تدوين العلوم المختلفة وخاصة علمي الحديث والتاريخ، بهدف خدمة الأغراض الدعائية والإعلامية للسلطة العباسية الجديدة، ومن الواضح أن هذين العلمين على وجه الخصوص وضعا تحت مراقبة السلطة التي استخدمتهما في مواجهة الحركات المناهضة، بل إن المرويات التاريخية تذكر أن الخليفة العباسي هارون الرشيد قام بتلفيق ألف حديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمساعدة محدث مشهور وهو عبد الله بن المبارك. على مستوى التاريخ يلاحظ أن العباسيين استطاعوا القضاء على أي مؤلفات تحوي مرويات تاريخية غير خاضعة لسيطرتهم، ولم يكتب البقاء إلا للمصادر المتأخرة عن الحدث والتي تأثر كُتّابها بكم ليس قليلاً بما تطرحه مصادر السلطة، وبالتالي فقد ظلت مصادر السلطة تمثل المصدر الأساسي لأي بحث تاريخي، بل إن السلطة في بعض الفترات قامت باختراق التجمعات العلمية للفرق المعارضة لها واستطاعت دس المرويات المنسوبة لقياداتها التاريخية والفقهية والتي تؤيد الرؤية العباسية تجاه الحركات الاجتماعية المعارضة بطرق غير مباشرة.
والواقع أن وجود صدام طبقي، أو عقائدي، أو سياسي ما بين راوي النص التاريخي والقائمين على الحدث التاريخي الذي يرويه يجعل من المستحيل الحديث عن نصٍّ محايد تماماً، فأغلب المصادر التاريخية تتعارض مع الحركات الاجتماعية من النواحي الثلاث، كما أن الاتفاق في ناحية أو ناحيتين لا يعني إهمال نقطة الخلاف الموجودة والتي تلقي بظلالها على ما يرويه المؤرخ.
وعلى سبيل المثال فإن المرويات الشيعية الرسمية عن صاحب الزنج تتخذ مواقف سلبية عموماً، ومع ذلك فقد ذكرت المعاجم الشيعية أسماءً لمؤلفات ألفها بعض الشيعة المقربين من صاحب الزنج، والتي لم يكتب لها البقاء للأسف، ككتاب (أخبار صاحب الزنج) لأحمد بن إبراهيم العمي، وقد كانت كفيلة بمنحنا رؤية صحيحة ومختلفة تماماً عن هذه الثورة.
المقالة الثانية: دور البرجوازية في رعاية الحركات التنويرية والثورية للمهمشين
عزا محمود إسماعيل قصور الوعي الذي شاب معظم حركات المهمشين في بعض جوانبه إلى غياب دور البرجوازية والتي وصفها بأنها «عاجزة وهزيلة دافعت عن وجودها والحفاظ على مصالحها، بمهادنة الحكومات القائمة وليس بالثورة عليها وتقويض حُكمها»، وقد أرجع هزال البرجوازية وعجزها إلى عوامل «جغرا-تاريخية» تتعلق بطبيعة المجتمعات الإسلامية الزراعية الرعوية أساساً وبالتالي فلم تتخلق طبقة وسطى قوية وقادرة على الصراع مع الإقطاع العسكري، بل هونت من هذا الصراع وخففت حدته، الأمر الذي أتاح للنظم القائمة الدوام والاستمرار.
إن هذا التصور صحيح بكل تأكيد ومن الممكن إضافة عوامل أخرى لضعف البرجوازية، فالملاحظ أن هناك خلافات بين العالمين الشرقي والغربي في نشأة الدول واضمحلالها، فبينما تنشأ الدول في العالم الغربي بناء على تطور نمط إنتاج معين، فإن نمط الإنتاج في الشرق ينشأ ويتطور بناء على رعاية ودعم الدولة، وهو يعود بالطبع إلى العوامل الـ«جغرا-تاريخية» التي أشار إليها الدكتور محمود، فالمسألة الزراعية لم تطرح نفسها بقوة إلا عقب تكوين الوحدة السياسية لا العكس، وهذه الوحدات تنشأ في الواقع بالاعتماد على وضعها القبلي والجغرافي وليس الطبقي، وبالتالي ينشأ كلا النمطين الإقطاعي والتجاري تحت سيطرة الدولة الممثلة في الحاكم، ويتخذ تطورهما ووضعهما خطاً موازياً لمصلحة هذا الحاكم، وعقب تحقيق التوسعات السياسية تبدأ المسألة الزراعية في البروز وينتج عنها خروج الإقطاع في صورته العسكرية عن سيطرة الدولة وضعف السلطة المركزية في مواجهته، مما يؤدي إلى تردي وضع التجارة بسبب قيام الصراعات الداخلية بين الإقطاعيين الجُدد، واضمحلال الدولة ثم سقوطها، أما الطبقة التجارية فهي غير قادرة على خوض صراع مع الإقطاع بشكل منفرد بسبب عدم استقلاليتها وارتباطها بالحكم المركزي، وخضوعها للأعراف القبلية، وتحول الكثير من أبنائها إلى حيازة الأرض الزراعية، وبالتالي فالازدهار التجاري كقاعدة يعبر دائماً عن قوة وضع الحكومة المركزية في مواجهة الطموحات الاستقلالية للإقطاعيين العسكريين، في حين يشير الانهيار التجاري إلى سيطرة الإقطاع العسكري وسقوط قوة الحكم المركزي، إن أهم صور هذا الهزال البرجوازي تبدو واضحة في المذاهب الفقهية والعقائدية، فلم يصمد مذهب واحد من المذاهب التي أنتجتها البرجوازية التجارية كالمعتزلة والكرامية والمرجئة، بل إن المذهبين الوحيدين الباقيين من منتجات البرجوازية وهما الزيدية والإسماعيلية يعانيان من الحصار الجغرافي، فلا يتواجد المذهب الزيدي إلا في اليمن وبعض المناطق الخاضعة لسيطرة السعودية والتي ينتمي أبناؤها إلى قبائل يمنية كعسير ونجران، كما لا يتواجد الإسماعيليون إلا في مناطق محدودة من العالم الإسلامي، وهي أشبه بالجيتو الذي لا يتناسب مع كم النشاط السياسي والفكري للإسماعيلية في التاريخ الإسلامي، وهو ما أدى إلى توقف انتشار المذهبين خارج نطاق العائلات المنتمية إليهما بالوراثة، وضعف حركتهما الفكرية والفقهية، فحتى الآن ما زال كتاب «دعائم الإسلام» الذي ألفه القاضي النعمان بن محمد في النصف الثاني من القرن الرابع هو كتاب الفقه الأساسي لدى الإسماعيلية، بل إن تحوّل خوارج مدينة سجستان الإيرانية إلى الاستقرار وممارسة التجارة أدى بمذهبهم إلى النتيجة نفسها ولم يجد الشاه إسماعيل الصفوي الكثير من الصعوبة في إقناعهم بالتحول إلى التشيع. والواقع أن هذا يشير بقدر أكبر إلى أن المذاهب البرجوازية لا تمثل سوى مرحلة زمنية معينة بينما تتميز المذاهب المعبرة عن الكادحين بالرسوخ وبقدرتها على التكيف مع الأوضاع المتغيرة.
المقالة الثالثة: ضعف الوعي الطبقي في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي
تمثل السبب الثاني في قصور حركات العوام وهو «ضعف الوعي الطبقي»، يطرح الدكتور محمود إسماعيل هذه القاعدة تفسيراً لقصور كل الحركات الاجتماعية، إلا أن الواقع أن ضعف الوعي الطبقي لا يشمل سوى الحركات والتنظيمات العشوائية كـ«الحرافيش» في مصر، وحركات «الأحداث» في الشام، و«الصقورة» في المغرب والأندلس، و«الفتاك» في آسيا الوسطى، وحركات «الفتوة» في الشام والعراق، إضافة إلى الحركات الحرفية كـ«العيارين» في العراق، والتي لم تكن تملك أي أهداف أو طموحات سياسية، ولم يكن لها برنامج اجتماعي بديل، وبالتالي فقد كان بمقدور السلطة القضاء عليها بسهولة بل واستخدامها في مواجهة أعدائها في بعض الأحيان، فيروي ابن جبير في رحلته عن مشاهداته بدمشق أن حركات «الفتوة» بالشام والتي كانت مؤيدة من صلاح الدين الأيوبي، كانت تقوم بعمليات اغتيال ضد الأهالي الشيعة في دمشق والذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من سكانها في تلك الفترة، والغريب أن المثل الأعلى لزعماء هذه الحركات كان علي بن أبي طالب!! وهنا يبدو من الواضح استخدام صلاح الدين لهذه الحركات في مواجهة الشيعة الذين اعتبرهم أعداءه التقليديين لإحداث تغيير في الانتماءات المذهبية لسكان دمشق، وبالتأكيد فإن هذه العمليات لا تنم عن أي وعي طبقي أو سياسي، أما حركات العيارين في العراق والحدادين في الأندلس فلم تكن لها أي مشروعات في مواجهة السلطة القائمة؛ لذلك فقد كان من السهل على السلطة التعامل معها والسيطرة عليها، ومن ثم استغلالها.
ومن البَدَهِي أن نجاح الثورة أو فشلها ليس دليلاً على وجود الوعي الطبقي أو انتفائه، ومع ذلك فهذا القدر من الوعي هو الذي نجح العوام عن طريقه في تأسيس دولة القرامطة، والدولة الصفارية، إن الحركات الشيعية والخارجية كانت تمتلك قدراً كبيراً من الوعي الطبقي كما امتلكت برامج اجتماعية بديلة، وفي حين كان الشيعة يمثلون مصالح الفلاحين والحرفيين وصغار التجار وهي الطبقات والشرائح التي استفادت من الإجراءات الاقتصادية التي أصدرها علي بن أبي طالب، كان الخوارج يروجون لبرنامج خليط ما بين الفكر التجاري والقبلي، كما روج السلفيون بزعامة «ابن تيمية» للإقطاع في العصر المملوكي، على أنه كما هو واضح فإنه من غير الممكن القول باكتمال الوعي الطبقي لدى هذه الحركات، فقد كانت محصورة في إطار الولاء الديني بحيث كانت ثوراتها ليست فقط تعبيراً عن طبقة وإنما عن الانتماء الطائفي، ومع ذلك فقد كان هذا القدر من الوعي الطبقي كافياً لنجاح هذه الثورات في تلك الفترة.
والواقع أنه حتى الحركات الاجتماعية التي فشلت في البقاء لفترات طويلة كانت تمتلك وعياً طبقياً كثورة بابك الخرمي، وثورة أبي الخطاب الأسدي، وثورة المقنع الخراساني، ولم يكن فشلها ناتجاً عن ضعف الوعي الطبقي بقدر ما كان ناتجاً عن أخطاء تنظيمية أو سياسية، وتشير عبارة الثائر الشيعي التركي «بركليوجه مصطفى» الذي قاد ثورة ضد العثمانيين بمشاركة الفلاحين الأتراك واليونانيين المسيحيين: «إنني أدخل منزلك مثلما أدخل منزلي، وادخل أنت منزلي مثل دخول منزلك باستثناء الحريم» إلى وجود برنامج اجتماعي واضح ووعي طبقي لدى هذه الحركات، وقد استطاع بعضها تأسيس دول استمرت لفترات طويلة، كدولة السربداريين التي قامت على يد الفلاحين في خراسان، ودولة آل المشعشع التي قامت على يد الفلاحين والعيارين في خوزستان، ودولة السادات التي اعتمدت على الحرفيين والفلاحين في مازنداران، وكان الطابع المشترك ما بين هذه الدول هو المطالبة بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والعداء للإقطاع، ولذلك فهي تشترك أيضاً في أن أتباعها كانوا يقسمون النعم الدنيوية عليهم.
المقالة الرابعة: وحدة تاريخ العالم الإسلامي من حيث حركيته وصيرورته
يرفض إسماعيل نظرية بعض المثقفين المغاربة حول حدوث قطيعة بين المشرق والمغرب الإسلاميين، وبالتالي فقد ضمّن الكاتب خمس نماذج لحركات وهبّات قام بها المهمشون في المغرب الإسلامي والأندلس، وهي بالفعل حملت الكثير من عناصر التشابه مع مثيلاتها في المشرق.
وبالتأكيد لا يمكن الاتفاق على وجود قطيعة معرفية بين المشرق والمغرب الإسلاميين في حين أن كل المذاهب الدينية التي اعتنقها المغاربة قادمة أصلاً من الشرق، إلا أنه وفي المقابل هناك بالفعل خصوصية في التاريخ المغربي، ففي حين أدت الإجراءات الاقتصادية للخلافة الأموية بالشرق إلى القضاء على الإقطاع القبلي تماماً، كما أدت الثورات العلوية وصعود العباسيين إلى ضعف الانتماء القبلي كوضع اجتماعي، استمرت سيادة هذا النمط في مناطق المغرب إلى فترة متأخرة من الخلافة العباسية، وكانت معظم الحركات المعارضة للحكم العباسي تعبيراً عن الصراع ما بين الوضع القبلي السائد في المغرب والأشكال الأخرى للإقطاع في الشرق والتي كانت الدولة العباسية تطمح إلى سيادتها، وقد قامت معظم الدول المعارضة للعباسيين بناء على تأييد زعماء قبائل أمازيغية (بربرية) لها، فالدولة الفاطمية اعتمدت على تأييد قبيلة كتامة، في حين اعتمدت دولة الأدارسة على قبيلة أوربة، واعتمدت الدولة المدرارية على قبيلة مكناسة، وعلى الرغم من ذلك فلم توفق أي من هذه الدول في نشر عقيدتها بتوسع بين المغاربة ربما بسبب عدم توافق هذه المذاهب في الأصل مع التراث القبلي المغربي، والواقع أن المذهبين الذين حققا نجاحاً في الأوساط الشعبية المغربية هما المذهب المالكي والمذهب الإباضي (أحد مذاهب الخوارج)، ومازال لهما السطوة نفسها حتى الآن في المغرب العربي، ولعل السبب في ذلك هو أن كلا المذهبين يبدي قدراً أكبر من المرونة في التعامل مع الإقطاع والطموحات القبلية، وبالتالي فقد شهد المذهبان تنوع الانتماءات القبلية والعنصرية والطبقية للمعتنقين من المغاربة، وفي حين لم ينتج المتشيعون من المغاربة أي إنتاجات فكرية أو فقهية تذكر سواء في العهد الفاطمي أو الإدريسي، فإن الإنتاجات الفقهية والعقائدية المغربية في المذهبين المالكي والإباضي هي الأكثر نضجاً وتأثيراً في أتباع المذهبين سواء في الشرق أو الغرب.
لقد استدل د. إسماعيل على التشابه فيما بين المشرق والمغرب بحركة «عمر ابن حفصون» التي قامت في الأندلس، ورغم اتفاقي مع الدكتور محمود على عدم وجود القطيعة المدعاة بين الشرق والغرب فإن الاستدلال بثورة عمر بن حفصون ربما لا يمثل الدليل الأكثر واقعية، إن من الخطأ الربط بين تاريخ المغرب وتاريخ الأندلس الذي يمتلك وضعاً اقتصادياً واجتماعياً مختلفاً تماماً عن المغرب، فقد كان التنوع ما بين عناصر المسلمين ما بين العرب والأمازيغ إضافة إلى خليط من الموالي الفرس والأفارقة وأكثرية من المسلمين من أصول أسبانية دوره في القضاء على سيادة الانتماءات القبلية، خاصة أن المجتمع الأندلسي ذاته لم يكن مجتمعاً قائماً على القبلية قبل دخول الإسلام، فرغم الارتباط الجغرافي والإثني بين المغاربة والأندلسيين، فإن الأندلس أقرب إلى الشرق في الناحية الاجتماعية والمعرفية، فبعكس المغرب فقد تنوعت المذاهب الدينية في أوساط الأندلسيين بالإضافة إلى المذهب المالكي، حيث انتشر المذهب المعتزلي، كما انتشرت المذاهب الشيعية على نطاق واسع كالمذهب الإسماعيلي، والمذهب الاثني عشري، بل إن ظاهرة العزاء الحسيني المنتشرة الآن بين الشيعة في العالم الإسلامي بطقوسها نفسها بدأت أصلاً في مدينة مرسية وشرق الأندلس، حيث كان يقام مشهد جنائزي يجسد استشهاد الحسين بطريقة تمثيلية، ويحضر القراء والمنشدون لقراءة المراثي الحسينية، كما ألف الموريسكيون كتاباً في مغازي الإمام علي بن أبي طالب يبدو فيه بوضوح آثار الكثير من العقائد المتداولة بين الشيعة، وبالتالي فقد مثلت الأندلس إقليماً أوروبيًّا له صفاته الخاصة المختلفة عن الشرق الآسيوي والغرب الإفريقي.
إن النماذج الخمسة التي أوردها الكاتب لا يُمَثلُ المغرب فيها إلا نموذجان هما حركة «حميم المفتري»، وحركات «الصقورة». وفي حين تنتمي الحركة الأولى إلى الطابع المغربي القبلي التقليدي، فإن حركات «الصقورة» هي المثال الأكثر وضوحاً على عناصر التشابه والتواصل الموجودة بين المشرق والمغرب والأندلس، بل يمكننا أن نؤكد أن التشابه ما بين المشرق الإسلامي والأندلس أكبر من التشابه بينه وبين المغرب. ولعل من الملاحظ على الثورات والحركات الأندلسية -رغم اتسامها بانعدام الإيديولوجية المذهبية (وهي سمة كل النماذج الأندلسية التي أوردها د. إسماعيل)- ارتباطها أكثر بطموحات العوام وعدم اتسامها بأي ملامح قبلية. وتمثل ثورة «عمر بن حفصون» الدليل الأكبر على ما للأندلسيين من خصوصية، فبينما اعتمدت معظم الحركات الشرقية على المعتقد المذهبي في المقام الأول، واعتمدت معظم الحركات المغربية على الانتماء القبلي في المقام الأول، كانت هذه الحركة منفلتة من الاتجاهين، وربما يرجع ذلك إلى استطاعة الأندلسيين الجمع ما بين العديد من المذاهب في وقت واحد، فبينما يسود المذهب المالكي في الفقه فإن التعاطف مع آل البيت والميل لهم والغضب على أعدائهم هو السائد من ناحية عاطفية، وهذا الوضع الديني الفريد لا يماثله إلا الوضع المصري الذي يرفض التحفظات والتشنجات التقليدية بين أتباع المذاهب المختلفة.
المقالة الخامسة: الدور الثانوي للمذاهب الدينية في الصراع الطبقي
والتي أشار إليها الدكتور محمود إسماعيل في الكتاب في إطار عرضه لثورتي «الخشبية»، و«الزنج الأولى والثانية»، حيث أشار إلى ثانوية دور المذاهب الدينية في الصراع الطبقي. وربما تصدق هذه القاعدة على الوضع في الأندلس كما أشرت سالفاً، إلا أن الأوضاع الاجتماعية في مناطق العراق كانت مختلفة، فبغض النظر عن الدلائل التاريخية فإن معظم الثورات الاجتماعية كانت لها انتماءات مذهبية وخاصة التشيع، فقد استفاد الكادحون والحرفيون ومعظمهم من الموالي -كما أشار د. محمود- من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لعلي بن أبي طالب، وبالتالي فقد كان للتيار الشيعي شعبيته الجارفة في أوساط الفلاحين والحرفيين بالكوفة وهم الذين قاموا أساساً بثورة الخشبية بقيادة المختار بن أبي عبيد. ولعل ما يذكره الطبري عن الشخصية المرتبطة أكثر بهذه الثورة أعني «أبا عمرة كيسان التمار»، وهو مولى فارسي والمحرك الرئيس للأحداث، من أنه عوقب في عهد معاوية بن أبي سفيان بتهمة التطاول على الأمويين والسبئية؛ تدليل واضح على تشيع الثورة.
إن السبب الرئيس لشكوك الدكتور محمود إسماعيل حول ثورة الخشبية هو هذا الكم من المرويات عن المختار التي تشكك في انتماءاته وتصفه بالانتهازية والتقلب الفكري والمذهبي ما بين الانتماء للأزارقة ثم لابن الزبير ثم التشيع، وأخيراً استغلال اسم محمد بن الحنفية والزعم بكونه المهدي المنتظر لجذب شيعة الكوفة إليه.
إن نقد هذه المرويات في الواقع يُظهر ما تعانيه من ضعف وتناقض، فقد فسرت هذه المرويات اشتراك المختار في الدفاع عن مكة ضد جيش يزيد بن معاوية مع الأزارقة أنه انتماء لهذه الفرقة، على الرغم من أن هذا الدفاع لم يكن بقيادتهم وإنما بقيادة عبد الله بن الزبير. والغريب أن المرويات التاريخية لم تدعِ أبداً أن نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة من الموالين لابن الزبير بناءً على محاربته للأمويين تحت قيادته، في حين فسرت مبايعة المختار لعبد الله بن الزبير على أنها مناورة سياسية لتحييده مؤقتاً في أثناء محاولته السيطرة على الكوفة على أنه ولاء لابن الزبير. والواقع أن المختار كان ولاؤه للشيعة منذ البداية، كما شارك في ثورة الحسين وكان أول المستقبلين لمندوب الحسين للكوفيين مسلم بن عقيل واستضافه في منزله لفترة. أما المرويات التي تنقل عنه الترويج لمهدية محمد بن الحنفية، فقد نقلت معظمها على لسان المعادين له وللعلويين كعامر الشعبي راوي البلاط الأموي وأبي الحسن المدائني راوي العباسيين. إن الموقف الإيجابي للأئمة العلويين وخاصة علي بن الحسين من الثورة والتي حصلت على مباركته، تدليل واضح على عدم صحة هذه الاتهامات والتي تعد تقليدية في مواجهة ثورة امتلكت عقيدة مخالفة للأرستقراطية ووعياً طبقياً في مواجهتها.
الأمر ذاته ينطبق على الأوضاع في البصرة والتي لم تخلُ من وجود موالين للعلويين. وبرز دور هؤلاء بوضوح في أثناء ثورة الحسين حيث استطاع زعيمهم يزيد بن مسعود النهشلي حشد أتباعه من بني تميم وبني حنظلة سراً وتجهيزهم انتظاراً لوصول الحسين إلى الكوفة. والمعروف أن علي بن أبي طالب هو أول من استخدم الزنج وعنصر الزط (السبابجة) في الدولة كحرس على بيت مال البصرة، وهو ما يعني أن جلبهم تم قبل سيطرة الأمويين على العراق، وقد تحسنت أوضاعهم في عهده كغيرهم من الموالي، إلا أن مشاركتهم في الأحداث ظلت قليلة، وتذكر المرويات أن أول انتفاضاتهم كانت في عهد مصعب بن الزبير، الذي خاض صراعاً مع المختار عقب استيلاء الأخير على الكوفة، مما قد يشير إلى علاقتهم بثورة المختار الثقفي.
لقد استدل د. محمود إسماعيل على اعتناق الزنج لمبادئ الخوارج بتلقُب زعيمهم «شير زنجي» بلقب الخلافة «أمير المؤمنين». إن إذاعة الأمويين لهذا الادعاء يمثل مبرراً فقهياً للبطش بهؤلاء الثوار، إضافة إلى إذكاء سلاح العصبية العنصرية لدى القبائل العربية. وهو ما حدث بالفعل -كما ذكر د. محمود-. والواقع أن الفكر الخارجي على الرغم من إعلانه أحقية كل المسلمين بالإمامة، فإنه على مستوى التطبيق -في مناطق الشرق- ظل عربياً متزمتاً ولم يتقبل بالفعل أي حقوق للموالي في هذا الشأن، وبالتالي رغم تعاطف الكثيرين من الموالي مع الثورات الخارجية نكاية في الأمويين فإن قليلاً منهم فقط هم من اعتنقوا هذا المذهب بالفعل، بل إن المرويات التاريخية تذكر أن محمد بن بشير الخارجي قدم احتجاجاً إلى والي المدينة بسبب سماحه بزواج امرأة عربية من بني سليم لأحد الموالي، وقد كلف هذا الاحتجاج المولى الفارسي مائتي سوط وحلق شعر رأسه ولحيته. إن الفكر الخارجي كان معبراً عن عداء القبائل العربية لسيطرة القرشيين، وهم مع طرحهم لفكرة حق كل مسلم في الإمامة لم يتوقعوا أبداً أن يطمح الموالي لهذا المنصب، بل إن أصحاب نجدة بن عامر الحنفي عقب عزلهم له رفضوا قبول تولي ثابت التمار منصب زعامتهم لكونه فارسياً وإن كلفوه باختيار زعيم عربي لهم، الأمر الذي يجعلني أستبعد أي علاقة للفكر الخارجي بهذه الثورة.
على أن علاقة ثورة الزنج الثانية بالفكر الشيعي أكثر وضوحاً، فقد انتسب علي بن محمد إلى الإمام علي بن أبي طالب، وعلى الرغم من المرويات الكثيرة المشككة في نسبه فقد اعترف به العلويون المعاصرون، وانضم بعضهم إليه، كعلي بن زيد وطاهر بن أحمد بن القاسم، ومحمد بن القاسم. والواقع أن إعلان صاحب الزنج لنسبه العلوي هو تدليل على تشيعه، إضافة إلى مناصرة هذا الكم من العلويين له، ووجود شخصيات شيعية اثني عشرية كالمعلى بن أسد العمي بين المقربين منه، ولابد من الإشارة إلى الرقابة اللصيقة التي تعرض لها الحسن بن علي (الإمام الحادي عشر) والمعاصر لهذه الثورة في تلك الأثناء والتي انتهت باغتياله كما تروي المصادر الشيعية، ولعل وفاته في سن صغيرة تدليل على أنها تمت بطريقة غير طبيعية، وعلى الرغم من محاولة المرويات التاريخية الإشارة إلى أن هذا الإمام العلوي لم يكن له أي ممارسات سياسية، فمن الواضح من هذه الإجراءات العباسية صلته بثورة الزنج والتي تبرر إقدام العباسيين على قتله. وهنا أشير إلى أن من المستبعد أن يدَّعي صاحب الزنج المهدية، في حين لا تنطبق عليه مواصفات المهدي المذكورة في كتب الفرق الإسلامية المختلفة، وإن كان الأقرب هو أنه دعا إلى المهدي والذي اعتقد العلويون أنه الثاني عشر من الأئمة، مما يفسر سعي السلطة العباسية الحثيث للتأكد من وجود أي طفل للحسن بن علي يصلح لمنصب الإمامة. لقد اعتاد العباسيون عموماً التشكيك في نسب العلويين الثائرين عليهم، وهو ما حدث للأدارسة، والفاطميين، وما حدث أيضاً لصاحب الزنج الذي جرى تشويه ثورته بقدر ما سببته من إزعاج للعباسيين.
إن الجانب المذهبي لم يكن ثانوياً في هذه الثورات المُطالبة بتطبيق الشعارات الإسلامية في العدل الاجتماعي والمساواة، وبالتالي فقد كان يجب صياغة هذه المطالب والاستدلال عليها بالآيات القرآنية والسنة النبوية وممارسات الصحابة الأوائل، والتي تعني بداهة اعتناق الثوار لمذهب عقائدي يواجه مذهب وفقهاء الدولة، وتصور التئام كل المستضعفين بمختلف انتماءاتهم المذهبية تحت راية زعيم واحد يعد مثالياً بالنسبة لهذه المرحلة التي كانت السيادة فيها للفكر الديني، فمما تشترك فيه الثورات عموماً أن زعماءها يستمرون فترة قبل الإعلان عنها يدعون لمذهبهم سراً بين العوام والكادحين الأمر الذي يؤكد التلازم ما بين الثورة وعقيدتها الدينية والتي تعبر أيضاً بصورة ضمنية عن مصالح طبقة معينة كما أشرت سابقاً.
لقد احتوى الكتاب إضافة إلى القواعد السابقة على مناقشة لبعض التساؤلات التاريخية والتي ما زالت محل بحث ودراسة الكثير من المتخصصين، وخاصة في الفصلين الأخيرين، اللذين خصصهما د. محمود إسماعيل لبحث وضع مصر من المد الثوري في التاريخ الإسلامي، والإنتاج الأدبي والإبداعي للمهمشين، وقد أنتج هذا البحث آراء مهمة سواء من ناحية النظرية أو التطبيق، وعلى الرغم من أن التوصل إلى نتائج حاسمة في هذين المبحثين يحمل الكثير من الصعوبة، فإن طرح د. محمود إسماعيل هذين المبحثين للمناقشة يمثل بكل تأكيد أحد عناصر التميز في هذا الكتاب.
أما عن «حرافيش مصر والنضال باللسان» فقد ناقش د. محمود إسماعيل الانتفاضات الاجتماعية في مصر، حيث تساءل عن سر إحجام المصريين عن النضال المسلح في صورته الثورية؟!، وقد أعاد الدكتور محمود إسماعيل هذه الظاهرة إلى أسباب «جغرا-تاريخية» فحواها كون المجتمع المصري أساساً مجتمعاً زراعياً بامتياز، ومعلوم أن سيكولوجية الفلاح -المستمدة من طبيعة عمله- تجعل منه «تواكلياً» «قدرياً» «زاهداً» في متع الحياة، أو بالأحرى تجعل من الفلاحين احتياطاً تعبوياً للنظام القائم، حسب القاعدة الماركسية المعروفة.
إن التجارب الثورية -التي سبق ذكرها كالثورة السربدارية، وثورة السادات في إيران إضافة إلى الثورات الأخرى كالقرامطة- اعتمدت بالأساس على الفلاحين وقد نجحت في تأسيس كيانات سياسية استمرت لفترات متباينة. وأخيراً فقد أثبتت الثورات الشيوعية في القرن العشرين كالثورة الصينية، والثورة الكورية اللتين اعتمدتا بالأساس على الفلاحين مدى خطأ هذه القاعدة. وهنا أشير إلى تجربة ثورية قام بها الفلاحون في منطقة «خونان» الصينية سنة 1927، وقد كتب «ماو تسي تونج» تقريراً عن هذه التجربة للتدليل على أهمية مسألة الفلاحين. ففي هذه التجربة حطمت اتحادات الفلاحين التي ضمت ما يزيد عن مليوني فلاح امتيازات الوجهاء المحليين، واستطاعت القيام بـ 14 إنجازاً ثورياً -على حد تعبير ماو تسي تونج- لعل أهمها الإطاحة بحكم الإقطاعيين، وتأسيس قوات مسلحة من الفلاحين. وعلى المستوى الاجتماعي استطاعت القضاء على العشائرية كبناء اجتماعي، والسلطان الديني لآلهة المدن وسيطرة الأزواج على الزوجات، والقيام بإصلاح السدود وبناء الطرق، فالمشكلة إذن ليست في الفلاحين.
ومع ذلك يبقى التساؤل حول السبب في اختلاف أساليب نضال الشعب المصري عن هذه الشعوب رغم عوامل التشابه السابقة؟! إن الأسباب لا ترجع إلى طبيعة الشعب المصري، فقد شهدت مصر العديد من الثورات التي تنوعت في انتماءاتها ما بين القبطية، والشيعية، والخارجية، والأموية. ولعل أكثرها عنفاً تلك التي قامت في عهد المأمون سنة 216هـ ولجأ الخليفة العباسي للتوحش من أجل القضاء عليها، وربما كانت هذه الثورة من أعنف الثورات التي قامت في وجه العباسيين. كما قامت ثورة أخرى ذات ملامح شيعية في سنة 252هـ، وكانت بقوة الثورة السابقة، وكبدت الخلافة العباسية الكثير من الخسائر. وقد أحجمت المرويات التاريخية عن الاسترسال في ذكر أحداث انتفاضات أخرى دون سبب واضح إلا أن يكون كما ذكرت سابقاً مرتبطاً بخضوع هذه المرويات لرقابة السلطة العباسية.
إن عدم قدرة أي من هذه الثورات على النجاح يرجع إلى ثلاثة أسباب:
أولها: الطبيعة الجغرافية لمصر سواء من ناحية الأرض أو الانتشار السكاني، حيث يتركز التواجد السكاني حول شريط وادي النيل الذي يتميز عموماً بعدم وعورة أراضيه، في حين يكاد ينعدم في المناطق الأخرى من مساحتها الكلية، وبالتالي فقد تمكنت السلطات الحكومية (أموية / عباسية) من فرض سيطرتها بسهولة على المصريين، كما مكّنها ضيق مساحة التواجد السكاني من القدرة على مراقبة تحركات المعارضة ثم التعامل معها والسيطرة عليها مبكراً قبل اتخاذها الخطوات اللازمة لقيام الثورة، وفي أحيان أخرى وبسبب ضعف الأجهزة الأمنية كان الثوار يتمكنون من إنجاح تحركهم الثوري، وهي المرحلة التي تليها المواجهة العسكرية مع جيوش الخلافة، وفي الغالب كانت هذه المواجهات لا تنتهي لصالح الثوار، ففرص التحصن أو المناورة مع هذه الجيوش ذات الإمكانات والاستعدادات الضخمة معدومة بسبب افتقاد الطبيعة المصرية للظواهر الجغرافية المساعدة، التي سمحت لثورات أخرى بالبقاء لفترات طويلة، فقد كانت وعورة جبل البدين الذي أقيمت عليه مدينة «البُذْ»، السبب الرئيس في صمود الثورة البابكية، كما أن وعورة الطبيعة الجغرافية للمغرب كانت من عوامل صمود حركات الخوارج في جبل نفوسة، وإقليم تافيللت، وهي عوامل بقاء الإسماعيلية والعلويين في الشام حتى الآن رغم عصور الاضطهاد الطويلة التي مارسها ضدهم الأيوبيون والمماليك والعثمانيون. وقد أدركت الحركات الخارجية في مصر هذه الحقيقة فاستغلت وعورة الطرق ما بين وادي النيل والواحات المصرية واستقرت في تلك الواحات بعيداً عن رقابة الحكومات الأموية والعباسية.
السبب الثاني يرتبط بالإيديولوجيات الدينية التي اعتنقها المصريون حيث حرص كل من الأيوبيين والمماليك على إبعاد أي إيديولوجية ثورية من الممكن أن تمثل تهديداً لوجودهم، واستخدموا في سبيل ذلك كل الوسائل، إلى درجة إصدار قرارات بمنع تدريس قصائد الشعراء الموالين لآل البيت في الكتاتيب والمدارس الدينية، كما أصدر السلطان المملوكي قلاوون قراراً بتحريم اعتناق أي مذهب سوى مذاهب السنة الأربعة، وقد أدت هذه السياسة المتطرفة إلى القضاء على التنوع المذهبي والفكري في مصر والذي مثّل الأرض الخصبة لإنتاج أي حالة ثورية في المناطق الإسلامية الأخرى، وأصبحت الحالة الدينية في مصر تحت سيطرة فقهاء السلطة الذين ساهموا إلى حد كبير في تدعيم الحكم الأيوبي والمملوكي ومنحهما الغطاء الديني لكل ممارساتهما.
أما السبب الثالث، والذي ساعد سلاطين هاتين الدولتين على تنفيذ سياساتهم، فهو قلة القبائل العربية المهاجرة لمصر من ناحية العدد إذا ما قورنت بمثيلاتها في العراق وإيران والشام، وهي القاعدة الأولى التي نشأت داخلها الانتماءات المذهبية، حيث كان التشيع أكثر انتشاراً في أوساط اليمنيين والعبد قيسيين، في حين انتشر الخوارج في أوساط بني تميم وبكر، في مقابل تأخر الأقباط نسبياً في اعتناق الإسلام وبالتالي تأخر إقبالهم على اعتناق هذه المذاهب بتنوعاتها العقائدية، يضاف إلى ذلك إصرار الحكومات المتتالية على عدم الاعتماد على العنصر المصري في الجيش، ففي العصر الأموي كان الاعتماد على العنصر العربي هو الأساس، أما في العصر العباسي فقد اعتمدوا على العناصر التركية والفارسية، والزنجية، وهو ما سمح للفرق العسكرية الأجنبية والتي كانت موالية تماماً لسلاطين الدولتين بتنفيذ هذه السياسة بنجاح دون معارضة تذكر، في حين فشلت في الأقاليم الشامية التي كانت تحت سيطرة الأيوبيين والمماليك، ومازالت تعيش هذا التنوع المذهبي.
إن كثافة القبائل العربية في العراق وإيران -على سبيل المثال- ساهم في سرعة اعتناق الفرس للإسلام وبالتالي تأثيرهم القوي في أوضاع الدولة سلباً وإيجاباً، وانتشار الحركات الثورية المعارضة القائمة على العقائد الدينية، كالتشيع والإرجاء والاعتزال في أوساطهم، ورغم محاولات الأمويين القضاء على هذا التنوع المذهبي فإن تبني القبائل العربية لهذه العقائد أفشل خطط الأمويين خاصة أن هذه القبائل كانت تمثل الركيزة الأساسية في الجيش الأموي وبالتالي فهي تملك السلاح والقدرة القتالية، وفي العصر العباسي الذي اعتمد أكثر على العنصر التركي والفارسي في الجيش امتلكت هذه العناصر القدرات العسكرية والنفوذ نفسهما، وهي المميزات التي حُرم منها العنصر القبطي بلا سبب واضح سوى إبقاء هذا العنصر بجوار الأراضي الزراعية.
ﷺ الخاتمة: ثقافة المهمشين
وقد استعرض في هذا الفصل الوسائل الثقافية التي استخدمها المهمشون في صراعهم الطبقي مع السلطة الإقطاعية، إلا أن د. محمود إسماعيل اكتفى بعرض صور هذه الثقافة دون نقد لها، ربما لأن الغرض من الفصل أساساً هو إثبات أن ثقافة العوام «لا تخلو من إبداع، بما ينفي الاتهام الشائع بجدب ثقافة العوام والمهمشين» ولا جدال في اتفاقي معه في هذه النقطة، إلا أن الملاحظ في ثقافة العوام، وعلى الأخص السِّيَر الشعبية، أنها تُسقط تصوراتها البطولية على الشخصيات التاريخية دون انتقاء محدد، وهذا العنصر تشترك فيه الثقافة الشعبية في العالم الإسلامي عموماً. في مصر أوجد المصريون سيراً شعبية لكل من الإمام علي بن أبي طالب، والظاهر بيبرس، وربما كان من المفهوم الإعجاب بعلي بن أبي طالب بوصفه شخصية صحابية تمتلك تراثاً كفاحياً كبيراً بالإضافة لانحيازه المشهور للطبقات الكادحة، لكن من غير المفهوم هذا التصوير الإيجابي الغريب للظاهر بيبرس وهو المؤسس الفعلي للحكم المملوكي بكل مساوئه وسلبياته التي عانى منها المهمشون. وهذه الظاهرة نفسها موجودة في الأدب الشعبي الإيراني حيث يلاحظ مدى اهتمام الإيرانيين بشخصية الإسكندر الأكبر على الرغم من أنه الشخصية التي حطمت الإمبراطورية الفارسية القديمة، إلا أن الحكايات الشعبية تشير إليه دائماً بإيجابية إلى درجة تصويره في بعض هذه الحكايات شيعياً ينادي بولاية علي بن أبي طالب. ويبدو أن معظم هذه السير الشعبية على الرغم من دلالاتها الاجتماعية لم تكن تمثل أكثر من مجالات للترفيه بأسلوب مشوق يقبله العامة، وقد استخدمت للتخدير أكثر منها وسيلةً للتوعية والتثوير. فالملاحظ في سير الإمام علي -على سبيل المثال- خلطها ما بين البطولة العسكرية، الكفاحية والخرافة، وهما العنصران الأكثر تشويقاً بين العامة عموماً، وهذان العنصران يمثلان عاملاً مشتركاً بين معظم هذه السير، وذلك بعكس وسائل أخرى كالمقامات والتي كانت تمثل سخرية لاذعة من الأوضاع الاجتماعية القائمة.
أخيراً.. يبقى كتاب «المهمشون في التاريخ الإسلامي»، للدكتور محمود إسماعيل مبادرة مهمة كانت تحتاجها الساحة الثقافية المصرية والعربية التي تعاني من الأمية في هذا المجال، وإضافة لمشروع د. محمود إسماعيل حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، واكتشاف حقيقة أوضاع العوام بصفة عامة وتاريخهم وممارساتهم الثقافية والسياسية، بعد أن تعمّد المؤرخون القدامى استخدام التاريخ وسيلة دعاية للسلطة القائمة واختزاله في سرد البطولات العسكرية والسياسية للحكام، وتلفيق الاتهامات والشائعات ضد خصومهم.