شعار الموقع

ندوة: الشيخ ميثم البحراني وحياته العلمية

حسن آل حمادة 2006-11-09
عدد القراءات « 701 »

المنامة: 28-29 نوفمبر 2005م

نظم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمملكة البحرين بالتعاون مع رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ ندوة حول (الشيخ ميثم البحراني وحياته العلمية). افتتحت الندوة صباح يوم الاثنين: 28/11/2005م واستمرت حتى مساء يوم الثلاثاء: 29/11/2005م، في فندق (كراون بلازا). جدير بالذكر أن هذه الندوة تُعدّ أول ندوة رسمية تُعقد في البحرين تكريماً للشيخ البحراني الذي ولد قبل أكثر من 7 قرون مضت، حيث ولد الشيخ ميثم عام 636هـ في قرية الماحوز القريبة من العاصمة المنامة في البحرين، وتوفي عام 699هـ، ودفن في قريته، وبُني عنده مسجد سمي باسمه. واشتهر الشيخ البحراني بعدة ألقاب منها: الفيلسوف، المحقق، العالم الرباني، الحكيم المدقق، قدوة المتكلمين، كمال الدين.

الجلسة الافتتاحية للندوة شارك فيها كل من: الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة (نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الشؤون الإسلامية رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية). والشيخ محمود محمدي عراقي (رئيس رابطة الثقافة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية).

وهنا تغطية لمعظم الأوراق المقدمة في الندوة التي حضرها عدد من الوزراء والسفراء، وعلماء الدين والمثقفين. جدير بالذكر أن البحوث الملقاة فيها تنوعت بين: علمية، وأدبية، وتاريخية.

الجلسة الأولى

في هذه الجلسة قدم (الدكتور محمد جابر الأنصاري)، ورقة جاءت بعنوان: «نحو تأسيس لا طائفي لثقافتنا الوطنية.. هكذا نظرت إلى الشيخ ميثم قبل 35 سنة!»، وقد استهل الأنصاري ورقته قائلاً: هذا أوان الإحياء والتجديد في كل خلية من خلايا الوطن... وهذه استفاقة جديدة وعودة لإحياء مشروع مبكر سبق أن طرحته قبل ثلث قرن لإعادة تأسيس وإعادة كتابة تاريخ ثقافتنا الوطنية من منطلق غير طائفي!

وأكد الأنصاري على أن مظاهر الوحدة الوطنية التي تشهدها البحرين اليوم ينبغي ألَّا تنحصر في المجال السياسي، بل تتعمق إلى القاعدة الثقافية والفكرية التي حان الوقت لإعادة بنائها من جديد بجهود أهل البحث والاختصاص كلٌّ في مجاله. فوفق هذه القاعدة يمكن بناء الأسس الوطيدة للوحدة الوطنية الراسخة... وأضاف قائلاً: ونحن إذ نستعيد ذكرى مفكرنا الشيخ ميثم في إطار هذه النظرة التوحيدية لنسيج ثقافتنا الوطنية فلابد من التنويه إلى أن تميز البحرين، في عالمها العربي والإسلامي، بإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي يجمع تحت مظلته علماء المذهبين الكريمين في البلاد، وعلى قاعدة (نجتمع على ما اتفقنا عليه)... هذا مع مراعاة التباين المشروع في الاجتهاد كما هو متعارف بين المذاهب الإسلامية كافة.

وبعد هذا الاستهلال أعاد الأنصاري النص نفسه الذي كتبه عام 1966م عندما كان في السابعة والعشرين من العمر حول الشيخ ميثم البحراني، وجاء فيه: تأمل في هذه المأساة المضحكة: أنتجت البحرين في القرن السابع للهجرة أديباً وفيلسوفاً ومتكلماً وفقيهاً ملأ الدنيا العربية كلها ولفت أنظار العلماء المسلمين في كل مكان حتى استدعاه علماء العراق إلى بلادهم وألحُّوا في استدعائه وبالغوا في إكرامه والاحتفاء به والاستفادة من علمه، وتحدث عنه المؤلفون والمؤرخون وأطروا مؤلفاته الرائعة في الأدب وعلم والكلام والفلسفة والمنطق!

فماذا فعل به الناس هنا في بلاده؟ ببساطة.. انتظروه حتى مات.. عندها دفنوه وحوَّلوا قبره إلى مزار وإلى مكان للنذور وتقديم الصدقات وطلب الكرامات من شفاء لمريض، وقضاء لحاجة وإخصاب لعاقر!!

أما مؤلفاته في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام والأدب والفقه فقد أصبحت نسياً منسياً ولم يكلف أحد منا نفسه عناء البحث عنها لدراستها وتقييمها ونشرها على الملأ كما يفعل الناس بتراثهم الخالد في كل زمان ومكان.

قصته مع علماء العراق

ذكر الدكتور الأنصاري ضمن كلمته حول الشيخ ميثم البحراني قصة معبرة حدثت للبحراني مع علماء العراق الذين ألحُّوا عليه لزيارتهم للتباحث في أمور العلم والدين، إلا أنه كان يعتذر ويرسل إليهم بعض الأبيات التي تبيِّن أن لا فائدة من إضاعة الجهد في حقل الثقافة والمعرفة! ولكن زملاءه العراقيين شنعوا عليه أراءه المتشائمة ونعوا عليه إخفاءه لعلومه ومعارفه وانصرافه إلى مثل تلك النظرات والآراء، فقرر الشيخ ميثم الذهاب إلى العراق وقد بيَّت في دخيلة نفسه أمراً يقصد به إقناع زملائه علماء العراق بوجهة نظره الصريحة والواقعية.

وصل الشيخ إلى العراق ولبس لباساً رثًّا وممزقاً وأخفى ملامح وجهه بالغبار والسواد وتوجه إلى مجلس أصدقائه الذين كانوا في شوق شديد إلى الاجتماع به والاستئناس بعلمه، إلا أنهم لم يعرفوه ولم يلتفتوا إليه، فجلس قرب الباب يستمع بأدب، وطرحت على بساط البحث مسألة دينية عويصة فأبدى رأيه فيها ببرهان وحجة إلا أنهم لم يستمعوا إليه بل طلبوا منه أن يسكت! وعندما أحضروا الطعام لم يشاركوه واكتفوا بإعطائه فضلات المائدة.

وفي اليوم التالي لبس الشيخ ميثم أجمل ثيابه وأبهاها وتأنق وتعطر وقصد مجلس القوم، فإذا بالجميع ينهضون مرحبين معانقين، وأجلسوه في صدر مجلسهم وأقبلوا عليه بالحديث اللين والأدب الجم، ثم طرحت مسألة من مسائل البحث فتعمد شيخنا الإدلاء برأي سخيف ضعيف الحجة ولكن صحبه أبدوا إعجابهم بالرأي مداراة لصحابه، وعندما جاءت المائدة بما عليها من الأطايب كان للشيخ ميثم محل الصدارة، هنا غمس الشيخ طرفاً من كمه في الحساء قائلاً: «كل يا كمي!» وعندما أبدى العلماء استغرابهم قص عليهم القصة من أولها وقال لهم في النهاية: «لقد رجحتم الجهالة على العلم والغنى على الفقر» وأنا صاحب الأبيات التي في أصالة المال وفرعية العلم والكمال وقد قابلتموها بالتخطئة والاستنكار... فاعترف الجماعة بالخطأ في تخطئتهم له واعتذروا عما صدر منهم من التقصير في شأنه.

السطور السابقة كانت خلاصة الورقة التي طرحها الدكتور الأنصاري، وكنا نتوقع من مثله أن يقدم ورقة أكثر عمقاً!

وكانت الورقة الثانية في هذا الجلسة مقدمة من الشيخ محمود محمدي عراقي.

الجلسة الثانية

في هذة الجلسة قدم (الدكتور صباح زنكنه)، ورقة بعنوان: «الشيخ ميثم البحراني.. يخترق العصر»، قال فيها: إن الشيخ ميثم البحراني يمثل نموذجاً للعالم الذي يتخطى الحدود المكانية، ويعبر الحدود الزمنية أيضاً، علاوة على كونه شخصية انسيكوبيدية، تبدع في جميع الشؤون التي تتعامل معها. وبدراسة متمعنة للظروف التاريخية والفكرية والسياسية التي عاصرها الشيخ البحراني، وطرح اختصاصاته العلمية البارزة فسوف نجد أنه ساهم في تأسيس تيارات فكرية وعلمية، تجاوزت الكم المتراكم من التركة الفكرية التي عاصرها، وجاءت بأرضية ساعدت على بناء مدارس أنارت القرون اللاحقة.

وقدم الدكتور زنكنه ضمن ورقته نظرة على الأحوال السياسية والعقلية في القرن السابع الهجري في البلدان الإسلامية، ليطلعنا على الظروف التي عاش فيها الشيخ البحراني، خاصة في العراق حيث كان مركز الخلافة العباسية.

كما أكد الدكتور زنكنه على أن ما يلفت النظر في التاريخ العلمي للبحرين هو وجود مختلف المدارس الفكرية والعلمية التي تُدَّرس، بعيداً عن التكفير والتفسيق، وعلى شتى المراحل التاريخية، وعلى أعلى مستويات التحصيل العملي. مؤكداً أن الشيخ البحراني درس أولى مراحله العلمية على المدارس التي تحفل بالتعددية الفكرية، وحينما فقد أحد أساتذته (شيخ كمال الدين أحمد بن علي بن سعيد البحراني) اتجه إلى الخواجة نصير الدين، محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، وكان الطوسي قد اضطلع بمهمة تاريخية كبرى وهي تحويل الطوفات المغولي العارم إلى روافد تحيي الأرض والنسل... وتمهد لبناء أعظم التجمعات العلمية، وتأسيس أضخم المراصد، وإيجاد مكتبة بأربعمائة ألف مجلد.

فهذا التواصل العلمي -بتعبير زنكنه- يدلنا على العالمية، أو تخطي الحدود المكانية، حتى في أحلك الأدوار التاريخية، كما يدل على الموقع الهام لشيخنا كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، وعلى حرصه لاستكناه الدروس والغوامض من العلوم والفنون.

ويؤكد الدكتور زنكنه على أن الشيخ البحراني يعتبر حلقة وصل هامة، حفظت أصول علم الكلام والفلسفة الإسلامية بثوبها الرشيق ونقلته حتى وصل إلى صدر الدين الشيرازي المعروف بـ«ملا صدرا».

ونظرة عابرة إلى كتاب «قواعد المرام في علم الكلام»، للشيخ البحراني، تدلل على العمق الفكري والقدرة الخلاقة للشيخ ميثم في ترتيبه المواضيع، وحصره الأقوال وطرحها بكل موضوعية وأدب ونقدها بكل سلاسة، وقبول ما يمكنه قبوله والاستدلال عليه، ورفضه ما يجده مخالفاً للحقيقة النقلية أو العقلية.

ومهم جداً أن نعرف أن خصوم الشيخ البحراني، في المجالات العلمية والفكرية والمذهبية -كما يؤكد زنكنة- لم يتوانوا عن إبراز الإعجاب به وكيل المديح عليه والاعتراف بقدراته وصحة رؤاه العلمية.

وشارك في هذه الجلسة كل من: السيد دين برور، والشيخ الدكتور فريد هادي.

الجلسة الثالثة

الورقة الأولى في هذه الجلسة قدمها (فضيلة الشيخ حميد المبارك)، وجاءت بعنوان: «ميثم البحراني.. حياته العلمية ودوره في دعم الحركة العلمية في البحرين». الجانب الأول في ورقة المبارك خُصص للحديث عن حياة الشيخ ميثم البحراني. أما الجانب الثاني في الورقة فقد خُصص للحديث عن دور البحراني في دعم الحركة العلمية في البحرين، وقسمها المبارك لقسمين: الأول: دوره العلمي، والثاني: دوره في رعاية طلبة العلم والعلماء في البحرين. وفيما يرتبط بالدور العلمي للشيخ ميثم البحراني أكد الشيخ حميد المبارك أن للشيخ ميثم دوراً في الحركة العلمية وذلك من خلال أمرين، وهما:

1- إثراء المكتبة الإسلامية بالمؤلفات المتنوعة من علم كلام وفلسفة وعلوم أدبية، وغير ذلك، مما أدى إلى إغناء هذا الجانب المهم من المكتبة الإسلامية وسد الفراغ فيه، وعالج النظريات الكلامية والفلسفية والعرفانية العالقة منه.

ولقد كانت مؤلفات الشيخ ميثم البحراني -بتعبير المبارك- محط اهتمام الباحثين والمؤلفين والدارسين، فقد كان كتابه (القواعد في علم الكلام) يُدَّرس في المحافل والحوزات والمدارس العلمية، فلقد دَرَّس هذا الكتاب الشهيد العاملي، وهو من إجلاء علماء الإمامية، مما يدل على أهمية هذا الكتاب ومقدار العلم الغزير الذي انطوى عليه، وأهميته العلمية، بحيث يصبح كتاباً دراسياً ومتداولاً في المدارس والحوزات العلمية.

2- استفادة الفقهاء والعلماء من تحقيقاته الكثيرة التي أودعوها في كتبهم وأشاروا إليها ونسبوها إليه مما يبين مدى الشأن العلمي لهذه الشخصية. واستدل الشيخ المبارك ببعض النكات العلمية التي استشهد بها بعض الأعلام للتدليل على رؤيته، ومنهم: الشريف الجرجاني، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ البهائي، والشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي.

أما عن الدور العلمي للشيخ البحراني في رعاية طلبة العلم والعلماء في البحرين فقد أشار الشيخ المبارك ضمن ورقته إلى السعي الحثيث الذي بذله الشيخ ميثم البحراني لخدمة العلماء والناس في البحرين من خلال الرسالة التي بعثها للشيخ الخواجة نصير الدين الطوسي، حيث إنه نال حظوة التتار (المغول) في تلك الفترة؛ فبعث إليه برسالة يطلب فيها ضرورة مساعدة أهل البحرين، وخصوصاً طلبة العلوم الدينية والعلماء، من خلال تخصيص بعض الأرزاق لهم، وتخفيف بعض الضرائب عن عامة الناس، وتهيئة السبل والطرق وتوفير الأمن فيها ليسهل استطراقها. وأثبت الشيخ المبارك نص الرسالة في ورقته.

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها (السيد محمد أصفهاني)، عن: «دور الإمام كمال الدين ميثم في بناء المجتمع الحضاري في عصر المغول»، وأكد أصفهاني في ورقته على الدور العلمي الكبير الذي حققه الشيخ البحراني، من خلال رسائله العلمية التي كان يتبادلها مع الخواجة نصير الدين الطوسي، وردّ على من يشكك في نسبة هذه الرسائل إلى الشيخ ميثم البحراني.

أما الورقة الثالثة في هذه الجلسة فقد قدمها (الشيخ ماجد الماجد)، وحملت عنوان: «أضواء على شخصية الشيخ ميثم البحراني»، وفيها حاول الباحث أن يشير إلى الواقع المحلي والإقليمي الذي عاش ظروفه المحدث والفقيه والمتكلم الشيخ ميثم البحراني، لما في ذلك من دلالة لمعرفة الأسس التي ساهمت في التكوين المعرفي والثقافي، والتناغم مع الأوضاع المتحركة في محيطه العام، وقدرة الشيخ ميثم على التفاعل معها بعقلية متجددة. وأشار الماجد ضمنها لعلاقته الإقليمية مع العلماء ورجال الدولة، وعلاقته بالواقع الاجتماعي، وفاعليته العلمية.

وركز الشيخ الماجد في ورقته هذه على تأثيرات المحيط الداخلي والإقليمي في حياة الشيخ ميثم البحراني، وذلك من خلال أمرين، هما:

أولاً: تطور العلاقة مع المحيط العام الخارجي وفق الضوابط الإسلامية، مع ملاحظة منهج الشيخ القريب إلى النظرية والخلوة، بما يضفي عليه الانعزال، وخبرة الزمان وأهله، وكما ينقل عنه ذلك في قصة: «كل يا كمي» -توجد إشارة مفصلة لها ضمن ورقة الدكتور الأنصاري- التي تنم عن عقلية فذة في قراءة الواقع الديني والاجتماعي وتأثر العقلية الدينية والاجتماعية بأمور دنيوية في عملية التقييم للكفاءة والمستوى، ومع ذلك نرى الشيخ ميثم يدير معادلته بتفاؤل وحكمة ولم يمنعه معرفته بالواقع المتغير من علاقات سياسية وعلمية وترحال ولقاءات مع كثرة المعوقات لهذا النوع من الأفذاذ، وقد مارس الشيخ البحراني دوره من خلال موقعه العلمي.

ثانياً: العقلية المتفاعلة مع المتغيرات والأوضاع السياسية، ويظهر ذلك جلياً في تناوله لموضوع الاجتماع من جنبة مدنية وسياسية، بما يصلح الاجتماع، مع ملاحظة استخدام المصطلحات للتعبير عن رؤيته بمفاهيم تناسب المنهج العلمي للشيخ وهو منهج الكلام والفلسفة للتعبير عن نظرياته في مفهوم المعرفة الحسية، والحكمة العلمية بقوله: «وأما أقسام الحكمة العلمية فهي حكمة خلقية، وحكمة منزلية، وحكمة سياسية، وذلك لأن كل عاقل لا بد وأن يكون ذا غرض في فعله».

وحول الحكمة السياسية يقول: «وأما أن يكون -الغرض- عائداً إلى الإنسان مع عامة الخلق وهو علم السياسة».

ويرى الشيخ ميثم -كما يذكر الماجد- إمكانية إضافة غرض رابع للإنسان باعتبار مدنيته بما يسمى بالحكمة المدنية، وهو تعلم تدبير المدنية ضبطاً ورعاية للمصالح، وهذا يعني التداخل بين السياسة والاجتماع، والمشاركة بين مصالح الأبدان ومصالح بقاء النوع الإنساني.

والمدنية تعتبر قمة الازدهار الاجتماعي، إذ توفر الحرية وتحميها، وتسهل أمور الناس العقائدية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي سلم بناء المجتمع الحضاري، وحفظ مكوناته، وهذا ينم عن عقلية علمية ذات كفاءة إدارية وسياسية، وسعة الأفق الذي يتمتع به الشيخ ميثم، وحركة الزمان، والمكان الذي تنقل عبره وتتعاطى معه.

الجلسة الرابعة

من الأوراق المقدمة في هذه الجلسة ورقة مكتوبة باللغة الفارسية (للأستاذة السيدة زهراء مصباح)، عرّبها الأستاذ علي مشكوري، وجاءت بعنوان: «نظرة عابرة على الحياة العلمية للعلامة ابن ميثم البحراني»، وصدرتها بقولها: إن البحث والكتابة عن الشخصيات العلمية تحتاج إلى مصادر ومراجع معتمدة ومعتبرة حتى يتمكن المتصدي أن يرسم صورة متكاملة وشاملة عن هذه الشخصيات، وعلى الرغم من أن للشيخ ميثم (طيب الله ثراه) موقعاً شامخاً ومتميزاً في الفكر الشيعي، خاصة تألقه في شرح نهج البلاغة، إلا أنه من المؤسف لم تصدر لحد الآن دراسات وأبحاث شاملة ومتكاملة عن حياته وآثاره سواء في الفارسية أو العربية إلا ما ندر.

وأكدت السيدة مصباح في ورقتها على أن شرح الشيخ ميثم لنهج البلاغة هو من أفضل شروحات هذا الكتاب العظيم، وتضيف السيدة مصباح قائلة: لقد ترك الأساتذة الذين تلمّذ على أيديهم أثراً كبيراً في توسيع أفكاره وتطلعاته، كما أنه لم يكن يدخر جهداً في كسب العلم والمعرفة من خلال مطالعاته ومتابعاته... ولقد لمسنا اهتمام الشيخ بالمطالعة من خلال قراءتنا الدقيقة لكتابيه المهمين: شرح نهج البلاغة، وشرح المئة كلمة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث ضما نصوصاً كثيرة لعدد من العلماء من مختلف المذاهب والاختصاصات، ففيهم الفقيه والفيلسوف والمتكلم واللغوي والنحوي الأديب.

وتحتل الفلسفة -بتعبير السيدة مصباح- وعلم الكلام والتصوف مكاناً متميزاً في منظومة الشيخ العلمية والفكرية حتى غدت أفكاره تحمل خليطاً من هذه العلوم يصعب تصنيفها وحتى دراستها بشكل منفصل عن بعضها بعضاً.

أما عن طريقة الشيخ ميثم وغايته التي سعى إليها في التأليف فتقول السيدة مصباح: هي إعلاء كلمة الحق ونشر لواء العلم والحكمة والإيقاظ من السبات لفهم حقائق الدين المودعة في الصحف والصرف عن المزور والمزيف، مما هرع إليه أهل الغفلة وأصحاب الغرض الذين كادوا أن يقضوا على ما للدين من القوة وروعة الجمال.

وطريقته الجدال من دون أن يزيغ أو يفزع إلى ما يوجب إرضاء الغرور وإسدال الستار على الحق بالتي هي أحسن، أقصر طريق للبلوغ إلى الحق، وقد عاهد الله في أول كتابه «الشرح الكبير» ألَّا ينصر فيه مذهباً غير الحق ولا يرتكب هوى لمراعاة أحد من الخلق.

وفيما يخص المصادر التي استفاد منها الشيخ ميثم فأهمها ما ورد من الآيات الكريمة، وتعقيبها بسرد ما جاء من الأحاديث والآثار، ثم ينطلق بعد ذكر ما أحكمه من دلائل الحكمة وشواهدها من دون أن يدخل في مضائق شعاب الحدس والتخمين.

ومن الإشارات اللطيفة في هذه الورقة بخصوص تلاميذ الشيخ ميثم أن السيدة مصباح أكدت على أن أول تلاميذ الشيخ ميثم وأبرزهم هو الخواجة نصير الدين الطوسي، فكما أن الشيخ ميثم تلمّذ على يدي الشيخ الطوسي فإن الشيخ الطوسي درس الفقه على يد تلميذه الشيخ ميثم!

ومن الأوراق المقدمة في هذه الجلسة، ورقة (الدكتور الشيخ محمد علي بن الشيخ منصور الجمري)، وجاءت بعنوان: «مكوّنات البناء المعرفي عند الشيخ ميثم البحراني كما تظهر في شرحه على نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام)». وبخصوص الأسئلة النقدية في منهج ابن ميثم الكلامي، يقول الدكتور الجمري: من الآليات المنهجية التي استخدمها الشيخ ميثم في دراساته الكلامية، ما أصبح يعرف اليوم في المناهج الحديثة بالفحص النقدي Critical Examinaation وهذا المنهج يعتمد أساساً على أسئلة خمسة تتمثل في الكلمات التالية: ما، هل، لِمَ، كيفَ، ومَنْ. وقد طبَّق ابن ميثم هذا المنهج في دراسته لقضية النبوة والإمامة. ويظهر ذلك واضحاً في قوله: «فاعلم أن الكلام في النبوة مبني على خمس مسائل يُسأل عند كل منها بكلمة مفردة، وتلك الكلمات: ما وهل ولِمَ وكيف ومن». (القواعد: 121). وقال الكلام نفسه في مقدمة بحثه للإمامة (انظر القواعد: 173). وقد شرح ابن ميثم المقصود بهذه الأسئلة النقدية وهدفها في المنظومة المنهجية للبحث الكلامي، في قضيتي النبوة والإمامة، يقول ابن ميثم: «فأولها قولنا: ما النبي [أو ما الإمام] والبحث فيها عن مفهوم هذه الكلمة في الاصطلاح العلمي. والثانية قولنا: هل النبي، أي هل يجب وجوده في الحكمة أم لا. والثالثة قولنا: لم يجب وجود النبي، ويُبحث فيها عن العلة الغائية لوجوده، ووجه الحكمة فيه. والرابعة قولنا: كيف النبي، ويُبحث فيها عمّا ينبغي أن يكون عليه من الصفات التي بها يتمّ النبوة. والخامسة قولنا: من النبي، ويُبحث فيها عن تعيينه» (القواعد: 121-122)؛ فالبحث بالنسبة للنبي أو الإمام إذن يمر -عند ابن ميثم- من خلال هذه الأسئلة، أو الأركان الخمسة، والتي تشمل ماهية النبي أو الإمام، ووجوده، وعلته الغائية، وما ينبغي له من الصفات، كالعصمة، والإعجاز، والنزاهة، وفي تعيين الرسول أو الإمام، وما إذا كان ذلك من قِبَلِ الله، أو من قِبَلِ الناس، بالنصّ أو بالاختيار.

إن مشاركة الشيخ ميثم -بتعبير الدكتور الجمري- في إبراز هذا المنهج النقدي إحدى المساهمات العلمية الهامة التي أضافها ابنُ ميثم البحراني للبحث الكلامي الإسلامي.

كما استعرض الدكتور الجمري ضمن ورقته بتفصيل مسألة الفكر أو النظر لدى الشيخ ميثم البحراني، وبيَّن المناهج التي تبناها في البحث والاستدلال، والاحتجاج والبرهان، واعتبر ذلك مقدمة منهجية ومدخلاً مناسباً لبحث مكونات البناء المعرفي عند الشيخ ميثم البحراني، وعرض سبعة من هذه المكونات، هي: المكون اللغوي، والمكون الشرعي، والمكون العقائدي، والمكون الكلامي، والمكون التاريخي، والمكون المنطقي، والمكون العرفاني. وأكد الشيخ الجمري على أن الشيخ ميثماً موسوعي الثقافة، ويتبنى منهجاً تكاملياً يمزج بين جميع مصادر المعرفة، ومناهج البحث، ويوظفها كلها لخدمة غرضه الأساس.

وتساءل الدكتور الجمري: ماذا يمكن أن نأخذ من ابن ميثم لعصرنا؟

وأشار للنقاط الثلاث التالية:

1- هذه المهارة الفائقة في المزاوجة بين مناهج العلم المختلفة: بين المنهج العقلي والمنهج النقلي، وبين المنهج الفلسفي والمنهج الكلامي، وبين المنهج المنطقي والمنهج العرفاني، وبين كل هذه المناهج مجتمعة على نحو لا تنافر فيه، ولا تضارب، ولا تضاد.

2- ذلك التسامح الكبير مع أصحاب المذاهب والآراء الأخرى، فقد عرض آراءهم بكل دقة وموضوعية وتجرّد، وناقشها بكل أدب واحترام، فلم أجد في شرح النهج كله أية كلمة نابية أو خارجة عن السياق، على أي من الفرق الإسلامية المختلفة.

3- هذا المنهج المتقدم للبحث في القضايا الخلافية، والتقريب بين المسلمين، فقد اتّبع في شرحه منهجاً تكاملياً مقارناً، وهذا هو المدخل الصحيح الأول للبحث الموضوعي، والتقارب المنشود.

* * *

كانت السطور السالفة كما أوضحنا في البدء تغطية لمعظم الأوراق التي ألقيت في: «ندوة الشيخ ميثم البحراني وحياته العلمية»، وقبل أن يُسدل الستار إيذاناً بختام الندوة، دعا المشاركون إلى أهمية عودة الثقافتين العربية والفارسية الى تفاعلهما الحضاري، كما في العصور الذهبية لحضارتهما الإسلامية. مؤكدين في الوقت نفسه على أن الاحتفال بالشيخ ميثم يأتي ليؤكد ضرورة التواصل الثقافي والحضاري مع العالم أجمع بدعم مسيرة التقريب بين المذاهب ونبذ بوادر الخلاف والفرقة.