شعار الموقع

ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين:الاتصال والتقاطع أم الانفصال والقطعية

عباس عبدالحليم عباس 2006-11-09
عدد القراءات « 734 »

 

الكتاب: ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين.. الاتصال والتقاطع أم الانفصال والقطعية

الكاتب: علي علي آل موسى

الناشر: مجلة البصائر - بيروت

الصفحات: 368 صفحة من القطع الوسط

سنة النشر: ط1، 1426هـ

 

ينطلق هذا الكتاب من الشعور بالأزمة التي تعاني منها الأمة بسبب الخلل المنهجي في التعامل مع النص مما أنتج فكراً سلفياً مال في العديد من أزمانه إلى القشور، وكذلك الخلل في العلاقة مع الآخر المختلف الداخلي / والخارجي، وأخيراً خلل التناول الفكري لمدرسة الوحي والإمامة وسيطرة ثقافة غربية واسعة.

وقبل البدء بتحليل مادة الكتاب أوجز الأستاذ زكريا داوود لمحة عن مؤلفه قائلاً: إنه سماحة الشيخ علي آل موسى الذي تميزت مسيرته الفكرية بالجمع بين منهجين في التعاطي مع التيارات المعرفية، منهج الحوزة بكل ما يحمل من عمق وعراقة ودقة في التحليل والنقد والإنتاج، ومنهج الجامعة بمكوناته الحديثة والمنفتحة على الفضاءات الثقافية الأكاديمية، ويمكن القول: إن كاتبنا تميز بالمميزات السالفة الذكر وهي القرب من مصادر المعرفة اليقينية، ومعرفته بهموم الناس من خلال التواجد الحقيقي في المجتمع من خلال أداء دوره كعالم دين منفتح ومثقف وملم بمنهج الحوزة والجامعة، مع شعوره بضرورة التصحيح والإصلاح، وميزته الأخرى والمهمة هي روح الإبداع والقدرة على التحليل والنقد، وهذه الأمور تضفي مع موضوع الكتاب وعمقه وأسلوبه الراقي أهمية أخرى، لتجعل من الكتاب لبنة مهمة تضاف في صرح الثقافة العربية والإسلامية.

أما الكتاب فهو كعنوانه يحمل هَمَّ الإصلاح والتصحيح والإبداع، إصلاح عقلية الأمة في بعدها الثقافي من خلال إيضاح مكامن الخطأ والخلل، ومن ثم اقتراح مجموعة من الحلول والبدائل، وتصحيح ما اعوج من فكر وما التبس من مفاهيم ومصطلحات وما تحمله تلك المفاهيم والمصطلحات من دلائل قيمية، ويمثل الكتاب بفصوله التسعة منهجاً يسهم في تكوين عقلية قادرة على نقد ووعي ما تبثه التيارات الفكرية والثقافية في زمن العولمة، لأنه يركز على العديد من الأسس التي تمثل منطلقات في حركة التثاقف.

«ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين: الاتصال والتقاطع أم الانفصال والقطيعة» هو كتاب يضم بين دفتيه فكراً رسالياً يحمل هم الأمة والنهوض، يناقش فيه الكاتب رؤى فكرية متعددة، ينتقد ويحلل ويؤسس وكل ذلك بروح علمية أكاديمية مسؤولة، لا يقف عند حاجز من العرف أو ما هو مسكوت عنه ما دام الأمر يدخل ضمن التأسيس لوعي نهضوي يسهم من خلاله الكاتب في التشكيل لعقل عربي خالٍ من أوهام التاريخ أو الأعراف والتقاليد.

* مفهوم الفكر.. مفهوم الثقافة

يوجز المؤلف مفهوم مصطلح الفكر عبر مقاربات لمختلف الميادين المعرفية وتتحدث عنه ضمن منظومتها اللغوية، أو المنطقية، أو الفلسفية، أو التربوية، نجده فيها يُطلق على الدماغ والذهن، وهو بذلك يعني (آلة التفكير).

ويُطلق ثانية على العملية العقلية والنشاط الذهني أو النفسي، أي ترتيب أمور في الذهن أو النفس منها (تتولد) معرفة جديدة، أو تؤدي إلى تعميق وتوسيع معرفة قديمة، فهو موازٍ لمصطلح (عملية التفكير).

ويُطلق ثالثة، ويُراد به: الناتج من تلك العملية،.. ما تم التوصل إليه منها، فنقول: الفكر الديني، الفكر المسيحي، الفكر الإسلامي، الفكر العلماني، الفكر المادي، فكر هيجل، فكر ماركس، و...، ونقصد به ما توصّل إليه هؤلاء بعد قيامهم بعملية التفكير.

فهو -هنا- مساوق لمصطلح (ناتج التفكير)، و(الأفكار) التي هي عبارة عن «الخاطرة التي تطرأ على الإنسان، والتصوّر الذهني لمعالجة قضية منبعثة من العالم الخارجي، وأساسها العقل المُحكم»، وينطبق على «الأفكار والمناهج والمعلومات التي يتشكّل منها ويقوم بها مذهب أو فلسفة أو دين».

وهذا المعنى الثالث هو الذي غلب استعمال لفظ (الفكر) فيه في العصور الأخيرة، ولعلّه دخل العربية من الاستعمالات الأوروبية.

أما عن الثقافة وفقهها..

إن كلمة (ثقف) -في معناها المرجعي في اللغة العربية- تشعّ بدلالات «الحذر، والحذق، وسرعة التعلم، والفطنة. يقال: (رجل ثقف)، إذا كان ضابطاً لما يحويه، قائماً به»، و«التدريب، والتعهد، والتقويم»، و«اكتساب الحذق والفهم. يُقال: (عمرو امرؤ ثَقِفْ)، أي: فطين وذكي، بمعنى أنّه واثق من معرفته لما يفعل أو لما يحتاج إليه».

وقد استخدمه الجاحظ [163-255هـ]، [779-868م] بمعنى: التدرب على احتراف عمل من الأعمال، والتمرس بكفاءة من الكفاءات المختلفة.

غير أنّ المصطلح -وعبر مساره التاريخي- تجاوز هذه المعاني الضيِّقة عند القدماء، بحيث غدت دلالته الراهنة شمولية، واكتسب سعة في المعنى، واختلف علماء التربية وغيرهم في تعريف (الثقافة)؛ تبعاً لاختلاف تخصصاتهم، ووجهات نظرهم.

الفكر والثقافة في القرآن الكريم

وفي حين نجد العديد من آيات القرآن الكريم تتحدث عن الفكر والتفكير ضمن مشتقات هاتين الكلمتين، لا نجد كلمة (الثقافة) ولا مشتقاتها واردة فيه إلا بمعنى (وجدتموهم أدركتموهم)، وذلك في ست آيات قرآنية منها: {واقتُلوهُم حيثُ ثَقِفتُموهُمْ}، غير أننا يمكن أن نجد بعض المعاني لكلمة (الثقافة) ضمن عنوانين آخرين، هما:

1- البصيرة: (البصيرة) هي الفكر المؤثر في السلوك، و(البصائر)، هي «الرؤى، أو الأفكار والتصورات والمفاهيم التي تمثل الأرضية لنمو سائر الأفكار والسلوكيات والقيم»، وهو ما يوازي (الثقافة) في معناها التربوي.

2- العلم: أما (الثقافة / المثقف) بمعناها العرفي، وخصوصاً في معانيها الثلاثة الأخيرة: (صاحب التحصيل العلمي، أو المتعلم، أو المستهلك والمنتج للأفكار)، فلعلّ المصطلح القرآني المقارب لها هو (العلم / العالم).

«والحقيقة: أنّ صفة (العالم) التي يعطيها الدين للإنسان هي أعلى درجة، وأرفع مرتبة، وأكثر قيمة من صفة (المثقف)، وهذا ما يتبادر إلى الذهن حينما يُقال عن إنسان: إنّه عالم، وعن آخر: إنّه مثقف.

وكل ما يصدق على المثقف يصدق على العالم، والعنصر الأساسي المشترك بينهما: هو الارتباط بالمعرفة كسباً ونتاجاً وإبداعاً، وما تفرضه العلاقة من وظائف ومهام وأدوار على أصعدة المجتمع والأمة كافة، والتي تتأكد بصورة أكبر في المنظور الإسلامي الذي من عناصر رؤيته للعلم: أنه ليس للكسب الذاتي، وإنما هو حق ينبغي أن يُشاع، وقد أكد الفقهاء على عدم جواز احتباس العلم واحتكاره».

مراحل ثقافة المسلمين

وقد مرّت ثقافة المسلمين -في زمانها الممتد من التطابق مع ثقافة الإسلام إلى التغاير والاختلاف الواسع بينهما- بثلاث مراحل:

1- مرحلة الفهم: ففي وقت نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عربياً، كانت تتلقاه قلوب الصحابة وغيرهم تلقياً فطرياً عفوياً، يدركونه بداهة؛ لما يختزنونه من قرب اللغة، ييسر لهم الفهم المباشر للنص، دون الحاجة إلى مفسّر، وإن تفاوتت نسب الإدراك والمعرفة بينهم. فهم أمام علاقة (اللفظ - الفطرة)، (اللفظ - الفهم).

لقد كانت تهمي عليهم معاني آيات القرآن الكريم، ومقاصد أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محمولة على سفن ألفاظ اللغة العربية التي يدركونها، ويستوعبونها مباشرة، دون الحاجة إلى إمعان نظر لمعرفة المراد.

فطوال مدة الرسالة لم نشهد أحداً يسأل عن المعنى اللغوي لكلمة في آية أو حديث، ما عدا أفراد محدودين نقل التاريخ عنهم عدم معرفتهم معنى (الأبّ) في {وفاكهةً وأبَّا}، أو معنى (الكلالة) في {يَسْتفتُونَك قُل اللهُ يُفتيكُم في الكَلالَةِ}، أو غيض من المعاني الأخرى.

وإذا كانت تواجههم كلمات مثل: الوضوء، التيمم، الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، خضراء الدمن، ...، ويسألون عن معناها، فهم لا يسألون عن معناها اللغوي و(حقيقتها اللغوية)، وإنّما يسألون عن معناها الاصطلاحي التشريعي الجديد الذي انتقلت إليه، واكتسبته عبر (الحقيقة الشرعية).

2- مرحلة التفسير: ثمّ أخذت تظهر التفسيرات للألفاظ، والتفسيرات للفظ الواحد، فنكون إزاء علاقة (اللفظ - المعنى)، (اللفظ - التفسير)، لكنّها -في الأعم الأغلب- معانٍ مستقاة من اللفظ.

وقد نجد نزراً يسيراً من بوادر هذه المرحلة في عهد نزول الوحي، على نحو ما نراه من تطبيق أحد الصحابة لكيفية التيمم بدلاً من الغسل بالتمرّغ في التراب لكل الجسم.

والسبب في قلتها في عهد الرسالة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبادر دائباً لإيضاح تلك المعاني، ووجوده المبارك بين ظهرانيهم يجعل عملية العودة إليه لاستقائها مباشرة من معدنها الزلال سهلة المنال، فضلاً عن كونهم أرباب اللغة الذين يفهمون مداليلها بوجدانهم.

بيد أنّ هذه التفسيرات -كما يرى المؤلف- أخذت تكثر كلما امتدّ الزمن، وابتعدنا عن اللغة، وتعبيراتها الحقيقية والمجازية، وراحت الكلمات تكتسب معاني جديدة وإيحاءات مختلفة، وغاب السياق الذي وردت فيه، والذي تؤثر معرفته في تفسيرها، يزيد الأمر عمقاً -لاسيما عند المتأخرين، ومن جاء بعد عصر التدوين- اختلاف النصوص نفسها في السند والمتن ومن ثمّ اختلاف الدلالة، وتقطيع أوصالها بحيث ضاع الجامع المشترك، وضاعت نصوص مقيدة أو مخصصة ومطلقة أو معممة، والتبس المثال بالصورة العامة، وظهور مدارس اجتهادية مختلفة تتباين في بعض الاتجاهات العامة وفي كثير من التفاصيل.

3- مرحلة التأويل: وفي المرحلتين السابقتين يُصرف اللفظ إلى معنى ظاهري: إما يُدرك بالفطرة، وإما بإمعان النظر والذهن، وقد تؤيد اللغة والشرع ذلك ولو بوجه من الوجوه، غير أنّه في المرحلة الثالثة صار اللفظ يُصرف إلى معانٍ باطنية.

والعلاقة -هنا- ليست بين (اللفظ والمعنى الفطري)، ولا (اللفظ والمعنى العقلي)، وإنما هي بين (اللفظ ومعنى المعنى)، أو (المعنى الإشاري) أو (المعنى الخفي)، أو -بعبارة أخرى- بين (اللفظ وتفسير التفسير).

وفي التعبير عن كثير من التأويلات التي وصلتنا عن الفلاسفة والصوفية بـ(معنى المعنى)، وما بعده جري على تسمية ذلك بما يسمّونه، بغض النظر -الآن- عن قبولنا لصدق إطلاق تلك المصطلحات على كثير من تأويلاتهم من عدمه.

ولسنا نقصد -هنا- من (التأويل): الأَوْل والمشارفة وما ينتهي إليه المعنى أو يرمي إليه مما لا يخالف الظاهر، فهذا معنى مقبول تقره اللغة والشريعة، وإنما نعني به حمل الألفاظ على معانٍ خفية، كبعض ما يُسمّى بـ(الحقائق الإشراقية)، و(الإلهامات القلبية)، و(الفيوضات الربانية).

والمتلقون من الناس إذا عرض لهم الدين مشوّهاً كدراً فموقفهم العملي في الغالب بدلاً من أن يسعوا لإبعاد الركام والغبار المستتر عليه، والمضي إلى النبع للتعرّف عليه مباشرة، والاستقاء من زلاله، وترك ما عراه من تفسير خاطئ، بدلاً من ذلك ينطلقون من فكرة معاكسة أنّه إذا كان الدين هكذا، فلابد من تركه أو تجاوزه والانطلاق في الحياة، أو أنهم بذلك يصلون إلى أنه إذا كان هؤلاء الذين عرضوه وهم الأعرف به لم يفلحوا في عمليتهم تلك، فقد انسدّ السبيل أمام إمكانية الفهم الصحيح له.

* مواصفات الثقافة الحية

يلخص المؤلف خصائص الثقافة الحية بمواصفات هامة، منها:

المبدئية والرسوخ:

يرى بعض المثقفين أن الثقافة -بالضرورة- هي نتاج بشري، لا صلة للوحي به، والمثقف متصل بما هو بشري لا إلهي، وأنّ إدخال الدين ضمن النسيج الثقافي والاجتماعي يعني السير بها نحو الكهنوتية والحكم الديني (الثيوقراطي).

فمن الناحية المفهومية، يضعون إطاراً عاماً للثقافة بأنها: «كلّ ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء، ومن مظاهر في البيئة الاجتماعية» على حد تعبير كلباتريك.

.. «ما صنعته يد الإنسان وعقله»، لا ما يتصل بالوحي والسماء.

ومن الناحية التطبيقية، يرون في تجربة الحكم الكنسي في العصور الوسطى، وما رافقه من محاكم تفتيش [أُنشئت في 1183م]، وقمع وقهر للعلم والعلماء باسم الدين، أودى بـ(300.000) شخص، منهم (32.000) أحرقوا أحياء!!، ومن ثمّ دعوة المصلحين الغربيين إلى الفصل بين الدين والدولة، الدين والحياة ...، يرون في ذلك مثالاً جلياً على ضرورة ترك الإنسان ليشكل ثقافته بنفسه دون إملاء ديني.

فحينما «بدأ الغرب في دراسة الطبيعة بواسطة المشاهدة والاختبار والتحليل والتجزئة سقط في أيدي رجال الكنيسة، ولما وصل العلماء بطرق علمية إلى اكتشافات مهمة خاف علماء النصرانية على سيادة الكنيسة أن تنقرض، فحدث صراع عنيف بين الدين والعلم، وذهب كبار علماء الطبيعة الذين كانوا عاكفين على دراستهم وتحقيقهم ضحية علمهم».

وهكذا يصل بعضهم -كإدوارد سعيد [1935-2003]- إلى نتيجة حاسمة مفادها أن المثقف الحقيقي كائن علماني. وقد عاب الدكتور هشام شرابي على حركة الانبعاث الديني التي قادها السيد جمال الدين الأفغاني [1254-1315هـ]، [1838-1897م]، والشيخ محمد عبده أنّها «لم تضع العقيدة موضع تساؤل»، وعدم «تعريضها للنقد الحرّ».

إنّه «التصوير الذي يقدّم المثقف بنزعة نقدية مطلقة، ومتحررة من العقائد والأديان والإيمان بالغيب وما وراء الطبيعة، وإعمال العقل بلا قيد أو شرط، والتعبير عن الرأي بلا محرّمات أو موانع، وأنّ الإنسان سيد نفسه، وليس هناك مسلمات أو إيمان أو تسليم».

* التنوع المعرفي/ وثقافة البعد الواحد

تقف صفة (التنوّع) كضد لصفة (الأحادية)، وقد فطر الله العالَمَ الذي خلقه على سمة التنوّع، وفطر الله الأشياء في العالم على ذلك سواء في شكلها الخارجي، أم في محتواها الداخلي، أم في بنيتها التركيبية، يظهر هذا في عالم المادة من الذرة إلى المجرة، على نحو ما يحكيه اختلاف البحار عن الأنهار، والنجوم عن الكواكب والسدم والمذنبات، بل على نحو ما تحكيه أفراد النوع الواحد نفسه.

كما يظهر في عالم الأحياء النباتية والحيوانية والبشرية، فكم هي فصائل الأشجار والحيوانات!!، وقد نجد فصيلة حيوانية واحدة -كالنمل أو العناكب- هي بدورها تضم ملايين الأنواع.

* ثقافة الحياة.. الثقافة الغائبة

تمثل الثقافة بصعيديها: الفردي والاجتماعي؛ العمود الفقري الذي يستلهم منه السلوك صبغته العملية وحركته، فالسلوك ما هو إلا انعكاس عملي للثقافة، فبمقدار ما يملك الفرد أو المجتمع من رصيد ثقافي تصبح أعماله رشيدة.

ومن هنا تسعى جميع دول العالم للحفاظ على تراثها الفكري ومعالم حضارتها الفنية والعمرانية وغيرها، وكذلك على ملامح الحضارات المتعاقبة التي مرّت عليها، حتى تثبت للأمم الأخرى أسبقيتها في اللحاق بركب التطور، وحصولها على تراكم معرفي يسبق ويفوق الآخرين، كما توضح مدى التلاقح والتبادل الثقافي الذي تم بين تلك الحضارات في سبيل التثاقف بينها.

حينما يخطب البعض أو يكتب، يتصور وكأنه يجر قلمه ليحل مشاكل المجتمعات جميعاً بخطاب واحد ونفَس واحد وأفكار واحدة، ناسياً أن الفكرة التي تنهض مجتمعاً قد لا تنهض آخر، وأنّ الحاجة الماسة لمجتمع ربّما يصبح مجرد نقاشها في مجتمع آخر نوعاً من الترف الفكري، وأن الفكرة الرائدة في زمن قد تكون فكرة سحيقة في القِدم علتها أتربة القرون الماضية في زمن آخر.

لقد نجحت تجربة الاقتصادي الكبير البروفسور (شيخت) في إنقاذ الاقتصاد الألماني الذي لازمه الدمار الشامل بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)؛ فأصبحت ألمانيا من البلدان الرائدة في التطور الاقتصادي، ونفس هذه الأفكار ونفس البروفسور نقل نظريته وأفكاره إلى إندونيسيا لخلق التنمية الاقتصادية فيها، ولكنّنا نرى الفشل الذريع الذي مرّت به تلك التجربة، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع الإندونيسي والثقافة العملية التي تتفاعل وتتحرّك في وعيه.

وفي الهند تجد الأطروحة التي تناقش شؤون الهندوس أو السيخ صدىً فعالاً واسعاً لكونها حاجة حياتية ملحة، فهل تجد الصدى نفسه في بلدان الوطن العربي الخالية من الهندوس والسيخ؟!

كما أنّ فكرة صنع ورق الكتابة من أوراق نبات البردى التي كانت متداولة في الزمن القديم في الصين ومصر، هل تحاكي عقلية اليوم القائمة على صنع الورق الفاخر المتطور؟!

فالحاجة الثقافية لمجتمع هي تعبير صادق عن الثغرة والنقص اللذين يعيشهما، وقد لا يتفق فيهما مع المجتمعات الأخرى؛ لذلك تتفاعل ثقافة كل مجتمع مع نفسيته وعقيدته وظروفه، فيأبى قبول الثقافات الوافدة التي لا تأخذ بخصوصيته الثقافية، ولا يلبث أن يلفظها ويطردها؛ لأنه لا يطمئن إليها ولا يركن لها.

عندما نريد وضع نظرية ما في أي حقل من حقول الحياة، فنحن بين طريقين وصورتين، فإما أن تتخذ النظرية صورة التنظير المكتبي، وإما أن تتحلى بالتنظير الميداني.

التنظير المكتبي سهل وبسيط، يضع الحلّ من وراء الطاولة والمكتب بعيداً عن تعقيدات الواقع وصعوبة التطبيق، لكنّه ينتج نظريات مثالية هائمة تشهق وتموت عند وصولها مرحلة التطبيق.

جمهورية أفلاطون، والمدينة الفاضلة للفارابي، أمثولة يعشقها كل محب للأخلاق والإنسانية الصافية، وعندما يقرؤها يتلهف للوصول إلى مكان وجودها، وتصدر أنفاسه زفرات الحنين والحسرة تطلعاً لها وترقباً، لكنّه لا يكاد ينتهي من قراءتها حتى يدرك أنها ضرب من المثالية، لا يمكن تحققه وتحقيقه في الخارج؛ إذ (ما أسهل الكلام، وما أصعب العمل!!).

أما التنظير الميداني المعتمد على الأرض وما تنبته من أساليب عملية من استقراء ومسح وإحصاء وتجربة وغيرها...، فإنه يتعرف على المشكلة ونتائجها ووسائل حلّها من الواقع والتطبيق، فيلمس الواقع كما هو دون تجميل وتحوير وتجاهل وتوظيف و...، ومن ثم يحرز نسبة أكثر ضماناً لنجاح التطبيق، وتشكيل الثقافة الحية المتحركة والمتفاعلة مع الواقع ومتطلباته.

فثقافة الحياة هي: الثقافة العملية الميدانية التي تنبسط على شتى مجالات الحياة، وتساير حاملها في كل شؤونه، في نومه ويقظته، في حركاته وسكناته، في أكله وشربه ولباسه، وكيفية ترتيبه للأغراض في خزانته (دولابه)، وكيفية تعامله مع الكتاب والجريدة اللذين يقرؤهما، والإناء الذي يأكل فيه، والكأس التي يشرب فيها،.. مع نظافة بيته ورتابته وستارة غرفته، مع الناس والزمن والأشياء.

* كيف نحقق المناعة؟

لم يترك الله -سبحانه- عباده سُدى، بل أرسل لهم 124.000 نبي، وفي قول آخر 300.000 نبي حتى يُنمّوا فيهم الإيمان، ويعلّموهم الطريق الأمثل (الحكم الشرعي) الذي ينظم علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وبالطبيعة.

وأنزل -سبحانه- 114 سورة في القرآن الكريم، منها 86 سورة مكية، تركّز على العقيدة الصالحة، وخلق الوازع الديني، وتبشّر بالجنّة، وتنذر بالنار...، و28 سورة مدنية خطّت للمجتمع الإسلامي أسس الدولة الإسلامية، لكنّها مع ذلك لم تغفل الجانب الروحي.

وغني عن القول: إنّ هذه الصفات التي تعود إلى العفة تعود -كذلك- إلى الإيمان أو التقوى أو العقيدة، فالإسلام كلّ متواشج العلاقات والأصر.

وكل ذلك يتمحور ويدور حول مركز تأسيسي ينطلق من (النفس) و(الذات) وتوفير عناصر المناعة فيها بحيث تستطيع مقاومة (الخارج) متى كان مختلفاً مبايناً.

«لم يرضَ الإسلام على مدى تاريخه الباهر باستراتيجية المنع في الميدان الثقافي والفكري، وإذا كانت هذه الاستراتيجية قد مورست يوماً ما.. -وباسم الإسلام!!- بحقّ المجتمع؛ فإنها انتهت إلى الهزيمة ملحقة أضراراً لا دافع لها.

لقد كان الإسلام يستقبل الأفكار المخالفة والمعارضة بصدر رحب، وكان المفكرون العظام وأبناء المجتمع يواجهون أفكار الآخرين برحابة صدر وثقة عالية بالنفس، ويستفيدون من محاسنها، ويدعون مساوئها تنسحق وتتلاشى في حركة النظام الفكري والقيمي الإسلامي، وبذلك استطاعوا أن يزيدوا من استحكام البنية الفكرية للمجتمع الإسلامي».

 

 



(([1])) أستاذ في الجامعة العربية المفتوحة – عمّان.