يتضمن هذا الملف ثلاث مقالات للأساتذة عبد الكريم سروش، محسن كديور، وعلي رضا علوي تبار. يتناول كل منها مفهوم «الديموقراطية الدينية» من زاوية مختلفة.
الفرضية الأولية في المقالات الثلاثة هي أن الديموقراطية الدينية تركيب مفهومي ووظيفي من عنصرين متمايزين عن بعضهما في المصدر والمعنى والتأثير ومجال الاشتغال. كما تفترض أيضاً أن هذا التركيب ممكن على المستوى النظري والعملي. بمعنى أنه يمكن إقامة نظام سياسي يجمع بين المبادئ الكبرى للديموقراطية والقيم العليا للإسلام. الديموقراطية كما هو معروف ليست مفهوماً صلباً أحادي المعنى. ثمة نماذج عديدة، لكن الكتَّاب الثلاثة يركزون جميعاً على عنصر «حاكمية الشعب» كجوهر لمفهوم الديموقراطية الذي يتبنونه. ويتضمن هذا المفهوم عدداً من العناصر الأساسية أبرزها المشاركة العامة، حاكمية القانون، الحريات المدنية، والمساواة. الدين هو الآخر ينطوي على أفهام وتطبيقات عديدة، يدَّعي كل منها إصابته لحقيقة التنزيل ومراد الخالق. لكن الكتّاب الثلاثة يتفقون على الحاجة إلى فهم للدين يتناسب مع النموذج الديموقراطي. الحكومة الدينية -كما رأى كديور- يمكن أن تكون فردية أو نخبوبة أو ديموقراطية، وما يميز هذه عن تلك هو المنهج المتبع في تفسير القيم الدينية واستنباط الأحكام والقوانين.
بعبارة أخرى فإن التوصل إلى تركيب مناسب للدين والديموقراطية، يحتاج إلى فهم للدين يسمح بهذا التركيب، كما يحتاج من جهة ثانية إلى تعديل في مفهوم الديموقراطية كي يتناسب مع المضمون الديني الذي سيصبح جزءاً من المنظومة القيمية للنظام السياسي. بناءً على هذا فإن الباحثين الثلاثة يؤكدون على الحاجة إلى قراءة جديدة للدين، مختلفة منهجيًّا ومن حيث الأغراض عن القراءة الموروثة. ولعل أبرز ما يميز القراءة المقترحة هو خروجها عن إطار الفهم التقليدي للدين الذي يعتبر الفقه محور التدين أو تجسيده الرئيس في الحياة العامة. الفقه هو أحد الأجزاء الرئيسة للدين، لكن الدين أوسع من أن ينحصر في حدوده. تتعامل هذه المقالات مع الدين بوصفه جزءاً أساسياً في تشكيل الهوية، ومصدراً للأخلاقيات والمثل التي تغني الحياة الإنسانية، وهو بالتالي ضرورة لأي نظام سياسي في مجتمع مسلم، وحسب تعبير سروش فإن أي حكومة في مجتمع ديني لا بد أن تكون دينية كي تكون ديموقراطية، فأول معاني الحكومة الديموقراطية هو تمثيلها لثقافة المجتمع وقيمة وتطلعاته.
عدا عن الأهمية النظرية لمثل هذه البحوث، فإن أهميتها العملية كبيرة هي الأخرى. يعتقد الكاتب أن التخلف المزمن في العالم الإسلامي يرجع في المقام الأول إلى تحجّر النظام السياسي، الذي من تجسيداته انعدام الإجماع الوطني وتنافر الدولة والمجتمع، وضمور الإرادة العامة، وانعدام الحريات الفردية، وتعطيل المشاركة السياسية، وبالتالي عجز المجتمع عن توليد حلول لمشكلاته. يمكن للديموقراطية أن تعالج هذا المعضل التاريخي، لكننا بحاجة إلى ابتكار نموذج ديموقراطي محلي، أي ديموقراطية قابلة للتفاعل مع ثقافتنا الخاصة كشرط لمشاركة شعبية ذات معنى، وتبلور ذهنية تسمح بالتفاعل الإيجابي بين الفرد ومحيطه، أي ذهنية تسمح بالنقد والتبادل المعرفي الحر والتنافس السلمي على الأدوار والمصالح المشتركة. إن تعثر التجارب الديموقراطية في العديد من البلدان الإسلامية هو ثمرة لغربة النموذج الديموقراطي وتباعده عن النسيج الثقافي الخاص بالمجتمعات المسلمة. تعثر الديموقراطية أو فشلها يعني بالضرورة استمرار الخضوع الذليل لنماذج من الحكم مستبدة وعاجزة. الديموقراطية ليست وعداً بالمدينة الفاضلة، ولا هي الحل السحري لجميع المشكلات، بل هي ببساطة وسيلة لتنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، ثبت بالتجارب المكررة ولمدة طويلة من الزمن، أنها الأنجح والأكثر قابلية للتطور والتكامل بين جميع نماذج الحكم الأخرى. الديموقراطية مفيدة لأنها توفر الفرصة للناس العاديين كي يعيشوا بسلام، ويسعوا في الارتقاء بحياتهم في ظل قانون واحد يتعامل معهم كمواطنين أكفاء لبعضهم، متساوين في الحقوق والواجبات. هذا الأمان (وهو التجسيد الأول للحريات الفردية) هو أحد العوامل الحاسمة التي ساعدت على تطور العلوم والفنون في المجتمعات الصناعية ونيلها أسباب القوة.
يركز مقال الدكتور عبد الكريم سروش على الإطار المعرفي - الزمني لسؤال السلطة، فهو يبدأ بالإشارة إلى التحولات الكبرى التي أثمر عنها ظهور «العلم الحديث»، ولا سيما انهيار النظريات الجزمية حول الكون والإنسان، وهيمنة الاتجاه النسبي والنقدي الذي ينظر إلى كل شيء في الكون كموضوع للعلم والتحليل. أدى هذا التحول إلى تغيّر قيمة الإنسان ونظرته لنفسه ومكانه وبالتالي لمعادلة العلاقة بين حقوقه وواجباته. نتيجة لذلك فقد حلّ العلم مكان الدين كمرجع للمعرفة والقيمة، وأصبح الإنسان -وليس الخالق- محور القيم وغايتها. بعبارة أخرى فإن الإنسان المعاصر أصبح يتطلع اليوم إلى السلطة السياسية كمخلوق أرضي لا كهبة من السماء منحت لشخص أو أشخاص معينين يحكمون بوصفهم ممثلين لله أو نواباً عنه. ويعتقد سروش أن جوهر الحكم الديموقراطي الديني يتمثل في الجمع بين رضا الخالق ورضا المخلوقين. ويقترح محورين لتجسيد واختبار هذه المعأدلة، هما الأخذ بفهم ديني يقوم على الجمع بين العقل والشرع، والالتزام بحقوق الإنسان الطبيعية والدستورية.
مقالة الدكتور علي رضا علوي تبار هي تكثيف للمفاهيم الفلسفية الأساسية التي يقترح اعتمادها في البحث عن نموذج ديموقراطي ديني. وهو يعرض في هذا الصدد الجانب المتعلق بال سلطة من نظرية الدكتور سروش المعروفة بنظرية «القبض والبسط في الشريعة». ويشير خصوصاً إلى أربعة عناصر فيها، هي نفي الرؤية المثالية للعالم، والتركيز على المجتمع بدلاً من الدولة في دراسة السلطة الدينية، والتأكيد على نسبية وتاريخية المعرفة الدينية، وأخيراً الفصل بين الديموقراطية وإطارها التاريخي. رغم اهتمام علوي تبار بالأرضية المادية للنظام الديموقراطي، فإنه يدعو إلى عدم التقليل من أهمية الأرضية الذهنية والمعرفة التي قد تدعم أو تعيق القبول بالديموقراطية كنظام للإدارة، لا سيما في المجتمعات التقليدية المسكونة بطبعها بالريبة تجاه الأفكار المستوردة والجديدة.
تقدّم مقالة الدكتور محسن كديور صورة بانورامية عن فكرة الديموقراطية الدينية، محتواها وما يميزها من غيرها من الديموقراطيات وغير الديموقراطيات. كما تؤكد على إمكانية تنسيجها في نظام القيم الدينية، بشرط اتباع منهج مناسب في الاجتهاد. وتعرض أيضاً مقارنة موجزة بين قراءتين، تقليدية يستحيل التوصل إلى قبول للديموقراطية في إطار مستخلصاتها، وقراءة جديدة يمكن على ضوئها إدماج القيم الدينية في نظام ديموقراطي.
هذا النقاش دائر في إيران اليوم، وقد يبدو غريباً على القارئ خارجها، لكنه مفيد جدًّا في تحديد الإشكالات ونقاط الجدل التي تثيرها الدعوة إلى ديموقراطية محلية.
اخترنا الكتاب الثلاثة، إضافة إلى مقالة البروفسور علي بايا التي نشرت في العدد السابق بالنظر إلى حيوية المناقشات التي يقدمونها، إضافة إلى الخبرة التي يتمتعون بها في الجانبين النظري والعملي. الدكتور سروش معروف كفيلسوف ومنظر بارز واشتهر خصوصاً بنظريته الخاصة بتطور المعرفة الدينية. أما الدكتور كديور فهو رجل دين وأستاذ جامعي ومدافع نشط عن حرية الرأي والتعبير. ومثله الدكتور علوي تبار الأستاذ في جامعة طهران، وهو كاتب معروف جدًّا وناشط سياسي.