من المدينة الفاضلة إلى مدينة الإنسان
د. علي رضا علوي تبار
تناقش هذه المقالة الأرضية الفلسفية التي تستند إليها نظرية «الحكومة الديموقراطية الدينية» التي طرحها الدكتور عبد الكريم سروش. لا تتعلق أهمية التأسيس الفلسفي بالنموذج الديموقراطي نفسه، فقد كان موضوعاً للبحث والتنظير لزمن طويل في المجتمعات التي شهدت ولادة هذا النموذج وجربته. أهمية هذا التأسيس تكمن في مقاربته المعمقة للإشكالات النظرية المطروحة في الإطار المعرفي الإسلامي حول الديموقراطية وإمكانية تركيبها في نموذج واحد مع قيم الدين. إنه إذن تأسيس فلسفي لمفهوم «الديموقراطية الدينية» كنموذج محلي خاص وقابل للتطبيق في مجتمع المسلمين. تركز المقالة على جوانب محددة يراها الكاتب ضرورية لمعالجة العوائق «الذهنية» و «الفكرية» التي تقف في طريق توطين الديموقراطية وتفاعلها مع البيئة الثقافية والمعرفية لمجتمع المسلمين المعاصر. وفي هذا الإطار فهي تعرض آراء الدكتور سروش في العلاقة بين النظريات المثالية والاستبداد، وإشكالية الظرف التاريخي لتطور النموذج الديموقراطي، والتعدد المعرفي في الإطار الديني، إضافة محورية المجتمع في النقاش حول الديموقراطية.
* تمهيد
الديموقراطية هي اليوم قيمة كونية. يميل معظم سكان المعمورة إلى النظام الديموقراطي، ليس فقط لأن القيم التي يقوم عليها تمثل تطلعات مثالية للإنسان، وليس فقط بسبب متانة الأرضية الفلسفية التي تستند إليها، بل أيضاً وفي المقام الأول لثبوت أفضليتها على جميع نماذج الحكم الأخرى، وهو ما توصل إليه البشر من المقايسة بين التجارب المختلفة للمجتمعات مع حكوماتها، تلك التي انتهجت طريق الديموقراطية وتلك التي سارت بخلافه. حين ترى تجربة فعلية فإن ناتجها هو بذاته دليل عليها، وقد رأى الإنسان المعاصر ما أثمرت عنه تجربة الديموقراطية وقارنها بثمرات غيرها من أنظمة الحكم، ولهذا فقد تحولت الديموقراطية إلى حلم وأمل لكل سكان المعمورة. على أنه من الإنصاف التأكيد على أن الديموقراطية ليست «المدينة الفاضلة» التي تخيلها قدماء الفلاسفة، فلها عيوبها ومشكلاتها. لكن الأكثرية الغالبة من عقلاء العالم وأهل الفكر فيه مقتنعون بأنها أقل نظم الحكم التي جربتها البشرية ضرراً وأكثرها منفعة.
التحول إلى الديموقراطية ليس قراراً يتخذ وينفذ بين عشية وضحاها. وهي لا تقوم نتيجة لقرار تصدره الحكومة أو برنامج يضعه أهل السياسة أو الفكر. النظام الديموقراطي هو وضعية اجتماعية - سياسية خاصة تتشكل من خلال مسار تحول تدريجي، يتضمن إعادة بناء العلاقات ونظام توزيع القوى داخل النظام السياسي - الاجتماعي على نحو يسمح بممارسة السياسة على أرضية القيم والمعايير الديموقراطية. يمكن للدولة أن تلعب دوراً مهمًّا في تسريع هذا التحول، لكن مجرد القرار لا يكفي، ولا يمكن التعويض عن التغييرات البنيوية اللازمة بتحولات افتراضية مثل إعلان العزم أو الرغبة في التحول الديموقراطي من جانب الحكومة.
يمكن تشخيص الظرف الاجتماعي المساعد على التحول الديموقراطي من خلال أربعة حقول اجتماعية رئيسة:
1- مستوى النمو الاقتصادي - الاجتماعي الذي يشمل المعدل العام للدخل الفردي، سعة الطبقة الوسطى الحديثة، التحضر (أو نسبة سكان المدن إلى مجموع السكان)، سعة انتشار وسائل الاتصال الجمعي (الصحافة والإعلام ومصادر المعلومات الأخرى).
2- مستوى الانسجام بين أطياف المجتمع الثقافية والدينية والعرقية.
3- الثقافة السياسية السائدة بين أعضاء المجتمع والنخب السياسية والقوى الفاعلة في الشأن العام.
4- مستوى التنظيم المؤسسي للمجتمع ولا سيما في الجانب السياسي (ويشمل حاكمية القانون واستقلال القضاء والدستور وتوافر جمعيات سياسية وتمثيلية... إلخ).
تمييزنا بين العوامل البنيوية الضرورية للتحول الديموقراطي من جهة وبين العوامل الذهنية (النية، الرغبة، القرار، القناعة) من جهة أخرى، ينبغي ألَّا يقود إلى الظن بأننا ننكر أو نقلل من أهمية تأثير الفكر والقناعات والميول في تأسيس أو تسريع ذلك التحول، ولا سيما على مستوى اتخاذ القرارات. من البديهي أن هذا العامل ذو أثر في تغيير بعض الوقائع، بل لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا بأن نجاح عملية الانتقال إلى الديموقراطية يتوقف على توافر ذهنية مساعدة، أو -بعبارة أدق - انعدام الموانع الذهنية التي تحول دون تبلور وظهور تمثلات وتجسيدات التحول المنشود. وهذا يقودنا إلى الدور المناط بالمفكرين وقادة الرأي في الترويج للقيم الديموقراطية وإقناع المجتمع بفائدتها.
في الوقت الحاضر يميل عدد معتبر من «المفكرين الدينيين» وأهل الرأي المسلمين إلى الاعتقاد بأن الديموقراطية هي أفضل المناهج التي عرفها البشر لاتخاذ القرار وإدارة المجتمع. ونتيجة لهذا شهد العالم الإسلامي خلال السنوات الأخيرة ظهور العديد من المحاولات الفكرية التي تستهدف في المقام الأول التعريف بفكرة الديموقراطية وعلاقتها بالدين وقابليتها للاشتغال في مجتمع المسلمين. وتركز خصوصاً على صياغة وتطوير نموذج ديموقراطي قابل للتوافق مع القيم الدينية وقادر على تمكين المجتمع الديني من إدارة حياته السياسية بصورة ديموقراطية. وتمثل نظرية «الحكومة الديموقراطية الدينية» التي اقترحها الدكتور عبد الكريم سروش واحدة من أبرز تلك المحاولات، وهي محور النقاش في هذه المقالة.
سوف أبدأ بتعريف لمفهوم الديموقراطية التي نتحدث عنها، قبل عرض القيمة النظرية لتلك الأطروحة وما تضيفه إلى النقاش الجاري بين المفكرين ورجال السياسة المسلمين حول توطين الديموقراطية وتَبْيِئَتِها.
في ظني إن أهمية تلك النظرية ستكون أكثر جلاء إذا نظرنا إليها في الإطار الواسع لمجموع الآثار العلمية لصاحبها وعدم حصر النقاش في حدود المقالة التي عرض فيها نظريته هذه. ذلك أنها خلاصة للعديد من المقدمات التي ناقشها سلفاً في مقالات أو كتب أخرى. ومن المهم التعرف على التمهيدات التي تمثل الأرضية النظرية لمقولاتها، والمنهج الذي اتبعه حتى وصل إلى هذه النتيجة.
* الديموقراطية
سوف نركز نقاشنا حول مفهوم الديموقراطية على تطبيقاته في مجال السياسة، أي في إطار عمل الدولة دون تطبيقاته الأخرى في النظام الاجتماعي والاقتصادي. ضمن هذه الحدود فإن النظام السياسي الديموقراطي يتسم بثلاث سمات أساسية: أولها توافر مساحة واسعة للتنافس بين الأفراد والمجموعات المنظمة (ولا سيما الأحزاب السياسية) تنافساً حرًّا وعادلاً وذا معنى، أي قادراً على التأثير في الواقع، سواء في ترجيح سياسات معينة أو إيصال أشخاص معينين إلى المناصب العامة في الدولة. كي تكون هذه المنافسة ذات معنى فيجب أن تجري دوريًّا وبشكل منتظم وأن تخلو من استعمال أساليب العنف والإرغام وترهيب المشاركين فيها. السمة الثانية هي المشاركة الشعبية الشاملة والنشطة في انتخاب القادة واختيار الخطوط الاستراتيجية لعمل الحكومة. تتطلب المشاركة الشعبية توفير الفرصة لجميع المواطنين كي يشاركوا في الترشيح والتصويت وعدم استثناء أي فريق أو مجموعة. وأخيراً فإن الديموقراطية تتطلب مستوى معقولاً من الحريات العامة مثل حرية التعبير والنشر، وحرية تشكيل المنظمات السياسية والحرفية والانضمام إليها. يجب أن يكون مستوى الحريات العامة على نحو يوجب الاطمئنان إلى سلامة المشاركة السياسية والتنافس المنصف بين مختلف الأطراف.
عالج الدكتور سروش في أعماله النظرية المختلفة العديد من الإشكالات التي تحيط بمفهوم الديموقراطية. تلك الإشكالات التي يمكن اعتبارها معوقات ذهنية أو أسباباً للارتياب في ملاءمة النظام الديموقراطي للمجتمع المتدين. وأظن أنه قد نجح من خلال معالجاته المختلفة في كشف إمكانية التلاؤم بين الحياة الدينية واتِّباع المنهج الديموقراطي في إدارة الشأن العام للمجتمع المتدين. هذه المعالجات ليست موجهة للمتدينين فقط، بل يمكن لها أن تُغني أيضاً تفكير وممارسة أولئك الذين يتبنون الطريق غير الدينية في حياتهم وثقافتهم، فهي تمثل إضافة عظيمة الفائدة للنقاش حول الديموقراطية وسبل تحكيمها في نطاق يتجاوز الإطار الديني. فيما يلي بعض أبرز المسائل التي عالجها سروش في هذا الصدد:
1- الدين والنظريات الشمولية - المثالية
ركّز سروش جانباً هاماً من بحوثه على مجادلة المفاهيم التي يمكن أن تتخذ كأرضية نظرية تبرر المنهج الشمولي في الفكر الديني. فيما يتعلق بالأساس النظري للنظم الشمولية totalitarianism ثمة تفسيران يثيران الاهتمام بصورة خاصة. ينظر التفسير الأول إلى النظام الشمولي كثمرة للنظريات الفلسفية المثالية، لا سيما تلك التي تدعو إلى قيام المدينة الفاضلة. تقوم هذه النظريات على إنكار سلامة المجتمع القائم والتشكيك في إمكانية إصلاحه. ومن هذه الزاوية فإن الدعوة إلى إقامة المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة تنطوي على مشروعات نظرية منفصلة عن الحقائق الاجتماعية القائمة والتطور التاريخي الذي قاد إليها. وهي تتعامل مع النظام الاجتماعي في لحظة معينة كحقيقة مستقلة عن زمانها ومكانها وتاريخها، أي بكلمة أخرى، منفصلة عن حقيقتها كتجمع إنساني ذي هوية تاريخية. من هذه الزاوية فهي لا تنظر أبداً إلى «الإمكانية» الفعلية لتحول المجتمع المنظور إلى مدينة فاضلة طبقاً للتصور المقترح.
يميل أكثر دعاة المدينة الفاضلة إلى اعتبار الطبيعة الإنسانية فاضلة، وأن ما يعرض للفرد من آثام هو ثمرة للظروف الاجتماعية. فاذا جرى استبدال هذا المجتمع بمجتمع جديد فاضل، فسوف يزول الإثم وأسبابه من حياة الجماعة بصورة أوتوماتيكية. يعتقد هؤلاء الدعاة أيضاً بأن الإنسان مؤهل لبلوغ درجة الكمال، وينادون بضرورة إصلاحه وتمكينه من بلوغ تلك المرتبة. طبقاً لهذه الرؤية فإن غرائب حياة الإنسان وما تنطوي عليه من نوازع شريرة ليست جزءاً من طبيعته الإنسانية. وهم ينادون بهذه الرؤية في مقابل تلك التي تقول بأن طبيعة الإنسان وجوهره ينطوي على نوازع الخير والشر معاً كما ينطوي على أسباب السعادة وأسباب الشقاء. وأن تغيّر شروط الحياة في بيئته الاجتماعية يمكن أن تخفف من النوازع الشريرة في الإنسان، أو تزيد نزوعه إلى الخير والفضائل لكنها لا تغيّر أبداً من جوهر الطبيعة الإنسانية التي تظل على الدوام قابلة لسلوك طريق الخير بمثل ما هي قابلة لسلوك الطريق المعاكس. لا يأخذ المثاليون بهذه الرؤية ولا يقبلون بما يترتب عليها. بل يرون أن تغيير الظرف الاجتماعي سوف يؤدي إلى اقتلاع أسباب الإثم والشقاء نهائيًّا، أي عودة الإنسان إلى ما يعتبرونه جوهره الأصلي الفاضل والخيِّر.
بناء على هذه الرؤية فقد انشغل المثاليون ودعاة المدينة الفاضلة بالهدف، أي تغيير المجتمع، وركزوا على الإدارة والقيادة بوصفهما العامل الحاسم في الإصلاح. وقد قادهم هذا التركيز -كما هو متوقع- إلى إغفال موضوع الإصلاح ووسيلته الأساسية، أي الإنسان، وما ينطوي عليه المجتمع الإنساني من مشارب متنوعة، ورؤى مختلفة وتجارب متباينة. يمكن القول -مجازاً- إن المثاليين قد نظروا إلى المجتمع الإنساني كقالب جامد يتكون من أجزاء متماثلة الصفات والخصائص، وقابلة للتبديل والتعديل على يد الفئة الأصلح أو الأكمل. ومن هذا المنطلق فقد وفّرت النظريات الفلسفية المثالية التبرير المناسب للنظريات والمناهج السياسية الشمولية.
التفسير الثاني للعلاقة بين النظريات المثالية والشمولية، تبنته حنه أرندت، الفيلسوفة الألمانية، وهو يركز بصورة خاصة على العلاقة بين الحكم الشمولي والقانون. طبقاً لأرندت فإن الشمولية ليست بالضرورة حكومة فردية أو استبدادية أو فاقدة للقانون. ولا يمكن تعريفها في إطار المقارنة المشهورة بين الحكم القانوني ونظيره الاستبدادي. قد تقوم الحكومة الشمولية على القانون وتحترمه، لكن هذا القانون ليس قانوناً وضعياً ينظر إلى واقع الأمور ويعالجها كما هي. بل هو في الغالب من نوع القوانين الإجمالية العامة، المفترضة سلفاً وغير القابلة للتغيير. تقول أرندت:
يضعنا الحكم التوتاليتاري [الشمولي] إزاء نوع من الحكم مختلف تماماً. ولئن صح أنه لبث يتصدى لكل القوانين الوضعية التي كان أصدرها بنفسه [...]. غير أن النظام التوتاليتاري الآنف لم يقدم على تصرفاته إلا مسترشداً بالقانون، ولم يكن اعتباطيًّا قط. إذ إنه طالما ادَّعى إطاعة قوانين الطبيعة والتاريخ إطاعة صارمة ودون أي لبس، بحكم أن كل قوانينه الوضعية مستمدة منهما.
ذلك هو ادِّعاء النظام التوتاليتاري الفضيع، والذي يبدو في الظاهر قاطعاً، في كونه يعود بمصدره إلى منابع السلطة حيث اكتسبت القوانين الوضعية اسمى شرعيتها، فنأت به عن أن يكون نظاماً «خليًّا من القوانين». [...] ولما كان أبعد من أن يمارس السلطة لصالح فرد، فانه بدا مستعداً للتضحية بالمصالح الحيوية المباشرة لأيِّ كان في سبيل تحقيق ما يدَّعي أنه قانون التاريخ أو قانون الطبيعة.
حاول الدكتور سروش في مواضع مختلفة نقد وتفنيد كلا المبنيين اللذين تقوم عليهما الدعوات الشمولية. وعالجهما من زوايا مختلفة، فلسفية ومنطقية، ومن زاوية الرؤية والمعرفة الدينية. وأظن أن مقالته «از تاريخ بياموزيم = لنتعلم من التاريخ» هي واحدة من أكثر معالجاته الفكرية للدعوات المثالية صراحة وتحديداً. يقول سروش في هذه المقالة:
الذين ملؤوا فراغ التاريخ والذين صنعوا التاريخ لم يكونوا أناساً مثاليين بل أناس واقعيون. هؤلاء الناس لم يكونوا معصومين أو منزهين عن الكفر أو الخبث.. معرفة الإنسان كما هو في واقع الحياة ضرورة لتصحيح وتعديل ما ننتظره من هذا الإنسان.. لا يوجد بشر غير هؤلاء البشر بكل ما فيهم وما عليهم. إذا أردنا منهم شيئاً فينبغي أن يكون مما هو ممكن لهم وضمن قابلياتهم. ينبغي أن توضع البرامج والسياسات على نحو يتناسب معهم، وأن تفصّل على قياسهم.. لن يحصل المربون والمعلمون والقادة على تعريف للبشر أفضل ولا أنفع في ميدان العمل من التعريف القائل بأن الإنسان مخلوق خطَّاء وآثم. وحين يفعل الخطأ أو يرتكب الإثم فإنه لا ينزل عن إنسانيته ولو بمقدار درجة، ولا يخرج عن قالبه وطبيعته الأصلية ولو بمقدار ذرة. حين يفعل ذلك فهو -في حقيقة الأمر- يكشف جانباً من حقيقته الإنسانية. وعلى هذا الأساس يجب أن يعامل.. يجب ألَّا ننسى أن الشيطان قد استمهل حتى يوم القيامة كي يزيِّن للناس طريق الضلالة ويفتنهم عن طريق الهدى، وهو يسري في عمله هذا مثلما يسري الدم في عروق بني آدم.
بناءً على معنى الشمولية المنظور في تفسير حنه أرندت، ادَّعى بعض الباحثين أن الدين الإسلامي ينطوي بصورة عامة على أرضية خصبة للشمولية. ويتجلى هذا في القول بأن الإسلام يسعى للإشراف الكامل على حياة الفرد والمجتمع وعمل الدولة في شتى أبعادها وتفصيلاتها، وأنه يحتوي على أحكام تنظّم كل جزء من أجزائها. من هذه الزاوية فإن الفصل بين مجالات الحياة العديدة، مثل الفصل بين المجالين الشخصي والعام، وبين المقدس والعرفي، وبين السياسي والديني، هذا التفكيك لا يمكن تصوره في الإسلام بأي حال. ويذهب أصحاب هذه الرؤية إلى أن الشريعة (التعليمات المستنبطة من القرآن والسنة) هي القانون الأول والأعلى الذي لا يقبل التعديل أو التغيير، وهو المفهوم الذي أشارت إليه حنه أرندت.
في المقابل فإن نظرية «القبض والبسط» تفتح أمام الباحثين باباً آخر، فهي تميّز أولاً بين ثلاثة عناصر أصلية في فهم الدين وممارسته، جرت العادة على فهمها كعقدة واحدة متشابكة أو متحدة. هذه العناصر هي «الشعائر ونمط الحياة الدينية» التي تنتمي إلى الحالة الروحية للإنسان وليس للتفكير أو الحالة الذهنية، و «أركان وأصول وفروع الدين التي نزل بها الوحي على رسول الله»، و «فهم المتلقي لأصول وأركان ومباني وفروع الدين».
في المرحلة الثانية تدَّعي النظرية أن المعرفة الدينية تبدأ مجردة وإلهية، لكنها تتحول حين يتلقاها المؤمنون إلى معرفة بشرية. وحينئذ فإنها تخضع لنفس القوانين وقواعد العمل السائدة في المعارف البشرية الأخرى. منذ اللحظة التي يتلقى البشر النص الإلهي، فإنهم يفهمونه فهماً متأثراً -بالضرورة- بتجربتهم الحياتية وثقافتهم وهمومهم وتطلعاتهم. هذا الفهم الخاص يحمل شروط الظرف التاريخي الذي جرى فيه ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتجربة الحياتية للإنسان الذي قام به وأنتجه. من هنا فإن هذه المعرفة نسبية وتاريخية ومشروطة بالظرف الذي شهد ولادتها. بعبارة أخرى فإنها غير صافية وغير كاملة وتحتمل الخطأ، تماماً مثلما أن المعرفة العادية للإنسان في ظرف خاص مؤقتة ومتغيرة وتجريبية في الغالب. وعلى هذا الأساس تحذر نظرية «القبض والبسط» المخاطبين بالدين من تعميم القيمة القدسية والمطلقة للدين إلى الفهم والاستنباط الذي يمارسه البشر والذي هو في كل الأحوال معرفة بشرية غير مقدسة ولا مطلقة ولا معصومة. جوهر الدين مقدس وغير قابل للتغيير، ويجب أن يركز العلماء والعارفون جهدهم على نيل ذلك الجوهر. لكن ما ينتج عن تلك الجهود، وبصورة عامة جميع أفهامنا للدين ومعارفنا الدينية سواء في أصول الدين أو فروعه أو أحكامه، هي أفهام ومعارف بشرية، وهي قابلة للتغيير والتطوير.
في المرحلة الثالثة تتتقل نظرية «القبض والبسط» من تقرير إمكانية التحول في فهم الدين إلى القول بأن هذا التحول ليس ممكناً فقط بل هو حتمي. وهي تطرح هذه المسألة ضمن مسار تجريبي فتقرر أولاً أن فهمنا للشريعة مستمد ومعتمد بكليته على المعارف البشرية ومتلائم معها، وأن نوعي المعرفة الديني والبشري في حال تفاعل وحوار دائم. ومن هذا التمهيد تصل إلى القول بأنه طالما كانت المعرفة البشرية العادية خاضعة للانقباض والتوسع، فإن فهمنا للشريعة سيكون هو الآخر عرضة للانقباض والتوسع. وبعد أن تلقي الضوء على مسار العلوم البشرية (فهم البشر للطبيعة والكون، العلوم التجريبية والفلسفة... إلخ) وتوضح أنها في حال انقباض وانبساط وتحوّل مستمر، تصل إلى الاستنتاج بأن التحول في المعرفة الدينية، وعلى ذلك المسار نفسه هو أمر حتمي. في هذا الإطار؛ فإن التوصل إلى فهم للدين مستقل عن حاجات ومعارف كل عصر بذاته، أي فهم متجرد وعابر للزمان والمكان، هو أمر مستحيل. بعبارة أخرى فإن كل فهم للدين في ظرف معين أو زمن معين يتناسب ويتلاءم بالضرورة مع المعارف المقبولة في ذلك العصر. ومن هنا فلا يمكن لهذا الفهم -أي المعرفة الدينية- أن تكون أساساً لحركات أو أنظمة شمولية.
استيعاب الدين في عصر ما هو استيعاب متناغم ومساير للعلوم والمعارف المقبولة من جانب أهل الدين في ذلك العصر، وهو بمثابة جواب على أسئلتهم ومشكلاتهم النظرية والعملية. مثل هذا الاستيعاب يتشكل من خلال حوار دائم بين المؤمنين تتكشف في إطاره نقاط التلاقي بين النص الديني وبين معارفهم وحاجاتهم وتوقعاتهم وآمالهم، على مختلف المستويات والمسارات. الشريعة في نظرية «القبض والبسط» ليست إذن قانوناً أعلى أو ثابتاً لا يتغير، ولا هي عالم متجرد ومنفصل عن موضوعها الإنساني أو الاجتماعي، بل معرفة حيّة تتفاعل باستمرار مع موضوعها وتتكيف مع أحواله المتغيرة. بعبارة أخرى فهي غير مطلقة أو كلية من ناحية، وهي متغيرة ومتأثرة من ناحية أخرى. المعرفة الدينية كما تقدمها نظرية «القبض والبسط» ليست جواباً ثابتاً على كل شيء وفي كل زمن أو مكان، أي بكلمة أخرى ليست أرضية مناسبة لنظرية شمولية أو نظام توتاليتاري.
2- من محورية الدولة إلى محورية المجتمع
حين تنظر إلى العلاقة بين الرأي العام وسياسات الدولة في المجتمعات غير التقليدية، فسوف تجد أن التوجهات السياسية للمجتمع تتمظهر وتتجسد على صورة «فعل سياسي» تبعاً للعلاقة التفاعلية بين القوى الثلاث الكبرى في المجتمع، أي الدولة والمجتمع المدني وجمهور الشعب. بعبارة أخرى فإن وضعية أي مجتمع ونظامه السياسي هو نتاج لتأثير وتفاعل ثلاثة متغيرات هي: حجم وقوة الجزء المنظم والفعّال من المجتمع، أي ما يوصف بالمجتمع المدني، طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولة والمجتمع المدني، وأخيراً طبيعة العلاقة بين الدولة وجمهور الشعب.
يمكن لذلك التفاعل أن يجري على صور عديدة، بعضها مساعد وبعضها معطل أو معيق للتطور الديموقراطي. من بين جميع الصور المحتملة يركز الباحثون في علم الاجتماع السياسي على واحدة منها يعتبرونها مناسبة كل التناسب مع الديموقراطية. تتشكل هذه الصورة من تعاضد وتكامل العناصر الثلاثة التالية:
أ - نضج المجتمع المدني من حيث القوة والانسجام والتأثير في الحياة الاجتماعية.
ب- قيام علاقة عضوية وتفاعلية بين الدولة والمجتمع المدني.
ج - بالنظر لتشكل القوة الاجتماعية الرئيسة في إطار جماعات منظمة (أحزاب، منظمات مهنية وجماعات مصالح... إلخ ) فإن الحكومة لا تحتاج إلى الاستعانة المباشرة بجمهور الشعب في دعم أغراضها أو سياساتها.
في هذا النموذج يتمتع المجتمع المدني الناضج بحالة ديناميكية ويلعب دور المرآة الكاملة للتوجهات والمصالح والمشارب المختلفة الموجودة في المجتمع. لا يتمظهر تأثير الشعب على سياسات الدولة في المجتمعات المتقدمة من خلال النشاطات الفردية المعزولة، بل من خلال التجمعات والتشكيلات الاجتماعية التي توفر الإطار المناسب لتطوير كفاءات الأفراد وتحويل قناعاتهم الشخصية إلى نشاط جمعي مؤثر. بكلمة أخرى فإن هذه التجمعات هي التي تحول الرأي الفردي إلى قوة جمعية قادرة على التأثير في سياسات وتوجهات الدولة. من ناحية أخرى فإن كل واحد من التشكيلات والتجمعات ومنظمات المجتمع المدني بكل تنوعاتها، هو بصورة مباشرة أو غير مباشرة ممثل لمصلحة أو شريحة من المصالح لطبقة أو صنف اجتماعي معين. ومن هذه الزاوية يمكن لكل شريحة اجتماعية تشكيل المنظمات أو جماعات العمل كي تمثل الذراع السياسي الذي يدافع عن مصالحها، أو يروج لمتبنياتها في المجال الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي أو غيره.
جرت عادة الباحثين وأهل الرأي الذين فكروا وكتبوا حول الحكومة الدينية على مناقشة المسألة ضمن منهجين مختلفين عن النموذج المذكور أعلاه. ركز أحد المنهجين على خصائص الحكومة الدينية، فانصب توصيفهم المفهومي للحكومة على صفات قادتها مثل الفقاهة والعدالة أو على خلفيتهم الاجتماعية وهمومهم الطبقية. تصور أصحاب هذه الرؤية الدولة كياناً مستقلاً عن المجتمع، يقف وراءه، ويتولى أمر هدايته وتوجيهه إلى الطريق المستقيم. على المستوى العملي فإن تحقق هذه الرؤية سيقود بالضرورة إلى تضخم الدولة في مقابل المجتمع، وازدياد تدخلها في الحياة الاجتماعية، وبالتالي انكماش أو ضعف المجتمع المدني ودوره وتأثيره.
أما المنهج الثاني فهو يبدأ تعريفه للحكومة الدينية بتوضيح خصائص المجتمع (الشعب والمجتمع المدني). والفرضية الأولية في هذا المنهج هي أن الحكومة الدينية وليد شرعي وطبيعي للمجتمع الذي تديره، وهي منبعثة منه ومرتبطة به ارتباطاً كاملاً وعضويًّا. هذا المجتمع مؤلف من جمهور يحمل قناعات وعقائد وسلوكيات دينية. وبالنظر لتلك الرابطة العضوية بين الدولة والمجتمع المدني فإن إقامة حكومة دينية هو احتمال مستحيل في مجتمع لا يحمل تلك القناعات والعقائد. ويفترض الدكتور سروش في تعريفه للحكومة الديموقراطية الدينية أن رسوخ واستقرار الحكومة الدينية غير ممكن ما لم تضع نصب العين ميول الشعب وهمومه وعلاقاته. يقول في هذا الصدد:
الحكومة الدينية هي الوليد الشرعي والطبيعي للمجتمع الديني. كما أن الحكومة الاستبدادية هي الوليد الطبيعي للمجتمع الجاهل والمنكر للحقوق والقابل للظلم والمتأخر وغير الصناعي والمغلق والقبلي. كذلك فإن الحكومة الديموقراطية هي الوليد الطبيعي للمجتمع المتعلم والصناعي الذي يؤمن إيماناً كاملاً بحقوقه، والذي تتوافر له آليات للمشاركة في الحقوق والشؤون العامة.. مهما أرادت الحكومة فهي في نهاية المطاف مولود الشعب، وهي معه وفي صفه، وهي من جنسه وعلى شاكلته.
الحق أن الحكومة الدينية قائمة على المجتمع الديني وهو سابق عليها وممهد لها، هي تناسبه وتمثله. في مجتمع ديني فإن أي حكومة غير دينية هي بالضرورة غير ديموقراطية.
بطبيعة الحال فإن الحكومة الدينية المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه ستكون ديموقراطية أيضاً إذا جمعت بين رضا الخالق ورضا المخلوقين، والتزمت بما هو خارج الدين وما هو داخله، وراقبت حرمة العقل والأخلاق السابقة للدين بقدر ما راقبت حرمة العقل والأخلاق المسبوقة بالدين.
3- التعددية كأرضية للديموقراطية
وجّه سروش جانباً مهمًّا من أعماله نحو توضيح وتعزيز المباني النظرية الضرورية لقبول التعدد الفكري والتنافس الحر بين الأفكار باعتبارها السبيل الوحيد لإغناء التجربة الإنسانية وتطوير الحياة والنظام الاجتماعي. التعدد الفكري ليس ناتجاً عن اختلاف المجتمعات وظروفها الحياتية فقط، بل هو أيضاً ثمرة لتنوع واختلاف المدارس الفلسفية والمنهجية التي يتبعها كل باحث ومفكر في التحليل والبحث والاستنتاج. الأفكار التي طرحها كبار فلاسفة السياسة هي خلاصة لتأثير ثلاثة عوامل: المحيط الاجتماعي الخاص الذي تولدت فيه تلك الأفكار وكانت بصورة من الصور جواباً عن بعض همومه أو انشغالاته، والمرجعية التاريخية التي تتصل بها الفكرة أو تعتمد على فرضياتها، ومنهج البحث والاستدلال والتقييم (نظرية المعرفة) الذي اختاره صاحب الفكرة سبيلاً للتحليل والربط بين فرضياته واستنتاجاته. من هنا فإن تحديد علل التفاوت بين الآراء العديدة في الفلسفة السياسية يحتاج إلى فهم نظريات المعرفة المختلفة بقدر ما يحتاج إلى معرفة النظريات المتعلقة بالإنسان والمجتمع والدولة. ينبغي الأخذ بعين الاعتبار هذه القاعدة لفهم المنهج الذي اختطه سروش في ميدان الفلسفة السياسية وتقييم النتائج التي توصل إليها. في الحقيقة فإن أبرز ما توصل إليه في هذا الصدد هو ترسيم المنهج التحليلي الذي يسمح بتنوع الأفكار ويتعامل مع تنافسها الحر كضرورة لتطوير الحياة الاجتماعية، بغض النظر عن تقييمها الأخلاقي (أي اعتبارها صحيحة أو خاطئة، حقًّا أو باطلاً).
في اعتقادي أن منهجاً للمعرفة من هذا النوع يمثل أحد الأركان الأساسية للسلوك الديموقراطي. لو نظرنا إلى جوهر الحياة الإنسانية كجدال بين الإنسان وبين الظروف المادية والطبيعية التي يعيش في ظلها، ومحاولات يبذلها لحل المسائل والمشكلات التي تفرزها تلك الظروف، فإن كفاحنا في الحياة سوف يتمحور حول إقامة النظام الاجتماعي الأقدر على توفير الوسائل اللازمة لحل المشكلات. من نافل القول أن العثور على الحلول الأفضل والأكفأ يتوقف غالباً على إطلاق العقول والخيال للتفكير من دون قلق أو عقبات أو محظورات، والتعبير الحر وغير المقيد أو المتحفظ عن الآراء والاحتمالات التي يتوصل إليها مختلف الناس، والممارسة الحرة للنقد والتفنيد والمراجعة لمختلف الآراء والاحتمالات والحلول المطروحة. ومن هنا فقد ذهب دعاة الديموقراطية إلى القول بأن أكفأ المجتمعات هي تلك التي لا تقيّد أو تمانع من التعبير الحر عن الرأي المختلف والمخالف، كما تجيز تعريضه للتداول والنقد، وتتيح الفرص الضرورية للأخذ بتلك الآراء وهذا النقد في ميدان العمل.
سياسات الدولة بل وجميع القرارات التنفيذية الإدارية تنطوي في واقع الأمر على رؤية تجريبية: (إذا فعلنا X سوف نحصل على Y. من ناحية أخرى فإذا أردنا الحصول على A فيجب أن نفعل B). معروف للجميع أن هذه الفرضيات قد تقع في الخطأ «كل بني آدم خطَّاء»، وقد جرت عادة البشر جميعاً على نقد أعمالهم وتصحيحها أو تغيير مساراتها أثناء قيامهم بها. كل سياسة أو برنامج عمل هو بمثابة فرضية يتبين صدقها أو خطلها من خلال عرضها على الحقائق الواقعية واختبار قدرتها على التطابق أو التباين مع الواقع، حيث يجري على ضوء التجربة نقدها وتصحيحها أو ربما تغييرها.
تصحيح الفرضية من خلال النقد والتجريب هو الوسيلة المعتادة لتطوير الفكر والممارسة. لكن لا شك أن الأفضل والأكفأ والأكثر عقلانية هو كشف عيوب الفرضيات ونقاط ضعفها قبل وضعها في ميدان العمل، فمن شأن ذلك أن يوفر الوقت والجهد كما يحد من الخسائر الأخرى التي يمكن أن تترتب على تطبيق فرضيات خاطئة أو ناقصة. بعبارة أخرى فإن توفير الفرصة لممارسة النقد الحر والمتنوع على السياسات والبرامج والقرارات المؤثرة في المجال العام، هو ضرورة عقلائية للمحافظة على الموارد العامة. لكن فاعلية هذا النقد يتوقف على توافر أرضية ثقافية تتقبل تنوع الآراء والأفكار وحرية التبادل الثقافي ومشاركة الجميع في تشكيل الحياة السياسية للجماعة، هذه الأرضية هي منهج معرفي أو نظرية في المعرفة كما يتضح من النص التالي للدكتور سروش:
لو كنا نملك الحق، لو كان واضحاً وصريحاً مائة في المائة، لو أن الحق وضع نفسه سهلاً، عارياً، ورخيصاً بين أيدينا، لما كان ثمة حاجة للكلام، بل لربما تحملنا تحكم الحق وصاحب الحق، ولقدمناه على ثمرات عقولنا التي قد تصيب وقد تخطئ. لكن ماذا نفعل وتجربة البشرية كلها تخبرنا بأن الحق لا يمكن أن يوجد عرياناً. حيثما توجهت فإن ما يظهر من الحق هو نسبة محدودة منه، بينما يختفي الباقي وراء الحجاب. نحن بحاجة إلى كشف هذا الحجاب كي نرى الحقيقة... الباحث الذي أدرك أن بلوغ الحقيقة يتطلب العبور بمفازات متشابكة من المعلومات والأفكار وطرق ملتوية من التحليلات والمناهج التي تناظر سعةً وتنوعاً تجربة الإنسان وما أنتجه من أفكار، مثل هذا الباحث يدرك أيضاً مقدار حاجته إلى غيره، ولهذا فهو حريص على دعوتهم للكلام والمشاركة في التفكير والبحث.
وضح هذا النص بجلاء أن رؤية سروش في فلسفة العلم ومنهجه العام في تعريف ومعالجة المعرفة البشرية، تمثلان معاً أرضية معقولة لقبول التنوع والتعدد في الآراء وضرورة تحرير التبادل الثقافي والفكري من القيود والمعيقات.
4- تقييم الديموقراطية وتقييم إطارها التاريخي
النموذج المعاصر للديموقراطية بما فيه من مؤسسات وآليات عمل هو وليد المجتمعات الصناعية ذات الاقتصاد الرأسمالي التي نطلق عليها مجموعاً (الغرب). ومن هنا فقد مال عدد من أهل الرأي إلى القول بالتلازم والتشابه والارتباط بين صناعة الغرب وسياسته من جهة والفكر والفن والفلسفة والأدب الغربي من جهة أخرى. واستخلصوا بناءً على هذا أنَّ علينا أن نأخذ المنتج الغربي بكليته أو نرفضه بكليته. فيما يتعلق بالسياسة مثلاً فقد ذهبوا إلى أن قبول الديموقراطية هو أشبه باقتطاع جزء من حصاد الحقل الغربي، وهو يساوي القبول بذلك الحقل بكليته وكل ما يزرع في أرضه. ندرك أهمية هذا الإشكال من خلال النظر في الإطار التاريخي الذي وُلد فيه مفهوم الديموقراطية، ذلك أن أيًّا من العناصر التي تشكل الأرضية المادية والذهنية لهذا المفهوم، ليست من ذلك النوع الذي يمكن قبوله في إطار المعتقدات الدينية. ويشدّد المعارضون للديموقراطية على أن تاريخ الغرب مندرج ومندمج بمجمله في النظام الغربي المعاصر وهو يتراءى في كل جزء من تفاصيله. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن تاريخ الغرب كان مسار تباعد عن المعنويات والدين، فإن قبول أي جزء ولو صغير منه يتساوى مع القبول بذلك المسار كله. بعبارة أخرى فإن أحد وجوه الاعتراض على الديموقراطية الأكثر رواجاً في بلادنا هو في جوهره نقد لتبعات وانعكاسات هذا النوع من الحكم في الغرب. السؤال الذي يتردد في أذهان المتوجسين من الديموقراطية فحواه: أليس من الممكن أن يقود التسليم بالديموقراطية إلى التسليم بالمقدمات التاريخية للتجربة الغربية؟
يرى سروش أن هذا السؤال -رغم كونه مشروعاً- هو أقرب إلى القلق من المجهول منه إلى كشف واقع ممكن:
صحيح أن كل جزء من الثقافة قد تولد بسبب دوافع خاصة وتطور ضمن مسار تاريخي خاص، لكن انتخابه وشراءه لا يعني بالضرورة انتخاب أو شراء تلك الدوافع أو المسار التاريخي... بديهي أن كل أدب أو فن أو منهج مما يوجد اليوم في حقول العلم والسياسة والتكنولوجيا هو عصارة وخلاصة للمعاناة والأفكار والأحاسيس والأهداف التي حملها وكابدها وناضل من أجلها الماضون من البشر. لكن ليس من البديهي أن نعتبر تلك الآداب والفنون والسياسات حاملة لأعباء تاريخها وما انطوى عليه من فضائل أو آثام، فكلما حطت في مكان فتحت كشكول أسرارها ونشرت مظلة ماضيها على مستقبل مضيفيها أو ناقليها والآخذين بها. هذه مغالطة ليس أكثر. الآداب والفنون والعلوم والعادات ليست مثل الفانوس الذي لابد من حمل وقوده في داخله حيثما أخذناه. تاريخ تلك الآداب والعلوم لم يعد حاضراً الآن في قلبها. بلى.. القضايا الجارية في الغرب اليوم هي ثمرة لتاريخ تلك الديار وما جرى فيه من حوادث. لكن كيف يمكن القول: إن كل ذرة من هذه القضايا تنطوي على كل ذلك التاريخ، بل والادعاء فوق ذلك بأنها تحمل معها الغرب وفضاءه وأحواله حيثما رحلت؟ تاريخ أي حادثة ينتهي بـ(وجود) ووقوع الحادثة، لكن هل يدخل التاريخ في تكوين (ماهية) تلك الحادثة وينضوي في مضمونها؟ نحن بحاجة إلى معرفة التاريخ والجغرافيا كي نعرف أسباب (وقوع) تلك الحوادث وظهورها، لكن ماذا عن معرفة ماهيتها؟ إن جغرافيا الحوادث والأفكار وتاريخها، بل وأي معلومة تتعلق بتلك الحادثة أو الفكرة لا يمكنها أن تقدم حكماً على جودتها أو صحتها أو خطلها.
من مجموع استدلالات سروش يتضح أن الديموقراطية رغم تشكلها وتطورها في إطار النظام الاجتماعي الغربي إلا أن الحكم عليها يجب أن يتخذ مساراً مستقلاً عن الحكم على الجوانب الأخرى من سلوك الغربيين ومنظوماتهم القيمية. لا ينبغي تعميم موقفنا من قناعاتهم وعقائدهم وتوجهاتهم أو سلوكياتهم على كل ما أنتجته حضارتهم، وهو المنهج الذي اتبعه كثير منا في سياق ما يوصف بنقد الحضارة الغربية. ولادة النظام الديموقراطي في أرض غير أرضنا لا يعنى ضرورة أن نغفله ونعتبره إلى الأبد غريباً عنا أو مذموماً.
* خلاصة
قدمت المناقشة السابقة صورة عن المنهج الذي اتبعه الفيلسوف الإيراني عبدالكريم سروش في مناقشة سؤال الديموقراطية والديموقراطية الدينية. وواضح أنه يبتعد في هذا المنهج عن مسارات المناقشة المتعارفة في الأدبيات الرائجة. فهو لا يركز على سؤال: هل تتناسب الديموقراطية مع الدين أم لا؟، بل يهتم أولاً وقبل كل شيء بسؤال: كيف نناقش فكرة الحكم الديني والديموقراطية الدينية؟، وما هي الفرضيات الصحيحة التي ينبغي الانطلاق منها قبل الشروع في البحث. وقد عرض الكاتب أربع فرضيات أولية في هذا الصدد هي نفي العلاقة بين الدين والنظريات الشمولية، والتأكيد على نسبية المعرفة وتحولها، والتركيز على المجتمع بدل الدولة كموضوع للبحث في الحكم الديني، وأخيراً الفصل بين تقييم الديموقراطية كنظام إدارة وبين تقييم الإطار التاريخي الذي ولدت فيه.