شعار الموقع

محنة الكتابة التاريخية العربية بين التأريخ والمؤرخ

هاني ادريس 2004-09-21
عدد القراءات « 1186 »

قراءة نقدية في أوراق مؤتمر «كتابة التاريخ الاسلامي، الاشكالية والمنهج»
بيروت، 14-16 تشرين الثاني ـ نوفمبر 1997م.
ادريس هاني*


تصدير:
هل هي محنة تاريخ فقط، أم أنها محنة كتابة تاريخية ـ أيضاً‏ـ؟ لعل هذا هو السؤال الإشكالي الذي ما يزال يواجه علم التاريخ، سواء من ناحية المادة التاريخية، أو من الناحية المنهجية. على أن المعطى الوحيد الذي نمسك به في زحمة هذه الإشكالية الخطيرة، هو ذلك السبق العربي لهذه الصنعة الأصلية. وهنا يخطىء فرانسوا شاتلي حينما يرى أن التاريخ، هو صناعة أوربية للقرن 19 . فخلافاً لذلك، وهو ما تقرره الأبحاث الأكثر شهرة وموضوعية، تكون الكتابة التاريخية، ولأوّل مرة في تاريخ الأسطريوغرافيا البشرية، قد تحولت إلى علم، يقف عند العرب كطرف نقيض للأسطورة. ولسنا هنا في حاجة للتوسع في تقديم البراهين على ذلك. لأن العرب تجاوزوا كلاً من هيرودوت وتيودور في تنقيح الأخبار وسبرها اعتماداً على تقنيات منهجية أثمرتها الخبرة العربية في إطار عدد من العلوم الاسلامية والعربية الأصيلة مثل علم الرجال، والدراية بأساليب الجرح والتعديل. فقد ساهم كل ذلك ـ وفي حدود ما ـ في إنماء الرؤية التاريخية عند العرب. على هذا الأساس نستطيع فهم مشكلة التحريف والتزوير التي مارسها أكثر المؤرخين العرب على صعيد المادة التاريخية.
فذلك ينبع من موقف المؤرخ ذاته من المسار الوقائعي للتاريخ أكثر مما يُعزى إلى قصور منهجي في سبر الأخبار وكتابتها. لقد كشفت تجربة ابن خلدون في ابتكاريتها التي واجهت الفشل على المستوى التطبيقي، عن أن المؤرخ العربي لم تكن تخونه ـ حقاً‏ـ الآلية الموضوعية في الكتابة التاريخية بقدر ما كان ضحية لنزعات سياسية ومذهبية وربما إثنية. إذن، نحن في النتيجة أمام تقنيات عالية لم تجد فرصتها كي تستثمر بشكل حقيقي على صعيد الكتابة التاريخية العربية والاسلامية. وهو ما يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ العربي والاسلامي بعيداً عن مؤثرات فن «الملل والنحل»، وعن نتائج المغالبة الطائفية والسياسية. في هذا السياق الإشكالي، جاء مؤتمر «كتابة التاريخ الاسلامي في الإشكالية والمنهج»، الذي نظمه مركز الدراسات في الجامعة الإسلامية في لبنان من 14-16 تشرين الثاني ـ نوفمبر 1997، 14 إلى 15 رجب 1418هـ‏، حيث شاركت فيه نخبة واسعة من العلماء والمثقفين وذوي الاختصاص، من أقطار عربية عديدة، فقد بلغ عدد المشاركين 36 باحثاً، وهو يعكس أهمية هذه التظاهرة العلمية والثقافية، كما شارك في حفل الافتتاح الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رئيس مجلس أمناء الجامعة، وأيضاً‏وزير الثقافة والتعليم العالي في لبنان فوزي حبش، قدّما فيها كلمة تشيد بالمشاركين وتشيرýإلى أهمية المؤتمر وموضوعه الذي يقارب إحدى الإشكاليات المزمنة في العلوم الانسانية.
فقد افتتح المؤتمر بآيات من الذكر الحكيم، حوالي الساعة العاشرة صباحاً من يوم الجمعة 14/11/1997، أعقبته كلمة لمنسق المؤتمر، د. ابراهيم بيضون، أشاد فيها بجهود الجامعة المنظمة للمؤتمر، وكذا إلى خطورة الموضوع الذي يبحثه المؤتمر من حيث أن التاريخ «أحد أهم العلوم وأكثرها خطراً على الاطلاق».
كما تطرق إلى إحدى معضلات التأريخ العربي، ألا وهي مسألة الانتماء إلى السلطة، معبراً عن ذلك بالقول: «والمؤرخ، راوية أو مصنفاً، يقترب في وظيفته حينذاك من دور الشاعر، فيصبح مؤرخ بلاط..».
لقد انصبت البحوث والدراسات على اختلاف اتجاهاتها ومستويات مطارحاتها، على ثلاث جوانب أساسية في هذا المحور الإشكالي وهي:
1ـ المناهج.
2ـ المؤرخ.
3ـ المادة التاريخية.
من هنا وفي ضوء هذا الاجراء التنظيمي لأهم العناوين التي قدمت في هذا الملتقى، نستطيع السيطرة على أهم الأفكار ووجهات النظر المطروحة. على أن نتناولها من وجهة نظر نقدية، سعياً‏إلى إلغاء وتنشيط الآراء في مجال البحث التاريخي.

أولاً: إشكالية المنهج في كتابة التاريخ الاسلامي:
لعل الحديث هنا عن إشكالية المنهج في كتابة التاريخ الاسلامي، يستدعي اتجاهاً في عمق الموروث الفكري العربي والاسلامي، كما يستدعي اتجاهاً في عمق المؤسَّس والمقروء في الدراسات الاستشراقية المعاصرة. فهل إن الأزمة هي وليدة هذا التواطؤ الهادف إلى إعادة صوغ المشاهد التاريخية بما يؤسس لوظيفة إيديولوجية، أيّاً كان مجال سلطتها: الدولة، المذهب، القوم...! أم أن الأزمة هي أشمل وأعمق من ذلك تتجه نحو طبيعة الكتابة التاريخية ذاتها من حيث هي تقنية ناظرة في الحقل التاريخي بما هو «علم خطير جداً» كما يقول «فاليري»؟.
هل يكفي التأريخ للماضي الإسلامي وللكتابة التاريخية الإسلامية، أم أننا في حاجة إلى نقد الماضي والكتابة التاريخية أيضاً؟ هل نحن في حاجة إلى «تاريخ التأريخ» ونقد الأسس، أم نحتاج إلى تنويعات على الموروث بما يعيد إنتاج المفارقة في مجال صعب وخطير، كعلم التاريخ؟!! والسؤال الموضوعي الذي يفرض نفسه هنا، إلى أي مدى وفقت الأبحاث المقدمة في مؤتمر التاريخ الإسلامي، في مقاربتها لهذا التحدي الإشكالي!؟

التأريخ اللاتاريخي:
لاشك في أن التاريخ صناعة عربية.. ساهم في تطويرها عقل عربي وإسلامي في ظل طموحه متواصلاً إلى إرساء ما من شأنه تنقية الأخبار المنقولة عبر الرواة.. مع تتبع لتراجم الرواة أيضاً. فلا مندوحة من اعتبار الكتابة التاريخية العربية والإسلامية، أرقى ـ بلاشك ـ مما شهدته الاستريوغرافية اليونانية أو الفارسية... وهنا يحيلنا د.‏نقولا زيادة (عن الجامعة الأمريكية بلبنان) عبر ورقته التي جاءت تحت عنوان «كتب السيرة والتراجم في التراث التاريخي العربي الإسلامي» إلى هذه الحقيقة عبر عرض لأكثر من نموذج تاريخي. مؤكداً أننا «... لسنا نعدو الحقيقة إذا حسبنا أن هذا النوع من الكتابة التاريخية هو إختراع عربي».
ويؤكد نيقولا زيادة على أن السيرة الذاتية قليلة في هذا النوع من الأدب على الرغم من كثرة ما كتب في التراجم. والأمثلة التي قدمها هي: سيرة ابن سينا التي أملاها على الجوجزاني، وكتاب المنقذ من الضلال للغزالي، وكتاب التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً‏وغرباً. مشيراً إلى أن النوع الذي طغى على صعيد التراجم ـ في العصور الإسلامية الأولى ـ هو ما أسماه بـ «كتب الطبقات». وقدم جملة من النماذج في هذا الجانب، مسجلاً ملاحظة أخرى في صميم هذا التخصص، تتعلق بإحدى مآثر القرن السابع الهجري، وهي عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (أحمد بن القاسم بن خليفة). إذ تجلت فرادته في أنه حاول أن يغطي طبقات أطباء اليونان، وليس الاقتصار على ذكر طبقات الأطباء في الفترة الإسلامية فقط. ويسجل نيقولا زيادة ملاحظة أخرى، بخصوص الحقبة التي برز فيها اتجاه جديد في كتب التراجم، تتعلق بالقرن الثامن، حيث اصبح المؤلف يتناول «مشاهير قرن بعينه» وقدم أيضاً نماذج عن ذلك، مثل ابن حجر العسقلاني في «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» والسخاوي في كتاب: «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» والمرادي الدمشقي في «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» و.. و..
بلاشك كان للعرض الذي تقدم به نيقولا زيادة قيمته في رصد متكامل نسبياً لما اشتهر من كتب التراجم الكبرى في التاريخ الاسلامي العربي. وهو بلاشك ـ أيضاً‏ـ يقدم لنا عرضاً‏وصفياً لظاهرة إنما كانت تقتضي بحثاً أعمق في المدلول التاريخي لهذه الكتابةالتاريخية نفسها.. أي أننا بصدد وصف تاريخي سريع ومختزل، لكيفية كتابة التاريخ الاسلامي في مقام محوره البارز بحث في الإشكالية والمنهج.
من هنا نستطيع القول في هذا العرض النقدي، أن العرض التاريخي هنا كانت تنقصه الرؤية التاريخية. وحينما نمارس التاريخ بوعي لاتاريخي نصادف أنفسناýأمام عالم تتشكل فيه عناصر الأزمة ذاته في تنويعات تصادر على واقع تاريخي أزموي. لا أقل من الناحية المنهجية، حيث تطور الكتابة التاريخية ذاتها من حيث هي صنعة، وكمنهج أيضاً، هي ظاهرة عمرانية. ومن ثم فهي حصيلة جدل قطاعات وبنيات مختلفة الوظائف فهذا الوصف بالتالي، لايؤسس لقراءة تستند إلى جدل القطائع التاريخية على صعيد الرؤية والمنهج التأريخيين. كما لايقارب التحولات في تعاطي هذه الصنعة من خلال التطور السوسيوثقافي للمؤرخ ومحيطه. هكذا نستطيعýأن نتساءل عن الأسباب التي جعلت جنس السير الذاتية يكاد ينذر في كتابة التراجم، وأيضاً‏الأسباب التي تجعل مؤرخاً كابن الأصيبعة، ينتاول مادة التأريخ العلمي على اوسع نطاق مما هو معهود... وأيضاً الأسباب التي أدت إلى تركيز الاهتمام على الترجمة في حدود القرن!؟
وحيث أن د. نيقولا زيادة لم يكلف نفسه عناء البحث فيما وراء هذه المظاهر التأريخية، واكتفى بملاحظته الوصفية، فإن ثغرة بلا شك تبقى ماثلة في هذا العرض. أليس من الممكن أن يكون لعزوف المسلمين والعرب عن كتابة السيرة الذاتية، أسباباً كامنة في صميم الموروث الثقافي الاسلامي والعربي؟ لقد ظلت تلك النماذج القليلة مجرد إشارات عابرة عن رصد لسيرة ذاتية تعكس موقفاً معرفياً ما. مثل ما حصل مع أبي حامد الغزالي، أي أن السيرة الذاتية هناك لم تكن سوى إجراء فنياً ووظيفياً لتركيز موقف ايديولوجي ومعرفي. لأن التأريخ للذات «السيرة الذاتية» قد تغدو مهمة صعبة، إذا ما أريد لها أن تكون تأريخاً جامعاً وكاملاً لخبرة شخص، ينتمي إلى عالم سوسيوـ ثقافي مغلق، وتتحكم فيه بنية قيمية تجعل من عملية السرد التاريخي الذاتي وظيفة تنحو بمعزل عن الخبرة والأهداف الجماعية، هذا فضلاً عن أنها تضارع نمطاً من الكتابة يناقض القيمة الكبرى للتأريخ العربي والإسلامي الأول، من حيث هو وسيلة لرصد وظيفي للرجال بما يؤسس للإخبار الموضوعي عن «السيرة» المركزية في إطار هذا النشاط الكلي، أي «السيرة النبوية» بما هي المحور الأساسي للتأريخ العربي والاسلامي. وبماýأنها تمثل القيمة التاريخية «الجماعية» من منطلق السيرة ـ القدوة. هكذا طبيعي أن تختفي السير الذاتية من حقل الكتابة التاريخية عند المسلمين والعرب، إلاّ بالمقدار الذي يتولاّه سياسيون وفلاسفة في سياق مشروع معرفي متكامل سرعان ما يعود للمنحى الجماعي من خلال تجريد الذات عن الموضوع.
كما أن التناول الواسع لتراجم الأطباء كما عند ابن الأصيبعة في القرن السابع، يقف على الشروط ذاتها، من حيث أن المؤرخ في القرن السابع ليس هو نفسه في القرن الثالث أو الرابع وهو خلاف أيضاً يمكن إقامته بين موقع المؤرخين وثقافتهم والحقل الذي يشتغلون فيه، فالتأريخ للأطباء ممارسة متسامحة، في هذا النطاق الضيق لصنعة الطب، بما هو علم أبعد من أن يؤثر على مضمون التراجم والسير العلمية كما في مجال الاعتقاد والشريعة وعلم الأخلاق... وقد يكون لتركيز مترجمي القرن (8) على القرون الأخرى، أسباب أقلها ما يتعلق ببوادر بروز الرؤية القطائعية للمجال الثقافي التاريخي، وبداية تشكل الفكر التاريخي لدى المؤرخ العربي. ولهذا التركيز على «القرن» مضمون كامن في عمق الرؤية الاسلامية، القائلة ببروز مصلح على رأس كل قرن.
وهي مجرد تساؤلات ليس أكثر من ذلك، كان من المفترض أن تثيرها ورقة د. نيقولا زيادة في هذا الاتجاه.

النوازل الفقهية والتأريخ للاّ مؤرَخ!
من جهتها تحيلنا ورقة د. ابراهمي القادري بوتشيش (عن جامعة السلطان قابوس ـ عُمان)، تحت عنوان «النوازل الفقهية وكتب المناقب والعقود العدلية: مصادر جديدة لدراسة تاريخ البؤساء بالغرب الاسلامي (ق 5 ـ 6هـ / 12 ـ 13م» إلى اسلوب آخر، وموقع آخر من سياسة التأريخ‏ـ إن صح هذا التعبير ـ ليس من حيث أنها تسعى إلى اختراق اللامفكر فيه من مجال التاريخ العربي والاسلامي في حركية تصادمه وتغالبه السياسي، بل من حيث أن هذه العملية لاتتأتى إلا في افق سياسة تاريخية تستطيع وضع الحدث في سياقه الحقيقي، بعيداً‏عن التهويل والتهوين من حيث هما أسلوبين متماثلين في التفكير التاريخي. وهي المحاولة التي تستعيض عن أزمة الحوليات، بشواهد تقع نثارات في نوازل فقهية.
والحال، أن نزعة التحول هذه من الخبر التاريخي إلى مجال الشواهد بالمعنى العام، هو إجراء علمي لتوسيع مضمون ومفهوم الوثيقة ذاتها. وهو ما تتيحه مدرسة الأنال، لتقنية البحث التاريخي، لكن يبقى البعد الاستقرائي واضح في هذه الممارسة الاسطريوغرافية، من حيث أنها بمقدار ما هي حريصة على توسيع مفهوم الوثيقة فإنها تتساهل في نقدها، بما يخلف فجوات تحليلية خطيرة، تجعل الاستقراء ليس أكثر من ممارسة ظنية أبعد ما تكون قادرة على توفير الإراءة الحقيقية للمشهد التاريخي لمن لم يحظوا بتاريخ موضوعي. كما أن ثمة خلطاً واضحاً بين الحركات ذات المشروع الايديولوجي، والبؤساء الذين يمثلون الطبقات الشعبية أو LAMASSE .
وهذا الخلط سوف يظهر حينما يعمل الباحث على تحميل جزء من مسؤولية هذا التهميش والنسيان التاريخي للبؤساء من عدم توفيرهم لشواهد من تاريخهم. مع أن السواد الأعظم لم يكن منخرطاً في هذه الحركات السياسية المنظمة. لعل هناك جسر رابط بين الاثنين، غير ان الحديث عنها من موقع هذه المصادرة، يجعلنا ننفي وجود حركات مناهضة ذات مشروع سياسي لم تقدحه حالة البؤس فحسب!
لقد لفت الباحث إلى أهمية الطفرة المهنجية التي تحققت في ظل التطور العلمي المعاصر. وذلك قمين حقاً بخلخلة الكتابة التقليدية من أساسها. وبلاشك فإن الإفادة من هذه المعطيات المنهجية كانت حاضرة في هذا العرض. وقد اقترح الباحث في تناوله لإشكالية تدوين أخبار البؤساء، الرجوع إلى ثلاث نماذج مصدرية هي:
1ـ النوازل الفقهية.
2ـ المناقب.
3ـ العقود العدلية.
هذه النماذج كفيلة بأن تكشف عن وضع البؤساء في المجتمع الاسلامي والذي حصرهم في ثلاث نماذج أيضاً:
1/ المزارعون
2/ المتسولون
3/ الحرفيون
وهنا، لانشك في أن الباحث كان حريصاً على أن يقدم نماذج محصورة في سياق خطة منهجية، راعى فيها عنصر الانسجام.
إننا نلاحظ قراءة واعية تستجمع جميع شروط النظر العلمي، لكنها لاتخلو من تساهلات، إن لم نقل قفزات منهجية نتيجة لتصرف إجرائي يتطلع إلى تثبيت فرضيات تستدعي مزيداً من الدقة.
فالخروج عن التاريخ إلى النوازل والمناقب و... لايستلزم بالضرورة نسيان الرؤية التاريخية العامة لأنماط الانتاج. لقد أشار الباحث إلى أن وضعية البؤساء واجهت كثيراً من النسيان إن لم نقل الإقصاء الواعي بخطواته المنهجية، وأيضاً‏التدبير المبيت لاستئصال شأفة الفئة المحرومة من تاريخ، تواطأ كل من الدول والمؤرخين على تحريفه. وقد ظل موقف مؤرخ العصور الوسطى الاسلامية، من البؤساء هو موقف السلطة ذاتها. التي يواليها. ويستثني الباحث هنا نسبياً «ابن خلدون» الذي فطن حسب تعبيره إلى ضرورة التجديد والتطوير في طرق الكتابة التاريخية. مع أنه عاد ليتحدث عن عجز ابن خلدون عن تطبيقها في تاريخه. يقول: «فمنذ القرن 8 هـ، فطن ابن خلدون إلى ضرورة إحداث النقلة من تاريخ الفئة الحاكمة إلى تاريخ الشعوب، وانتقد بهذا الخصوص المؤرخين الذين أفاضوا في ذكر الأمير وصفاته وملامح وجهه [...] إلا أن ابن خلدون لم يدخل هذه الرؤية الطموحة حيز التطبيق، ولم ينجح رغم علو كعبه في أن يفك نفسه من إسار التاريخ النخبوي الذي سار على هديه معظم المؤرخين» ثم يعود ليبطل كلامه:
«إن كل متأمل لهذا النص يلاحظ مفارقة عميقة بين مستويين متباينين من الكتابة التاريخية الاسلامية: ففي الوقت الذي أسهب هذا المؤرخ في وصف الخليفة الموحدي من أعلى رأسه إلى أخمص قدمية [...] لانجده يقول ولو كلمة واحدة عن عامة الناس من الفقراء والبؤساء..» هذا المقتطف يحيلنا إلى إحدى أبرز معضلات الكتابة التاريخية حقاً. هي حينما نكون على قناعة تامة بمشروعية نقد الأسس والبداهات، سواء ما توارثناه من القديم أو ما توارثناه من القراءات الاستشراقية الكلاسيكية. إن الحديث هنا عن ابن خلدون، الذي يبدو أن الباحث أقحمه ـ هنا‏ـ إقحاماً. وهو بهذا يعارض نوعاً من الإقصاء لمؤرخين إنما خضعوا للنسيان، شأنهم كأولئك البؤساء الذين واجهوا الموقف نفسه. وهذا الموقف الدعائي يلاحظ على الباحثين المغاربة بالجملة. على أن الباحث أشار إلى إعجاب ابن خلدون بالمسعودي، الذي لم «يفطن» إلى هذه المعضلة فقط، بل مارسها في كتابته التاريخية.
والحقيقة أن ابن خلدون وهو يتعرض لنموذج المؤرخ التقليدي، في مقدمته، كان يهدف إلى الأخذ بعين الاعتبار العنصر النقدي والعلمي في تقصي الأحداث وقراءتها في ضوء نظرية العمران.
ولم يكن ابن خلدون ليعير أي أهمية لتاريخ البؤساء المنسي، بقدر ما كان يقصد، تحليل بنيات تاريخية عامة. فابن خلدون لم يفشل في تطبيق نظريته فحسب، ولا توغل أكثر من غيره في مدح الأمراء ـ فحسب ـ بل إنه تناول تاريخ البؤساء والمحرومين ـ أو المستضعفين كما سماهم الباحث ـ بأعنف العنف. وقد كان ابن خلدون أقسى عليهم من مؤرخين آخرين، نظير ابن كثير أو الذهبي أو...
من هنا لانرى على أي وجه، يكون ابن خلدون استثناء في هذا المجال لولا أنه فشل في التطبيق، مع أن الطبري وقبله اليعقوبي والمسعودي لم يتناولا تاريخ البؤساء بالقسوة نفسها التي تكثفت عند ابن خلدون. إن المتأمل في تاريخ ابن خلدون سوف يجد نفسه حقاً‏أمام تاريخ فئوي، ومؤرخ قريب من البلاط لعل الحذر من اختراق هذه البداهة الواهمية في وعينا التاريخي، هو واحد من أخطر الأزمات التي يعانيها التاريخ الاسلامي ومناهجه. مع أن الباحث لم يتوانى في أن يتعرض للطبري، كنموذج لمؤرخ مدفوع بإرادة الانتماء إلى سياسة عصره بأسلوب الإعراض والتناسي.
فلأن كان ابن خلدون قد فطن إلى المنهج العاصم في الكتابة التاريخية، ولم يطبق، فالمشكلة إذن، بعيدة عن دائرة النظرية. فإذا كان الأمر كذلك فالمؤرخون الأوائل كانوا أكثر موضوعية ـ نسبياً‏ـ من فيلسوف العمران.‏والحال، أن ابن خلدون لم يكن فقط عاجزاً عن التخلص من ربقة الانتماء إلى سياسة الأمراء، بل كان عاجزاً عن التخلص من رؤية ثقافية معيقة لأي ممارسة عقلانية في الكتابة التاريخية. هذا إذا لم نقل أن عجزه عن تطبيق نظريته، مؤشر على أنها جاءت ضمن سياق فكري فجائي، ناشز عن مجمل خطاب ابن خلدون.
إن ابن خلدون لم يكتف بالسكوت والنسيان، وهو أفضل خيار لمؤرخ يتفادى بطش الدولة... بل عمل وسعه في إقصاء الفرق المضطهدة، وساهم في إطلاق النعوت والأوصاف، مستعيراً كل أساليب فن «الملل والنحل» في محاكمة الاتجاهات المعارضة أو الفئات المحرومة والمضطهدة.
وساهم في التاريخ للبطل، وهي صورة للتأريخ ـ كما أشار الباحث‏ـ ساهمت بقسط وافر في إقصاء الفئات الشعبية المحرومة. إلا أن الباحث يعود في النهاية ليثير إشكالية أخرى، تتعلق بغياب الوثيقة المتعلقة بتاريخ هذا القطاع التراثي المنسي. ويعزو مسؤولية إتلاف ذلك وثائق شاهدة على أحوالهم وظروفهم التاريخية. مع أن تحليلاً كهذا، أشبه ما يسمى بالدور المنطقي، أو لا أقل نوع من الهيام في حلقة مفرغة. فإذا كان الباحث قد أخذ نفسه بالقوة في بحث قضية البؤساء إنطلاقاً من النوازل والمسائل الفتوائية وغيرها من المصادر اللاتاريخية، كان أولى لو نظر في حقيقة غياب الوثيقة، التي تعتبر مؤشراً حقيقياً عن وضهم المأساوي في ظل كيان يمتهن التاريخ ولايؤرخ لكل مكوناته الاجتماعية. مع أن المؤرخين جميعهم كانوا منتمين إلى الاتجاه العام، وحتى في هذا النطاق ثمة من كان يمارس حذراً شديداً في الكتابة التاريخية.
إن غياب الوثيقة في جزء كبير منه راجع إلى الوضع السياسي، حيث يستحيل معه ظهور الوثيقة. على أن مؤرخ المعارضة ظل هو نفسه مقصياً ومهمشاً، شأنه شأن المادة التاريخية التي اشتغل على تجميعها، مثل تاريخ النوبختي مثلاً فإن تحميل هؤلاء مسؤولية إخفاء وثيقتهم هو موقف لاتاريخي، يتجاهل حقيقة بؤسهم، وخطورة وضعهم.
ويتجلى المنزع اللاتاريخي في المصادرة علىالنوازل، باعتبار نزاهة المفتي واستقلاله بعكس المؤرخ. يشير الباحث إلى ذلك بالقول: «وتتميز [أي النازلة] بعفويتها وبراءتها من جهة ثانية لأنها لم تصدر عن سلطة رسمية، ولم تتلون بلون ايديولجي أو سياسي; فابتعاد المفتي عن السلطة الحاكمة، وفرّ مناخاً من الحرية لفكره دون تدخل سافر من الجهات الرسمية، مما يجعل النازلة نصاً تاريخياً محايداً يفوق أحياناً قيمة النص التاريخي نفسه، أو يمكّن من إعادة البناء التاريخي بناء منطقياً».
وقد كان من المفترض أن يتوقف الباحث عند النازلة في الحدود التي تساعد فيها على رصد أوضاع البؤساء في التاريخ الاسلامي، ليس أكثر من ذلك. خصوصاً وأن المجال الذي أطر فيه الباحث نظره، يتعلق بالغرب الاسلامي وتحديداً، المغرب والأندلس... المجال الذي لعب فيه المفتي سلطة أكبر من سلطة المؤرخ. إن وصفاً كهذا بلا شك، لايقيم اعتباراً للوضع التاريخي للمفتي في الشمال الافريقي، حيث بسلطته يتم حرق «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي ـ القاضي عياض ـ ويستميل موقف الدولة ذاتها في الموضوع.
إن وضع المفتي ـ الفقيه في الغرب الاسلامي ظل ـ عكس ما ينحو الباحث ـ أكثر تماهياً وتواطؤاً مع السلطة. والشواهد على ذلك كثيرة لمن نظر بعين فاحصة في مناقبهم وتاريخهم، بل وسوف يدرك ذلك أكثر من ينظر بنفاذ بصيرة إلى تاريخ ونشوء المتحول المذهبي الفقهي في الغرب الاسلامي. إننا بالنتيجة، نخرج مع ورقة تتعاطى مع الحدث التاريخي في نوع من التجزيئي.
والحال، أن النظر التاريخي المطلوب، هو ذلك الذي يعالج الحدث في كليته. من هنا قادنا ـ الباحث ـ من تاريخ البؤساء ـ الذين دافع عنهم ـ إلى بؤس التأريخ ـ حيث سلك فيه مسلك القراءة الفانتازية التي تستعيض عن الصياغة المخيالية للتاريخ بأخرى لاتقل عنها وهْماً!

التاريخ تحت سطوة الأدلوجة:
إذا كانت وظيفة التأريخ الحقيقية، تتحدد في إراءة أحوال الماضي، ورصد الغابر... فإن للأدلوجة وظيفة معاكسة تماماً، لأنها قد تحرص على توجيه الحاضر والمستقبل على اساس من تزييف الوقائع. فماذا سيكون الأمر يا ترى إذا اجتمع التاريخ مع الأدلوجة، وتحديداً في مجال التراث العربي والاسلامي؟! بلاشك سوف نكون أمام صورة بمقدار ما هي تتغذى على طبائع الأشياء، تنحو منحى غارقاً في الوهم.
أمامنا نموذجين محددين عن هذه الرؤيةالتي تختزل التاريخ كصنعة قائمة بذاتها في وظيفة أجنبية عن مفهومه وأهدافه.
الأولى، تنحو به منحى الخطاب القوماني، الذي يجعل التاريخ وظيفة ايديولوجية لمصلحة القوم... والثانية، تسلك المنحى الايديولوجي ذاته في إخضاعه للرؤية الاقتصادية الماركسية.
وبينما تمنح الأولى للقوم رتبة سابقة على التاريخ، تجعل الأخرى الاقتصاد حاكماً عليه. ونحن أمام محاولتين، وإن اختلفتا في الاتجاه، يقتضي الهاجس المشترك بينهما، إعطاء التاريخ دوراً ثانوياً. فهل نقول معهم: في البدئ كان القوم أم في البدئ كان الانتاج؟.
أما د. عبد المنعم ماجد (من جامعة عين شمس ـ مصر) فإنه يثير بشيء من الحماس، «مسألة القومية في بحوث التاريخ الاسلامي»، على الرغم من الطابع الخطابي للعرض، فإننا نقف على رؤية غارقة في نفي العنصر التاريخي فيما هي تحرص على توظيفه ضمن آلية معرفية متكاملة، لصالح مجد «أمة»! في حين أن الاشكالية هي أكبر من ذلك بكثير، تتعلق بكيفية تحرير التاريخ أولاً من التزوير والمفارقات لينتظم كمادة علمية تتيح قدراً من المعرفة، إننا أمام مطلب فهم التاريخ قبل توظيفه في خطة أدواتية لطلب مجد لأمة ما. أي أن مجد لأمة هو في الافادة من هذا الماضي كمجموعة وقائع حقيقية، من أجل ممارسة ايجابية في المستقبل، وليس في تعويض أزمة الحاضر وغموض المستقبل في صياغة تخيلية للتاريخ. إننا بهذا نكون حقاً نمارس وظيفة غير الكتابة التاريخية.
لقد أشار الباحث إلى أهمية تطوير مناهج البحث التاريخي وتحرير التاريخ من سلطة الاستعمار... «إذ ان كتابته [أي التاريخ الاسلامي] لاتزال ترتكز علىالطريقة التقليدية، التي كانت له في وقت الاحتلال الاجنبي، حتى بلغ الأمر بتسمية العصور التاريخية باسم المستعمرين، فيقال مثلاً مصر البيزنطية بدلاً من مصر تحت حكم بيزنطة، وكأن علم التاريخ للمستعمرين وحدهم».
كما أن الباحث لفت إلى مسألة التخصص في الكتابة التاريخية، واستثمار الطاقات البحثية المختلفة، كل ذلك مما تتطلع إليه كل الأبحاث والطموحات المعاصرة. إلاّ أن الإشكالية تبقى عالقة فيما يطرحه د. عبد المنعم، حينما يقول: «وتأسيساً على ذلك; فقد أصبح من الضروري الاهتمام بالمسألة القومية في كتابة التاريخ الاسلامي، إذْ القومية وثيقة الصلة بالتاريخ».
فعلى مدار البحث نقف على ملاحظات لافتة إلى إشكالية حقيقية في كتابة التاريخ الاسلامي. وتأتي هنا «المسألة» القومية في إطار توظيفي، يختزل إشكالية الكتابة التاريخية في الولاء للقوم. وعلى الرغم من أن الحديث عن هذه المسألة ظل محوراً لهذا العرض، إلاّ أننا لانكاد نقف على فكرة واضحة، تتيح للمتلقي قدراً‏يسيراً‏من استيعاب المتغير القومي في هذه المعادلة. والظاهر، أن الكتابة التاريخية الاسلامية، كانت قد أفردت للعرب القسط الأكبر من الأخبار. وفي إطار «القوم» تواجهنا إشكالية الكتابة التاريخية من حيث هي مغامرة قاسية في عمق الشواهد، وتنقيح واسع في الوثائق. لأن الحالة الصراعية والانقسامية، وأيضاً الطبقية، كلها مظاهر تنعكس في محيط «القوم» . وفي التأكيد على المسألة القومية، في الكتابة التاريخية الاسلامية، نزوع إلى تحويل النظر، من مسار تطوري لبنيات اجتماعية وحضارية وثقافية... إلى تاريخ أعراق وأقوام. وهو ـ حقاً‏ـ ما يعيد التاريخ إلى نزعته التقليدية الأولى.
وليس ثمة فارق كبير بين أن نخضع التاريخ إلى هذا المنزع القومي الذي أقحم بنشاز في مجال إشكالي معقد، وبين أن نضعه تحت مجهر آخر، يتحول فيه التاريخ إلى محنة كدح بشري، وقصة نضال مستميت في سبيل استرداد وسائل الانتاج والنزوع إلى الشراكة في الملك والانتاج. فمن ناحية هناك إقصاء للعوامل التاريخية المؤثرة بدورها في هذا النشاط البشري. ومن ناحيةýأخرى، ثمة اتفاق ما بين الاتجاهين في توظيف التاريخ لصالح فكرة ايديولوجية وتحويل المجال التاريخي إلى جملة مشاهد وسيناريوهات يتجه فيها التاريخ دوماً‏إلى تحقيق رغبة القوم في مجد تاريخي وغلبة حضارية... أو تحقيق حلم «الشغيلة» التاريخي في السيطرة على وسائل الانتاج.
فإذا رجعنا إلى ما قدمه د. محمد مخزوم (من الجامعة اللبنانية)، نجدنا أمام مقاربة نموذجية للمدرسة المادية، عنون لها: «المستشرقون والتاريخ الاسلامي، نموذج المدرسة المادية»، يُعيدنا هذا النموذج إلى ذلك الجدل الطويل، الذي شهدته الكثير من أطروحات المثقفين اليساريين، الذين اختزلوا التاريخ الاسلامي في قصة سعي حثيث لامتلاك وسائل الانتاج، ضمن السيناريوهات التي حددتها مراحل التطور الماركسية. وأمامنا نماذج من دعاة هذه المدرسة الماركسية في العالم العربي، يقف على رأسهم، كل من حسين مروة، ومهدي عامل من لبنان، وعبد الله العروي من المغرب، وسمير أمين من مصر، مع اختلافات طفيفة وفروق بسيطة في أسلوب الطرح وتكتيكه.
تحيلنا الورقة من خلال المقدمة إلى بحث ما به اختلاف وافتراق النظريتين: الاقتصاد الاسلامي، ونمط الانتاج الآسيوي. وذلك سعياً لتقويض هذه النظرية من حيث أنها لاتنطبق على الاقتصاد الاسلامي. ويعزو الباحث تأييد بعض الماركسيين لهذا المفهوم إلى تأثرهم نوعاً ما بالاقتصاد العثماني المتأخر. وتتلخص وجهة نظر الباحث حول الموضوع في الملخص التالي: «وأخيراً لايمكننا التسليم مع الفلسفة المادية بأن نمط الانتاج الذي عرفه المجتمع الاسلامي هو صورة مطابقة لنمط الانتاج الآسيوي الذي وضعت أسسه هذه الفلسفة».
وقد استند الباحث في بناء هذا الرأي على عدد من المعطيات، لانجازف إذا ما اعتبرناها بعيدة نوعاً ما عن المقاربة الموضوعية لنمط الاقتصاد الاسلامي، من حيث أن الإشكالية هنا تكمن في ذلك الفارق الأساسي بين منظومة الاحكام التي جاء بها الاسلام، لتنظيم الحياة الاقتصادية... وبين الممارسة التاريخية للعملية الاقتصادية في المجتمع الاسلامي. وهو ما يعني بحث المفارقة بين النظرية و«البراكسيس» في إطار تاريخ الاقتصاد الاسلامي. والبحث هنا بقدر ما يجري حوله ماهية نمط الانتاج الآسيوي والاقتصاد الاسلامي من منظور مقارناتي، فهو يجري أيضاً في اتجاه الكشف عن مأزم الصدمة الكبرى بين التاريخي والمعرفي.
أما من الناحية النظرية فإن الثغرة واضحة في الرؤية الماركسية لطبيعة الأحكام الاقتصادية الاسلامية. من حيث أن هذه الأخيرة تتناقض جوهرياً مع نمط الانتاج الآسيوي، في أسلوبه ومقاصده، فلأن كان سيتبانيانتس، فيما يذكره الباحث، يرى قانون الزكاة يدفع المجتمع نحو الاستسلام للفقر، أو ماذهب إليه «جوزي» بأن الزكاة لايقصد منها نزع الثروة من أصحابها، فإن ذلك يعبر عن حالة من الإسقاط مشوهة لمفهوم الزكاة ومجمل النظرية الاسلامية في الاقتصاد. فهذا الموقف إنما يختزل رغبة كبيرة في أن يكون الاسلام ماركسياً أولاً... وهو ما يعني أن الاسلام إما أن يكون تصوره للثروة والانتاج والملكية يناظر رؤية المادية التاريخية، أو لايكون له رأي متكامل في العملية الاقتصادية، وهو ما رامه كثيرون أمثال رودانسن.
والحال، أن الاسلام من الناحية النظرية قدم جملة من الاجراءات العملية لتحديد عملية الانتاج والتحكم في نمو الثروة وتوزيعها. وأيضاً في ممارسة التملك ولم يكن الاسلام يقصد من وراء الزكاة ومن التشريعات المالية الأخرى أن ينزع الثروة من أصحابها. وهذا أمر طبيعي مادام أن الاسلام ليس من واجبه بالضرورة أن يلتقي مع النظرية الماركسية في الموقف من الثروة. وهذا إنما ينسجم مع تصوره الكلّي للحياة الاجتماعية، بما هي قائمة على توازن في تصور علاقات الفرد بالجماعة. فالزكاة وغيرها من القوانين المالية، تهدف إلى خلق توازن ما في مجال توزع الثروة والحؤول دون خلق قطيعة طبقية بين أصحاب رؤوس الأموال والعامة ولكي لايكون المال دولة بين الأغنياء منهم. وهذا يدل على أن تصور الاسلام للمجتمع قائم على موقف معين وفلسفة مستقلة للعملية الاقتصادية. ولو أن رودانسن وسّع دائرة المصادر التي اعتمدها، لأدرك أن الاسلام قدم أكثر من توجيهات اقتصادية محدودة. لأن المفترض من الباحث في تراث شمولي، لاينتظر أن يعثر في «النص» الدين‏ـ القرآن‏ـ عن تحليل مكثف ومستقل على غرار «ثروة الأمم»، كما أنه لن يعثر في نصوص وشروح كتبت في العصور الوسيطية وما قبلها، على نظرية اقتصادية في حجم «الرأسمال» هناك ـ وهذا ما يهمنا بالطبع‏ـ اشكالية في طبيعة قراءة الوثائق التاريخية.
فالمؤرخ الماركسي تخونه نزعته الاقتصادية في نبذ مفهوم القطيعة، وايضاً يغفل عن أهمية «تبيئة» الفكر والوثيقة. كل ما هنالك أن القراءة أو الكتابة التاريخية الماركسية، تستند إلى إسقاطات مخلّة بالنظر الموضوعي، فتقرأ التاريخ بنزعة واحدية، وتقيم عليه الحدّ بسوط الأدلوجة. ونحن هنا سوف نتفادى قدر الإمكان الدخول في مناقشة اقتصادية بحتة، مادام المطلوب منا في هذه المناسبة، التعرض لإشكالية التاريخ والمنهج.. من هنا لابد من أن نعود إلى ورقة الباحث، التي بمقدار ما كانت تحاول إبراز الفارق بين النظرية الاسلامية في الاقتصاد ونمط الانتاج الآسيوي، سقطت في مطب آخر، وهو ما يتعلق بالخلط بين هذه النظرية وبين الممارسة التاريخية للإقتصاد الاسلامي. فلأن ظهرت حالات كثيرة تثبت أن العملية الاقتصادية في التاريخ الاسلامي كانت تجري في ضوء تصور مستقل لمفهوم الثروة والانتاج، فإننا لاننفي أن التاريخ الاسلامي شهد ممارسة اقتصادية تنحو منحى نمط الانتاج الآسيوي، أكثر مما تنحو منحى المتطلب النظري للإقتصاد الاسلامي. وهذا إنما حدث نتيجة عزوف عن التوجيه الحقيقي لشريعة الاسلام في الاقتصاد، وليس نتيجة خلوه من أي تشريع منýهذا القبيل.
وكما تحدث الباحث عن تناقضات الخطاب الاسلامي بهذا الخصوص، ما بين موقف معاوية وموقف أبي ذر الغفاري ففي الوقت الذي يستهين فيه الباحث بهذه الشواهد المهمة في مجال اكتشاف النهج التحريفي المبكر في مجال توزيع الثروة، تتحول هذه الشواهد إلى أدلة عكسية، مما يدل على أننا لازلنا بإزاء فهم خاطئ للكتابة والتفكير التاريخيين. ولعل الورقة التي تقدم بها «د. بوتشش» فيها لا أقل ما يجيب عن أن تاريخ البؤساء إنما يُترك من خلال هذه المواقف ـ إن وسعنا مفهوم النوازل لنأخذ بتاريخ المقاتل والمؤامرات ـ، فأبو ذر الغفاري كان يتحرك بشعار اسلامي وآيات قرآنية... في حين ظل موقف معاوية، يمثل اتجاهاً عشائرياً وعرفياً، قد يصب في نمط الانتاج الآسيوي.
إن الأدلوجة التي تجبر الباحث على أن يتجنب فضح النهج التحريفي على صعيد التطبيق في الأزمنة المبكرة للتاريخ الاسلامي، هي ما يجعله يبحث عن حلها بنفي أصل التشريع الاقتصادي في الاسلام بناء على هذا التناقض في واقع الممارسة الاقتصادية التاريخية.
وبالنتيجة نكون أمام ورقة تساهم في تقويض النظرة التاريخية فيما هي تبحث في التاريخ عمّا يؤازر سلطان الأدلوجة في هذا الغنج المماحكاتي التسطيحي.

الإشكالية والمنهج في دائرةالاستشراق...
حينما نزل المستشرقون بحمولتهم المعرفية إلى مجال التاريخ الاسلامي، كانوا قد وفرّوا ذخيرة مهمة من مناهج الكتابة التاريخية، وإن ظل رصيدهم من المادة التاريخية متفاوتاً بين باحث وآخر. فعلى مستوى قراءة الوثيقة واستنطاقها ولم شتات القرائن ونقد معطيات الأسطريوغرافيا الكلاسيكية، تمكن قسم من المستشرقين من قراءة ما كان مسكوتاً عنه أو منسياً ـ لاأقل ـ إلا أننا مع ذلك نعثر على نماذج أخرى، استسلمت فوراً‏إلى كل المعطيات التاريخية الاسلامية، ومارست ما يشبه إعادة كتابة ونسخ لما هو موجود، بلغاتها المحلية.
وأمامنا هنا ورقتين لكل من د. مسعود مزهودي (عن جامعة باتنة الجزائر) تحت عنوان: «المستشرقون البولنديون والدراسات الأباضية في شمال إفريقية». ود. وجيه كوثراني (عن الجامعة اللبنانية) تحت عنوان «من الاستشراق إلى مناهج الانسانيات».
وعلى الرغم من اعتراف د. مسعود مزهودي في خاتمة ورقته بأهمية الموروث الاستشراقي، وجهوده التي بذلها على صعيد جمع وتحقيق المخطوطات وطباعتها وترجمتها، إلاّ أنه يلفت إلى الآثار السلبية لهذه الحركة الاستشراقية على طائفة من المنهزمين من أبناء الأمة:«وإذا أردنا في الأخير أن نقيم الحركة الاستشراقية بصفة عامة فإننا نقول بأنها تركت آثاراً ايجابية لاينكرها إلا جاحد متعصب تبدو بجلاء في الاهتمام بالتراث الاسلامي، وذلك بجمع مخطوطاته وتحقيقها وطبعها وترجمتها إلى لغات عديدة وفي الوقت نفسه فإنها تركت أثاراً سلبية تتمثل في التشوية والتشكيك السبب الذي أدى إلى سريان روح الهزيمة في طائفة من أبناء الأمة الاسلامية...».
والباحث يتبنى وجهة نظر في هذه الحركة الاستشراقية، باعتبارها تنحو وجهة مضادة لوحدة الأمة، من خلال بحثها في الخلافات والنزاعات التاريخية. كما يربط بين هذه الحركة والمشروع الاستعماري، خصوصاً فيما يرتبط بالشمال الافريقي. فالباحث بلاشك، ينظر إلى الحركة الاستشراقية نظرة كليانية، تجعله مشروع حركة موحدة في برامجها وأهدافها وكذا ذات خلفية مشتركة ومنزع استعماري موحد. مع أن النظرة الموضوعية تقتضي أن نعترف بأن الاستشراق بما أنه يمثل وجهة نظر الآخر الذي لايلزم نفسه بما يمكن أن نسمية «منظومة التابوهات» التي تجعل التاريخ مسرحاً للغموض والمفارقات واللامفكر فيه... وعليه، فإنه يقرأ في تاريخنا ما سكتنا عنه، أو يثير ما امتنعنا عن معرفته، ويكشف عما تناسيناه وواريناه. واقحام عنصر «الوحدة» كهدف، اجنبي عن موضوعنا، من حيث أن إشكالية الكتابة التاريخية كقضية معرفية لايقتضي حلّها بمطلب سياسي وبحاجة يحتمها الوضع الحاضر. «فالوحدة» هي بالنتيجة وليدة نضج حضاري، لأمة تطمح إلى تجاوز أمراضها ونزاعاتها بمزيد من الوعي وكثير من التعقل. وكشفاً موضوعياً عن أزمتنا التاريخية هو خطوة أساسية في بناء وعينا التاريخي، الذي هو إحدى إرهاصات التقدم في واقعنا المعاصر. إن الحديث عن تهافت الاستشراق ينبغي ان يتجه نحو نقد المقروء في هذه الحركة علىýأن الاستشراق بالنتيجة لايمثل وجهة نظر واحدة، ولايحركه منزع واحد، كما أنه لايقف على اتجاه موحد. هذا إذ لم نقل أن عدداً من المستشرقين راحوا ضحية ما أفادوه من داخل العالم الاسلامي، ومن مصادر تاريخية ظلت هي الإطار المرجعي الوحيد لعدد من الباحثين الغربيين. فلعل الربط بين مطلق الاستشراق والاستعمار، لايفي بالغرض إزاء إشكالية المنهج في كتابة التاريخ الاسلامي.
وسوف تحيلنا ورقة د. وجيه كوثراني، إلى الموضوع ذاته، لكن بصورة أكثر استيعاباً، وعمقاً في مقاربة الصلة بين الاستشراق والموقف العربي... في ضوء رؤية تحليلية لأحدث المناهج في مجال كتابة التاريخ. ويختار المدرسة الغربية نموذجاً، حيث يقحم الاستشراق في مجال تحليلي أوسع، يتعلق بمناهج الانسانيات. وقد نستطيع من وجيه كوثراني أن نضع وجهة النظر السابقة ضمن أربع تصانيف رؤيوية، وتحديداً، الرؤية الثانية التي تتحدد من خلال «زاوية المواجهة الايديولوجية والثقافية مع الامبريالية الغربية والاحتلالات المباشرة...»
فبعد أن يقسم الباحث أجيال المؤرخين العرب المعاصرين خلال قرن من الزمن إلى أربعة أجيال اعتماداً على التقسيم نفسه للدكتور رضوان السيد، يخلص إلى نتيجة وهي أن هؤلاء المؤرخين سواء من اهتم منهم بالجانب السياسي من التاريخ العربي ‏ـ الاسلامي أو الجانب الاقتصادي الاجتماعي أو الجانب الثقافي ـ السياسي أو التاريخ الثقافي من زاوية التأريخ للمفاهيم، جميع هؤلاء ينتظمون جميعاً «تحت مشروع قبة عالمية لم تكتمل بعد في خضم حركة الأفكار التي شهدها ومايزال يشهدها القرن العشرون بامتداده الذي قد يطول متعدياً حدود القرن الواحد والعشرون (مفهوم القرن الكبير والطويل عند بردويل)».
فالبحث التاريخي العربي، كان ينمو بصورة إيجابية كلما خفّ الضغط من قبل الغرب على العالم العربي والاسلامي. وحينئذ كان البحث التاريخي يكسر تلك الثنائية الحصرية، وذات الصبغة الصراعية، غرب/شرق، ذات/موضوع... فإن ثمة خطابين تاريخيين، الخطاب الأكاديمي العَالِم، الذي يطارح من موقع استيعاب ونظر يستند إلى تقنيات الدرس العلمي الموضوعي... والخطاب النضالي الذي ينتج وعياً سطحياً، كما يغذي معرفة جاهزة.
والذي يظهر من ورقة د. كوثراني، هو التركيز على المنحى العلمي والنقد الموضوعي لهذه الحركة الاستشراقية، من هنا جاء احتفاءه وتوجيهه لإدوارد سعيد، باعتباره صاحب مشروع ناجح في نقد الاستشراق. وهذا هو ما يفسر محاولته ـ أي الباحث ـ لأن يقترح خروجاً إيجابياً من أسر المعرفة الاستشراقية ذات النزعة الثنائية، إلى مجال مناهج العلوم الانسانية، بما تتيحه من إمكانيات هائلة على صعيد الكتابة التاريخية. فهي إذن دعوة إلى توسيع آفاق البحث في مجال مناهج التأريخ، وتحريره من النزعات «اللامعرفية» إن صح هذا التعبير. وهذا بالنتيجة يحيل إلى فهم العلاقة وبالتالي تحقيق التوازن بين المعرفة والسلطة... وهي العملية الصعبة في عالمنا العربي. والباحث هنا في الحقيقة كان يهدف إلى فتح مجال للمعرفة واسع، جعل أساسه معلقاً على تحقيق هذا التوازن، وهوالأمر الذي يصعب إنجازه، لأن الأمر يرتد في النهاية إلى المنفرج السياسي والخيار النسبي لمن أراد أن يعتبر بـ «الديمقراطية الغربية».. وهي دعوة جاءت مترددة، وإن كانت في صميمها هي دعوة حقيقية ورغبة متوثبة إلى مخرج يمتطي ظهر العلم، ولا يلحّ على أن يتم ذلك في جو من الانفتاح والتعددية والقبول بالآخر المختلف.
إن ورقة كهذه ـ بلاشك ـ تقدم مطلباً ملحاً في راهننا... أي مسيرة البحث العلمي التي تفرض نفسها علينا في عالم التجربة كما في الانسانيات ومناهجها. وهو وإن كان استعراضاً في حدود تقريب مناهج البحث والتحليل المعاصرة، إلا أنها دعوة مشروعة، والأساس الذي تستند عليه أو تطمح إليه، مشروع. على أن المهمة سوف تغدو أصعب من ذلك حينما ندخل في مجال التطبيق. لأن الشرط الأخطر في مطلب كهذا، هو مدى استيعاب هذا الموروث الحداثي في مجال مناهج الانسانيات والتفنن في تنزيله على المادة التاريخية المحلية... مع إحاطة واستيعاب للموروث التاريخي العربي والاسلامي، نزعاته، مقاصده، منسياته...

ثانياً وثالثاً: اشكالية المؤرخ والمادة التاريخية
اشكالية المنهج في الكتابة التاريخية وتحديداً في مجال التاريخ العربي والاسلامي، اشكالية معقدة، وصعبة. إلاّ أن العنصر الأخطر من ذلك، هو المؤرخ الذي يسعى دائماً إلى صياغة التاريخ على وفق منزعه وتصوره... وأيضاً، المادة التاريخية، التي تمثل المعطى الخام للمؤرخ، حيث بدونها لايسع المنهج أو المؤرخ إلاّ أن يتراجع أمام الحقيقة التاريخية. وفي هذا الاطار، تندرج جملة من الأوراق التي تقدم بها عدد مهم من الباحثين في هذا المؤتمر، تتراوح في اهتماماتها بين البحث في المؤرخ أو في المادة التاريخية، بحثاً‏وقراءة ونقداً...
وأقصد بالمادة التاريخية هنا، المعطيات التاريخية التي وصلت إلينا من خلال المخطوطات والمدونات التاريخية الكبرى. ونقصد بالمؤرخ، ذاك الذي سهر على تدوينها وتجميعها وتولى الاخبار عن حوادث غابرة. ونستطيع هنا أن نلخص إشكالية المادة التاريخية في انها تتمظهر في إختفاء الوثيقة والدارس الخبر. إذْ كثيراً ما اكتفت كتابة التاريخ الاسلامي، بالإشارة السريعة والمختزلة والمهونة أيضاً، لكيانات تاريخية كثيرة، مثل القرامطة، والفاطميين. كما أن المؤرخ بدوره يساهم في إخفاء الكثير من الجوانب المهمة في التاريخ ويساهم ـ أيضاً‏ـ في تصريف الأخبار فيما يوافق السياسة العامة له أو لجهة ما. والنماذج المطروحة أمامنا هنا، الراوية والمؤرخ المغمور، سيف بن عمر التميمي، والطبري، وابن كثير... وتداعيات الأزمة الاخبارية على صعيد الكتابات المعاصرة لبعض المستشرقين أمثال هنري لامنس...
يثير د. رضوان السيد (من الجامعة اللبنانية) قضية الراوية نموذج سيف بن عمر، تحت عنوان «من الخبر إلى التاريخ: نموذج سيف بن عمر»، حيث أشار إلى أن القسم الأكبر من المادة التاريخية عند المؤرخين الكبار أمثال الدنيوري والطبري أو المسعودي... مأخوذة عن كتب الإخبارية الذين زاولوا الكتابة التاريخية بصورة تكاد تنتهي عند الخبر وتجميع الروايات. وهي الفترة التي شملت الربع الأول من القرن الثاني حتى الربع الأول من القرن الثالث، واشهرهم، محمد بن اسحاق وأبو مخنف وسيف بن عمر، و... و... ويشير الباحث أيضاً إلى أن معظم رسائل هؤلاء الاخبارية، تلفت واندرست وبقيت كعناوين في مدونات مؤرخي القرنين الثالث والرابع، وقد كانت تلك مقدمة كافية للحديث عن أحد أكثر الاخبارية نشاطاً وأكثرهم غموضاً، ألا وهو سيف بن عمر التميمي. ويركز الباحث أيضاً على أهم الرسائل التي نسبت إلى سيف، وهي مقتل عثمان، البيعة لعلي. وأيضاً له كتاب الفتوح والردة والجمل ومسير عائشة وعلي. فابن عمر التميمي الذي عرف بتعصبه لقبيلته «تميم» وميوله الأموية استطاع أن يمارس تأثيراً ملحوظاً على الأخبار المتعلقة بأحداث القرن الهجري الأول. فالمشكلة تكمن ابتداء في أن سيف بن عمر هذا شخصية غامضة غير ما أشار إليه الباحث في كلام ابن النديم حيث ذكر اسمه ومؤلفاته. إلاّ أن الباحث اكتفى بالاشارة إلى أن المؤرخين المحدثين «قدموا منذ البداية أبا مخنف على سيف، لما ذكروه من ولاء لسيف بن عمر لقبيلته، ولرجالات السلطة الأمويين والعباسيين. بدأ هذا التقليد يوليوس فلهاوزن في كتاب: «الدولة العربية وسقوطها» ثم تتابع على ذلك اللاحقون وصولاً لمرتضى العسكري ومحمد بن الحي شعبان».
ولانكاد نختلف مع الباحث من حيث أن سيف بن عمر هذا، ممن أهمله أكثر المؤرخين المعاصرين بل، إن كثيراً من الأجانب الاخباريين اتهموه وضعفوا مروياته، أمثال البيهقي والنسائي وغيرهما... إلاّ أننا نتوقف بعض الشيء عند «فلهاوزن» الذي اعتبره الباحث، أول من رسّخ ذلك التقليد... مع أن فلهاوزن من أكثر المستشرقين الذين راحوا ضحية «فكرة» ابن سبأ، التي ابتدعها سيف بن عمر التميمي وانفرد بها... وأيضاً، تأثره بأخبار سيف بخصوص القرن الهجري الأول... وهو ما نجده واضحاً من خلال نص لفلهاوزن، يقول فيه:
«وهنا لابد من الإشارة بإيجاز شديد إلى رأي تحدد القول به حديثاً، يرمي إلى البحث عن أصول الخوارج لدى فرقة السبئية اقتفاء لأثر سيف بن عمر. ذلك أن قادة الخوارج الأول، أو بعضاً منهم على الأقل، كانوا يعارضون ولاة عثمان، وعثمان نفسه واشتركوا جميعاً في المسؤولية عن مقتل عثمان، بل فاخروا بهذا الاشتراك: إذن لابد ـ في رأي سيف ـ أن يكونوا من السبئية». [ص24، الخوارج والشيعة، فلهوزن، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية 1958].
إن فلهاوزن اعتقد أخبار سيف، وانطلق منها كمعطيات نهائية في بحث موضوع الخوارج والشيعة، وهو من المستشرقين الأكثر اعتماداً على سيف بن عمر...
لقد شكلت أخبار سيف بن عمر رصيداً مهماً، انتقل بحذافيره إلى الطبري، الذي تساهل في تنقيح أخباره. مما عزّر تلك الأخبار التي يكاد ينفرد بأغلبها سيف بن عمر. وتبقى ورقة د. رضوان السيد إثارة في محلها،لأنها أثارت قضية حساسة على صعيد المادة التاريخية، وما تعكسه من آثار سلبية على صعيد كتابة التاريخ الاسلامي. والباحث هنا كان يهدف إلى الخلوص إلى نتيجة هي أن نتجاوز الخبر لنعانق الممارسة التاريخية العلمية، من حيث أن «التاريخ ليس خبراً وإلا لما كان له معنى خارجه [...] ولذا يتجاوز التاريخ مادته الخبرية».
بل إننا نكاد نعتقد أن أخطر الضربات التي صوبت للكتابة التاريخية عند العرب، هي تلك المادة التاريخية الجاهزة التي اختلق معظم أحداثها سيف ابن عمر التميمي، وهو ما لفت إليه الكثيرون أمثال برنار لويس، وطه حسين وفصّل فيها السيد مرتضى العسكري بمزيد من التعمق والتوسع. وهذا ما سوف نجد أثاره عند مستشرقين بنوا نظرتهم على معطيات هذه الأخبار التي كانت في خلفيتها السياسية تصنع مجداً للدولة الأموية أو العباسية وتكيف الأحداث بما يوافق الأوضاع السياسية والتاريخية. مع د. خير المر (من الجامعة اللبنانية) نقف على إحدى تلك التداعيات الخطيرة، في محاولة لبحث «معاوية الأول في كتابات هنري لامنس». وهي الورقة التي تتبعت آراء «لامنس» بخصوص بني أمية وخصومهم، بحيث ينتهي هذا الأخير، إلى تبني وجهة النظر الأموية ذاتها. وهو ما يؤكد النظرة التي ينقلها الباحث عن كل من امام عبد الفتاح امام وعبد الرحمن بدوي، من أن لامنس «مرتل الأمويين» و «أكبر مادحيهم» وأحد الذين أفرطوا في «تمجيدهم بدافع من الحقد الشديد على الاسلام».
فقد وفرت هذه الرسائل الاخبارية فرصة لكثير من المستشرقين المدفوعين بكراهية خاصة، لقلب الكفة لصالح الأمويين الذين يمثلون، الرؤية السياسية الواضحة المنزع الدنيوي ورهان القوة، في محاولة للدفاع عما اعتبرتهم الكتابة التاريخية الاسلامية، تحريفيون ومتنفذون بلا مشروعية. فلامنس من خلال تعزيزه للكيان الأموي وتحديداً من خلال مدحه وثنائه على معاوية واعجابه بشخصيته، وضع نفسه في خانة أخرى تشذ حتى على مستشرقين وقفوا مع الاسلام التاريخي الرسمي أمثال هاملتون جيب. لأنه سعى إلى الدفاع عن الكيان الأموي ورموزه وتبرير طغيانهم واستبدادهم...
ولعل ما هو أخطر من تلك الرسائل التي وضعت في الربع الأول من القرن الثاني، هناك القرن الرابع، حيث برزت مدونات كبرى وتلتها حركة جديدة في مجال التدوين التاريخي، التي دشنها البلاذري والدنيوري واليعقوبي والطبري والمسعودي.
ويحاول الشيخ الأمين محمد عوض أن يقدم بحثاً مستقلاً عن الحافظ ابن كثير. يتناول فيه منهجه واسلوبه وكذا يقيم مقارنة بينه وبين مؤرخين آخرين. وقد أشار في البداية إلى مراحل التدوين وملابساته، كما إلى طبيعة المناهج المتبعة من قبل المؤرخين في الكتابة التاريخية. فالحافظ ابن كثير، بالنتيجة هو أحد كبار المحدثين الذين تتلمذوا على يد ابن تيمية، وظفروا بملكة الحفظ والاستحضار السريع. وصنفوا في أكثر من صنعة; التفسير، والحديث، والتاريخ،...
أما الطريقة التي اتبعها الحافظ بن كثير فهي نفسها التي سلكها الطبري; طريقة المحدثين في عرض السند، مع تساهل في تنقيحها. إلاّ أنه سلك اسلوباً، جمع فيه بين كتابة «الحوليات» والكتابة العالمية على غرار المسعودي، الذي اعتبره الباحث معتزلياً مع أن المشهور تشيعه، لم يلتفت الباحث إلى أن محدثاً كابن كثير، حينما يقتحم مجال التاريخ، فإنه يحتفظ بموقفه كمحدث، يتبع أسلوباً تنميطياً... على أن مؤرخنا هنا يختلف عن الطبري كمحدث. فقد كان ابن كثير يمثل اتجاهاً سلفياً واضحاً، ظهر في إخباره عن وقائع القرن الرابع، في حين ظل الطبري محافظاً نسبياً على توازنه. ولاشك في أن الطبري اتبع طريقاً في الكتابة التاريخية تتيح المجال لاختراق التزوير في الخبر، من منطلق أن الطبري ترك عهدة صدق هذه الأخبار على رواتها. وهو ما يقلّل من قيمته العلمية.
إلاّ أن الحافظ بن كثير فتح المجال من جهة ثانية ـ فضلاً عن التساهل في الخبر على غرار الطبري ـ إلى الاسرائيليات التي اعتبرها مكملات لما كان ينوي الاخبار عنه. ورغم ذلك فإن ـ ابن كثير، ظل وفياً لموقفه المذهبي في إقصاء تاريخ الآخر، أو تاريخ البؤساء كما تذكر ورقة د. بوتشيش. الأمر الذي لم يلتفتýإليه الباحث. واقتصر على العرض وأسلوب التشويق. على أن إشكالية الكتابة التاريخية تقتضي البحث خلف هذه البداهات وراء المشهور، للقبض على الأزمة، التي هي بلاشك تتمظهر بقدر متفاوت بين المؤرخ والمادة التاريخية ومناهج كتابة التاريخ.
إن مؤتمر «كتابة التاريخ الاسلامي» يمثل ـ حقاً‏ـ محاولة جادة، وطموحاً ناضجاً لم يسبق له مثيل في العالم العربي; لأنه بحث في إحدى أكثر الاشكاليات خطراً وتعقداً. وحتى وإن قدمت داخل المؤتمر أوراق ذات أهمية بالغة، إلاّ أن الطابع العام لهذه المساهمات لم يكن بحجم طموح المؤتمر، وفي مستوى عمق الإشكالية. فقد شهد المؤتمر أوراقاً تحمل مظاهر الأزمة التاريخية ذاتها، وكأنها حقّاً لاتستشعر خطورة الازمة وإشكالية كتابة التاريخ الاسلامي.

(*) كاتب من المغرب