شعار الموقع

د البهي والفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

زكي الميلاد 2007-04-26
عدد القراءات « 2126 »

 

-1-

 الخطاب الفكري والصدام الإيديولوجي

يعكس الخطاب الفكري للدكتور محمد البهي طبيعة التموجات الثقافية والإيديولوجية التي شهدتها مصر والشرق العربي، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبالذات في حقبتي الخمسينات والستينات، التي مثَّلت العصر الذهبي لتقدم وصعود الأفكار والإيديولوجيات العلمانية والماركسية. وذلك بعد أن احتضنتها الدولة العربية الحديثة، وفتحت أمامها أوسع الفرص للامتداد والتعبير عن مفاهيمها وتصوراتها، وتمكنت بالفعل من التغلغل والتأثير في جيل المتعلمين والمثقفين آنذاك، وكانت لها سطوتها في الجامعات، وارتفع صوتها عالياً في مختلف وسائل الإعلام، وتمكنت من السيطرة على مؤسسات الدولة الثقافية.

وفي ظل هذه الوضعيات ارتفعت وتيرة الجدل والسجال، وحتى النزاع والصراع بين أصحاب تلك الإيديولوجيات والمنتسبين إلى الفكر الإسلامي الذين وجدوا أنهم يخوضون صراعاً إيديولوجياً للدفاع عن الإسلام، وعن الأفكار والقيم الإسلامية، بينما ظن أولئك أنهم يخوضون صراعاً إيديولوجياً للدفاع عن مفاهيم التقدم والحداثة والتنوير.

وفي هذا النطاق تحددت طبيعة المهمة الفكرية عند بعض المفكرين الإسلاميين، ومن هؤلاء الدكتور محمد البهي الذي دخل في مواجهة فكرية مستمرة مع تلك الإيديولوجيات، وهو المنحى الذي طبع معظم مؤلفاته، بما في ذلك أبرزها وأهمها. ومن يرجع إلى هذه المؤلفات يكتشف بسهولة تجلي هذا الطابع، خصوصاً وأن المؤلف نفسه ظل يشير إلى مثل هذا المنحى في كتاباته، ويَسِمُها بهذا الوصف، ويصنفها على هذا الاتجاه، ويلفت النظر إليه باستمرار، ففي كتابه «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي» الصادر عام 1947م، يقول عنه في طبعته الرابعة الصادرة عام 1966م: إن «التطورات الإيديولوجية والعنف في إقحام بعض الإيديولوجيات الأجنبية على هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الإسلامية، يدفع إلى الحرص على هدف الكتاب، ويجعل منه بالتالي نداء جديداً، وفي الوقت نفسه نذيراً للأمة الإسلامية في حاضرها بمعرفة إسلامها... إن مواجهة الفكر الدخيل أيًّا كان نوعه ومصدره هي ضرورة حتمية لبقاء المجتمع الإسلامي مستقلاً بإيديولوجيته، ومحافظاً على وحدته وقوته»([1]).

ويطفح هذا المنحى ويتجلى بصورة شاخصة في كتابه «الإسلام في الواقع الإيديولوجي المعاصر» الصادر عام 1968م، حيث يقول في مقدمته: إن الإسلام «يتعرض لهجوم الإيديولوجيات القادمة أو المستقدمة، والتي هي في هجومها تغلظ شدة وعنفاً تبعاً لاستكانة المسلمين. وقد ألفوها في عهود الاحتلال والاستعمار، ثم أُكرهوا على الاستمرار عليها بعد الاستقلال في ظل الحكم الوطني... وهذا الكتاب يقدم موقف الإسلام في مواجهته لتحديات هذه الإيديولوجيات»([2]).

إلى كتابه «الفكر الإسلامي في تطوره» الصادر عام 1971م، حيث حاول أن يبرز -كما يقول- في بعض فصوله مواجهة التفكير لدى المسلمين للفكر الدخيل على أمتهم ودينهم، ويوضح في بعض فصوله الأخرى مواجهة هذا التفكير للضعف الداخلي الناشئ عن الخصومة المذهبية الطائفية... وإذا اعتبر الفكر الإسلامي في لقائه أو مواجهته للفكر الإغريقي وللفكر الفارسي والهندي على عهد العباسيين فلسفة إسلامية، فإنه اليوم في مواجهته للفكر الأوروبي العلماني، أو للفكر الآخر الماركسي اللينيني، يعتبر أيضاً فلسفة إسلامية، وفلسفة إسلامية معاصرة»([3]).

وحين يريد البهي أن يربط بين ثلاثة هي من أبرز وأهم مؤلفاته، هي: «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي»، و«الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، و«الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر»، فإنه يحدد هذا الرابط على أساس فكرة المواجهة. إذ يعتبر أن مساهمة كتاب «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي» «في توضيح مواجهة المسلمين للفكر الإغريقي والشرقي في القرن التاسع الميلادي، لا تقل في أثرها عن مواجهة الفكر العلماني الصليبي في القرن التاسع عشر في زميله كتاب الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ولا تقل كذلك عن مواجهة الفكر الماركسي اللينيني الإلحادي في القرن العشرين في أخ لهم وهو كتاب الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر»([4]).

وفي هذا السياق تحديداً يأتي أشهر مؤلفاته على الإطلاق، وهو كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» الصادر عام 1957م، حيث اعتبره في مقدمة الطبعة الثامنة الصادرة عام 1975م بأنه حسب قوله كتاب «مواجهة مباشرة لتيارات فكرية مستترة، وراء عناوين خادعة، وهي في جوهرها محاولات عنيفة لفصل المسلمين عن دينهم، ووضعهم في مجالات التبعية لغيرهم... ويواجه تيار الماركسية الإلحادية، المتخفي وراء اسم العدالة الاجتماعية، وبهذا دخل الكتاب في طرح لا يهدأ مع الدافعين لهذا التيار أو ذاك، خارج المجتمعات الإسلامية أو داخلها»([5]).

لهذا يعتبر الدكتور البهي أحد المدافعين عن الفكر الإسلامي والنهج الإسلامي أمام التشكيكات والشبهات والإشكاليات التي ما فتئت تلك الإيديولوجيات المغايرة تثيرها، وتنفث بها في زمن سطوتها وشوكتها. وأحد الذين حاولوا أن يبرهنوا على بقاء وثبات وصلاحية القيم الإسلامية في كل زمان ومكان، وعلى قدرة الإسلام في حل ومواجهة مشكلات ومعضلات المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فالمهمة الأولى لكتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» كما يقول: «أن يكشف عن قيم الإسلام، وعن صلاحية هذه القيم وحدها لتلافي مشاكل المادية في المجتمعات المعاصرة»([6]).

ومع هذا المسلك المعاصر في كتابات ومؤلفات البهي إلا أن خطابه الفكري لم يحضَ بمتابعة واهتمام واسع ولافت في الأوساط الثقافية والدينية، مع أنه ارتقى لمناصب ثقافية عليا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فبعد أن كان متولياً الإدارة الثقافية بالأزهر في الخمسينات، عُيِّن مديراً لجامعة الأزهر عام 1961م، ثم أصبح وزيراً ما بين عام 1962 - 1964م.

وبقي هذا الوضع من عدم الاهتمام بالخطاب الفكري للدكتور البهي على حاله ولم يتغير، وتراجع أكثر بعد ما تغيرت وتبدلت السياقات والأرضيات الفكرية والثقافية في حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث استعاد الفكر الإسلامي يقظته وتقدمه، وتراجعت في المقابل وانحسرت تلك الإديولوجيات المغايرة، خصوصاً بعد نكسة 1967، النكسة التي صوَّرتها الأدبيات العربية بالهزيمة الفكرية.

أما اليوم فنادراً ما يأتي الحديث عنه، وعن خطابه الفكري حتى في المؤلفات والكتابات التي تتناول الحديث عن الفكر الإسلامي والقضايا الإسلامية المعاصرة. والكتابات التي أشارت إليه تطرقت إليه بشكل عابر لا يوحي بأهمية الخطاب الفكري للدكتور البهي، وأهمية مكانته الفكرية، ومنزلته بين المفكرين الإسلاميين.

وفي نطاق التصنيف الفكري هناك من صنَّف الدكتور البهي على مدرسة الشيخ محمد عبده، وهي المدرسة التي طالما امتدحها البهي، وأثنى عليها، ودافع عنها، ورفع منزلتها، مما يوحي بإمكانية تصنيفه على هذه المدرسة، ولا أظن أن البهي يعترض على مثل هذا التصنيف، بل لعله كان يتمناه ويسعى إليه. ويذهب إلى مثل هذا الرأي الشيخ محمد الغزالي في كتابه «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين» حين تحدث عن مدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، واصفاً لها بأنها أقرب إلى مدرسة أهل الرأي التي تقابل مدرسة أهل الحديث، ويتبع هذه المدرسة من بعد الشيخ محمد عبده -في نظر الشيخ الغزالي- الشيخ محمود شلتوت، ومحمد عبدالله دراز، ومحمد المدني، وقبلهم الشيخ محمد الخضري، والشيخ محمد أبو زهرة، ومنهم أيضاً محمد البهي. وهي المدرسة التي حاولت -كما يضيف الشيخ الغزالي- أن تقود الأزهر، وتفرض وجهتها على المسلمين، ولكن التيارات العاصفة كانت أقوى منها فوقفتها أو جرفتها([7]).

أما الدكتور أحمد عبد الرازق فحين يتحدث عن طبيعة المسلك الفلسفي للمفكرين المصريين المعاصرين فإنه يصنف محمد البهي على المسلك الذي يعتمد حسب رأيه وجهة نظر اعتزالية مع نزوع سلفي متوازن، ويضيف له محمود أحمد صبحي، ومحمد عبد الهادي أبو ريده([8]). والتصنيف الأقرب هو ما ذهب إليه الشيخ الغزالي.

والأثر الذي مازال يُذكِّر اليوم بالدكتور البهي هو كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» وهو الكتاب الذي عرف به في حياته وعصره، ولمس ذلك بنفسه، وأشار إليها في مقدمة الطبعة الثالثة من الكتاب، الصادرة عام 1961م بقوله: «فقد كنت أُعرَّف وأُعْرَف به في رحلاتي المختلفة في المشرق والمغرب... فما ذكرت في مرة من المرات أثناء هذه الرحلات، وما عرفت عند إلقاء محاضرة أو حديث إلا بأني مؤلف الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»([9]).

ولشهرة الكتاب فقد تُرجم إلى اللغات الإنجليزية والتركية والإندونيسية والأردية. ويعد من أكثر مؤلفات البهي التي يرجع إليها الدارسون والباحثون في ميادين الفكر الإسلامي.

وكون الكتاب يتحدد في إطاره الفكري بالقضايا والتطورات الثقافية والإيديولوجية التي حصلت في مصر تحديداً، وتركت تداعياتها على المشرق العربي لصلته الوثيقة بمصر، لهذا كان في تخطيط المؤلف العمل على تكملة هذا الكتاب بجزء ثانٍ يكون مجاله الفكر الإسلامي في بلاد المغرب العربي والجزء الغربي من إفريقيا. ويبدو أن هذا الجزء لم ينجز، ولم يَعُد المؤلف يتحدث عنه في مقدمات الطبعات الأخرى لكتابه منذ عام 1961م، حين أشار إلى هذه الملاحظة في تصديره للطبعة الثالثة من الكتاب، وإلى عام 1975م مع صدور الطبعة الثامنة من الكتاب نفسه.

وعند النظر في هذا الكتاب يمكن تصنيفه على نسق المؤلفات والدراسات التي حاولت توثيق وكتابه التاريخ الفكري والثقافي لمصر والعالم العربي في العصر الحديث بعد اتصاله واحتكاكه بأوروبا والاستعمار الأوروبي. وإن كان يختلف عن بعض هذه المؤلفات والدراسات من حيث طبيعته الإيديولوجية، ومن كونه ينطلق من فكرة المواجهة، وينتصر للاتجاه الفكري والإصلاحي الذي قاوم الاستعمار الغربي. ومن هذه الناحية، ونتيجة لهذه الطبيعة فإن هذا الكتاب يصنف كذلك على نسق المؤلفات والدراسات التي توجهت بالنقد الثقافي والأخلاقي للغرب الاستعماري، والغرب الاستشراقي، والغرب المادي والإلحادي، وللتيارات والاتجاهات المتأثرة والتابعة لمرجعيات الفكر الأوروبي التي ظهرت في مجتمعات العالم العربي والإسلامي.

ومن جهة ثالثة يصنف هذا الكتاب على نسق المؤلفات والدراسات التي حاولت البحث عن البديل والخيار الثالث، وعن الكتلة الثالثة البديلة عن مسلكيات ومرجعيات الغرب الرأسمالي والشرق الماركسي، والدعوة إلى الخيار الإسلامي بوصفه بديلاً شافياً ومتكاملاً عن البدائل الوضعية الأخرى، وبوصفه منهجاً للحياة الإنسانية في مجتمعات المسلمين المعاصرة، وصالحاً لكل الأزمنة والعصور.

وبسبب النزاع والسجال الإيديولوجي الذي خاضه الدكتور البهي مع تلك الإيديولوجيات المغايرة، فقد تعرض هذا الكتاب إلى المصادرة والمنع لفترة طويلة، قدَّرها المؤلف بعشر سنوات، حيث عاد إلى الصدور مرة أخرى في عام 1975م، بعد أن تراجعت سطوة تلك الإيديولوجيات وشوكتها في حقبة السبعينات من القرن الماضي.

-2-

 التجديد في الفكر الإسلامي وأثر الفكر الأوروبي

خصَّص الدكتور البهي أكبر فصل في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» للحديث عن التجديد في الفكر الإسلامي، وحين يشرح رؤيته حول هذا الموضوع يرى أنه منذ القرن التاسع عشر نشأ في التفكير الإسلامي اتجاهان:

الأول: اتجاه يتناغم مع الاستعمار الغربي في تقريب الإسلام من المسيحية، أو في تبديله إلى توجه ديني يرضى عنه المستعمر.

الثاني: اتجاه يقاوم الاستعمار الغربي، ويرفض نهجه في تبديل التوجه الديني، ويدعو إلى احتفاظ المسلمين بإسلامهم كما يصوره القرآن والسنة، وإلى إعادة تماسك الجماعة الإسلامية، والسعي إلى استقلالها، وعدم انصهار المسلمين في غيرهم.

وبانتهاء القرن التاسع عشر تبلور هذان الاتجاهان، وعرفت أسسهما في العالم الإسلامي، وأصبح لكل منهما أتباع وأنصار.

ومع القرن العشرين استمرت هذه الثنائية في اتجاه التفكير الإسلامي، وعرف الاتجاه الأول -كما يقول البهي- باسم التجديد، بينما عرف الاتجاه الثاني باسم الاتجاه الإصلاحي أو اتجاه تجديد المفاهيم الدينية.

ويعتقد الدكتور البهي أن حركة التجديد في الفكر الإسلامي التي ظهرت في الشرق الإسلامي منذ القرن العشرين تعتبر تقليداً للدراسات الإسلامية في تفكير المستشرقين الغربيين. ومن بعد الحرب العالمية الثانية تأثرت حركة التجديد في الفكر الإسلامي بالتفكير الوضعي والماركسي.

كما يعتقد البهي أن الاستعمار الغربي له صلة وثيقة بالفكر الإسلامي منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء في خلق أو معاونة ما يسند من اتجاه، أو في إثارة ما يقاومه من اتجاه آخر. وأن الفكر الإسلامي في الفترة التي بلغت قرناً كاملاً منذ النصف الثاني من القرن التاسع شعر إلى النصف الثاني من القرن العشرين، هو مرآة لهذين الاتجاهين. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت حركة السيد أحمد خان، وحركة ميرزا غلام أحمد كحركتين ممالئتين للاستعمار الغربي، يقابلهما حركة السيد جمال الدين الأفغاني، وحركة الشيخ محمد عبده كحركتين مقاومتين للاستعمار نفسه.

أما حديث البهي عن التجديد في الفكر الإسلامي فهو يرتبط عنده بفترة القرن العشرين، وهكذا الاتجاه المقابل له والذي يصطلح عليه بتجديد المفاهيم الدينية. وعن هذين الاتجاهين وطبيعتهما يشير البهي إلى رؤية هاملتون جيب، وهو يتحدث عن هذين الاتجاهين بقوله: «إن النتائج التي أعقبت نشاط الشيخ محمد عبده اتجهت بعده إلى اتجاهين متقابلين. فمن جانب نشأ محيط مدني في التفكير يقوم على الاحتفاظ بالعقيدة الإسلامية، ولكنه متأثر بقوة بالأفكار الغربية، ويميل إلى العلمانية التي تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، والاستعاضة بالنظام الغربي عن الشريعة الإسلامية.

ومن جانب آخر تكوَّن حزب ديني يسمي نفسه بالسلفية، وهو يتفق مع الاتجاه العلماني في رفض سلطة تعاليم القرون الوسطى، ولكن مع قبول القرآن والسنة كأساس للفصل في الحقائق الدينية»([10]).

ومنذ البداية يقرر البهي أن التجديد في رقعة الشرق الأدنى مع بداية القرن العشرين هو معادلة أخذ الطابع الغربي والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين، سواء في تعبيرهم عن الدين، أو في تحديدهم لمفاهيمه، ومفاهيم الحياة التي يعيشونها، أو في تقديرهم للثقافات الشرقية الدينية والإنسانية. ويستدل البهي على ذلك بكتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1938م، ويبالغ في تأثيره، ويعتبره الكتاب الذي رسم خطة التجديد للفكر الإسلامي المُغرَّب في مصر.

وهذا الاتِّباع والتقليد للفكر الغربي في نظر البهي سار في اتجاهين: اتجاه التأثر بالفكر الغربي الاستشراقي في مجال الدراسات الإسلامية منذ بداية القرن العشرين. واتجاه التأثر بالفكر الوضعي العلمي، والمادي الماركسي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي نطاق التأثر بالفكر الغربي الاستشراقي يشير البهي إلى قضيتين خطيرتين في نظره هما:

أولاً: قضية بشرية القرآن؛ والتي تعرض حسب رأي البهي في إحدى صورتين، صورة أن القرآن هو انطباع في نفس النبي محمد نشأ عن تأثره ببيئته التي عاش فيها، بمكانها وزمانها ومظاهر حياتها المادية والروحية والاجتماعية. وصورة أن القرآن هو تعبير عن الحياة التي عاش فيها النبي، وهناك تلازم في نظر البهي بين هاتين الصورتين.

ومن بين المستشرقين الذين أشاروا لمثل هذه الفكرة في تقدير البهي هو المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب، والذي يعده البهي مثالاً للاتزان من بين المستشرقين الغربيين، ويرى أنه آثر الصورة الأولى في كتابه «المذهب المحمدي» لكن بأسلوب يبدو -كما يقول البهي- أنه تجنب الألفاظ النابية فيما يحكيه عن الرسول، وتجنب الصراحة المكشوفة فيما يريد أن يودعه في نفس القارئ.

وقد ظهر هذا التأثر حسب اعتقاد البهي فيما ذهب إليه طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» الصادر عام 1926م. وهو الكتاب الذي أحدث ضجة فكرية ودينية واسعة في قوته، باتت معروفة للمهتمين بالشأن الثقافي.

والنتيجة التي يخلص إليها البهي: أن هناك صلة وثيقة بين ما يسميه بنزعة التجديد في مسألة بشرية القرآن، وبين مصادر هذه المسألة في الفكر الغربي الاستشراقي. الأمر الذي يؤكد عنده أن التجديد في الفكر الإسلامي هو عبارة عن أخذ من الغرب في كل شيء، بطريقة عمياء ومن دون احتياط حسب وصفه.

ثانياً: قضية أن الإسلام دين لا دولة. ويظهر مثل هذا التأثير حسب نظر البهي في كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» الصادر عام 1925م، وهو الكتاب الذي أحدث ضجة فكرية أيضاً في وقته، ويعتبره البهي من كتب التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، ويعرض دعوى أن الإسلام دين لا دولة. وفي عرضه لهذه الدعوى -كما يضيف البهي- فإنه يأخذ ويستعير من الدراسات الإسلامية للمستشرقين القساوسة الصليبيين، واليهود الحاقدين وما عندهم من آراء في هذا الجانب.

ويعتقد البهي أن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» يتخذ الطابع الذي عرفت به المسيحية بين أتباعها أساساً في تقدير الإسلام كدين، على نحو ما صنع الغربيون في حكمهم عليه، ولهذا فهو كتاب يحكي عن الغرب أكثر مما يتحدث عن جوهر الإسلام.

كما يعتبر البهي أن كتاب «الخلافة» الصادر عام 1924م، للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد الذي كتبه عقب الثورة الكمالية في تركيا، تمجيداً لهدم الخلافة وإبعاد الإسلام عن مجالات الحياة العامة هناك، هذا الكتاب يعد من المصادر الموجهة لكتاب عبد الرازق في تحديد طبيعة الإسلام كدين لا دولة.

أما الاتجاه الآخر الذي تسرب نفوذه وتأثيره إلى مصر والمشرق العربي في صورة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، فهو التفكير الوضعي والمادي الذي انتهت قمته أو انتهى غلوه في نظر البهي إلى تفكير الشيوعية، وهو تفكير انبثق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح بعد الحرب العالمية الثانية يتصارع بعنف مع الديموقراطية الغربية من جانب، والأديان جميعاً من جانب آخر.

وفي هذا الشأن يعرض البهي لمشكلتين أخذتا -في نظره- طابع الرواج في الفكر الإسلامي الحديث في المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهاتان المشكلتان في تقديره هما:

أولاً: مشكلة خرافة الميتافيزيقا، والتي تتضمن حسب رأي البهي خرافة الدين، وإنكار قيمته في التوجيه، وهي وليدة الفكر المادي السابق على ظهور الشيوعية. والنموذج الذي يشير إليه البهي لتسرب هذه المشكلة والتأثر بها في الفكر الإسلامي الحديث هو كتاب «خرافة الميتافيزيقا» الصادر عام 1953م، والذي يرى البهي أنه كتاب منقول من الفكر المادي الأوروبي.

ثانياً: مشكلة اعتبار أن الدين مخدِّر، وهو شعار الشيوعية والماركسية. وتتضمن هذه المشكلة في نظر البهي مطاردة الدين وإبعاده عن مجال الإنسان والجماعة. وفي هذا النطاق يعرض البهي ثلاثة نماذج اعتبرها متأثرة بهذا النهج وتابعه له، وهي كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» الصادر عام 1950م، والذي تحدث فيه ناقداً من أسماه بالكهنة والسلطة الدينية. وكتاب رشدي صالح «رجز في القاهرة» الصادر عام 1957م، ويقصد به ابن خلدون ويتحدث فيه عن التغيير المادي والاقتصادي للتاريخ. وكتاب مصطفى محمود «الله والإنسان» الصادر عام 1958م ويتحدث فيه عن الصراع بين العمل ورأس المال.

ويرى البهي أن رشدي صالح كان أكثر مهارة من المؤلفين الآخرين؛ لأنه أخذ حسب رأيه بالأفكار الماركسية، وأكَّد على تبعية القيم المعنوية والأخلاقية والعقلية للمادة والفكر المادي في جو الثقافة الإسلامية، ولكن في تعثر واضح حسب تقدير البهي نفسه.

ويختم البهي حديثه في نهاية هذا الفصل عن التجديد في الفكر الإسلامي بهذه النتيجة التي يقول فيها: «ونرى أن المجددين في الفكر الإسلامي الحديث في الشرق، أتباع مرددون، وليسوا أصحاب حكم ونقد، تدفعهم رغبة الترديد، وسطحية الفهم، أو يدفعهم الاحترام إلى ترديد ما يرددون. وهم لأي واحد من هذه الأسباب ليسوا أصحاب فلسفة، ولا أتباع مدرسة فلسفية خاصة؛ لأنه تنقصهم الذاتية في بناء الفكر ونقده»([11]).

-3-

 الإصلاح الديني

في مقابل مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي الذي يرفضه البهي ويعتبره تقليداً وترديداً واتِّباعاً أعمى للفكر الأوروبي، يتبنى مفهوم الإصلاح الديني، الذي خصص له فصلاً في كتابه سالف الذكر. ويُعنى به في مجال الإسلام محاولة رد الاعتبار للقيم الدينية، ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك، قصد التخفيف من وزنها في نفوس المسلمين ومحاولة السير بالمبادئ الإسلامية من نقطة الركود التي وقفت عندها في حياة المسلمين، إلى حياة المسلم المعاصر، حتى لا يقف مسلم اليوم موقف المتردد بين أمسه وحاضره عندما يصبح في غده.

والأمارة التي يتخذها البهي علامة وطابعاً للإصلاح الديني هو الكشف عن القيم الذاتية للإسلام. ولا يقصد البهي بهذا الكشف -كما يقول- الدفاع عن الإسلام؛ لأن هذا الدفاع في نظره قد يشتبك مع حماس العاطفة، فيؤثر في القيمة الذاتية للإسلام. ومدلول الكشف الذي يريده البهي هو فصل ما يتصل بالإسلام من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير، أو ركود في الفهم.

وبهذا المعنى فإن الإصلاح الديني في مجال الإسلام -حسب رأي البهي- وثيق الصلة بالعصر الذي يتم فيه، وبالفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها الفكر. كما أن الإصلاح الديني -بوصفه محاولة فكرية- يغاير -في نظر البهي- منهج وعمل الحركات الدينية التي تعتمد على تبسيط تعاليم الإسلام وتقريبها من العقلية العامة، ويغاير كذلك المحاولات التي تسير -حسب تصور البهي- في دائرة تفسير خاص لتعاليم الدين، أو تلتزم منهاج مدرسة خاصة من مدارس الفقه أو مذاهب الكلام في العقيدة.

وما يخلص إليه البهي بعد هذا الفصل والتحديد اعتبار أن الإصلاح الديني هو منهج وتفكير يقوم على نقد وبناء، ويسعى إلى اعتبار قيمة واحدة، هي قيمة الإسلام في التوجيه الإنساني.

هذا من حيث الكشف عن تحديد المعنى والمجال لمفهوم الإصلاح الديني، أما من حيث السياق الفكري والتاريخي، فيرى البهي أن الاستعمار الغربي أيقظ بعض المفكرين المسلمين أو دفعهم لأن يخوضوا صراعاً فكريًّا معه في بقاع العالم الإسلامي، واعتمدوا على الإسلام منهجاً في إيقاظ الشعوب الإسلامية لمواجهة المستعمر الأوروبي، وتقديم صورة عن الإسلام تلائم بين تعاليمه وأهداف الحياة المعاصرة، والكشف عن أن الإسلام يمثل مصدر قوة وغاية في الحياة.

وفي هذا السياق يتحدث البهي عن شخصيتين إسلاميتين فكريتين ظهرتا في مسرح الإصلاح الديني، هما: الشيخ محمد عبده، والدكتور محمد إقبال. وحين يقارن البهي ويوازن بينهما يرى أن كليهما عاش في القرن التاسع عشر وأدرك القرن العشرين، وكليهما حفظ القرآن، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وموطنه ووقف على حياة الغرب وحضارته بالارتحال إليه وبالإقامة في بلدانه، وكليهما مال إلى التصوف ورأى فيه رفعة النفس الإنسانية وصفاءها، وقوة احتمالها في مواجهة الأزمات والأحداث.

إلا أن الشيخ محمد عبده في تقدير البهي كان يعي من الثقافة الإسلامية بقدر ما كان يعي محمد إقبال من الثقافة الغربية، ومارس الأول الفكر الإسلامي في دراسته وتدريسه وبحثه بقدر ما مارس الثاني دراسة الفكر الغربي وتدريسه وبحثه.

وفي حين اندفع الشيخ عبده عن طريق السيد جمال الدين الأفغاني إلى مواجهة الاستعمار الغربي في تشويه الإسلام وتحريفه، اندفع إقبال عن طريق التثقيف ومخالطة الغربيين إلى مواجهة الفكر المادي الغربي، وما له من أثر على المسلم المعاصر. فالشيخ عبده دخل في مواجهة مباشرة مع الاستعمار الغربي ومحاولته تحريف الإسلام عن طريق الاستشراق، ولهذا يرى البهي أن حركته كانت مكملة لحركة السيد جمال الدين الأفغاني. في حين أن حركة إقبال الفكرية واجهت اتصال الغرب الفكري بالشرق عن طريق الاستعمار دون أن تواجه الاستعمار مباشرة، ولهذا لا يرى البهي حركة إقبال استمراراً كحركة الشيخ عبده، وإن كانت مشاركة لها في الهدف. فكلاهما إذاً قام بحركة إصلاحية في تعديل المفاهيم الإسلامية، وبيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام، إلا أن محاولة الشيخ عبده -في تقويم البهي- كانت أقرب إلى منطق الثقافة الإسلامية، في حين كانت محاولة إقبال في نظره أقرب إلى منطق التفكير الغربي. وليس معنى ذلك عنده أن أحدهما كان أقرب إلى روح الإسلام والثاني أقرب إلى روح الغرب.

ويعد البهي كتاب إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام» عملاً فكريًّا مضادًّا لحركة التجديد في الفكر الإسلامي في مصر التي تزعمها -حسب وصفه- بعض التابعين للفكر الاستشراقي، أو بعض المرددين للفكر المادي الإلحادي المتمثل في وضعية كونت، وماركسية ماركس. كما اعتبر البهي الدكتور إقبالاً المصلحَ الفكري في الإسلام، وباعتبار أن محاولته الفكرية موجَّهة في نظر البهي للخاصة، فإنها بحاجة إلى حركة الشيخ عبده لكي تصبح حركة إصلاحية فكرية عامة للجماعة الإسلامية بكل فئاتها وطبقاتها. فمحاولة الشيخ عبده أثمرت في تصور البهي سلسلة من المفكرين المستنيرين في فهم الإسلام، في مصر وسوريا ولبنان وشمال إفريقيا، وله أثره حتى اليوم في الكتابات الإسلامية المتسمة بطابع الفهم السليم لمبادئ الإسلام وظروف المجتمع الحديث. كما أثمرت محاولة إقبال تأسيس دولة باكستان، ووضع دستور إسلامي لها على أساس من القرآن.

وأما عن مستقبل الإصلاح الديني فيرى البهي أن انقطاع الإصلاح في الفكر الإسلامي، وظهوره في فترات غير متصلة، إلى جانب قلة أعوانه وضيق نطاقه يجعل من الصعب عنده التنبؤ بمصير الإصلاح الديني في صراعه الفكري مع الصليبية الغربية، والماركسية المادية، فهو كفاح في تقديره سيكون طويلاً ومريراً.

- 4 -

 الجامعة والأزهر

يربط البهي فكرة التجديد بمؤسسة الجامعة، في حين يربط فكرة الإصلاح بمؤسسة الأزهر، ويعتبر أن الجامعة المصرية هي التي تولت زعامة حركة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مصر، منذ أن دعا لهذه الحركة طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر».

ولعل هذا يعني أن فكرتي التجديد والإصلاح تعكسان طبيعة النزاع بين مؤسستي الجامعة والأزهر في مصر، وما بينهما من تباين في بنية المكونات، وتفاوت في نسق التصورات، واختلاف في نوعية المسلكيات. فطه حسين الذي دافع عن مؤسسة الجامعة والانتصار لها، والإعلاء من شأنها، انتقد من جهة أخرى مؤسسة الأزهر وقلل من شأنها ومكانتها، وأوضح ذلك في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي اعتبر فيه أن «الجامعة تمثل العقل العلمي، ومناهج البحث الحديث، وتتصل اتصالاً مستمراً بالحياة العلمية الأوروبية، وتسعى إلى إقرار مناهج التفكير الحديث شيئاً فشيئاً في هذا البلد»([12]).

ويرى طه حسين أن مصر «إنما أنشأت تلك الجامعة لترتفع بالشباب المصري عن ذلك التعليم الآلي الذي فرضته عليه الظروف، ولترقى بهم إلى تعليم حر مستقل، يهيئهم أو يهيئ بعضهم على الأقل ليكونوا علماء أحراراً مستقلين. والظاهر أن مصر لا تريد أن تعبث، ولا أن تهزل حين تقرر أنها تريد أن يكون من شبابها علماء أحرار مستقلون، يشبهون أمثالهم في الأمم الأخرى، ويثبتون لهم، ويشاركونهم في الإنتاج العلمي الحر المستقل الذي لا تقوم الحضارة بدونه، ولا تستطيع أن تثبت، ولا أن تنمو إلا إذا اتخذته لها أساساً»([13]).

وفي المقابل ينتقد طه حسين مؤسسة الأزهر، ويرى عدم أهليتها حتى في الإشراف على مجال اللغة العربية، فحين يوجه كلامه إلى الأزهر يقول: «فلا هو كسب من حرية الرأي، ولا هو حصل من العلم الحديث، ولا هو عرف من اللغات السامية، ولا هو أتقن من علوم اللغة العربية نفسها، ولا آدابها ما يؤهله لهذا الإشراف فضلاً عن أن يجعل إشرافه على اللغة العربية نافعاً مفيداً... وقد أحس المشرفون على شؤون التعليم منذ أكثر من نصف قرن أن تعلم اللغة العربية يحتاج إلى كثير من العناية ليصبح ملائماً للتقدم الذي ظفرنا به في التعليم المدني. وأحسوا أن الأزهر لا يستطيع أن ينهض بهذه المهمة، لمكانه حينئذ من الإشراف في المحافظة، والامتناع عن التجديد، والعجز عن أن يسيغ العلم الحديث، بل أن يقبل التفكير فيه»([14]).

ليس هذا فحسب بل إن طه حسين يرى في كلية الآداب بالجامعة المصرية أنها أكثر تأهيلاً للإشراف حتى على حقل الدراسات الإسلامية، وحسب قوله: «وليس من شك في أن طبيعة الحياة العصرية تقتضي أن تعنى كلية الآداب عناية خاصة بالدراسات الإسلامية على نحو علمي صحيح. لأن كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوروبية، وهي تعرف جهد المستشرقين في الدراسات الإسلامية. ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها من هذه الدراسات، لتلائم بين جهد مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإسلامية وبين جهود الأمم الأوروبية»([15]).

لاشك أن هذا الكلام يستبطن تقويضاً لمؤسسة الأزهر، ويظهر طه حسين كأنه يريد الإطاحة بهذه المؤسسة، وإحلال مؤسسة الجامعة مكانها، وذلك حين يسلب من الأزهر أهم مزاياه في العناية والإشراف على مجالي اللغة العربية والدراسات الإسلامية. كما أن هذا الكلام يستفز بالتأكيد وبقوة مؤسسة الأزهر، ويحرض على المواجهة والنزاع، ويضع الأزهر في دائرة الاستهداف بقاءً ووجوداً.

في حين دافع البهي عن مؤسسة الأزهر واعتبر أن مستقبل الإسلام يتأثر قوة وضعفاً بقوة الأزهر وضعفه، وفي نظره أن الأزهر وحده وليست الجامعات الحديثة، هو الذي يمثل مركز إشعاع الوعي الإسلامي، وينفرد بهذه الرسالة، ولا يوجد له مشارك قديم أو حديث في إطار الكتلة الثالثة. ومنذ قيام الأزهر -كما يضيف البهي- وإلى اليوم، وهو مركز الرسالة الإسلامية، سواء ما يتعلق بدراسة تعاليمها المباشرة، أو ما يتعلق بدراسة الوسائل التي تصحح فهمها وتصورها، وهي اللغة العربية وما يتصل بها من دراسات([16]).

إلى جانب هذا الدفاع عن الأزهر والتبجيل الذي لا يخلو من مبالغة، وجَّه البهي نقداً لاذعاً ولافتاً للأزهر لما آلت إليه الأمور في عصره. وقيمة وحيوية هذا النقد أنه جاء من داخله، ومن أحد المنتمين لمؤسسته. كما كشف هذا النقد عن المنحى الإصلاحي الذي كان عليه البهي في داخل مؤسسة الأزهر، ويمثل هذا النقد والمنحى الإصلاحي امتداداً لمسلكيات واتجاهات الشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر، ولمن جاء بعده من علماء يعدون من ألمع شخصيات الأزهر.

ومن نقاط الضعف التي يراها البهي في الأزهر ويطالب بإصلاحها هي:

أولاً: أن الأزهر لم يؤدِ رسالته، أو لم يتمكن فيما مضى من أداء رسالته كما يجب، ولو نهض بهذا الدور لتخلص من إشكالية الانفصالية في التعليم، بفصل الثقافة عن الإسلام في المدارس والجامعات، ولاستطاع أن ينفذ بتعاليم الإسلام إلى نفوس المثقفين المدنيين الذين تأثروا بالأفكار الغربية. إلى جانب عزلة الأزهر عن المجتمع وعن الحياة الجارية للناس من عمال وفلاحين، حيث تقلص الإسلام من جديد في حياة العامة كما تقلص من قبل في ثقافة المثقفين.

ثانياً: بقاء الأزهر في عزلة عن مواجهة المذاهب الاقتصادية الاشتراكية، وبيان توازن الإسلام في الجانب الاقتصادي. وبقاؤه كذلك في عزلة أيضاً عن أن يبدي الرأي في حل المشكلات الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام. فلم يخرج الأزهر برسالته كثيراً عن أن يكون ترديداً لتفكير القرون الوسطى في مواجهة بعضهم بعضاً كأحزاب أو أصحاب مذاهب فقهية وكلامية سنة وشيعة، أو ترديداً لتفكير المتأخرين.

ثالثاً: أن عرض الأزهر للفكر الإسلامي هو أقرب لدائرة التفكير في العصور الوسطى، ولا يرقى لدائرة التفكير المعاصر. وما بين عام 1954 - 1958 أصيب الأزهر بنكسة عاد فيها إلى الجمود، وحارب اتصال علمائه بالفكر الغربي المعاصر، ووقوفهم على منهاج البحث في الجامعات الأوروبية، ونزل بمستوى رسالة الأزهر إلى تعليم اللغة العربية، وتعليمها وحدها مهملاً شأن الدراسات الإسلامية، أو واضعاً إياها في منزلة ثانوية، وبذلك ضعف الأمل في استعانة الفكر الإسلامي الإصلاحي على تقوية شأن نفسه في داخل الأزهر.

رابعاً: بقاء الأزهر على معارضته القوية لتفكير الشيخ محمد عبده الإصلاحي، ونمو وقبول هذا الفكر الإصلاحي خارج الأزهر. فهذه المعارضة لم تزل تظهر من وقت لآخر في صورة فتاوى رسمية، كالفتوى بتمجيد تعدد الزوجات، وتحريم ترجمة القرآن، وصلاحية الإسلام للشعوب البدائية فحسب. هذا النهج يمثل معارضة واضحة لتفكير الشيخ عبده الإصلاحي في داخل الأزهر، وفي الوقت نفسه يمثل جموداً في فهم الإسلام. وعندما صدر قانون عام 1961م بإعادة تنظيم الأزهر وتحويله إلى جامعة، تفاءل البهي بهذا القانون وتحمس له، وأعطى له صورة مبالغاً فيها، حيث اعتبر أن بصدور هذا القانون تكون الثورة المصرية قد أعلنت في حزم وقوة تصفية رواسب الاستعمار في الأزهر، الرواسب التي حددها في أمرين:

الأول: في عزلة المتخرج من الأزهر عن المجتمع الذي يعيش فيه.

الثاني: في احتراف المتخرج بالدعوة إلى الإسلام والرسالة الإسلامية، واتخاذها مهنة يتكسب منها قوت عيشه.

وهذان الأمران يشكلان في نظر البهي خطراً على القيم الإسلامية وتعاليم الإسلام، الخطر الذي يحول في نظره دون أن يكون هناك تفاعل بين الحياة الإنسانية في المجتمع الإسلامي والتعاليم الإسلامية، ويحول أيضاً دون أن يقف العالم الأزهري تجاه التعاليم الإسلامية موقف المتجرد عن غاية شخصية في فهمها.

وبموجب هذا القانون تقرر إقامة جامعة الأزهر على أساس أن تكون هيئة تعنى بدراسة أقسام المعرفة المختلفة التي تعين على ممارسة النشاط الإنساني في شتى جوانب حياة المجتمع، حيث يستطيع الطالب عندئذ أن يمارس نشاطه الإنساني والإسلامي معاً، ويكون ذا مهنة يؤديها في المجتمع، ويكون في الوقت نفسه صاحب دعوة إلى الإسلام بسلوكه الشخصي وسلوكه المهني.

وبفضل هذا القانون -حسب اعتقاد البهي- سيكون بإمكان الأزهر تخريج طراز آخر من الطلبة وأهل العلم، يتصف بمعرفة المجتمع الذي يعيش فيه، ومعرفة بالمجتمع المعاصر، وما تسيطر عليه من اتجاهات مذهبية إنسانية عديدة.

وكان البهي يرى أن بهذا القانون ازداد الأمل في غد الأزهر وفي غد الإسلام معاً، لكنه يأمل أن يتغلب طابع الإيمان على طابع السياسة في توجيه الجامعة وما يلحق بها من معاهد.

-        5 –

ملاحظات ونقد

بعد هذه الإطلالة على رؤية وتصورات الدكتور البهي لمفهومي التجديد في الفكر الإسلامي، والإصلاح الديني كما شرحها في كتابه الذي يفخر به، ويمثل عمدة مؤلفاته، وهو كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات التحليلية والنقدية التي لابد منها في استكمال هذه القراءة. ومن هذه الملاحظات:

أولاً: تنتمي محاولة الدكتور البهي في قراءة فكرة ومفهوم التجديد في الفكر الإسلامي كما شرحها في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» إلى المرحلة التي أظهر فيها الفكر الإسلامي تخوفاً ورفضاً لمفهوم التجديد، وعدم تقبل الاقتران بين الفكر الإسلامي وكلمة التجديد، الكلمة التي كانت تفسر بخلفيات التآمر والانفلات والتخريب لفكر المسلمين وعقيدتهم وآدابهم.

وحسب هذا التصور فإن الغربيين هم الذين اخترعوا مفهوم التجديد، وهم أول من تحدثوا عنه بعد انحلال الخلافة العثمانية، وحاولوا إقناع المسلمين والنخب الفكرية منهم بالذات بهذا المفهوم ليكون إطاراً يحدد اتجاهات الفهم والنظر للإسلام والفكر الإسلامي، بقصد ألَّا يكون الإسلام عقبة في تقبل النموذج الثقافي والقيمي الغربي.

وأبرز الكتابات الغربية التي يستشهد بها في هذا الشأن، هما كتابان:

الأول: كتاب «الإسلام والتجديد في مصر» لشارلز آدمز من الجامعة الأمريكية في القاهرة، والصادر عام 1933م.

والثاني: كتاب «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» للمستشرق البريطاني هاملتون جيب عضو المجمع العلمي العربي في القاهرة، والصادر في الأربعينات من القرن العشرين.

ولعل محاولة الدكتور البهي تعد من أكثر المحاولات التي تؤرخ وتوثق لهذه المرحلة في موقف الفكر الإسلامي الرافض والممانع لفكرة ومفهوم التجديد، أو لمفهوم تجديد الفكر الإسلامي. ويتناغم مع هذا الطرح ما يراه الدكتور طارق البشري بعد عدة عقود من الزمن على ذلك الكلام حيث يرى أن المحاولات الفكرية التي رفعت شعار التجديد تعمدت إقصاء الفكر الإسلامي، والجدير بالانتباه -كما يقول- أن «إقصاء الفكر الإسلامي من قبل النزعة الغربية بدأ بلفظ التجديد. ومن هنا إذاً كان التجديد يقصد به إقصاء الفكر الإسلامي»([17]).

ومشكلة الخطاب الإسلامي في هذا الطور أنه كان متأثراً بصدمتين، صدمة انهيار الخلافة العثمانية في العقد الثالث من القرن العشرين. وصدمة تخلي الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار عن الهوية الإسلامية والمرجعية الإسلامية، حينما تبنت هذه الدولة فكرة العلمانية. لذلك لم يكن وارداً في تلك الوضعيات الحديث عن التجديد في داخل الخطاب الإسلامي، ولم يكن مقبولاً أيضاً عند طرحه من خارج الخطاب الإسلامي.

ثانياً: لم يكن واضحاً ومقنعاً تصنيف البهي للنماذج التي أشار إليها في كتابه السالف الذكر، بوصفها محاولات في تجديد الفكر الإسلامي. خصوصاً وأن أصحاب هذه المحاولات لا يدَّعون لأنفسهم مثل هذا الوصف، ولا يصنفون أعمالهم على هذا المجال، وأن بعضهم لا تربطهم صلة بالفكر الإسلامي، ولا يشتغلون بهذا الحقل. فالدكتور طه حسين لم يدِّعِ أنه بصدد تجديد الفكر الإسلامي، ولا يصنف مؤلفيه «مستقبل الثقافة في مصر» و «في الشعر الجاهلي» على حقل الإسلاميات، ولم تكن هذه المهمة من غاياته.

وهكذا الحال تماماً مع الدكتور زكي نجيب محمود وكتابه «خرافة الميتافيزيقا» الذي كان بعيداً عن حقل الإسلاميات، ولم يكن يبتغي من مؤلفاته تجديد الفكر الإسلامي، فهو بعيد كل البعد عن مثل هذه المهمة.

وأما بالنسبة للشيخ علي عبد الرازق، وإن كان ينتمي إلى مؤسسة الأزهر، ويشتغل بحقل الإسلاميات، ويصنف كتابه «الإسلام وأصول الحكم» على هذا الحقل، إلا أنه لم يكن بصدد مهمة تجديد الفكر الإسلامي، أو تصنيف محاولته في هذا الشأن. وتمام هذا الحال يصدق على باقي المحاولات الأخرى.

فلماذا صنف البهي هذه المحاولات على الفكر الإسلامي، وحدد لها مهمة التجديد في الفكر الإسلامي؟ وهو المشتغل بهذا الحقل، والوثيق الصلة به، وجميع مؤلفاته تصنف على هذا الحقل، وهذا هو المحير في الأمر!

ولعل ما يفسر هذا الأمر هو حديث الغربيين والمستشرقين منهم بالذات عن هذه المؤلفات، وتصويرها على أنها محاولات في التجديد، وتجديد الفكر الإسلامي. فقد أشار إلى بعضها هاملتون جيب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام»، ومن الممكن أيضاً أن تشارلز آدمز أشار إلى بعضها في كتابه «الإسلام والتجديد في مصر». وما يؤكد هذه الملاحظة ويقربها هو ربط البهي حركة التجديد في الفكر الإسلامي بتأثير الاستشراق والمستشرقين، وكونها تساير وتقلد مسالك واتجاهات الفكر الغربي.

ثالثاً: أن معظم النماذج التي تحدث عنها البهي بوصفها محاولات في تجديد الفكر الإسلامي، قد غيَّر أصحابها فيما بعد مسالكهم الفكرية، وانتهجوا سبلاً باتت مغايرة لتلك المؤلفات التي صنفوها في وقت سابق.

فطه حسين أعاد النظر في كتابه «في الشعر الجاهلي» وحذف منه الأسطر الثمانية والعشرين التي كانت سبباً للضجة الفكرية الواسعة عند صدور الكتاب. وأوقف تجديد طباعة كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» طوال حياته، وتحول نحو الكتابة في الإسلاميات، وعندما سُئل عام 1971م عن الآراء التي أثارت الجدل في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» أجاب بقوله: «ده كُتب سنة 1936م قدم قوي، عايز يتجدد، ويجب أن أعود إليه، وأصلح فيه بعض حاجات، وأضيف»([18]).

ويعلق الدكتور محمد عمارة على هذا التراجع بقوله: «وهكذا عاد طه حسين عن اجتهاداته الخاطئة، التي وضعته في معسكر المتغربين؛ لأنه كان صاحب اجتهاد، أخطأ فيه فتغرب، فلما أصاب عاد إلى مشارف تيار الإحياء والتجديد»([19]).

كما يشير محمد عمارة إلى تراجع علي عبد الرازق عما جاء في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» مستشهداً بالحوار الذي دار بينه وبين أحمد أمين في مجلة «رسالة الإسلام» عام 1951م. وبعد الحديث عن هذا الحوار، يعقب عمارة على ذلك بقوله: «هكذا تراجع علي عبد الرازق عن البدعة التي لم يسبقه إليها عالم من علماء الإسلام، بدعة علمنة الإسلام. وبقي أن يعي ذلك تيار التغريب، الذي يتمسك حتى الآن برأي تراجع عنه صاحبه، ويلعب بورقة سحبها صاحبها منذ عشرات السنين»([20]).

وأما بالنسبة للدكتور زكي نجيب محمود فبعد سنوات على كتابه «خرافة الميتافيزيقا» أصدر كتاباً مغايراً له تماماً، هو كتاب «رؤية إسلامية» الذي يختلف بصورة جذرية في روحه ومنبعه وحكمته ولغته وأسلوبه عن الكتاب السابق.

وهكذا الحال مع خالد محمد خالد وكتابه «من هنا نبدأ» الذي تراجع عنه وشرح ذلك بوضوح وشفافية في كتابه «الدولة في الإسلام» الذي جاء نقيضاً وناسخاً لذلك الكتاب، وحين يرجع بذاكرته كما يقول: «إلى الأيام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات لا أخطئ التعرف إلى العوامل التي تغشتني بهذا التفكير.. والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيداً عن ظلام التعصب وغواشي العناد، فإنه يستطيع دائماً أو غالباً أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد، وحبور أكيد، ونحن مطالبون بأن نفكر دائماً، ونراجع أفكارنا، وننكر ذواتنا ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة.. وإذا لم نفعل فسنكون كما قال أفلاطون: مجانين، إذا لم نستطع أن نفكر..!! ومتعصبين، إذا لم نرد أن نفكر..!! وعبيداً إذا لم نجرؤ أن نفكر..!!»([21]).

وهو المسار نفسه الذي انتهى إليه مصطفى محمود، وشرح ذلك في كتابه «رحلتي من الشك إلى الإيمان»، ومن بعدها أوقف نشر كتابين من مؤلفاته المثيرة للجدل هما: كتاب «الله والإنسان» وكتاب «إبليس».

هذه التحولات والمراجعات لم يتطرق إليها الدكتور البهي، وكان يفترض منه أن يشير إليها، ويتوقف عندها باهتمام، حين أصدر الطبعة الثامنة من كتابه عام 1975م، لكونها وثيقة الصلة بأطروحة الكتاب، وبطبيعة مهمته وغايته الفكرية.

رابعاً: تقوم أطروحة البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث»، وتتحدد بطبيعة الصراع الإيديولوجي الذي كان حامياً ومتصاعداً في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وقد تغيرت فيما بعد موازي واتجاهات وأبعاد هذا الصراع الإيديولوجي، فلم يعد الإسلام والفكر الإسلامي في قفص الاتهام كما كان الاعتقاد سائداً آنذاك، ولم تعد الشيوعية تمثل ذلك الزحف الأحمر المخيف، بعد انهيار قلعتها العظمى في الاتحاد السوفيتي، وتصدع الماركسية، وهي الإيديولوجية التي كانت الأكثر والأشد تحدياً وصداماً مع الإسلام والفكر الإسلامي، في تلك الفترة. كما لم يعد الإسلام والفكر الإسلامي في موقف الضعف أو الدفاع عن الذات، وذلك بعد أن تغيرت وتبدلت تلك السياقات والأرضيات الفكرية والثقافية حين شهد الفكر الإسلامي يقظة وانبعاثاً منذ حقبة ثمانينات القرن العشرين.

وتراجعت تلك الصراعات الإيديولوجية، وخفت وتهذبت تلك الخصومات التي خرقت وباعدت بين فرقاء الأمس المنتسبين إلى الإيديولوجيات المتصادمة والمتغايرة، وأصبح هؤلاء اليوم يلتقون فيما بينهم دون تحفظات في ندوات ومؤتمرات، وفي جمعيات ومؤسسات، وفي مشاريع وأعمال مشتركة. وباتت تلك النزاعات والصراعات مجرد ذكريات من الماضي.

ليس هذا فحسب، بل إن اللافت في الأمر هو التحاق العديد من المثقفين والمفكرين الماركسيين واليساريين إلى عالم الإسلام والفكر الإسلامي، في مؤشر يكشف بوضوح كبير عن انقلاب الموازين الإيديولوجية بين الأمس واليوم.

وهذا يعني أن أطروحة البهي هي أقرب إلى صورة الواقع الإيديولوجي الذي كان عليه بالأمس، ولم تعد هذه الأطروحة تتوافق وتتناغم كثيراً مع صورة الواقع الإيديولوجي الذي نحن عليه اليوم.

خامساً: في مقابل مفهوم تجديد الفكر الإسلامي رجَّح البهي مفهوم الإصلاح الديني، واعتبر نفسه منتمياً لمجال وفضاء هذا المفهوم، ومصطفاً في حركته ومسيرته، ومتناغماً مع خطابه ومنظومته.

وما بين الرفض والتفضيل لم يقدم البهي تفسيراً يشرح فيه طبيعة المفهومين، والمفارقات المعرفية بينهما، وتعليله وحكمته في التفضيل والاختيار. والقدر الذي أشار إليه البهي هو تحديد ما يراه وما يريده هو من هذين المفهومين، وليس بناء على تحليل تفكيكي لمكونات كل مفهوم، والكشف عن المعاني والدلالات التي يتحدد على ضوئها الرفض والتفضيل. فلم يقدم البهي تحليلاً لمفهومي التجديد والإصلاح وفيما إذا كانت بينهما مفارقات مغايرة ومتباعدة.

حكمة هذه الملاحظة أن المعنى الذي حدده البهي لمفهوم الإصلاح الديني، هذا المعنى بالإمكان أن يُعطى أيضاً من وجه آخر لمفهوم تجديد الفكر الإسلامي، فليست له خاصية الحصر والتحديد بذلك المفهوم الذي يستقل به من جهة، ويغاير من جهة أخرى مفهوم تجديد الفكر الإسلامي. والأمارة التي اتخذها البهي طابعاً لما أسماه بالإصلاح الديني، وهي الكشف عن القيم الذاتية للإسلام، هذه الأمارة بالإمكان أن تكون متجلية كذلك في مفهوم تجديد الفكر الإسلامي.

وما يؤكد مثل هذه الملاحظة أن البهي نفسه تارة يسمي اتجاه الإصلاح الديني باتجاه تجديد المفاهيم الدينية، فما هو إذن المانع من القول بتجديد الفكر الإسلامي خصوصاً وأن مفهوم تجديد الفكر الإسلامي يحتمل أكثر من معنى بحسب طبيعة المحددات المعرفية والمنهجية الناظرة له.

وإذا أردنا البحث عن تفسير نحتمل فيه حكمة اختيار وتفضيل البهي لمفهوم الإصلاح الديني، فلعل التفسير الأقرب أن هذا الاختيار والتفضيل جاء على خلفية ربط هذا المفهوم بطبيعة الدور الذي نهض به الشيخ محمد عبده، وهو الدور الذي عُرف وتحدد بالإصلاح الديني، حيث أصبح هذا المفهوم رمزاً لحركة الشيخ محمد عبده. ولكون اللحظة التاريخية التي ينطلق منها البهي هي لحظة حركة الشيخ عبده التي ينتمي لمدرسته الإصلاحية، يبحث عن امتداد تاريخي معاصر لها، ومن هنا جاء اختيار مفهوم الإصلاح الديني وتفضيله.

أما نحن اليوم فنرى أن مفهوم تجديد الفكر الإسلامي -بغض النظر عن المصاديق والنماذج التي أشار إليها البهي- أصوب وأدق وأضبط من مفهوم الإصلاح الديني، خصوصاً وأن هذا المفهوم قد يلتبس بمفهوم الإصلاح الديني في التجربة الغربية مع حركة مارتن لوثر التي عرفت في التاريخ الغربي بالإصلاح الديني في مجال العقيدة الدينية، والمؤسسة الدينية المسيحية. إلى جانب التباس آخر في أن يقترن مفهوم الإصلاح الديني بمجال العقيدة، ومن هذه الجهة فليس هناك إصلاح ديني في الإسلام، بمعنى أن العقيدة الإسلامية لا تغيير فيها ولا تبديل، لا بالزيادة والإضافة، ولا بالنقص والحذف.

في حين يقترن مفهوم تجديد الفكر الإسلامي بمجال الفكر وليس العقيدة.

سادساً: لقد تجاوز الفكر الإسلامي المعاصر العديد من الهواجس والمخاوف والالتباسات التي أشار إليها البهي حول مفهوم تجديد الفكر الإسلامي، وتغيرت اليوم طبيعة الرؤية لهذا المفهوم، وتطورت عما كانت عليه اتجاهات النظر في السابق وأصبح الفكر الإسلامي المعاصر شديد التمسك بمفهوم تجديد الفكر الإسلامي، ووثيق الصلة به، وبات يتطلع دوماً لانجاز مثل هذه المهمة، ومتجاوزاً للعديد من رواسب وحساسيات تلك المرحلة التي عاصرها البهي. والآثار الباقية اليوم لتلك الحساسيات تكاد تتحدد في الاتجاه الذي يعبر عنه الفكر الإسلامي السلفي، الذي مازال يظهر حذراً وتخوفاً ورفضاً لمفهوم تجديد الفكر الإسلامي، وهذا ما كشف عنه جمال سلطان في كتابه «تجديد الفكر الإسلامي» بقوله: «مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر قد واكب مرحلة فكرية ومعرفية، تجعلنا مدعوين إلى إعادة النظر فيه أو تنويع الرؤية له على ضوء تلك المرحلة وخلفياتها، فقد شاع في مرحلة بدأت فيها المنهجية العلمانية تتسرب في قطاعات واسعة من حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية... وكان مصطلح التجديد قد شاع في أوائل هذه المرحلة للحديث عن مفكري الإسلام الذين يقتربون بنسقهم الفكري من القيم الغربية والفكر الغربي والمنهجية العلمانية الغربية. وأصبح مصطلح التجديد يثير القلق والريبة والتوجس في نفوس المسلمين؛ لأن التيارات العلمانية استطاعت احتلاله وتعبئته بمضامين وتوجهات جعلته رمزاً على تجاوز الشريعة وتخريب الدين»([22]).

سابعاً: مع أن البهي يعد من أسبق المفكرين الإسلاميين الذي التفت منذ وقت مبكر لكتاب محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وقدم شرحاً موسعاً لأطروحة هذا الكتاب، وطبيعة محاوره الأساسية، وذلك في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، كما تحدث عن إقبال وفلسفته، ودافع عنه، وبرر له أمام منتقديه، وكانت له لفتات مضيئة في هذا الجانب، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقة فلسفة إقبال بمنابع واتجاهات الفكر الغربي، ويعد هذا الجانب من أهم وأعقد مباحث النظر في فلسفة إقبال.

وللإنصاف فإن البهي أعطى إقبالاً حقه من الدفاع والتبجيل والشرح لأفكاره ومقولاته وفلسفته، مع ذلك فإن محاولة البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» لا ترقى لمستوى محاولة إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» لا من الناحية الفكرية والفلسفية، ولا من الناحية التحليلية والنقدية. كما أن محاولة البهي لا تمثل تراكماً معرفيًّا لاحقاً على محاولة إقبال، مع أنه دعا إلى حركة فكرية في عصره تجمع بين حركتي محمد عبده، ومحمد إقبال وتضيف إليهما، وحسب قوله: «والعصر الحاضر يتطلب بالإضافة إلى هاتين الحركتين -محمد عبده ومحمد إقبال- حركة أخرى فكرية تقوم على بيان التوازن في رسالة الإسلام، الفرد والجماعة على السواء»([23]).

مع هذا الإدراك عند البهي، إلا أن محاولة إقبال تعد أكثر تقدماً وعمقاً من محاولته.

ثامناً: لقد بالغ البهي وأفرط في تصوير تأثير الاستشراق الغربي على مسارات واتجاهات الفكر الإسلامي، ودوره في حركة الغزو الفكري، والاختراق الثقافي، والتدمير القيمي والأخلاقي، وكان مسكوناً بهذا الهاجس، وكأن الاستشراق يمثل الخطر الأعظم على الإسلام والفكر الإسلامي. ويرى البهي أن للاستشراق الدورَ الأساسي والدعوي في تشكيل ما سمي بالفكر الإسلامي الحديث، أو ما أسماه هاملتون جيب بالاتجاهات الحديثة في الإسلام.

وهذا ما حاول أن يبرهن عليه البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» ويكفي هذا العنوان دلالة في التعبير عن هذا المعنى. ويفتح هذا الكتاب معركة ثقافية مع الاستشراق بالكشف عن خطره ومؤامراته، فقد ختمه مؤلفه بوضع ثلاثة جداول، قدم في الجدول الأول قائمة بأسماء المستشرقين المعاصرين ومؤلفاتهم، وفي الجدول الثاني قدم قائمة بأسماء المتطرفين من المستشرقين حسب وصفه، ويقصد بهم أولئك الذين تعد كتاباتهم حجة بين الغربيين، أو لآرائهم شبه حجة بين المسلمين، وفي الجدول الثالث قدم قائمة ببعض كتب المستشرقين المتطرفة، ويقصد بها الكتب المشوهة للإسلام، والشائعة الانتشار، أو لها شبه حجية عند المسلمين.

وما يؤكد هذا الهاجس عند البهي أنه أضاف في الطبعة الرابعة من كتابه الصادرة عام 1964م، ثلاثة بحوث نشرها كملاحق بقصد زيادة الأدلة في تأكيد حقيقة ارتباط الفكر الإسلامي الحديث بالاستشراق الغربي. ومن هذه الجهة يصنف هذا الكتاب على دراسات النقد الثقافي للاستشراق الغربي، ومن جهة أخرى يصنف هذا الكتاب على الدراسات التي نظرت للاستشراق من جهته السلبية، ومن حيث صلته بالاستعمار الغربي، وأهملت النظر إلى الجهة الإيجابية التي لا يمكن التنكر لها كمساهمات المستشرقين الألمان مثلاً.

هذا العامل الذي هَوَّل منه البهي وبالغ وأفرط في الحديث عنه، لم يعد اليوم بذلك التأثير الذي كان عليه من قبل. فقد تراجع الاستشراق في عصرنا، وتقلص دوره، وانكمشت حركته، وأعلن بعض المستشرقين الغربيين عن نهايته، وهذا ما صرح به المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك في عام 1975م، إلى جانب من يرى أن الاستشراق أدى وظيفته، ولم يعد بتلك الأهمية والحيوية التي كان عليها من قبل، وهناك من يرى أن الاستشراق وصل إلى أزمة، وإلى أفق مسدود، أو أنه لم يعد يمثل حقلاً معرفيًّا دراسيًّا مستقلاً، وإنما ينبغي دمجه بحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ومع تراجع عامل الاستشراق أو نهايته تكون قد انتهت أو تراجعت المعركة الكبرى لكتاب البهي «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» ولم تعد هذه المعركة هي معركتنا الكبرى اليوم.

 



([1]) محمد البهي. الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، القاهرة: مكتبة وهبة، 1982م، ص5.

([2]) محمد البهي. الإسلام في الواقع الإيديولوجي المعاصر، القاهرة: مكتبة وهبة، 1982م، ص3.

([3]) محمد البهي. الفكر الإسلامي في تطوره، بيروت: دار الفكر، 1971م، ص5.

([4]) محمد البهي. الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، مصدر سابق، ص5 - 6.

([5]) محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، القاهرة: مكتبة وهبة، 1991م، ص5.

([6]) محمد البهي. المصدر نفسه، ص5.

([7]) محمد الغزالي. دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دمشق: دار القلم، 1987م، ص80.

([8]) أحمد عبد الرازق. فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م، ج1، ص145.

([9]) محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مصدر سابق، ص9.

([10]) محمد البهي. المصدر السابق، نقلاً عن: هاملتون جيب. المذهب المحمدي، ص135.

 

([11]) محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص326.

 

([12]) طه حسين. مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة: مطبعة المعارف، 1938م، ج2، ص39.

 

([13]) طه حسين. المصدر نفسه، ص28.

 

([14]) طه حسين. المصدر نفسه، ص310 - 372.

 

([15]) طه حسين. المصدر نفسه.

 

([16]) محمد البهي. الإسلام في الواقع الإيديولوجي المعاصر، مصدر سابق، ص115.

 

([17]) طارق البشري. الخلف بين النخبة والجماهير إزاء العلاقة بين القومية العربية والإسلام، كتاب ندوة: القومية العربية والإسلام، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1981م، ص288.

 

([18]) محمد عمارة. أزمة الفكر الإسلامي الحديث، دمشق: دار الفكر، 1998م، ص136. نقلاً عن صحيفة الأهرام، أول مارس 1971م.

 

([19]) محمد عمارة. المصدر نفسه، ص136.

 

([20]) محمد عمارة. المصدر نفسه، ص130.

 

([21]) خالد محمد خالد. الدولة في الإسلام، القاهرة: المقطم للنشر والتوزيع، 2004م، ص9.

 

([22]) جمال سلطان. تجديد الفكر الإسلامي، الرياض: دار الوطن، 1412هــ، ص61.

 

([23]) محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص395.