من الفلسفة الخالصة إلى الفلسفة الحية
لم يخرج كتاب «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» لطه عبد الرحمن([2]) عن إطار النسق الفلسفي العام الذي يؤسس له منذ مدة، وهو تحرير القول الفلسفي العربي، وبث عناصر الحيوية والإبداع في المتفلسف العربي، وكذا إنقاذه من سطوة فلسفة الآخر ومعتقله الفكري؛ ذلك أنه «يحق لكل قوم أن يتفلسفوا على مقتضى خصوصيتهم الثقافية، مع الاعتراف لسواهم بذات الحق»([3]).
وعلى هذا الأساس عمل طه عبد الرحمن على تجاوز طبيعة السؤال الفلسفي الغربي، قديماً وحديثاً، مذ كان فحصاً مع سقراط إلى أن أصبح نقداً مع كَانْت، وأسس لسؤال فلسفي جديد هو «السؤال المسؤول»؛ أي سؤال «يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه، أو بلغة الفحص السقراطي، سؤال يفحص وضعه كما يفحص موضوعه، أو بلغة النقد الكَانْتي، سؤال ينتقد وضعه كما ينتقد موضوعه»([4]). فبالسؤال المسؤول يصبح الفيلسوف المتسائل هو أيضاً مسؤولاً عن أفعاله كلها؛ ويصبح الأصل في الفلسفة ليس كما اشتهر «السؤالية» وإنما «المسؤولية»([5]). وعليه يكتسب هذا السؤال بفضل المسؤولية بعداً أخلاقيًّا، فيمتزج التفلسف بالتخلق، ويصبح الأخير مرتكزاً للأول. ومن هنا يصبح النقد الفلسفي نقداً مسؤولاً؛ «والنقد المسؤول هو الذي لا يركن إلى الاعتقاد في نفسه، فضلاً عن عدم الركون إلى الاعتقاد في وسيلته التي هي العقل، وإنما يمارس النقد على نفسه كما يمارسه على منقوده وعلى وسيلته العقلية، فهو إذن ليس بنقد معقود يخشى انعطافه بالضرر كما هو شأن السؤال بلا مسؤولية، وإنما هو نقد منقود يؤمن جانبه، بل يرجى نفعه»([6]).
واعتماد السؤال المسؤول لتحرير القول الفلسفي العربي وفتح آفاق الإبداع فيه يقتضي استشكال مفهومين مخلين بأسباب التفلسف الحر هما: «الفكر الواحد» و«الأمر الواقع»؛ فالفكر الواحد ينزع مظاهر التميز والخصوصية ويقطع أسباب العطاء والإبداع؛ إذ لا عطاء بغير تميز، ولا إبداع بغير خصوصية([7]). ومهمة النقد المسؤول هي التصدي لهذا الفكر الواحد وكشف تناقضاته وإخلاله بشروط التفلسف، وهذا ما عمل طه عبد الرحمن على تطبيقه، فأوضح أن الفكر الواحد يعارض مبدأ المسؤولية، والذي تتحدث به الفلسفة، ويعتبر نفسه الخيار الأوحد، بسبب الضغوط والإكراهات الكثيرة، مما يكرس التبعية الفكرية، ويقتل الخيار الذي هو أساس المسؤولية. ثم إن هذا الفكر الواحد يفضي إلى نقيض مقصوده من حيث إنه يسعى إلى المقصود، أي إجماع العقول على قضايا واحدة؛ إذ بسبب تغلغل التفلسف في الاختلاف أكثر من الإجماع يحوِّل ذلك الفكر الواحد إما إلى فكر عقدي جامد يقتل الاعتراض ويتأسس على التسليم، وإما إلى فكر علمي تقوض فيه الآلةُ الإنسانَ، وإما أن يفتح باب النقد فينقلب إلى نقيضه، أي إلى فكر متعدد.
وأما الأمر الواقع فهو مفهوم سياسي يرسم الهيمنة السياسية على الفلسفة، لأنه مقولة سياسية في أصله؛ فالأمر الواقع يضاد مبدأ الاعتراض الذي تنبني عليه الفلسفة عندما يتحول هذا الأمر الواقع إلى «واقع لا يرتفع»، أو «الأمر الواجب» أو «الأمر اللازم»، يسلم به من غير دليل!([8]) كما أن الأمر الواقع يخالف مبدأ الحق الذي تدعو إليه الفلسفة، ويعتمد المصلحة التي يحددها الأقوى.
والمتفلسف العربي المبدع مطالب بالتعرض بالنقد لهذه المقولة أي الأمر الواقع، ليمحوها من أذهان قومه ويحيي مقولة «الواقع يتغير» مثبتاً أن المصلحة لا تقوم إلا على الحق وليس على القوة. وفي هذا الاشتغال النقدي يجد المتفلسف العربي نفسه قد انتزع حقًّا في ممارسة فلسفية مختلفة عن الفلسفة المعلومة التي يقرر أهلها أنها أمر واقع لا محيد عنه، ويزعمون أنها فكر يجري على الأمم كافة([9]).
والممارسة الفلسفية المختلفة لا تنفك عن الحوار بين الفلسفات؛ إذ الاختلاف يوجب الحوار، والحوار إنما هو تواصل السؤال، فيكون مثله هو الخاصية الأولى للفلسفة([10]). والاختلاف بنظر طه عبد الرحمن يكون داخليًّا أو خارجيًّا؛ الأول داخل التراث الفلسفي الواحد، والثاني يكون بين دائرتين من التراث الفلسفي؛ بحيث لا وجود لأصول واحدة بعينها تنبنيان عليها معاً([11]).
وقدم طه عبد الرحمن ملامح تصورية لنظرية الاختلاف، مما يمكن تطبيقه في مجالات تواصلية كثيرة. تنطلق هذه النظرية من حقيقتين أساسيتين هما أساس الإشكال: الأولى تقول: إن «الأصل في الكلام هو الحوار»، والثانية تقول: إن «الأصل في الحوار هو الاختلاف».
فالكلام لا يكون إلا بين اثنين، وحتى الكلام مع النفس فهو حقيقة متفرعة عن «الكلام مع الغير». كما أن ذات المتكلم تتصرف كما تتصرف الذاتان المتمايزتان فيما بينهما، فيكون لها تعدد اعتباري لا واقعي أو تعدد مجازي لا واقعي.
أما ما يتعلق بالحقيقة الثانية، أي الأصل في الحوار هو الاختلاف، فينطلق من أن الحوار لا يقوم إلا بين مختلفين واحد يسمى «المدَّعي» والآخر «المعترض». وقد فصَّل طه عبد الرحمن شروط الادعاء والاعتراض في الحوار في كتابه «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام»([12]).
ولقد أجاب طه عبد الرحمن عن بعض الاعتراضات التي قد توجه للحقيقتين اللتين أسَّس عليهما تصوره النظري، من مثل أن الحوار قد يقع بين متفقين! فأكد أن الحوار مع الاتفاق أو ما أسماه «الحوار الاتفاقي» ليس حقيقة كلامية أصلية، وإنما هو حقيقة متفرعة على حقيقة «الحوار مع الاختلاف»، أي «الحوار الاختلافي»؛ ذلك أن الاتفاق يحصل من طرق الاختلاف بطريق المقابلة. فالمرء عادة يقيس حواره الاتفاقي على حواره الاختلافي قياساً منفيًّا، فحقيقة قياسه المنفي ذلك أنه ممارسة اختلافية صريحة([13]).
ومما يزكي أيضاً الحوار الاختلافي أن واقع الناس يشهد على غلبة هذا النوع من الحوار. وتترتب على قاعدتي «الأصل في الكلام الحوار» و «الأصل في الحوار الاختلاف»، أن الأولى تقتضي وجود «الجماعة»، أي الجماعة الحوارية، والثانية تقتضي وجود المنازعة أي التنازع في الرأي أو في المذهب كما هو معروف في التاريخ وإلى يومنا هذا.
وبناء على هذا يطرح السؤال: «كيف يجوز عقلاً أن يجتمع في الحوار مقتضى «الجماعة» ومقتضى «المنازعة»؟»([14])؛ فالمنازعة يظهر أنها تضاد الجماعة في كل مكوناتها وشروطها! وعلى أساس هذا الإشكال الفكري سعى طه عبد الرحمن إلى إثبات الطابع الجماعي والنزاعي للحوار، وحل الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي، واشتغل على نموذج الحوار الاختلافي النقدي الذي عرف في التاريخ الإسلامي بـ«المناظرة»، ووضع له تعريفاً خاصاً؛ «فالحوار النقدي» هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو قل الاعتراضات التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على رأي أو قل دعوى الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما([15]). ومن خلال هذا التعريف سيعمل طه عبد الرحمن على إثبات أن «الجماعة» و «المنازعة» في الحوار النقدي أمران متوافقان، فقام بوضع مقابلة بين الاختلاف النقدي وبين مفاهيم ثلاثة هي العنف والخلاف والفرقة؛ ففيما يتعلق بالمقابلة بين الاختلاف والعنف، ميز بين نوعين من العنف مما قد يحصل في أي حوار، وهما العنف الأشد ويسمى القمع، ويقسم هو الآخر إلى عنف مادي وعنف معنوي، والعنف الأخف ويسمى الحسم، وهو اللجوء إلى طرف ثالث خارجي للتحكيم.
وخلص طه عبد الرحمن إلى أن الاختلاف في الرأي داخل الحوار النقدي لا يندفع بالقمع والحسم، وإنما بالإقناع والإقرار بالصواب. وعليه فالمنازعة التي تضاد الجماعة هي منازعة العنف، سواء كان قمعاً أو حسماً. لأن المُعَنَّف لابد أن ينتهي به الأمر إما إلى أن يهلك أو ينشق أو يتآمر([16]).
أما المقابلة بين الاختلاف النقدي والخلاف فقد تناولها طه عبد الرحمن من خلال التمييز بين نوعين من الرأي، الرأي المدلل تدليلاً ذاتيًّا، والرأي الذي يبنيه صاحبه على دليل من عنده وهو الرأي التحكمي، وهو على ضربين، رأي مبني على التقليد ورأي مبني على التشهي وفيه توسل بدليل الغير. والتنازع عادة ما يكون في الآراء التحكمية سواء في الآراء المقلدة، ويكون تنازعاً لا اجتهاد فيه، أو في الآراء المتشهية ويكون تنازعاً لا تعقل معه. وعليه يكون مبنى التعقل أساساً على الاشتغال بالتدليل، ومقتضى الاختلاف التنازع في الآراء المدللة ذاتيًّا التي لا تقليد فيها ولا تشهي، فيكون الاختلاف تعقلاً واجتهاداً، والخلاف تقليداً وتشهياً. فالمنازعة إذن التي تضر بالجماعة إنما هي التي تقوم على التنازع الخلافي.
أما المقابلة بين الاختلاف النقدي والفرقة فقد تناولها طه عبد الرحمن من خلال التمييز بين معنيين للفرقة؛ فإما أن تكون تفاوتاً بين الأفراد أو انشقاقاً في الصفوف وهذا عكس الاختلاف في الحوار النقدي الذي يقوم على التسوية؛ أي أن الحوار لا يفرِّق بين المتحاورين، بل يسوِّي بينهما على الوجه الأتم، كما أن الحوار النقدي في حد ذاته من بين مقاصده تجميع الآراء وليس تفريقها كما قد يتوهم. فالمنازعة التي تضاد الجماعة أيضاً هي التي تقوم على التفرقة بين الأفراد وتنشر أسباب الانشقاق في المؤسسات. ويخلص طه عبد الرحمن من مقابلاته هذه إلى أن الجماعة التي تأخذ بالمنازعة الحوارية لا تكون إلا جماعة «ديموقراطية» صريحة([17]).
ووضع طه عبد الرحمن ضوابط خاصة لنظريته في الحوار الاختلافي النقدي، منها ضوابط صارفة للعنف وأخرى صارفة للخلاف وأخرى صارفة للفرقة.
فالضوابط الصارفة للعنف تكون من خلال فتح المجال لممارسة الإقناع بالحجة والإذعان للصواب. ولا يكون هذا بين مختلفين إلا إذا توسَّلَا بالقدر المشترك بينهما من المعارف والأدلة. وصاغ طه عبد الرحمن هذه الضوابط على النحو الآتي:
1- ضابط حرية الرأي وحرية النقد، ومقتضاه في صورته العامة:
«لا يجوز منع أحد المتكلمين من أن يرى رأياً ولا منع غيره من أن يوجه إلى هذا الرأي نقداً».
ومقتضاه في صورته الخاصة:
«لا تمنع المعترض من الاعتراض إذا كنت مدعياً ولا تمنع المدعي من الادعاء ولا من إثبات إدعائه إن كنت معترضاً».
2- ضابط الحقائق المشتركة، ومقتضاه في صورته العامة:
«يثبت الرأي بالبناء على المعارف والأحكام المشتركة».
ومقتضاه في صورته الخاصة:
«اجتهد في إثبات دعواك باستخدام أقوى قواعد الاستدلال المشتركة».
3- ضابط قواعد الاستدلال، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«يثبت الرأي بالتوسل بقواعد الاستدلال المشتركة».
ومقتضاه في صورته الخاصة:
«اجتهد في إثبات دعواك باستخدام أقوى قواعد الاستدلال المشتركة».
أما الضوابط الصارفة لآفة الخلاف فتكون بسعي المختلف إلى وضع دليله على أنسب وجه، وإيراد انتقاده أو اعتراضه على أنسب وجه أيضاً. وعلى هذا الأساس صاغ طه عبد الرحمن هذه الضوابط كالآتي:
1- ضابط واجب الإثبات، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«يجب أن تكون الآراء مثبتة».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«عليك أن تدفع الاعتراض على دعواك بإثباتها بدليل مقبول».
2- ضابط الإثبات الأنسب، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«يجب أن يكون الإثبات ملائماً للرأي المثبت».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«عليك أن تثبت دعواك بأنسب دليل ممكن».
3- ضابط الاعتراض الأنسب، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«يجب أن يكون الانتقاد ملائماً للرأي المنتقد».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«عليك أن تعترض على دعوى المدعي على أنسب وجه ممكن».
وأما الضوابط الصارفة لآفة الفرقة فلا تكون إلا بتجنب الاضطراب في اللغة، والاختلال في السلوك، أو المعاندة في الصواب. وعلى هذا الأساس صاغ طه عبد الرحمن هذه الضوابط على النحو الآتي:
1- ضابط إحكام العبارة، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«ينبغي اجتناب آفات التعبير والتأويل».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الإحكام في صياغة أقواله وتحديد معانيه».
2- ضابط استقامة السلوك، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«ينبغي اجتناب آفات السلوك».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الاستقامة الخلقية في أقواله وأفعاله».
3- ضابط قبول الصواب، ومقتضاه في صورته العامة هو:
«ينبغي اجتناب المعاندة».
ومقتضاه في صورته الخاصة هو:
«على كل واحد من المتحاورين أن يقبل النتيجة التي توصل إليها حوارهما، كائنة ما كانت».
وخلاصة هذه النظرية الحوارية الاختلافية أن الفلسفة بمقتضى طبيعتها الاستدلالية تدفع ما لا دليل معه كالعنف أو ما كان دليله تحكميًّا كالخلاف أو ما كان دليله فاسداً كالفرقة، ثم إن الاختلاف الفلسفي بين الجماعة الإنسانية يبني هذه الجماعة، لا بواسطة تسلط فلسفة قوم واحد على الأقوام الأخرى، وإنما بواسطة مساهمة كل قوم بمنطق فلسفي خاص إلى جانب غيره من منظورات الأقوام الأخرى، مكملاً لها ومتكاملاً معها([18]).
وعلى هذا الأساس رفض طه عبد الرحمن مفهوم كونية الفلسفة من حيث المضامين ومن حيث المنهج، وسواء كانت الكونية بمعنى «الكلية» أي أن قضايا الفلسفة ومسالكها مما تعم أفراد البشر جميعاً، أي ذات صبغة «أنطولوجية»، أو كانت بمعنى العالمية، أي ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة، وضدها المحلي. والمفهوم الأول للكونية (أي الكلية) أو الكيانية يخص الفلسفة الإغريقية، والثاني أي العالمية أو السياسية تخص الفلسفة الأوروبية بداية من القرن السابع عشر إلى القرن الواحد والعشرين([19]).
واعترض طه عبد الرحمن على دعوى كونية الفلسفة اعتراضات عامة تخص المعنيين، واعتراضات خاصة تخص كل معنى من معنيي الكونية على حدة.
وتتحدد الاعتراضات العامة في ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي الاجتماعي، وارتباطها بالسياق اللغوي الأدبي، والاختلاف الفكري بين الفلاسفة، والتصنيف القومي للفلسفة.
أما الاعتراضات الخاصة فكانت أولاً على دعوى الكونية الكيانية/ الكلية للفلسفة انطلاقاً من رد الأساس التصوري الذي بُني عليه هذا الفهم عند فلاسفة اليونان وهو: «وحدة الطبيعة الإنسانية» و «وحدة العقل». وخلص طه عبد الرحمن إلى ثلاث نتائج هي اعتراضات في ذاتها، وهي: انفكاك وحدة العقل عن وحدة الطبيعة الإنسانية، وانفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل، وانفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة([20]). وبناء على تحليل هذه الاعتراضات خلص طه عبد الرحمن إلى أن الفلسفة جزئية لا تتعلق إلا بفئة الفلاسفة الذين نشؤوا في حضن ثقافي خاص هو بالذات «الحضن اليوناني»، لذا فالفلسفة الإغريقية ما هي إلا فلسفة قومية كما كان تاريخهم تاريخاً قوميًّا وكان أدبهم أدباً قوميًّّا وكانت أساطيرهم أساطير قومية.
وانتقد طه عبد الرحمن العرب الأقدمين، خصوصاً بعض المتفلسفة ممن لم يتفطنوا إلى الصبغة القومية للفلسفة اليونانية، تفطنهم إلى الصبغة القومية لأدبهم؛ فقد كانوا ينظرون إلى الفلسفة اليونانية على أنها فكر كلي ينطبق على كل العقول، عربية كانت أو عجمية. وقد دفعهم لهذا بنظر طه عبد الرحمن سببان:
الأول: السياق العلمي للفلسفة والتي وصلت إلى المجال التداولي العربي ممتزجة مع مختلف العلوم على أساس أن هذه العلوم تشكل أجزاء من الفلسفة.
والثاني: البناء النظري للفلسفة على أساس أن الخطاب الفلسفي خطاب إنساني، ينبني على النظر ويقتضي الانتقاد، واستدلال الفلسفة برهان، والبرهان، كما شاع، استدلال واحد يُجمع عليه الناس!
ويمثل ابن رشد أبرز نموذج متشرب لمفهوم عامية فلسفة الإغريق وبرهانيتها، بل عمد إلى تنقية الموروث اليوناني من كل الآثار العربية التي نقلها إليه الفلاسفة الذين تقدموه كالفارابي وابن سينا، فسهَّل على الأوروبيين استرداد بضاعة اليونان من غير تحويل ولا تحريف عبر وسطاء ونقلة ومتفلسفة يهود من الذين أفادوا من عرب الأندلس.
أما دعوى عالمية الفلسفة أو الكونية السياسية للفلسفة فقد اعترض عليها طه عبد الرحمن بأربعة اعتراضات وهي: رد الفلسفة إلى الفلسفة الأوروبية وهذا أمر معروف ومشهور عند جل فلاسفة أوروبا قديماً وحديثاً، مثل هيدغر وهوسرل، ثم رد الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الألمانية؛ إذ أخذ فلاسفة الألمان ينزعون الأصالة الفلسفية عن نظرائهم من فلاسفة أوروبا، ويخصون بها أنفسهم، ويعتبرون باقي الفلسفات الأوروبية عيالاً على فكرهم الأصيل تنقل عنه وتقتبس منه، سواء استوعبت مقاصده أم لم تستوعبها! بل سعى الألمان إلى ربط فلسفتهم مباشرة بالإغريق إمعاناً في إبراز خصوصية الفلسفة الألمانية. والاعتراض الآخر الذي قدمه طه عبد الرحمن هو أن الفلسفة الألمانية في ذاتها تعرضت لعملية تهويد؛ إذ أضحت ألمانيا منذ نهاية القرن الثامن عشر مركزاً عالميًّا للثقافة اليهودية.
ويتجلى تأثير الثقافة اليهودية في المجال الفلسفي الألماني من خلال تأثر أعظم فلاسفة الألمان بفلاسفة اليهود بطريق مباشر أو غير مباشر، كتأثر «ليبنتز» بابن ميمون عن طريق «نيقولاس دي كيوز» وتأثر كَانْت بـ«سبينوزا» وصديقه ابن مندل الذي يضاهي كتابه أورشليم كتاب دلائل الحائرين لابن ميمون، إبداعاً وتأثيراً. كما أن عملية الإصلاح الديني التي عرفتها أوروبا قربت بين المسيحية في صورتها «البروتستانتية» واليهودية؛ فقد وضع مارتن لوثر نفسه ترجمة ألمانية للتوراة نالت إعجاب اليهود. وعليه كان فلاسفة الألمان، على اختلاف اتجاهاتهم ونزعاتهم، يقتبسون بعض مفاهيمهم المحورية من التوراة. كما قامت الفلسفة اليهودية بدور الوسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الألمانية ووطدت ركائز العقلانية المجردة التي تجمعهما. وكان كَانْت أبرز ممثل لاجتماع أشكال التهويد في الفلسفة وهو: التأثر باليهود والعقيدة البروتستانتية والتماس المفاهيم من التوراة والتوجه العقلاني المجرد، وقد نعته هيغل باليهودي المخجل، كما انتقده نيتشه على نزعته اليهودية ولو أنه في مواضع أخرى يُعلي من شأن اليهود، ويجعلهم حفظة تاريخ اليونان وحضارتهم([21]).
وآخر اعتراضات طه عبد الرحمن أن هذه الفلسفة الألمانية المهودة قد خضعت لعملية «تسييس» مع اتخاذ القومية اليهودية شكلاً علمانيًّا مع الصهيونية. وأخذ الفلاسفة اليهود يوجهون عموم الفكر الفلسفي الحديث ويضعون له المسالك والمقاربات والأحكام والاستنتاجات فتم خلق بيئة فلسفية عامة موجهة بمعالم القومية اليهودية في توظيفها السياسي، بيئة لا يكاد يخرج عن حدودها إلا القليل الأقل من الفلاسفة الذين لا يلبثون أن يتهموا بمعاداة السامية أو يتعرضوا للقدح في مقدراتهم الفلسفية. وتَشَكَّل فضاءٌ فلسفي يهودي عالمي يندمج فيه غير اليهودي اندماج اليهودي فيه، عن قصد أو عن غير قصد([22]). وعليه اشتهر من الفلاسفة المحدثين من كان من أصل يهودي أو له صلة المعاصرة معهم أو أظهر عطفاً عليهم أو ولاءً لهم، أو كانت له مجاراة واضحة لآرائهم ونظرياتهم أو أبدى انصياعاً لضغوطهم الفكرية والإعلامية.
وقد حاول هيدغر تأسيس فلسفة «أنطولوجية» تهدم هذا المشروع الفلسفي اليهودي، وانتقد معاصره اليهودي «هيرمان كوهن» فيلسوف جامعة «ماربورغ» الذي كان يدعو اليهود إلى اعتبار ألمانيا وطناً لهم. وحاول هيدغر إثبات الضرر الحاصل في الفلسفة بسبب تأثيرات الدين اليهودي المسيحي؛ إذ أخرجها عن مقاصدها الأصلية، أي من التفكير في الوجود إلى التفكير في الموجود، إلا أن الفلاسفة المتهودون تصدوا لهيدغر وأنكروا تجاهله للفكر العبراني، فنسبوا له معاداة السامية، واستغلوا سكوته عن الأحداث التي حصلت في العهد النازي!
من هنا خلص طه عبد الرحمن إلى أن الفلسفة الكونية التي أنتجها النظام العالمي الجديد ليست في حقيقتها إلا فلسفة قومية مبنية على أصول التراث اليهودي المسخر لأغراض سياسية، أو قل فلسفة قومية مبنية على اليهودية المسيسة([23]).
وبعد هذه المقاربة التحليلية يتساءل طه عبد الرحمن: هل المتفلسفة العرب المعاصرون انتبهوا إلى وجود هذا التهويد للفلسفة الحديثة، أم أن اعتقادهم فيها كاعتقاد أسلافهم في الفلسفة «اليونانية»، وهو أن الفلسفة هي دائماً وأبداً معرفة كونية؟
انتهى طه بعد طول تأمل في الإنتاج الفلسفي المعاصر إلى أن هذا الإنتاج يدور كله على نفس الاستشكالات والاستدلالات ونفس المسلمات والنظريات التي يتضمنها الفضاء الفلسفي العالمي المزعوم، وهو نوع من التطبيع يمارسه المتفلسف العربي من دون شعور، في إطار فضاء معمم على الجميع بأسباب لا صلة لها بالفلسفة. ومن هذا الإحساس المؤلم بواقع الفلسفة العربية، ودرجة التيه في الفكر التي يعيشها المتفلسف العربي، نهض طه عبد الرحمن لوضع خطط خطابية لقيام فضاء فلسفي عربي فيه تحرر وإبداع، وفيه أقصى درجات الخروج على السكونية المفروضة، إلى حركية تنبني على أبعاد الزمان التي قد تخرج إلى اللامتناهي بفضل القوة المعنوية والهمة الإنسانية. وهذا ما سماه طه عبد الرحمن باسم «القومية الحية» أو «القومية اليقظة»، ووضع لها خصائص وخططاً محددة.
فخصائص القومية الحية هي: «القيام» و «القوام» و «القومة».
والقيام هو الحركة والعمل، وهو على ضربين: قيام جهادي يقوم على دفع ما يضر هذه الروابط من داخلها أو خارجها، وقيام اجتهادي يقوم في صلب ما ينفع هذه الروابط من مركزها أو محيطها، والقوم هم الأمة القائمة، والقومي الحي هو من كان واحداً من أفراد الأمة القائمة([24]). وفي الحديث الشريف «ما تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله...».
أما القوام فهو مجموعة القيم المعنوية التي يأخذ بها القوم، وتنقسم هذه القيم المعنوية إلى قسمين: قيم خاصة يتفرد بها القوم ولا يشاركهم فيها غيرهم، وقيم مخصصة وهي القيم العامة التي يشتركون فيها مع غيرهم، لكن اجتماعها إلى القيم الخاصة في المجال التداولي يجعلها تتشكل بشكلها وتتلون بلونها، فتصير أشبه بالخاصة منها بالعامة([25]).
أما القومة فهي عمل الجهاد والاجتهاد الذي يقوم به القوم عن بكرة أبيهم. ثم إنها بلوغ العمل القيمي الغاية وشموله لجميع أفراد القوم. والمتفلسف العربي مطالب، إذن، بتحصيل قومة فلسفية تدفع عنه التقليد الذي يقيد طاقاته في فضاء فلسفي متهود، قومة تجلب له الإبداع الذي يحرر هذه الطاقات في فضاء فلسفي لا تهويد فيه. ووضع طه عبد الرحمن، من أجل ذلك، ثلاث خطط للقومية الحية هي من الأسرة الاشتقاقية للخصائص الثلاث المذكورة، وهي: «المقاومة»، و«التقويم»، و«الإقامة».
والمقاومة هي مواجهة القوم لقيم الخصم بقيم تنزع عن قوته امتيازها واعتبارها، كما أنها مقاومة تكون متوجهة إلى كل المفاهيم المنقولة من الفضاء الفلسفي بلا استثناء، فهي مقاومة مفاهيم. وينطوي هذا الصنف من المقاومة على مزايا كثيرة منها: استيفاء غرض الفلسفة وهو السؤال والنقد، وسحب القوة من يد المندمجين في الفضاء الفلسفي العالمي المزعوم. كما أن هذا النقد، أو المقاومة، ليس رفضاً مسبقاً ولا ردًّا متعسفاً، ولكنه عرض للمفاهيم المنقولة على الأدلة المنطقية، كما أن فيه زيادة في القدرة الاستدلالية التي هي زينة التفلسف([26]). ومقاومة المفاهيم تنبني على التدليل على نفع المفاهيم المنقولة للأمة؛ إذ يعرضها المتفلسف العربي على معيار القوام، وهو كما سبق ذكره جملة قيم الأمة. وعليه لا ينفع في هذا المجال، بنظر طه عبد الرحمن، الاعتراض على المفاهيم الجزئية الغربية من غير الوقوف على فلسفاتها ومرجعياتها وأنساقها الإدراكية، مثل مفهوم التاريخ؛ إذ هو ليس إلا صيغة علمانية للقول ببعثة المسيح في آخر الزمان على مقتضى الفهم اليهودي، وهذا الفهم ينسب إلى إطار فلسفي، وهو ثمرة صياغة علمانية لأخبار ذات أصل توراتي.
أما خطة التقويم فهي «إزالة الاعوجاج» و «التزود بالقيم»، أي تمتيع المفاهيم الفلسفية بأقصى قدر من الحركية داخل المجال التداولي الإسلامي العربي عن طريق وصلها بقيمه العملية. وتنطوي هذه الخطة بدورها على مزايا كثيرة مثل تقسيم المفاهيم إلى «مأصولة» و «منقولة»، وإدراك أن الأخيرة أكثر عرضة للجمود من غيرها ما لم يزودها المتفلسف بالقيم التي تنقل إليها الصبغة العملية لمجاله التداولي. ويفرض في «المفاهيم المأصولة» أن تكون ثمرة العمل الذي يميز المجال التداولي للمتفلسف العربي، وثمرة التفاعل مع قيمه التي تتجدد بتجدد هذا العمل. ومن المزايا أيضاً الوقوف على الدور المحوري للقيم لإخراج المفاهيم الفلسفية من الجمود وبعث الحركية فيها. وقدم طه نموذجاً للمفهوم المنقول من الفضاء الفلسفي العالمي وهو مفهوم الحداثة([27])، وهو مفهوم مازال يعاني الغربة والجمود في الفضاء التداولي الإسلامي العربي لانحرافات في النقل، وإخلال بشروط المجال التداولي، وضعف في الإبداع والتحرر عند من يسمون بـ«الحداثيين العرب».
أما خطة الإقامة فتقوم على إقامة فضاء فلسفي عربي يتضمن من المفاهيم والمسائل ما لا نجد له بالضرورة مثلاً في الفضاء الفلسفي العالمي المزعوم، وتجاوز مرحلة النقد والاعتراض على ما يرد علينا من مفاهيم ومسائل من الفضاء الآخر. وعليه تنقل المفاهيم التي أبقى عليها الامتحان النقدي في المجال التداولي بطرق إبداعية ونافعة. وتصبح هذه الخطة حاضنة لمزايا كثيرة منها: أن المفهوم الفلسفي يصبح ثمرة الاشتغال الصناعي على المعاني المستمدة من المجال التداولي، ثم إنه بفضل هذه الخطة تتحقق فوائد الاجتهاد في إقامة الدليل على المعنى الطبيعي؛ إذ يحوله إلى مفهوم مشروع ومفهوم منتج، أي تمتيع المعاني المستمدة من المجال التداولي العربي بـ«المشروعية» و «الإنتاجية» مما يكسبها قوة فلسفية عالية توازي قوة المفاهيم المأخوذة من الفضاء الفلسفي العالمي. إن الإبداع بالمفاهيم المأصولة يكون أنسب وأوفر من الإبداع بالمفاهيم المنقولة؛ ذلك أن المتفلسف العربي الممتلك لمفاهيم مأصولة هو عارف بأسبابها التداولية من ربط بأصولها الطبيعية وضرب الأمثلة عليها وفتح آفاق توسيعها، عكس ما يتعلق بالمفاهيم المنقولة. وقد مثل طه في هذه الخطة بمفهوم «القطرية» ووقف على فوائده الإجرائية([28]).
وخلص طه في نهاية عرضه لخطط القومية الحية إلى ضرورة خوض المعركة الاصطلاحية، معركة نواجه فيها مصطلحات الفضاء الفلسفي المتهود بمصطلحات تدفع عنا شرور التهويد، فنفرق حيث لم يفرق أهل هذا الفضاء، ونجمع حيث لم يجمعوا، ونصرح بما أضمروا، ونُسمعهم ما لم يسمعوا، ونستشكل ما لم يستشكلوا، ونفلسف ما لم يفلسفوا، أو قل باختصار: ننشئ في الفكر ما لم ينشئوا؛ فإن قوة الاصطلاح عدة لا تقلُّ عن قوة السلاح، وإلا فهي تزيد عليها متى نظرنا إلى الاكتساح الذي حققه الإعلام!([29])
وفي إطار خطة المقاومة، ومن أجل تحقيق القومية الحية عمل طه عبد الرحمن على رصد مجموعة من الأساطير التي تقررت في الفلسفة. ابتدأ بأسطورة الفلسفة الخالصة، ومؤداها أن القول الفلسفي قول عقلي خالص([30]). واعتمد طه في الاعتراض على هذه الأسطورة على مبادئ منهجية محددة وفرضية عامة وصارمة.
فالمبادئ المنهجية تقوم على مبدأ نفي المعرفة الموضوعية عن الفلسفة، وعلى مبدأ التقسيم التركيبي للكلام، هذا ما يجعل للكلام الفلسفي أقساماً تُضاهي أقسام الكلام، وهي بالذات «المفهوم» و «التعريف» و «الدليل»، في مقابل أقسام الكلام العامة وهي «اللفظ» و «الجملة» و «النص»، أو أقسام الكلام العلمي «التصور» و«القانون» و «النظرية». وطرح طه عبد الرحمن بعد هذا التقسيم سؤالاً حول كيفية إحياء أقسام الكلام الفلسفي، أي «المفهوم» و «التعريف» و «الدليل» لتأسيس فلسفة عربية حية. والمبدأ الثالث الذي انطلق منه طه هو مبدأ التقسيم البياني للكلام، أي إلى عبارة وإشارة؛ فالعبارة هي كلام دال على الحقيقة، صريح لفظه ومحكم تركيبه، بينما الإشارة على عكسها، فهي كلام دال على المجاز، مضمر لفظه ومشتبه معناه([31]). والعبارة كلام يلتزم بضوابط العقل المجرد، في حين نجد الإشارة كلاماً ينفتح على رحاب الخيال المجسد. واللغة الفلسفية كغيرها، بنظر طه عبد الرحمن، فيها من مظاهر العبارة العقلية نصيب وفيها من مظاهر الإشارة الخيالية نصيب.
أما الفرضية العامة التي تأسس عليها اعتراض طه على أسطورة الفلسفة الخالصة فهي بمثابة دعوى عمل على التدليل عليها، ومفادها أن عقم الفلسفة الخالصة آت من كونها تعتبر جانب العبارة من القول الفلسفي المترجم ولا تعتبر جانب الإشارة منه، وقد تنقله نقلاً عباريًّا ولو لم تثبت فائدة هذا النقل. وفي المقابل، تأتي إنتاجية الفلسفة الحية من كونها تعتبر جانب الإشارة في وضع القول الفلسفي اعتبارها لجانب العبارة، وتنقل الجانب العباري من القول الفلسفي المترجم نقلاً إشاريًّا متى ثبتت فائدة هذا النقل([32]).
وقد وقع المتفلسفة العرب في خطأين جسيمين لما اعتقدوا أن الفلسفة الغربية المنقولة ذات طبيعة عبارية محضة مثلها مثل الرياضيات، أي حقائق لا تحكمها إلا قوة العقل، ولما اعتقدوا أيضاً أن الحقيقة هي نتاج لقوة العقل تستغني بنفسها عن غيرها من الحقائق. وعليه، فاتهم التفطن إلى وجود الإشارة في سياق العبارة داخل النص الفلسفي الغربي، فلم تكن فلسفتهم إلا عقيمة لا إبداع معها، وجامدة لا حياة فيها؛ لأن الإبداع في الفلسفة لا يكون دون التحقق بالخصوصية الإشارية، وازدواج العمومية العقلية عند الفيلسوف بالخصوصية الأصلية، فالأولى تنهض بها العبارة والثانية تنهض بها الإشارة.
ولمزيد إثبات الدعاوى وترسيخها وضع طه عبد الرحمن فرضيات فرعية ثلاث بما يناسب أقسام الكلام الفلسفي المذكورة «المفهوم» و «التعريف» و «الدليل»، كل فرضية تختص بقسم.
ففرضية المفهوم الحي تنطلق من أن عقم المفاهيم في الفلسفة الخالصة جاء من كون جانبها الاصطلاحي لا يستند إلى الجانب التأثيلي([33])، وأيضاً من كون الجانب التأثيلي المترجم ينتقل فيها إلى رتبة الاصطلاح، وفي المقابل تأتي إنتاجية المفاهيم في الفلسفة الحية التي يدعو لها طه عبد الرحمن من كون الجانب الاصطلاحي يستند إلى الجانب التأثيلي، وأيضاً من كون الجانب الاصطلاحي الذي تعذر إيجاد مقابل له ينتقل عنه إلى ممارسة التأثيل([34]). وهذا أمر فصَّله طه في كتابه «فقه الفلسفة: 2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل»([35]). وقد وقف طه عبد الرحمن في هذه الفرضية على جمود الفلسفة الخالصة على الجانب الاصطلاحي من المفهوم دون جانبه الإشاري مما أوقع المتفلسفة العرب في أخطاء جسيمة؛ إذ أخذوا بالمعنى اللغوي الإشاري للمفهوم الفلسفي الغربي على اعتبار أنه جزء من مدلوله الاصطلاحي العباري، ورفعوا ما كان خاصاً بالغربيين من الوجهة اللغوية إلى مرتبة الاصطلاح في اللسان العربي، وأضفوا عليه من أوصاف «العبارية» و «المعقولية» و «الموضوعية» و «العمومية» ما ضيَّق إمكانات تصرفهم فيه بما لا يقاس. كما أنهم غفلوا عن التفلسف في الصلات الممكنة بين مجموع المدلول الغربي وبين المعنى اللغوي للفظ العربي الذي أنزلوه عليه. وبذلك جمدوا الطاقة الدلالية للمفاهيم العربية وعطلوا فعاليتها التأثيلية.
أما الفلسفة الحية التي يدعو إليها طه عبد الرحمن فتستثمر الجانب التأثيلي من المفهوم من خلال الأخذ بالمدلول اللغوي للمفهوم الفلسفي العربي وبناء المدلول الاصطلاحي عليه، وضعاً وتوظيفاً، وكذا من خلال تعيين المدلول اللغوي للمفهوم الفلسفي الغربي والاشتغال به على الطريقة نفسها التي يشتغل عليها بالمفهوم الفلسفي العربي، أي عملية تفعيل المفاهيم المنقولة بأقصى ما يمكن من أسباب التداول العربي، وكذا من خلال استبدال المدلول اللغوي مكان المدلول الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي الغربي([36]).
أما فرضية التعريف الحي فتنطلق من أن عقم التعريفات في الفلسفة الخالصة آتٍ من كون جانبها التقريري قد لا يستند إلى الجانب التمثيلي، أو هو يستند إلى جانب تمثيلي غريب عن المجال التداولي للمتلقي، وفي المقابل يأتي إنتاج التعريفات في الفلسفة الحية من كون جانبها التقريري يستند بالضرورة إلى الجانب التمثيلي، أو هو ينتقل من جانبه التمثيلي الأصلي الذي لا يوافق المجال التداولي للمتلقي إلى تمثيل يوافق هذا المجال.
إن جانب العبارة في التعريف الفلسفي ذو مدلول تقريري، وأما جانب الإشارة فذو مضمون تمثيلي، وهذا المضمون يتشكل من جملة الأمثلة والمقارنات والمشابهات، وهي مأخوذة من المعارف المشتركة والوقائع المألوفة، يعتمدها المتفلسف الغربي لتقرير معناه وتوضيحه، مما لا ينتبه له عادة المتفلسفة العرب، بل قد يستغني المتفلسف الغربي عن ممارسة التقرير (التعريفي) ولكنه لا يستغني عن ممارسة التمثيل، وقد عرف بهذا العمل كثيراً الفيلسوف النمساوي «فتجنشتاين».
وعليه، فالفلسفة الخالصة تجمد على الجانب التقريري في التعريف حتى ظن المتفلسفة العرب أن التقرير هو المميز الوحيد للممارسة الفلسفية، بما أنه عبارة، والعبارة هي المطلوبة وحدها. ولهذا كانت التمثيلات المتضمنة في النصوص الفلسفية الغربية غريبة عليهم، لأنها كانت أوغل في الخصوصية وكانت منبنية على العناصر التداولية التي تتفاوت فيها الأمم، والتمثيل نوع خاص من الإشارة. ولما غاب عن متفلسفة العرب هذا الوعي الفلسفي الحي فصلوا بين الجانب التقريري والجانب التمثيلي للتعريف، فقطعوا على المتلقي العربي طريق استخدام معطياته التداولية في ممارسته الفلسفية، كما وقعوا في نقل تمثيلات تصادم مقتضيات المجال التداولي للمتلقي العربي، إما جهلاً بتبعيتها للمجال التداولي الغربي، وإما اعتقاداً بأنها أولى بالاعتبار ولو كانت مصادمة للمتلقي العربي.
أما الفلسفة الحية فتوظف الجانب التمثيلي من التعريف؛ إذ تجمع بين جانب التمثيل وجانب التقرير في التعريف، كما تعمل على بناء جانب التقرير من التعريف على جانب التمثيل منه، ثم تستبدل التمثيل الموافق للمقتضيات التداولية مكان التمثيل المخالف لها. وبذلك يتم تحريك التعريف الفلسفي وتفعيله بوصل جانبه التقريري بجانبه التمثيلي لكي يدوم على التزود منه بما يوافق التداول العربي وييسر سبل إفادته للمتلقي([37]).
أما فرضية الدليل الحي فتنطلق من أن عمق الأدلة في الفلسفة الخالصة يأتي من كون جانبها الاستنتاجي قد لا يستند إلى الجانب التخييلي، وأيضاً من كون الجانب التخييلي المترجم ينتقل فيها إلى رتبة الاستنتاج، وفي المقابل تأتي إنتاجية الأدلة في الفلسفة الحية من كون جانبها الاستنتاجي يستند بالضرورة إلى الجانب التخييلي، وأيضاً من كون الجانب الاستنتاجي المترجم ينتقل فيها إلى رتبة التخييل متى ظهر أنه يستغلق على فهم المتلقي([38]).
فالاستنتاج هو الجانب العباري المميز للدليل الفلسفي، والتخييل هو الجانب الإشاري المميز له. والتخييل يشمل كل إنتاجات الخيال الصريح كالمجازات والاستعارات والحكايات، يتوسل بها المتفلسفة الغربيون لإثبات دعاواهم حتى الذين يعتقدون الطريقة الرياضية كأفلاطون وديكارت، ومنهم من يرى التخييل يفضل الاستنتاج بدرجات فيندفع فيه بغير حساب مثل الفيلسوف نيتشه، ونجد كذلك هذه الأساليب عند الفلاسفة الذين حملوا على التخييل، خاصة فلاسفة الإنجليز، كلوك، وباركلي، وهيوم.
ولكن الفلسفة الخالصة عند متفلسفة العرب جمدت على الجانب الاستنتاجي من الدليل، إلا أن الفيلسوف ابن طفيل خالفهم في رائعته الفلسفية «حي بن يقظان»، وكان واحداً منهم؛ إذ جاءت في صيغة تخييلية تكاد تُغني عن الدليل. إن هذا الأسلوب التخييلي في التفلسف طمره ابن رشد الذي استهواه الاستنتاج المنطقي مما حوَّل مسار الفلسفة الحية بل أوقفه، وقطع الصلة بين الفلسفة وأودية البيان العربي. ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن مؤلفات ابن رشد كانت من الفلسفة بمنزلة المحرقة من العنقاء؛ إذ بأوراقها احترقت هذه الفلسفة لتدور اليوم دورتها الثانية كما تحترق العنقاء بعيدان الحطب الذي تجمعه!([39])
لقد وقع المتفلسفة العرب، من حيث النظر إلى الدليل الفلسفي، في خطأين جسيمين؛ إذ غلب على ظنهم أن الحقائق الفلسفية لا تكون إلا حقائق عبارية من خلال القياسات الصحيحة، أي بما يسمونه «البرهان» المستغني بذاته، ففصلوا بين الاستنتاج البرهاني وبين التخييل البلاغي، ثم التبست عليهم المعاني الفلسفية المنقولة، فظنوا أن ذلك الالتباس لبرهانية الأصول التي ترجمت عنها مع أنها كانت ممتلئة بالمجازات والاستعارات المقصودة وغير المقصودة لأصحابها، فلما نقلت إلى العربية حرفيًّا فقدت مجازيتها واستعاريتها، وزادها غموضاً سوء التعبير وسوء الأسلوب، فاختلط في أيديهم ما هو استنتاج وما هو تخييل، وهذا ما قطع أسباب ترسخ الدليل الفلسفي وتوسعه في الخطاب الفلسفي العربي.
وأما الفلسفة الحية والمبدعة فقد عملت على توظيف الجانب التخييلي من الدليل، ذلك أنها تنظر في الدليل الفلسفي من خلال صلته باللسان الطبيعي؛ إذ لا دليل فلسفي بغير لسان طبيعي، والألسن تختلف في إشارتها. كما تقدم الفلسفة الحية التخييل على الاستنتاج لتوضيحه.
ومن خلال الفرضيات الثلاث يتم تفعيل المفاهيم والتعاريف والأدلة الفلسفية في ذهن المتلقي العربي، وهذا هو المقصد الأسمى للفلسفة الحية فلسفة تجتمع فيها أبعاد الزمان العربي كلها، ماضيه وحاضره ومستقبله.
إن الماضي العربي من خلال هذه المقاربة النقدية لا ينفذ إلى القول الفلسفي إلا بواسطة الإشارة التأثيلية؛ إذ تؤخذ عناصرها من موروث الأمة، كما أن الحاضر العربي لا ينفذ إليه إلا بواسطة الإشارة التخييلية؛ إذ تؤخذ عناصرها من مشروع الأمة. أما الفلسفة الخالصة فلابد أن تموت لأنها ظلت تحمل زماناً غير زمان العرب الذي لا يضمن لها البقاء لو أنها حملته، زاعمة أنها فوق الزمان!([40])
وانطلاقاً من سؤال: كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟ عمل طه عبد الرحمن على استشكال مفهوم الإبداع من وجوه عدة طارحاً سؤال الابتكار وسؤال الاختراع وسؤال الإنشاء! وهي مدلولات اصطلاحية للإبداع، تتكامل فيما بينها وتنزل مراتب بعضها فوق بعض، أدناها الابتكار وأعلاها الإنشاء وبينهما الاختراع([41]). وناقش طه عبد الرحمن إشكال الإبداع المتعلق أساساً بالقول الفلسفي من حيث هو قول صريح. وبنى كلامه في الإبداع الفلسفي على مسلمة جوهرية تشترط في الإبداع مواجهة موانعه، وعلى قدر المانع تكون قيمة المواجهة.
واستخلص طه نتيجتين من مسلمته، وهي تمييز الإبداع الإنساني عن الإبداع الإلهي، واعتبار أشد الموانع التي تواجه التفلسف هي التي تولد ما يناقض صفته العقلية المميزة له، وهي الأساطير.
وعليه دخل طه في عملية هدم للأساطير المكبلة للقول الفلسفي، وخاصة الأسطورة الأصلية التي تعتبر الفلسفة تعقلاً محضاً([42])، وتتفرع عنها أساطير عديدة تعيق كل مستويات الإبداع المذكورة.
فأكبر مانع للابتكار الفلسفي هو تقديس القول الفلسفي الأصلي، أي الإغريقي القديم و «الأوروبي» الحديث، هذا التقديس نشأ عن خلفية نظرية في الترجمة بنيت أساساً على التعامل مع النصوص الدينية؛ فقد تم التعامل مع القول الفلسفي كما لو أنه نص ديني مقدس، مما أنشأ أسطورتين على هذا المستوى؛ الأولى تتعلق بأسطورة حفظ اللفظ كله، مع ما تسببت فيه هذه الأسطورة من تطويل للقول الفلسفي العربي بما يخالف مقتضى تركيبه المقبول، والثانية تتعلق بأسطورة حفظ المضمون كله مما دعا إلى تهويل القول الفلسفي العربي بما يخالف مقتضى دلالته المعقولة. ومما زاد في تعميق تقديس القول الفلسفي عند المتفلسف العرب قدسية القرآن الكريم في المجال التداولي العربي التي التبست عندهم بقدسية القول الفلسفي([43]).
وعليه، ليكون المتفلسف العربي مبتكراً لابد له من صرف قدسية القول الفلسفي، وهذا ما عمل على إثباته طه عبد الرحمن من خلال رفع التقديس، وإثبات خطابية القول الفلسفي، والتركيز على أن الأصل في القول الفلسفي النقلي الاختلاف عن القول الفلسفي الأصلي، ولا يصار إلى الاتفاق معه إلا بدليل. وعليه يكون حفظ القول الفلسفي المترجم حفظاً نسبياً؛ أي حفظ اللفظ الموافق أو المضمون الموافق للمجال التداولي العربي، عبر تصرف بالتحويل والحذف في القول الفلسفي المنقول، وإنتاج قول فلسفي أصلي لا أسطورة فيه. ودفع طه أقصى الاعتراضات الممكنة على هذا التصور للابتكار الفلسفي، بدعوى حرمان المتلقي من الاستفادة مما يخالف وضعه الفلسفي وتوسيع أفقه([44]).
أما أكبر مانع للاختراع الفلسفي فهو دعوى إعجاز القول الفلسفي؛ أي أن دعوى الإتيان بمثله إن هو إلا خرق حدود طاقة الإنسان وقانون طبائع الأشياء. ونتج عن هذه الدعوى الإعجازية أسطورتان: الأولى هي أسطورة ظهور الفلسفة وارتباطها بالإغريق، والثانية أسطورية الفلاسفة والرفع من مقامهم إلى درجة تسمو على الأشياء. وانطلق طه لإبطال هاتين الأسطورتين من إثبات بيانية القول الفلسفي؛ أي أن الأصل في القول الفلسفي أن يوضع باللسان الذي يتكلمه المتلقي، ولا يصار إلى نقله من لسان غيره إلا بدليل([45])، وهذا ما يُنهض المتفلسف العربي لإنجاز عملين يخلصانه من الأسطورتين، الأول وصل القول الفلسفي بالقول الطبيعي، والثاني وصل القول الفلسفي الأجنبي بالقول الفلسفي العربي فيكون مخترعاً لقول فلسفي من خلال امتلاك القدرة على التأمل فيما يمارسه من الأقوال الطبيعية، بحيث يولد منها أقوالاً فلسفية تنتفي فيها أسباب الأسطورة، سواء ما تعلق منها بأصل الفلسفة أو ما تعلق بأشخاص الفلاسفة([46]). وفي آخر عملية الإثبات لمقومات الاختراع الفلسفي دفع طه أقصى الاعتراضات المحتملة على هذا التصور للاختراع الفلسفي، بدعوى أن التأمل في القول الطبيعي قد يحرم اللغة الفلسفية العربية أسباب التوسع والتطور والتقدم التي يوفرها الاحتكاك بلغات فلسفية أخرى([47]).
أما أكبر مانع للإنشاء الفلسفي فهو ادعاء استقلالية المضمون الفلسفي عن شكله، وهذا ما ينتج أسطورتان في هذا المجال؛ الأولى أسطورة أسبقية المعنى على اللفظ، والثانية أسطورة أسبقية النطق على الرسم. وتتأسس هاتان الأسطورتان في الفكر الفلسفي على مسلمة باطلة وهي ادعاء أن المعاني الفلسفية معانٍ عقلية خالصة تشترك في إدراكها الأمم جميعاً وإن اختلفت ألسنتها. واشتغل طه على رفع هذا المانع كما عمل على إبطال الأسطورتين الناتجتين عنه من خلال إثبات دعوى كتابية القول الفلسفي انطلاقاً من مبدأ خاص هو أن الأصل في القول الفلسفي أن يأتي الاستشكال والاستدلال فيه وفق الأشكال النصية للسان الذي يوضع به هذا القول([48]). وعلى هذا الأساس سيعمل طه على وضع تحديد متبادل بين اللفظ والمعنى متجاوزاً أسطورة تقديم المعنى على اللفظ، كما أثبت تجانس العلاقة البلاغية في المنطوق والمكتوب من خلال التحقق من أن العلاقة البلاغية بين المعنى ورسمه هي من جنس العلاقة البلاغية المجودة بين هذا المعنى والنطق به، متجاوزاً أسطورة تقديم النطق على الرسم.
هذا ما يؤهل المتفلسف العربي لإنشاء قول فلسفي ابتداء من لغته، من خلال المزاوجة بين الشكل والمضمون على قانون البلاغة العربية، ودفع أسباب الأسطورة المذكورة سلفاً، معنوية كانت أو نطقية. ورفع طه أقصى الاعتراضات على هذا التصور للإنشاء الفلسفي، بدعوى أن الأخذ بالأشكال البلاغية قد يضر ببرهانية القول الفلسفي([49]).
إن خلاصة هذه الدعوى الطاهائية حول الإبداع الفلسفي، أن الإبداع مراتب ثلاث؛ «الابتكار» الذي هو الإبداع الفلسفي انطلاقاً من القول الفلسفي الأجنبي، و«الاختراع» الذي هو الإبداع الفلسفي انطلاقاً من القول الطبيعي العربي، و«الإنشاء» الذي هو الإبداع الفلسفي انطلاقاً من بلاغة القول العربي. ولا ينال أي نوع من هذه الأنواع الإبداعية إلا بالتخلص من أحد الموانع والأساطير الناتجة عنها مما ذكر، فنخلص إلى النتيجة الأساسية وهي أن القول الفلسفي خطاب وكل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي، كما أنه بيان وكل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي، كما أنه كتابة تضع في الاعتبار بلاغة هذا اللسان([50]).
نموذج تطبيقي
قام طه عبد الرحمن باختبار أطروحته في الإبداع الفلسفي بتطبيق نموذجه التقويمي، واتخذ الفلسفة المغربية نموذجاً. والتقويم هو إحدى الخطط التي رسمها طه لبناء فلسفة عربية مبدعة، ويقوم على رصد آفة التقليد التي غرقت فيها الفلسفة المغربية الحديثة من خلال إحصاء مظاهره وتعقب أسبابه وتوضيح وجوه دفعه، مع إيراد مثال تطبيقي لذلك.
ينطلق طه عبد الرحمن في نقد التقليد في الفلسفة المغربية من الإقرار بدءاً بوجود يقظة فلسفية مغربية انتزعت اعتراف المشتغلين بالفلسفة شرقاً وغرباً، إلا أن هذه اليقظة أغرقت في تقليد المنقول الفلسفي، بل وفي تقليد التقليد، خاصة مما اختص به الكتَّاب الفرنسيون، لقصور المتفلسفة المغاربة عن الإحاطة بلغات غير اللغة الفرنسية([51]). وربط طه بين هذا التقليد عند فلاسفة المغرب وتقليد فلاسفة الإسلام المتقدمين خاصة ابن رشد الذي أعاد، بنظر طه، الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحياً من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي.
ويرجع طه أسباب هذا التقليد الذي دخل على الفلسفة المغربية إلى اعتماد الترجمة الاتباعية، والتي تنقسم إلى أنماط ثلاثة؛ النمط الترجمي الغربي وهو الذي يقدس النص الأصلي، والنمط الترجمي الفرنسي وهو الذي يطلب فيه المترجم معرفة الغير على مقتضى حاله، والنمط الترجمي العربي الذي ينبني على «مبدأ التعلم والتعليم» والذي يأخذ بالحرفية اللفظية والحرفية المضمونية. وقد فصل طه القول في هذا النمط الأخير في الكتاب الأول من مشروعه فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة([52])؛ إذ سمى الترجمة التعلمية ترجمة تحصيلية، والترجمة التعليمية ترجمة توصيلية. هذه الأنماط الترجمية، بنظر طه، تدفع المتفلسف إلى ترك ممارسة النقد، تقديساً للنص الأصلي وتسليماً للغير وتلمذة عليه، مما يفقده أنجع أعمدة التفلسف أي النقد!
ووضع طه نمطاً جديداً في الترجمة للخروج من ذلك التقليد وهو الترجمة الإبداعية([53]). هذا النمط يساعد المتفلسف على رفع التقديس عن النص الأصلي، كما يزوده بما يطلب به معرفة نفسه من خلال معرفة ما عند غيره، مع إقلاعه عن مسلك التلمذة لهذا الغير، فيحصل بذلك المتفلسف العربي والمغربي كذلك القدرة على الاعتراض على النص الأصلي، وكذا القدرة على معارضة الغير، وكذا القدرة على عرض ما ليس عند الغير.
ولا يكون المتفلسف المغربي قادراً على هذا إلا بترك الحرفية اللفظية، والتصرف في الكلمات والتراكيب، وتفعيل المقوم اللغوي للمجال التداولي لهذا المتفلسف، وترك الحرفية المضمونية بالتصرف في المعاني والمضامين، وتفعيل المقوم المعرفي لمجاله التداولي، وكذا ترك الحرفية الاستعمالية بالتصرف في العلاقات والسلوكات، وتنشيط البنية العملية لمجاله التداولي. وبذلك يكون الفيلسوف مترجماً مبدعاً لا مترجماً معلماً ولا مترجماً متعلماً. ومن خلال هذه الترجمة الإبداعية أو الترجمة التأصيلية يمكن أن ندخل باب الحداثة الفلسفية الحية، وكذا الكونية الفلسفية المنفتحة. الأولى تعصمنا من الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف «أي الحداثة الفلسفية الجامدة»، والثانية تعصمنا من الخوض في المشاكل الفكرية نفسها على الأشكال المنهجية نفسها، مما يؤدي إلى تضييق الفكر وإفقاره، أو الاندماج في «الكونية الفلسفية المنغلقة».
وقدَّم طه نموذجاً تطبيقياً لنمطه الترجمي الإبداعي أو التأصيلي من خلال نقد ترجمة نص للفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي نقلاً عن هيدغر، فأثبت أن ترجمة نص هيدغر كانت عن الفلاسفة الفرنسيين الذي سلكوا في ترجمة نص الفيلسوف الألماني مسلكاً تحويليًّا يدخل عندهم في باب الترجمة الإبداعية، ولكن المترجم العربي غفل عن هذه الحقيقة فنقل المقابل الفرنسي بدل أن يطلب الأصل الألماني ويجتهد ويبدع في نقله([54]). وقدم طه ترجمة إبداعية لنص الحبابي مع بسط الإمكانات «التفلسفية» التي تتيحها للمتلقي من خلال تفاعل المفاهيم المأصولة والمفاهيم المنقولة.
أما خطة الإقامة فقد قدمها الدكتور طه من خلال نموذج الانتفاضة الفلسطينية الباسلة. وقام بعملية تأمل فلسفي عميق في مفهوم «الفتوة المنتفضة»؛ إذ عمل على تصنيع مفهوم الفتوة من خلال التوسل بمفهوم الهوية. واعترض على التصور اليوناني للهوية الذي رسخ في الأذهان، وهو أن خاصية العقل هي المحدد لهوية الإنسان، مثبتاً أن الأخلاق هي ما يحدد هذه الهوية، وهي مراتب: أدناها الإنسانية وهي امتلاك الكائن البشري للقوة الخلقية، وأوسطها الرجولة وهي جملة الصفات الخلقية التي يحصِّل بها الكائن البشري كمال الإنسانية، وأعلاها المروءة وهي جملة الأخلاق التي يحصِّل بها الإنسان كمال الرجولة([55]). فهذه الأسماء كلها ذات دلالة خلقية، مما يثبت أن هوية الكائن البشري تحدد بأخلاقيته لا بعقلانيته، بل إن الفعل العقلي نفسه هو خلق يرتقي به الكائن إلى رتبة الإنسان متى كان نافعاً، وينزل به إلى رتبة البهيمة متى كان ضارًّا.
وأجرى طه القانون نفسه في دراسة الهوية على اسم «الفتى» فخلص إلى أن الفتوة هي أيضاً تُخلق كما أن الإنسانية تُخلق، والرجولة تُخلق، والمروءة تُخلق، إلا أن الفتوة تتميز برتبة خاصة في التخلق وهي أشرف الرتب الأخلاقية. ويظهر هذا الشرف الذي يختص به الفتى من خلال امتيازه عن الإنسان بكمال التدين، مما يزكي أخلاقه فتكون هويته زكية، بل هي أزكى هوية([56]). ويمتاز عن الرجل بكمال القوة فلا فتوة إلا مع وجود القوة، بل القوة التي لا تُضاهى، أي القوة الكاملة، مما يرسخ أخلاقه فتكون هويته هوية راسخة، بل هي أرسخ هوية. ويمتاز عن المرء بكمال العمل أي أن يكون عمله مؤثراً ومخلصاً إلى درجة إخلاص الإخلاص، وهذا ما يكسبه اتساعاً في الأخلاق، ويجعل هويته واسعة بل تكون أوسع هوية([57]).
وهذه النظرة الأخلاقية إلى الهوية البشرية هي التي طبقها طه في المجال العربي، خصوصاً في موقف العرب من انتفاضة الأقصى. فإذا كانت الإنسانية أدنى الرتب الأخلاقية وتأتي بعدها الرجولة ثم المروءة، وأعلى الدرجات الأخلاقية هي الفتوة، فالرتبة الأدنى أي الإنسانية فيها نقصان التخلق المقتبس من الدين، أي نقصان التدين. والفئة العربية التي تستحق أن تنزل هذه الرتبة، بنظر طه، هي فئة المُطَبِّعة التي اختارت التطبيع مع العدو الصهيوني والداعية إلى ثقافة السلام، وهي ذات أخلاق مجردة لا تسديد في مقاصدها ولا تأييد في وسائلها، وليس أصحابها أهل عقلانية بحق؛ إذ ليس في العقول أفسد من عقلهم. وليسوا أهل همة؛ إذ ليس في الهمات أحط من همتهم. وليسوا أهل هوية؛ إذ ليس في الهويات أدنس من هويتهم([58]).
أما رتبة الرجولة في السلم السلوكي فتتسم بالقوة مع وجود النقصان فيها، وينزل دعاة مقاطعة العدو الصهيوني هذه الرتبة؛ فهؤلاء فكوا عنهم طوق الأخلاق المجردة ودخلوا في نطاق الأخلاق المسددة التي تكسبهم إيماناً متمثلاً في تعظيم الأرض المباركة واستعظام احتلالها ونشر الفساد فيها، إلا أن هذا لا يمنعهم من أن يبقوا على عهدهم في التسليم بوجود العدو لقلق يخالط هممهم ويمنعهم من خرق الضغوط الممارسة عليهم.
أما رتبة المروءة في السلم السلوكي فتتصف بالعمل مع وجود النقصان فيه. والفئة التي تنزل هذه الرتبة الأخلاقية هي التي قررت أن ترفض وجود العدو الصهيوني؛ فأهل هذه الفئة حصلوا تمام الأخلاق المسددة في مقاصدها بفضل دخولهم في العمل المناسب للظرف من خلال المقاومة؛ فالرافضون مقاومون ومدركون أن الواقع يتغير متى تغير ما في النفوس من ضعف وخوف وتغير ما في الهمم من تردد وتزلزل.
أما رتبة الفتوة في السلم السلوكي فتتصف بكمال التدين وكمال القوة وكمال العمل. والفئة التي تستحق أن تنزل هذه الرتبة الأخلاقية العليا هي الفئة المنتفضة حتى التحرر بممارسة حقها في الجهاد والاستشهاد. فقد جمع المنتفضون إلى التسديد في مقاصدهم التأييد في وسائلهم فأصبحوا أصحاب أخلاق مؤيدة وهي الأخلاق التي يحصل معها اليقين في نفع المقاصد المقررة ونجوع الوسائل المختارة من خلال التغلغل في العمل المناسب، وهل من تأييد أكبر من أن تكون أخف الحجارة في أيديهم أقوى من أثقل سلاح في أيدي أعدائهم كأنها حجارة من سجيل يرشقون بها أصحاب الفيل!([59])
إن مواقف العرب من العدو الصهيوني وفق هذه المقاربة الفلسفية طبقات أربع: الناس وهم أهل التطبيع، والرجال وهم أهل المقاطعة، وذوو المروءة وهم أهل الرفض، والفتيان وهم أهل الانتفاضة.
ويخلص طه من خلال هذا التأمل الفلسفي العميق إلى أن الأسبقية في العلاقة بين الهوية والطبقة يعود إلى الطبقة، والهوية تختلف باختلاف الطبقة، والطبقة لا تستحق أن يقال بأنها صانعة للهوية حتى تثبت قدرتها على مزيد تخليق لهذه الهوية. وصنع الهوية العربية لا يمكن أن يبتدئ إلا مع طبقة الفتيان المنتفضين دون غيرها. والفتوة الصانعة للهوية ليست واحدة، وإنما تختلف باختلاف الزمن؛ فالفتوة التي تقدر على صنع الهوية العربية في الزمان الحاضر هي فعل الانتفاض والفتيان الذين يستطيعون أن يكونوا نماذج للعرب في هذا الزمان هم المنتفضون.
أما عندما يندحر العدو وتتحرر الأرض وينقلب أهل فلسطين إلى جهاد أنفسهم، فتكون الفتوة حينئذ هي الانتهاض، ويكون الفتيان هم المنتهضون، فزمان الانتهاض غير زمان الانتفاض([60]).
وفي ختام هذه الأطروحة النقدية حول الإبداع الفلسفي عمل طه عبد الرحمن على رد شبهة كبرى قد يُعترض بها عليه، وهي اعتبار العنصر القومي في وضع الفلسفة العربية والتخلي عن العنصر الإسلامي، لأن الأول خصوصي والثاني عمومي.
ومن خلال تحليل مستفيض لاستعمالات كلمة «القوم» في القرآن الكريم، تركيبيًّا ودلاليًّا وتداوليًّا، أثبت طه صلات القومية بالنبوة وبالأخوة وباللغة، مما يعني أن هناك شكلاً من الأشكال القومية يقر به القرآن الكريم ولا يتعارض أبداً مع دعوته إلى الكونية الدينية([61]). فالقول بالقومية العربية، في هذه الحالة، لا يتجاوز القول بمجال تداولي عربي مخصوص له مبادئ أصلية وفرعية تصاحب وجود القوم وسلوكهم، مبادئ عقدية ولغوية ومعرفية. وهذا المجال التداولي ملزم لمناصري القومية ولمخاصميها؛ فالقومية العربية إذن هي «التداولية العربية» المتشبعة بالثقافة الإسلامية إلى حد بعيد. ولا يلغي هذا اعتراض الذين لهم علاقة قلقة بالمجال التداولي العربي من فئة غير المؤمنين، سواء من إسلاميي الثقافة أو من غربيي الثقافة، أو فئة المسيحيين غربية الثقافة([62]). فالقومية الحية التي يدعو إليها طه تناقض (القومانية) التي هي جمود على مقومات عربية مخصوصة زعم بعضهم تجريدها من صبغتها الإسلامية. أما القومية الحية التي تُؤَسِّس عليها الفلسفة العربية فتأخذ بأمهات القيم ودلالات العمل التي هي بنت المجال التداولي العربي والذي طبعته ثقافة القرآن وصنعه تاريخ الإسلام.
([2]) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2002. وإحالتنا في هذه الدراسة ستكون على هذا الكتاب؛ فهو يلخص مشروع طه عبد الرحمن في بعده النقدي.
([12]) في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، طه عبد الرحمن، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1987.
([33]) لما كانت المميزات التداولية التي يحصل بها الوصل هي مجال الفيلسوف التداولي، والمفاهيم الفلسفية التي يتم بها وصلها بهذا المجال هي أصول الخطاب الفلسفي، فوظيفة الجانب الإشاري في المفهوم هي ربط جانبه العباري بأصول المجال التداولي لواصفه أو مستثمره، وهذا الوصل بالأصل هو الذي يسميه طه عبد الرحمن بـ«التأثيل». وللتوسع في فقه تأثيل المفاهيم عند طه ينظر كتابه: فقه الفلسفة: 2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1999: 130-141.