([1])
الكتاب: الحداثة كحاجة دينية.
المؤلف: د. توفيق السيف.
الناشر: الدار العربية للعلوم - ناشرون
الطبعة الأولى 2006م
كتاب من القطع المتوسط يقع في 128 صفحة
صادر عن مركز آفاق للدراسات والأبحاث
ليس ثمة أدنى شك في أن الأبحاث والدراسات التي جعلت من الثنائيات «حقيقة المعرفة ومعرفة الحقيقة / الثابت والمتحول / الدين وفهم الدين..» أغلبها -إن لم يكن كلها- ترنو إلى أهداف تقترب من الواقع كنظام حياة وتطور بغض النظر عن ماهوياتها الإيديولوجية والنظامية. والدكتور السّيف من خلال هذا الكتاب أراد أن يجعل من الإنسان محوراً مهمًّا في عملية البحث عن نظم التقدم والتطور وفق معايير مدروسة تنتظم وحداثات الواقع «اللحظي» دون أن يغيب عن ذهنه مدى تجاذب العلاقة بين «النص وفهم النص» وبين «الدين وفهم الدين» أو بين الإسلام والعلمانية أو العولمة والهوية.. أو أن تهرب منه العادات والتقاليد والتطور الاجتماعي بين الأمس واليوم، وبين الأصيل والحديث. إذ يدفع الأمور باتجاه صياغة جديدة تتغذي على الواقع المتغير وتضع الإنسان وعقله ووجدانه في محور مهم من هذه العملية الإنتاجية وكما يبدو هذا هو الرهان المرجو من الباحث والكاتب.
ومن اللافت للذهن اعتماده على توصيل الأفكار بطريقة سهلة وطيعة فضلاً عن الأسلوب الحواري الذي أضفى حالة كبيرة من التشويق والتجاذب المحمودين، عبر ضخ أكبر كمية من الأسئلة التي اقتضت صناعة حوار بين اثنين «الكاتب وصاحبه» في عملية أشبه ما توصف بالمارثون الفكري، وهو بذلك يعكس حالة المونولوج بينه وبين ذاته، وبينه والواقع من جهة أخرى عبر محفزات كوامن التقدم التي تتجدد في الإنسان ذاته متى ما أراد ذلك.
«أقول إنها مرافعة وليست بحثاً علميًّا، فهي سلسلة من التساؤلات يتلو كل منها ما يشبه الجواب، لكنه جواب مؤقت، إذ لا يلبث أن يثير سؤالاً آخر يتلوه جواب أولي وهكذا. فالغرض إذن ليس تقديم أجوبه نهائية»([2]). هكذا جاءت صناعة الأفكار وتسلسلها الدرامي عبر المثير من التساؤلات حتى لو لم يكن ثمة نهاية جلية جراء هذا العصف الذهني الهائل الذي دار رحاه حول محور ثنائية «التقدم والتخلف»، وهو سؤال تصدر مقدمة الكتاب «كيف ينهض المسلمون من سباتهم المزمن، وكيف يعودون إلى قطار الحضارة بعدما نزلوا أو أُنزلوا منه»!([3]). وعلى الرغم من نزعة السؤال التقليدية إلا أن تدافع الإجابة تلو الأخرى أكسب هذه المرافعة -حسب قوله- حالة بعث جديدة للتراكم الفكري إزاء إجابات متعددة الجوانب والأبعاد ساهمت بشكل أو بآخر في سد مناطق الفراغ إثر التصدع المستمر والمتلاحق في جدار الأمة الإسلامية والعربية، وكأنه يشير إلى مقصد عدم التكرار لما قد سلف من النظريات والتي تناولت مثل هذه المسألة بكل إشباع.
وعلى الرغم من الجهد المبذول في هذا الصدد سواء كان من قبل الباحثين الغربيين أو من قبل الإسلاميين، فإنها «لم تنجح في تقديم حل عملي لمشكلة النهضة في العالم الثالث، كما لم تنجح في تقديم إطار قابل للتفعيل للعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي»([4]) نظرًا لاختلاف المنطلقات والأهداف ما بين الجهتين، إلا أن ذلك لا يلغي مدى حاجة أحدهما للآخر، فالغرب لا تَخْفَى براغماتيته من خلال هذه العلاقة، كما أن المسلمين تحكمهم الإيديولوجيا التي تدفع باتجاه «الإصرار على فكرة الأصالة لم يؤدِ أبدًا إلى توضيح طبيعتها أو مكانها من مشروع النهضة رغم الجهد الذي بذله كثيرون في هذا السبيل. بل إن التأكيد على هذا المعنى قد تحول فعليًّا إلى إعادة إنتاج فكرة الأصالة في معنى المحافظة على التقاليد والبحث عن حلول لمشكلات العصر في التراث، بدل أن تخدم -كما هو مفترض- معنى المعاصرة، أي إنتاج الفكر والثقافة الإسلامية وفق حاجات العصر وحقائقه وما استجد فيه»([5]).
يحتوي الكتاب على مقدمة يليها أربعة فصول، الفصل الأول بعنوان (الدين والذات)، والفصل الثاني عنوانه (الإسلام والنهضة: السؤال الخطأ)، أما الفصل الثالث فقد جاء عنوانه (البداية: نقد الذات)، والفصل الرابع والأخير بعنوان (سؤال الحداثة) ليكون بمثابة الخاتمة.
ﷺ الفصل الأول: (الدّينُ والذّات)
بدأ المؤلف حواره مع صاحبه بسؤال تقليدي دارج: هل هنالك علاقة بين حال المسلمين الراهنة وبين إسلامهم!؟([6]) ليستدعى بهذا التساؤل ثنائية الإسلام والحداثة، ومدى ارتباط هذه الأخيرة بالغرب، إذن، كيف نتصل كمسلمين بقوة التطور المتوفرة لدى الغرب دون أن نفقد القيمة الروحية والنظام الحياتي الكريم، كل ذلك وفق متطلبات تحكيم الإسلام في كافة الشؤون الحياتية المختلفة بدلاً من أن يكون في مستودع محدد تحكمه تأويلات امتلاك الحقيقة المطلقة!.
هذا التساؤل كان وليد شعور المسلمين بالفارق الهائل بينهم وبين الغرب على كافة المجالات العلمية والمدنية. هذا ما قاله صاحبه في تجاذب ساحر مع الفكرة التي يؤسس لها المؤلف، ولعلّ ذلك يتضح في رؤيته تجاه الأسباب التي تقدم من خلالها الغرب على سائر الأمم، فهو للتو -في فترة بزوغ العلمانية- يطلق كافة قوى التقدم التي أثمرت إقامة المدنية الغربية الحاضرة، وهذه النظرة ما فتئ منظرو التنمية في الغرب يرونها ضرورةً إذا ما أراد الإنسان -بالمفهوم الشامل- تحقيق التقدم والأخذ بأسباب الحداثة والتطور!. وقد يكون أبرز من كتب في مثل هذه الرؤية المنظران الأمريكيان (بيتر بيرجر) و ( هارفي كوكس) اللذان يعتبران من الآباء الروحيين لمقولة سيادة العلمانية ولو أنهما استدركا في الأخير عدم دقة هذه الأطروحة وقد كتب (بيرجر) بعدها «إن العالم ما زال متدينًا».
واستطراداً للحديث المتعلق بالفاصلة ما بين الدين والفهم البشري إليه، أفرد الكاتب عنوانًا فرعيًّا يتعلق بهذا الأمر «ما لحق بالإسلام من مفاهيم وتقاليد خلال التأريخ» حتى أصبحت هذه المفاهيم والتقاليد تتماهى إلى حد كبير مع الأصول الدينية هذا إن لم يعتبرها الخاصة من الناس قبل العامة بأنها هي الدين. ولا مناص من التنصل منها في الوقت الذي تثبت سيرورة التأريخ بأن ثمة ما ألحق بالدين وهو لا يرقى إلى قداسته، وبالضرورة فأن الثقافة التي يحملها المسلمون -اليوم- ليست على طرفي نقيض مع المعتقدات الدينية، وتجدر الإشارة إلى كيفية التعاطي معها من قبل العامة من الناس على وجه التحديد، إذ لا تمايز بين أهل العلم وبينهم بقدر ما هو المسؤولية وتحمل عبئها، فصلاح العامة مقرونٌ بصلاح الخاصة إلا أن رباط العلاقة يظل براغماتيًّا حسب مقتضى الحال ومسارات الحياة، فـ«حقيقة الأمر أن المثقفين والعامة متواطئون على مواصلة هذا الطريق، بعضهم لأنه يصعد في مسارات الحياة فهو صاحب مصلحة في بقاء الحال السائد، وبعضهم لأنه لا يحتمل الأعباء النفسية والاجتماعية للتغيير، فهو الآخر صاحب مصلحة في الحيلولة دون تغيير يؤدي إلى المشاكل أو يوقعه في مواقع الأذى»([7]). بالتالي نحن أمام أزمة خطاب ذاتية، فلسنا على وفاق اجتماعي يساهم في تصالحنا مع فهم الدين، ولسنا على استعداد لذلك أيضاً طالما بقي الفهم مرهوناً بالماضي. وقد استشهد الكاتب بشواهد حية وردت في تقارير الأستاذ فهمي هويدي أثناء رحلته إلى أفغانستان في فترة حكومة طالبان ساهمت بقدر كبير في توضيح ما كان يرمي إليه في العنوان الفرعي المذكور آنفاً، حيث تطرق إلى نظرة الثقافة الإنسانية للمرأة عن طريق بلدين متجاورين ففي بلاد أفغانستان كان المسلمون يحرمون على المرأة الخروج للعمل مطلقًا يعللون ذلك استناداً للآية الكريمة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}([8]) بينما يقبل جيرانهم في إيران بأن تتبوَّأ المرأة مكانة مرموقة في مهام العمل، فتصبح قاضية ووزيرة ونائبة للرئيس ومستشارة استناداً للآية المباركة: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}([9]). فالذي جعل أولئك مختلفين عن هؤلاء، ليس الإسلام في صيغته النظرية المجردة، بل الفهم الحاصل من تفاعل المسبقات الثقافية التي يحملها كل منهم مع الصيغة النّظرية للإسلام.
ثم انطلق المؤلف من خلال عنوان فرعي على صيغة سؤال «كيف تتحول الرغبات إلى مسلمات مقيدة للعقل» من أجل عقد صلة البحث المتعلق بثنائية «النص وفهم النص» «الدين والمعرفة الدينية» فهو بهذا السؤال يسلط الضوء باتجاه مدى تأثر المعرفة «الدينية / فهم النص / التفكير..» بالواقع المتغير، بمعنى آخر إن التخلف الذي يضرب المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه هو نتاج انفصال معرفتنا الدينية -الحديث للمؤلف- عن عصرنا؟. ولماذا غفل معظم الناس عن الحاجة إلى إصلاح ثقافتهم وبالتالي تجديد حياتهم بما فيها الجانب الديني؟
يراهن الدكتور السيف من خلال هذه التساؤلات على قدرة العقل المتحرر من قيود الرغبات على كشف الحقيقة، وتشخيص أماكن الداء العضال في الأمة، متى ما تمكن هذا الإنسان من إحداث عملية التوازن ما بين الذات والعقل، هذا التماهي لا بد من التعامل معه بحذر ليتمكن هذا العقل من الانفكاك من قيود الذات التي قد تصل بالإنسان إلى مرحلة من الرضا الكاذب عن النفس، فهذه قدرة عجيبة تستفرد بها الذات لتمرير ما يخدع العين فإذا بالمسلمات الحياتية والأعراف والتقاليد تكون في مصاف الثوابت الراسخة وبالتالي تتعاظم الأنا العليا ليصل الأمر إلى حد لا يستطيع هذا الكائن أن يجد عيبًا في ذاته عندها تتحول هذه القناعة الداخلية إلى دين خاص يعيش في داخله ويجده مكتملاً في نموه، من هنا يكون التفكير وتجلياته خارج نطاق التغطية بالنسبة لرحلة البحث عن الحقيقة وسبل التقدم والتطور. و«المشكلة إذن ليست في مجرد الانفصال بين مسار الذات ومسار الدين، بل في احتلال أحدهما المساحة الخاصة بالمسار الآخر، الذي في أنفسنا هو ما أردناه أن يكون. لقد انتخبنا منه ما يناسبنا وما ينسجم مع التقاليد والأعراف والتوازنات التي نريد العيش في ظلها، وصنعنا من هذا الخليط صورة هي أقرب ما تكون إلى صورتنا، ثم أحطناها بهالة من الافتراضات والاعتبارات حتى تحولت إلى صندوق مغلق يحوي بعض الحقيقة وبعض الوهم وكثيراً من الرغبة»([10]).
ثم يعلق صاحبه على استنتاجاته بتساؤل جديد حيث يقول: لو لم يكن عقل الإنسان قادراً على نقد ذاته لما كان قادراً على التطور أصلاً، ليضعنا الكاتب في موجة عارمة من العصف الذهني الهائل والتي ليس غرضها هو الإجابة فحسب بقدر ما يكون الهدف خلق دافعية محفزة لانطلاقة التفكير بكل قوة حيال مقاصد التطور والنهضة، ولا فصل بين عقل الفرد وعقل الجماعة في هذا المقام إن لم يكن هو مرآة للآخر، ولا يخفى عليكم بأن عقل الإنسان لا يعمل من فراغ ولا يشتغل دون مقدمات وفرضيات وتراكم معرفي ضخم، وهذا ما تسالم عليه الكاتب هو فكرة المفكر مالك بن نبي حين قال: «إن عقل الفرد -حين يفكر وينظر- ليس عقلاً فرديًّا بل هو عقل الجماعة الذي اتخذ له موضعًا في رأس فرد معين، فجعل شخصيته وسلوكه العفوي وردوده فعله، نموذجًا لما يناظرها عند كل فرد آخر في نفس الجماعة»([11]). وبالتالي تتكون العادات والتقاليد برؤية جماعية لتصبح دينًا دونما شعور، ونصًّا ثابتًا دون أدنى مناقشة، فيتم تكيف التدين للفرد والجماعة بما لا يتناقض والمسلمات الاجتماعية والتي إما أن تكون صنيعة المجتمع نفسه أو أفكارًا تبناها في لحظة من لحظات ما، ومثل هذا القول يقترب إلى حد ما مع فكرة «الدين المدني»([12]) والتي ابتكرها جان جاك روسو، وفكرة «الدين»([13]) التي ناقشها أميل دوركهايم، مع الاعتبار للفارق الجوهري ما بين الفكرتين، فروسو فكرته معززة للفرد، بينما دروكهايم متعلقة بالجماعة على الرغم من كونها تكليفًا للفرد في الوقت نفسه.
ﷺ الفصل الثاني: (الإسلام والنهضة: السؤال الخطأ)
بعد أن عقد الدكتور السيف مقارنة بين ثلاثة أنظمة سياسية قائمة (أفغانستان، إيران، السعودية) من حيث العلاقة بين حالة التدين وعملية النهوض الحضاري، ليقول بأن ما في نفوس المسلمين هو إسلام ملوّن بلون مجتمعهم. مع كل ذلك ما تزال هنالك العديد من القضايا العالقة خاصة فيما يتعلق بالحريات وقضايا حقوق الإنسان وغيرها. وما هو جدير بالذكر في هذا الإطار هو اختلاف نمط التدين بين دولة وأخرى إلى حد التناقض في معظم الجوانب، وبالتالي يظل رهان النهضة مشروطًا بقيم التدين الخاصة بها، ومن هنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه هنا هل نحن أمام دين ثابت أم تدين متغير يكون منشؤه طبيعة الاختلاف في فهم الدين؟!
وبعد موجة من التجاذب الحواري بينه وبين صاحبه إزاء علاقة الإسلام بالنهضة، لتتهافت الأسئلة واحداً تلو الآخر وفق تسلسل درامي للأفكار ولو أخفت خلفها معالم شجاعة الكاتب عندما يدفع بالحوار إلى مرحلة قاب قوسين أو أدني من الثابت (= النص) وسرعان ما يعود ليتدثر بما هو متعلق بالمتغير والمتحول في حياة الناس، فالقارئ يظل مسكونًا بالتأويل والتحليل لما أراده الكاتب وقصده والذي بقي حبيسًا داخله طوال مارثونية الحوار. وأراني مراهنًا على ذلك من خلال تتبع أثر الحرف والكلمة والأفكار، لكني مع كل ذلك لا أجزم لعدم قناعة مني بمحاكم تفتيش المقصد أو النوايا.
«هل يمكن لنمط التدين السائد عندنا أن يساعد على إقامة الحضارة المنشودة أم أنه عائق في طريقها؟!» وعبر هذا التساؤل ينقلنا الكاتب إلى رحابين مختلفين؛ الأول يناقش الفرضية الأوروبية التي تقول بالعلاقة الجوهرية بين العلمانية والتطور. والرحاب الثاني: ينطلق من الفرضية الإسلامية التاريخية التي تقول بإمكانية تصميم نموذج حضاري لا يتعارض مع الدين، بل يستفيد من الفكرة الدينية في تطوير أداء الإنسان([14]). البديهية تقودنا للتعمق في دراسة مضامين الثنائيات المطروحة سواء كانت على وفاق وانسجام على فرضية إن كان الأمر في حكم الممكن والتحقق، أو جاءت هذه الثنائيات على قطيعة إذ لا يمكن أن يأتلفا في القناعة أو التحرك على الواقع، ولا شك في أن ثمة علاقة جوهرية بين العلمانية من جهة والتطور من جهة أخرى وهذا ما يُستنتج من السياق التأريخي الأوروبي، فالغرب شهد حروبًا دينية طويلة ما بين (1562 - 1598) طابعها الظاهر هو الخلاف الديني -كما جرى بين الكاثوليك والبروتستانت- بينما كانت تعتمل في عمقها جذوة السياسة وما طموح العائلات النبيلة في السلطة إلا خير برهان على ذلك، ولم يقتصر الأمر على مثل هذه الحروب الدينية فحسب، بل التأريخ الأوروبي شهد صراعًا حادًّا بين (الكنيسة والدولة) عندما كانت تتحكم الأولى في الثانية وتسلبها معناها في النظرية والحراك كتنصيب الحاكم ومنحه المشروعية، إذن العلمانية جاءت بعد مخاض عسير ولو أن تكوينها محاكيًا للسخط على الدين إلا أن سيرتها المتطورة والمقرونة بالزمن أكسبتها أبعادًا أخرى للتحرك والدخول في النظام الحياتي العام الاجتماعي منه والسياسي.
ولا يتغاير الأمر أيضًا بالنسبة إلى علاقة الدين والتطور الحضاري في الفضاء الإسلامي، ولعل من الأبرز في هذا المضمار الدعوة الرامية إلى التمسك بالدين هو السبيل الوحيد للتقدم، فهذا ما لا يختلف عليه أحد، إلا أن الأمر لا يمكن علاجه وفق هذا النسق الروحاني فحسب بقدر ما يكون هذا الدين عبارة عميقة بالإمكان تفاعلها مع واقع الحياة وفق متطلبات الإنسان وحاجاته في خضم الحياة ذات الرتم المتلاحق والمتغير، فـ«أهل التجديد -حسب رأي الدكتور السيف- يرون أن التدين في صورته القائمة لا يغني ولا يسمن، وهم يقرون بأن هذا المنهج قد ساهم في الحفاظ على حرارة الدين في قلوب المؤمنين طوال القرون الماضية. مع أنه في رأيهم ليس سوى صورة ناقصة عن الدين الكامل الذي وعد الله أهله النصرة ورغيد العيش»([15]).
على هذا المبدأ يؤسس الكاتب لفكرة مؤانسة التدين مع مقتضى الحال الواقعي والتفاعل معه، ولا يتحقق ذلك إلا عبر توافر الكثير من المكنزمات للانطلاق من أرضية صلبة. ولعل إشارته الجلية في هذا الشأن عندما شخّص الحال في فترة من الفترات للمسلمين حين كان النشاط العلمي والإبداعي في أوج تألقه، نتيجة علاقة وثيقة الصلة بين العلوم الدينية وسائر العلوم المدنية والحياتية، فإذا بالحال يتبدل فيقتصر أمر التدين على حدود معينة من فقه العبادات والقليل من أحكام المعاملات، وفي المقابل أيضًا لم تلقَ العلوم المدنية حظها الكبير في المناهج الدراسية المعاصرة. وحسب تعبير المؤلف يصبح ما لدينا من الدين هو في حقيقة الأمر النسخة القديمة من الدين والتي تركها لنا أجدادنا التي وإن انسجمت وتفاعلت في لحظة تاريخية من الزمان لا يعني بالضرورة ضمانة تفاعلها في كل الأزمان!. دافعًا الأمور باتجاه إعادة إنتاج شاملة من جديد لا تستثني ما اتفق عليه وما كان محل إجماع. فما ذلكم إلا منتجات بشرية جاءت وليدة لحظة تاريخية.
«ونرى أن النهوض مستحيل دون الحداثة، ومن هذه الزاوية فإن شروط الحداثة هي شروط النهضة. والحداثة مفهوم واسع نسبيًّا يضم بين أجزائه عناصر تتعلق بالسياسة والاقتصاد والثقافة والإنسان واستثمار الموارد، فعلى المستوى السياسي تعتبر المساواة وحاكمية القانون وحماية الحريات العامة هي الحد الأدنى من متطلبات التحديث، ويتلوها المشاركة السياسية وصولاً إلى الديموقراطية الكاملة. وعلى المستوى الاقتصادي فإن الشرط الأول هو توافر البيئة المناسبة للاستثمار وحماية الملكية الفردية، وعلى المستوى الاجتماعي نجد العقلانية وربط مكانة الفرد بكفاءته الشخصية لا هويته الموروثة. وعلى المستوى الثقافي فإن احترام العلم وتحريره من قيود الإيديولوجيا والتعويل عليه في تقديم الحلول هو الشرط الأول للحداثة، فهذه العناصر تمثل الأجزاء الرئيسية لمشروع النهضة الذي نبتغيه»([16]).
لاشك في أن الحداثة من حيث تطبيقاتها الممكنة على الواقع لا تتعارض بالمطلق مع قواعد الدين الحنيف، بيد أنه يضع -الكاتب- ملاحظاته حيال ذلك في أمور ثلاثة:
أولاً: تجربة الحداثة قد تطورت في مجتمعات غير مسلمة وتلونت بلونها، ولسنا مجبرين على أن نأخذها بهذه الألوان، ما يهمنا في الحقيقة مفاهيمها الأساسية.
ثانياً: الدين الذي بين أيدينا ليس منزهاً عن العيب، فهو الآخر قد احتمل في مسار الزمن الكثير من سمات التخلف التي طبعت حياة حامليه، ولا بد إذن من النظر النقدي في هذه النسخة من الدين لاستبعاد كل ما يميت الهمم، وما يتعارض وضرورات النهوض. وهذا لا ينتقص من شأن الدين الحنيف بل أراه جوهر فكرة التجديد في الدين التي تروى عن سيد المرسلين، فمعنى التجديد فيما أظن هو استنقاذه من قيود الارتهان إلى الواقع الخاص بحامليه.
ثالثاً: في تعاملنا مع تجربة البشرية، سواء تلك التي حملت طابع الإسلام أو غيره، فإننا ننظر إلى الأشياء نظرة إيجابية لكننا لا نتخلى عن دور الناقد، إن علاقتنا مع الثقافات المختلفة والتجارب المختلفة بما فيها تجربتنا الخاصة هي علاقة تفاعل نقدي، ينبغي ألا نستسلم لبريقها كما لا ننتفخ غرورًا وتكبرًا عليها([17]).
ولا غرو أن راهن -الدكتور السيف- لنهضة الأمة الإسلامية على عنصرين مهمين هما: الإنسان والثقافة، فهو بذلك يتقاطع ونظرية النهضة الحضارية لمالك بني نبي فيهما، معللًا استبعاده للعنصرين الآخرين -الزمن والأرض- كونهما مقيدين وليسا مطلقين.
بعد أن وقف -الكاتب- عند ما يتعلق بالإنسان، أولى اهتمامه البالغ بالعامل الآخر للنهضة ألا وهو عنصر الثقافة وقد ألزمها بأن تكون صالحة مستهدفة من خلال اشتراطات ثلاثة:
1- الارتقاء بالإنسان كقيمة، وتخليصه من سطوة السلطة وتحريره من الخرافة والأساطير. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}([18]).
2- النهضة تعني المعاصرة، أي إعادة الاعتبار إلى الواقع الحاضر باعتبار شروطه وإلزاماته معيارًا لسلامة الأفكار والأعمال.
3- النهضة ليست مجرد تطور في المنظورات الفكرية، فجوهرها الاستثمار الأمثل للموارد المادية وغير المادية المتوافرة أو القابلة للتوافر من أجل رفع مستوى التقنية وبالتالي تأمين الحاجات الحيوية للإنسان.
ﷺ الفصل الثالث: (البداية: نقد الذات)
«الذي يستحق الفخر هو شيء تصنعه بجهدك»([19]) بهذه المفردات بدأ الكاتب الفصل الثالث، والذي خصه بعنوان «نقد الذات»، وكأنه يريد القول بأن رحلة الوصول إلى النهضة تكون بدايتها بنقد الذات، وأن لا فخر لنا به بما صنعه الأولون من الأجداد؛ إنما كل الفخر يكمن فيما صنعناه بأيدينا، وهذا يستدعي الوقوف الجاد عند الفوارق ما بين حياتنا الراهنة وحياة غيرنا الذين تقدموا علينا في شتى مجالات الحياة، وذلك من أجل عقد مقارنة موضوعية إزاء الأسباب التي قادتهم للأمام، وأقعدتنا.
ويهمس الدكتور السيف في أذن صاحبه ليقول: «إن الخطوة الأولى لعلاج واقعنا البائس هي اكتشاف ما تحت بنيانه من مفاهيم وقيم ومتبنيات، والنظر فيها دون قرار مسبق بكونها معصومة أو محرمة على التناول النقدي»([20]). أي النظرة النقدية المجردة من التراكم الثقافي المسبق. وأظنه ومن خلال هذه النظرة الواقعية للأمور في تتبع الأثر فيما وراء الأكمة وبكل تجرد ويصطف مع الأسلوب النقدي العلمي الذي يتسم بالإقدام والجسارة.
وبفضل القناعة بنقد الذات والوصول إلى مدى الحاجة للانفتاح والتعاطي مع الآخر المتقدم استطعنا أن نقيس حركتنا بمقدار تلكم القناعة وبحجم التحرك تجاه ذلك، فقد تقودنا الحاجة للآخر بأن نقف على واقعنا بقوة خاصة فيما يتعلق بتصوراتنا ورؤانا في كافة شؤون الحياة العلمية والعملية، اليوم أصبحنا قادرين على فهم أمور في شريعتنا لم يستوعبها الذين سبقونا من أهل الشريعة، ومثال ذلك الأبحاث التي صدرت عن (هيئة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) بأن الكثير مما نطق به العلم الحديث في مجال الطبيعة والتشريح خاصة لها ما يطابقها مع آي القرآن الكريم، لكننا في الوقت نفسه علينا الإقرار والاعتراف بأننا -كأمة- نفتقر لأبجديات مناهج البحث والنقد العلميين، فهو الشغل الشاغل لاهتمامات الباحث، ولعل تجربة البحث والنقد للتراث ما بين الباحثين العرب خير شاهد على هذه الحاجة. وهنا يأتي السعي حثيثًا تجاه الآخر المتقدم، من الاستعانة بالأدوات العلمية للبحث بغض النظر عن مصدرها لا سيما ووثوق اتصالها بالعلوم كالطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء وغير ذلك من سائر العلوم والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا والمهارات والتدريبات. ولا شك في أن انتكاس المسلمين علميًّا وعمليًّا قياسًا بالأمم المتقدمة يساهم بشكل أو بآخر في توهين الدين الحنيف وإضعافه إلى حد كبير، وبالتالي تكون الأمة محل أطماع الأقوياء كما هو الحال عليه اليوم. في المقابل لا يستطيع أحدٌ التنكر للأمم الغربية على ما تبذله من جهود ناجزة في مختلف المجالات العلمية والعملية ناهيك عن مساعيها الجادة في حماية الحياة البشرية والمحافظة على البيئة الكونية، وإقرارنا بهذا الأمر لا يعني الانزياح والاستسلام بقدر ما هو التسليم الإنساني المستدرك والمستثمر لوجوده في ظل منظومة إنسانية كبيرة.
وكعادة صاحبه يأتي ليثير السؤال الجوهري: هل علينا إذا ما أردنا أن نتقدم أن نبادر في الانفتاح مع الآخر؛ في حين يظل هذا الآخر محل ارتياب بالنسبة للكثيرين سواء كانوا من النخبة أم من عامة الناس، كيف لا يحصل الارتياب من الغرب وهم لا يخفون أطماعهم وتوسعهم على حساب الشعوب المحرومة، بل أذهب إلى القول: إن الأمر لا يقف عند مسألة الارتياب فحسب بل يصل إلى العداء والعدوانية، والأكثر من ذلك اتخاذ العنف سبيلًا للتعبير عمّا تعانيه الشعوب العربية والإسلامية؟
ليخلص الكاتب إلى القول: «إن ارتياب المسلمين في العلاقة مع الغرب، وترددهم في التفاعل مع حضارته، لا يعبر في حقيقة الأمر عن ميل طبيعي إلى العزلة، ولا يرجع بالضرورة إلى استكبار الغير، بل يرجع إلى قلق متجذر في أعماق المسلم المعاصر من أن يكون هذا التفاعل جسرًا إلى التسليم الطوعي لسياسات الغرب وإراداته، ومن بينها -كما يعتقد معظم المسلمين- إلغاء الإسلام أو تهميشه، والاستيلاء على ثروات المسلمين أو استعبادهم، وهي إرادات لم يسلّم بها المسلمون يوم كان الغرب قادرًا على قهرهم والاستيلاء على بلادهم، فهل يسلّمون وقد تغيرت الأحوال، فأصبح غرب اليوم غير غرب الأمس، ومسلمو اليوم غير مسلمي الأمس؟»([21]).
بهذا الكلام يحدد الكاتب رؤيته إزاء مستوى الانفتاح واضعًا نصب عينيه التجربة القديمة لحملات الانفتاح والتي لا نستطيع أن نقدر نجاحها من فشلها إلا بمعايير النسبة خاصة ومثل هذه التجارب مسجلة عن حالات فردية وليست جماعية (=محل إجماع)، على هذا الأثر يضع اشتراط انفتاح اليوم مغايرًا لما سلف، بل يكون قائمًا على الاختيار ومع وجود حد أدنى من التوازن، والمعرفة المسبقة بما نريد وما لا نريد، بكلام آخر: أن ندخل الحوار ولدينا من القوة -المادية والمعنوية- إن لم نكن في مرحلة معينة من إحداث التوازن فعلى الأقل يكون بأيدينا منها ما يشكل عوامل ضغط على هذا الآخر، فضلًا عن أجندة الحاجة والمتطلبات وإلى أي مستوى يكون تعاملنا. ولنا في تجارب الشعوب والأمم الأخرى أسوة حسنة فيما يتعلق بهذا المجال، فاليابانيون أحكموا أمرهم عبر إصلاح نظامهم الاجتماعي بدءًا بتبني الديموقراطية كنظام وانتهاءً بالانفتاح على العالم والنهل من علومه وتطوراته.
لقد حان الوقت للنظر من جديد في أسباب ضعفنا الذي هو بحد ذاته محل إغراء للعدو، والدكتور السيف عزا ضعفنا إلى تخلف ثقافتنا، مما أدى لإحداث اختلال النظام الاجتماعي، فغابت المضامين العميقة للدين، وغُيبت حرية الفكر والرأي والتعبير، وتفرق الناس عن العلم والمعرفة والأخذ بأسباب الحياة الكريمة، وكأنه -أي الكاتب- يوحي إلى أن قوة الأمم الأخرى جاءت من ضعفنا وعجز ثقافتنا عن الحركة ليصبح مصيرها متعلق بمصير حراك هذا الإنسان المسلم إن تقدم فتقدم وإن تخلف فتخلف. وإن كان الكاتب ألمح إلى مبالغة المسلمين حين راهنوا على هذه الثقافة الماضوية فضلًا عن تذرعهم بتبيئة هذه الثقافة وإكسابها طابع الخصوصية (القومية مثلاً) ستحول بينهم وبين المتربصين بهم، بكلام أكثر دقة كانت خشيتهم على الهوية -دينية أو قومية أو عرقية..- فيما لو انخرطوا مع الحداثة والتي ما يزال بعض الباحثين والمفكرين العرب ينظر إليها كمخلوق غربي ولا تعدو أن تكون ترجمة لـ«مؤامرة أخرى» تندرج مع الهاجس الكبير الذي تعيشه الذات العربية بحيث كل ما يأتي من بطانة غربية فهو مؤامرة!. ولربما هذا الإصرار أدى بنا لحجر معقد دائم أمام القطار العاجز عن الحركة!. وتضيق دائرة التحرك بالنسبة لنا يومًا بعد آخر طالما ارتهنا فكرنا وتراثنا ومعنانا للوهم والعجز وعدم الثقة متناسين حراك الزمن الذي وقف يومًا ما لصالحنا كأمة لأننا أردنا ذلك وهو اليوم يقف لصالح سائر الأمم الغربية منها بالذات لأنهم أرادوا ذلك.. فهذا أشبه ما يكون بصراع الإرادات في زمن لا يعرف التوقف البتة، والأيام دول.
والكاتب وإن أبدى امتعاضه تجاه بعض الأمور العالقة من التراث والمرتهن منها ببعض العقول المؤدلجة نراه في جانب آخر يتقصى رد الشيخ أحمد النراقي (ت1245هـ/1828م) على الشيخ يوسف البحراني (ت1168هـ/1772م) فيما يتعلق بأن الدين يعني التصرف في كافة شؤون الحياة، أي الشمولية في كل شيء ولو كان في الأمور العقلية كالطب والهندسة والعلوم الأخرى وبأن كل ذلك محل اشتغال للفقيه، وأنها داخلة في التكليف والإلزام وتدخل ضمن دائرة الثواب والعقاب أو الواجب والمحرم. وفي هذا الصدد يقول النراقي: بأن المقصود هو ما يقتضي شأنه ووظيفته وبيانه لا كل شيء على نحو الإطلاق، فالبديهي أن كثيرًا من الأمور ليست مبينة في الكتاب، سواء الكتاب في معنى القرآن أو في معنى الشريعة، وذلك لأنها ليست مما هو مطلوب من الكتاب بيانها، كما أن عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص، فعدم بيان ما ليس مطلوبًا ليس مظنة نقص، بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفًا والتكلف مما يعاب على الكامل([22]). فهو -أي الكاتب- لا يخفي تدثره بالأفكار التي يجد فيها القيمة الحقيقة لانطلاق الفكر والتحرر من رواسب الماضي والتي استطاعت بعض العقول تلبيسها بالقداسة بل والأكثر من ذلك الاستماتة من أجل حمايتها إذ لا فرق بينها والمقدس إن لم تكن مقدسة بالنسبة لها، كل هذا يعزز من المعاني التي تدفع باتجاه الانفتاح على الآخر المتقدم، انفتاح المتعلم لا المستهلك، وهذا ما يتطلبه حال أمتنا الإسلامية في الوقت الراهن، أي عودة العلم الذي تكونت نواته خارج حدودنا ليكون ملازمًا للهوية -دينية أو عرقية- محاولين بذلك إطلاق شرارة الاتصال بينهما بحيث لا تغيب عن أهدافنا فكرة النهضة والتمدن ومدى حاجتنا لها، وهو -أي الكاتب- يراهن بذلك على عودة التلاحم بين هويتنا الدينية والثقافية وكافة علوم الحياة الحديثة.
ﷺ الفصل الرابع: (سؤال الحداثة)
في البدء لا بد من ذكر بعض القضايا التي تتعلق بثنائية الدين والحداثة وماهوية التجاذب بينهما، ومدى انعكاس هذه التجاذب على تطوير الحياة، فضلاً عن تهيئة المناخ الملائم لينعم الإنسان بالعيش الكريم، وهذا ما ترافع عليه الكاتب مع صاحبه في حوار دراماتيكي، وكما أسلفنا هو عبارة عن حوار الذات مع الذات بصورة مصغرة لواقع يأخذها كصورة أكبر وأوسع ولربما أشمل مما أحاط به مونولوج الدكتور السيف مع صاحبه ( = ذاته )، وقد حاول لأكثر من مرة وفي أكثر من موقع تمرير العديد من الأفكار والتي وإن كانت لا تنتظم مع الفكرة الأم (رحلة بحث الإنسان المسلم عن الحداثة) إلا أنها لم تخرج عن دوائرها، لذا لا غرابة من تكرار ما أراده الكاتب في أكثر من موقع، ومع كل ذلك ما زلت أكرر خلفه -كقارئ- بأن ثمة إرباكًا أو ترددًا إزاء البوح بكل ما يجيش في داخله، ولكوننا نذرنا أنفسنا أن نترافع مع النص لا مع قائله، جاء التتبع وفق مسار ما أراده الكاتب لا ما نريد نحن تعزيزًا لمبدأ الموضوعية التي تعتبر من ضوابط قراءتنا لهذا الكتاب.
ولا بأس من أن نجتر الحديث حول العلاقة ما بين الإسلام والحداثة مرة تلو الأخرى تمهيدًا للدخول في (سؤال الحداثة) وهو العنوان الذي تصدر الفصل الرابع والأخير من الكتاب، من هذه المحايثة نحاول جهدنا استلال العديد من الأفكار التي تطرق إليها الكاتب من بين طيات الحديث، وقد أجبرتنا الضرورة للمرور عليها مرور عابر سبيل في لحظة من اللحظات، ولكيلا أطيل أحاول الدخول بشكل سريع إلى ما وددت ذكره في هذا المجال وهو عبارة عن مسلمات إن لم ينفعنا ذكرها فبالتأكيد لن يضرنا، ولعلّ من أبرزها وأكثرها أهمية، ما دفعنا إليه الكاتب من أن التدين اليوم (=الثقافة الدينية) لم يستطع مساعدتنا للوصول إلى النهضة والحداثة لأمرين مهمين؛ لأنه -أي التدين- لا يعبر بالضرورة القصوى عن الدين الذي يعني الفاعلية والتفاعل، بمعنى أن الثقافة الإسلامية لا زالت تعيش على تأويلات القرون الهجرية الأولى، والأمر الآخر أن للحداثة اشتراطات علينا تتبع أثرها في حدود القدرة والاستطاعة بحيث نضمن عمقنا ونكفل في الوقت نفسه انزياحنا تجاه التطور والتقدم وفق متطلبات الممكن، لا سيما وأن ظاهرة الحداثة ترتبط بثلاثة مجالات -حسب ماكس فويبر- الاقتصاد والإدارة السياسية والثقافة والفكر، فهي ليست ضرورة فسحب بل هي حاجة دينية ماسة. من هنا كرر صاحبه السؤال (سؤال الحداثة) عدة مرات، وأجابه الكاتب مرات عدة بأن الوصول للحداثة يقتضى «نقد الذات، والانفتاح المعقلن على الآخر» ليتولد تساؤل آخر في هذا المجال: ماذا عن الأرضية الإيديولوجية للحداثة؟! هل ثمة فرصة للفصل بينهما وبين أرضيتها تلك إذا كان قومنا غير راغبين فيها!؟
وللإجابة عن مثل هذه التساؤلات يضع الكاتب احتمالات عدة: مبدأ الرفض، ومبدأ القبول، لأسباب سبق وأن تطرقنا إليها آنفًا، إلا أنه يقصر الأمر على ما ورد على لسان صاحبه وهو يحاوره بأن ثمة فرقًا بالنسبة للحداثة ما بين الإيديولوجي والوظيفي، مع كل ذلك لا يجد مناصًا إلا ركوب موجة الحداثة إذا ما أدركنا مدى الحاجة إليها وفق تكييفانية إسلامية، مع هذا يظل هاجس القلق مسيطرًا لدى الإسلاميين من مغبة تفريغ الدين من سيادته لما للبنية العلمانية التي نشأ وترعرع عليها التكوين الغربي.
ثم ما لبث صاحبه يستوقفه عند سؤال جدُّ مهم حيث قال: أين يقع الانفتاح والحداثة من سؤال التجديد!؟.. لينقل القارئ إلى فضاء آخر من الحوار متعلق بمدى حاجة الدين إلى التجديد بعد أن أفرد له عنوانًا فرعيًّا (الاجتهاد وتجديد الدين) وما عادت مسألة التجديد في الدين محل خلاف أبدًا، بقدر ما هي محل إجماع عند المسلمين قدمائهم ومعاصريهم، مدعمًا الأمر بما روي من حديث نبوي سبق أن تطرق إليه في مفصل سابق: إن الله عز وجل يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد أمر دينهم.
ثم تطرق إلى مرادفات مصطلح التجديد ومتعدداته والتي وردت على ألسنة العديد من مفكري الأمة وعلمائها، فالمفكر محمد إقبال تساوق مع تجديد الحياة الدينية، وآخر قال تجديد الإيمان كما يراه الباحث محمد ياسين، أما الإمام الغزالي فقد عمد إلى مفردة أخرى وردت في عنوان لأحد كتبه (إحياء علوم الدين)، وقد يكون لاستخدام مصطلح العودة إلى الدين فيه الكثير من الإيحاء تجاه التجديد في الدين، فما عاد محل جدل هذا النزوع للتجديد مع اختلاف المعنى، والكاتب حصر هذا الإجماع في سببين اثنين: قدرة الإسلام على صد التحديات على مر العصور، وقدرة المسلمين على تطبيق هذا التجديد على أرض الواقع.
أيضًا مثل هذا التعدد في المصطلح يؤدي إلى كثافة من الأسئلة التي تستدعي إجابات تتعاطى مع البيئة والواقع المعاصر، ومهما تغايرت الأسباب والوسائل وطرائق التعبير سيظل العنوان هو سؤال التجديد الذي يفرض كثافة من الحاجات والتطلعات وفق اللحظة ومقتضى الحال، وليست الدعوة انحباساً في الماضي وما يحمله هذا الماضي من ثقافة دينية قد تكون مؤاتية في ذلك الزمن على غيره من سائر الأزمان خاصة زمن الواقع المعاصر.
«نحن اليوم نضع في رأس أولوياتنا إمكانية تطوير نموذج سياسي يقوم على أرضية الشريعة الإسلامية ويضمن حقوق الإنسان وحرياته أي نموذج لمجتمع سياسي ديموقراطي يقوم على أساس القيم الدينية، مثل هذا المطلب لم يكن محل اهتمام في القرن الماضي أو ما قبله، نحن نتحدث اليوم عن الحداثة بكل معانيها وانعكاساتها وتطبيقاتها، ونتساءل عن إمكانية تصميم نموذج لحداثة إسلامية، وهذا الآخر لم يكن من بين إيحاءات سؤال التجديد في العصور السالفة»([23]).
بهذا يعمق الكاتب رؤيته من التجديد المستوجب لتحديث العقل ومنتجاته، وتحديث العقل يعني بالضرورة تحديث الفهم الإسلامي للنص أي الثقافة الدينية، ففي الوقت الذي يلجأ الكاتب لتأصيل الفصل ما بين الدين وفهمه، يحاول جاهدًا أن يؤانس بين القدرة البشرية على البحث والتقصي سواء فيما يتعلق بالنص أو ما يفحص الواقع وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا من إعمال العقل وفق نظم ومتغيرات الحياة من حاجات ومتطلبات.
وما لا أستوعبه من الكاتب عدم إشارته لتحقيق كل هذه المساعي والمتطلبات سواء فيما يتعلق بالتجديد أو حجم التعاطي مع الحداثة، بمعنى ألا يقتضي كل هذا جهدًا يتوازى وحجم المتطلب؟ وما القيمة المستفادة من تكرار مثل هذه النظريات الرامية للتجديد أو الساعية باتجاه الحداثة دونما جدة في الحراك، فالأفكار تنتجها العقول وهي سكونية في ذاتها وتستدعي إرادة بشرية لتبث فيها الروح والحركة، فإن الأفكار لا تنتقل من فضاء النظرية إلى الواقع إلا بجهد يكافئها، لا يقتصر على مجهود الفرد فحسب بل يكون للجماعة الدور الأبرز في ذلك.
ينتقل الكاتب إلى تعريف الحداثة من وجهة نظره «فهي أصدق ما يكون بعنوان لنمط حياة كامل توصل إليه الغرب، وهي أيضًا تعبير عن مرحلة زمنية تتمايز عما كانوا عليه في سابقتها، أي المرحلة التقليدية، والحداثة ليست مجرد تقدم تقني بل هي أيضًا نظام قيمي، ونحن بحاجة إلى الأمرين معًا، أي التقنية والقيم»([24]). وكأنه -أي الكاتب- يدفعنا إلى الحداثة بشقيها «الإيديولوجي والوظيفي» إذ لم يغفل البعد المشرف من إيديولوجيا الحداثة فهو نتاج لتجربة إنسانية عميقة تجلت في عناوين كبيرة كالقيم الناظمة لحقوق الإنسان أو حماية البيئة أو فيما يتعلق بنمطية العلاقات الإنسانية والدولية، لكنه في الوقت نفسه يحدد كيفية هذه العلاقة عند إشارته بأن تكون العلاقة مع حداثة الغرب على طريقة (العلاقة الناقدة) بل والتعمق في النقد والبحث المتواصلين تزامنًا مع مواصلة رشيدة معها، شريطة ألَّا يضيف هذا النقد عبئًا جديدًا فوق أعبائنا وإلا الحداثة لا تمنحنا الفرصة من أجل أن نلتقط أنفاسنا. إذن يرمي الكاتب إلى علاقة وثيقة الصلة حسب الرؤية النقدية لا على طريقة التقليد الأعمى.
في نهاية المطاف فيما يتعلق بفكرة التجديد يختم الكاتب كلامه برؤية موجزة إذ يقول: «إن تجديد الإسلام من مجرد إعلان عن هوية مختلفة إلى فاعل في تطوير حياة البشرية كلها، وهذا لا يتحقق إلا إذا تحولت حياة المسلمين من حال التخلف الذي هي عليه اليوم إلى حال المدنية الذي نأمله في المستقبل»([25]).
ومن جهة أخرى يحدِّد الكاتب الفرق ما بين تعدد القراءات وتعدد الاجتهادات، فهذا الأخير يعد من المسلمات التي لا يختلف عليها أحد ولو كان في المسألة الفقهية الواحدة، أما في تعدد القراءات فالجدل فيها أعمق وأبعد أثرًا؛ لما لها من ارتباط فلسفي رافق دعوات الإصلاح الديني التي ظهرت في الغرب وتأثر بها بعض المفكرين الإسلاميين الذين أنكروا دعوى الروحانيين في اختصاصهم بالاجتهاد في الدين، وكلنا يعلم مدى الأثر لفكرة التأويل الفلسفي للنص الديني انطلاقاً من كارل بارث (1886-1968م) ثم تطورت على يد مارتين هايدغر (1889-1976م) وغادامر (1900-2002م)، أو تلك التي اهتمت بإصلاح المفهوم الديني للحياة المادية والسلوك اليومي مثل دعوة المصلح الديني البروتستانتي جون كالفين (1509-1564م)([26]) ويستطرد الكاتب هنا ليقول: «بأن معظم حاملي مثل هذه الدعوة من المفكرين الإسلاميين كان تركيزهم على جانبين: إنكار حصر الاجتهاد والمعرفة الدينية في رجال الدين، والمطالبة بتغيير المنهج المتبع في مدارس العلم الديني التقليدية باعتباره عاجزًا عن استيعاب التحديات المتوجهة إلى الدين بسبب التغييرات العميقة التي طرأت على الحياة والأفكار في إطار المدنية المعاصرة»([27]).
وفي موقع آخر أشار الكاتب إلى المناقشات التي تمت بين المفكرين في إيران في أواخر الثمانينات وحتى اليوم، التي تدفع باتجاه عدم صلاحية الفقه التقليدي الذي ورثناه عن الأسلاف لزمن المسلمين الحاضر كما يرونه عقبة تعيق التفاعل المطلوب بين الدين والحداثة، فهم بذلك لا ينكرون صلاحية الأساليب والمناهج المتبعة في البحث الفقهي فحسب، بل يذهبون إلى عدم صلاحية المعايير القيمية للأسس الفلسفية التي يقوم عليها ذلك البحث، ويدعون إلى قراءة جديدة للدين تقوم على قيم ومعايير مختلفة تلبي في رأيهم متطلبات العصر الراهن وحاجات أهله([28]). بعدها وضع الكاتب السمات الرئيسة للقراءة الجديدة للدين حسب رؤية هؤلاء المفكرين الإيرانيين، إلا أن من اللافت في الأمر -وقبل أن نسرد السمات- بأن الكاتب على الرغم من رصده للنقاط إلا أنه لم يتبنَ رأيًا واضحًا حيال ذلك وظل يراوح هو وصاحبه في نقاش الينبغيات الكثيرة:
أولاً: الإنسان محور التشريع.
ثانيًا: كمال الدين معناه كمال الهداية. «وهنا أشار الكاتب إلى نقطة جديرة بالذكر وهي أن سائر العلوم الحديثة (عدا علوم الدين وأحكامه) ليست محل اشتغال النص الديني ولا الاجتهاد، وبناء عليه فإن العلم مستقل عن الدين!.. إذ لا يصح للفقيه المختص بشؤون الدين فرض نفسه أو مقولاته على البحوث المتعلقة بالعلوم الأخرى». وهي فكرة ساقها الكاتب أيضًا في موضع آخر بين طيات الكلام قائلاً: بأن ثمة فصلاً ما بين العلم والدين.
ثالثًا: السياسة هي التدبير والإدارة فيما يخص المجال العام وتعتبر عملاً عقلائيًّا يستفيد من تجارب البشر ونتاج عقولهم وليست من الأمور العبادية أو التأسيسية أو الثابتة التي لا تتغير أحكامها بين زمان وآخر وبين ظرف وآخر، أي السياسة لا ثبات فيها أبدًا. إذن لم يحدد الإسلام نموذجًا خاصًّا للإدارة السياسية ملزمًا لكل المسلمين في ظروفهم المختلفة. وهذه فكرة عززها الكاتب بتصور آخر عندما أكد على أن الإسلام لم يتبنَ رؤية واضحة تجاه الإدارة السياسية للحكم الإسلامي، وكأنه يريد أن يقول حين سرده للنقاط هذه: ثمة تلازم بين ما يطرحه وما هو متبنى من قبل هؤلاء المفكرين.
رابعًا: الحكم الشرعي ينقسم إلى نوعين: (ثابت / متغير).. المتغير يعاد صياغته اعتمادًا على العقل الجمعي وفق المصالح الاجتماعية في كل ظرف من الظروف.
خامسًا: الظرف الزمني والموضوعي يؤثر بصورة حاسمة في صناعة الرأي والاجتهاد([29]).
واختتم حديثه بمقارنة بين القراءة الجديدة وما هو معمول به في أنظمة الحوزة المنهجية دون أن يقف مع جانب دون الآخر، لكنه وبالتأكيد كان قد مرر بين طيات سطور الكتاب العديد من الأفكار التي إن لم تتسق معها في صورتها العامة فهي ولا شك متطابقة في صورتها الخاصة.