شعار الموقع

حوار مع العلاّمة الدكتور عبد الهادي الفضلي

حسين منصور الشيخ 2007-06-05
عدد القراءات « 878 »

 

حول تحديث نظام الدِّراسة الدِّينيَّة*

أعدَّ وأجرى الحوار: حسين منصور الشيخ**

حينما يُذكر العلاّمة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي -حفظه الله- لابدَّ أن يذكر التجديد في المناهج -الحوزوية منها خاصّة-، وحينما يذكر التجديد في المناهج لازم ذلك أن يُذكر العلاّمة الفضلي. هذا التلازم ولّدته فاعلية حضور الشيخ الدكتور في مسألة التجديد الحوزوي منهجًا وأسلوبًا؛ وذلك من خلال ممارسته لعملية التجديد المنهجي في جانبيه النظري والتطبيقي.

فالشيخ الفضلي من أبرز الداعين الأوائل إلى تطوير النظام الدراسي الحوزوي أو نظام الدراسة الدينية بشكل عام، يضاف إلى ذلك أنه من أوائل من خاضوا هذه التجربة في النجف الأشرف، وذلك من خلال:

- دراسته -وبعد ذلك تدريسه- في كلية الفقه في النجف الأشرف، الكلية التي كانت تجربة رائدة في تحديث الدراسة الحوزوية وتحويلها إلى دراسة نظامية أكاديمية.

- تأليفه المقرّرات الدراسية الحوزوية، التي اعتمدت في كثير من المعاهد الدينية وحلقات الدراسة الحوزوية بديلاً للكتب القديمة.

وكان الشيخ الفضلي رائدًا في تأليفه للمقرّرات الدراسية، من حيث تعدّد العلوم التي تناولتها مؤلَّفاته، وكذلك من حيث الأسلوب المنهجي الذي تميّز به، وفاق به من جايله في هذا الدرب.

ومن باب هذه الريادة ولما يتمتّع به سماحة العلاّمة من بعد وشمولية في الرؤية للماضي والحاضر الإسلامي وحضور هذه الرؤية في مؤلَّفاته الدراسية، التي كانت المنطلق الذي ينطلق منه سماحته في وضع وتقسيم هذه المقرَّرات، رأينا أن يكون لنا معه هذا الحوار، الذي قسّمناه إلى قسمين: نظري، نحاوره فيه عن التجديد في المناهج ورؤيته في هذه المسألة. وآخر تطبيقي، نحاول فيه أن نسلّط الضوء على تجربتين علميتين للشيخ الفضلي في تأليف المقرّرات الدراسية، تمثلان التجربتين الأوليين للشيخ، وهما: كتاب «التربية الدينية» و«خلاصة المنطق».

وذلك ليدرك القارئ مدى البعد التجديدي الذي يضيفه العلاّمة الدكتور الفضلي في تأليفه للمقرّر الدراسي من خلال هذين النموذجين.

وهذا هو نص الحوار:

* القسم الأول «النظري»

التساؤلات المنهجية الأولى

دمجتم بين الدراسة الحوزوية في صغركم والدراسة النظامية، هل كان لديكم بعض الملاحظات على المقرّرات الحوزوية في ذلك الوقت؟ وهل يمكن أن تذكروا لنا بعض هذه الملاحظات؟

في الدراسة الحوزوية أول ما نبدأ بدراسة المقدّمة الآجرومية في النحو، وفي دراسة المقدمة نبدأ بإعراب البسملة، فنتعلّم -ولمّا نتعرّف على مفردات علم النحو بَعْدُ باعتبار هذه المقدّمة أول ما يدرس في النحو- أن الباء حرف جرّ، و«اسم»: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، الرحمن: صفة أولى، الرحيم: صفة ثانية وهكذا... وربما كانت هذه أول مفارقة يصطدم بها طالب الحوزة.

هذا بالنسبة للنحو، وعندما ندرس المنطق، حيث كنّا ندرس كتاب حاشية ملاّ عبد الله، كانت كثيرًا ما تمرُّ علينا عبارات مثل: «إشكال حول التعبير» و«إشكال أمكنت» و«إشكال امتنعت» -حسب تعبير المناطقة، ونحن لما نعرف بعد ما المقصود بِـ«أمكنت» و«امتنعت»، ومن يدرس هذا المقرّر وهو لا يزال مبتدئًا لا يعرف بهذه الإشكالات ولا كيفية دفعها.

وشيئًا فشيئًا لاحظنا أن المقرّرات الحوزوية -وخصوصًا ما هو للمبتدئ منها- لا تتمشّى مع مدارك الطالب التي تحتاج إلى تدرّج في إعطاء المعلومة ومواد العلم.

هل كان لهذه الملاحظات دور في أن تقرّروا -مبكرًا- التفكير في إيجاد البديل؟

قبل محاولاتي في إيجاد مقرّرات بديلة كان هناك مَنْ بَدَأَ بمحاولات جادّة في طرح البديل، فالحركة العلمية التجديدية في النجف كانت واعية لمسألة ضرورة تغيير المناهج، وكان هناك من يعمل بهذا الاتجاه، فالشيخ المظفّر وضع مقرّرًا لعلم المنطق وآخر في أصول الفقه، وآخرون كذلك كانت لهم بعض المحاولات.

التجديد موهبة ذاتية بالدرجة الأولى

هل يمكن القول بأن دراستكم النظامية ومن ثَم التحاقكم بالتدريس النظامي في الثانويات وكلية الفقه كان له دور في المفاضلة بين القديم والجديد؟

مسألة التجديد جزء مهم منها يتعلّق بشخصية الإنسان نفسه وما يمتلكه من موهبة، فهناك الكثيرون ممن دمجوا بين الدراستين الحوزوية والنظامية ولم يفكّروا في مسألة التغيير.

وأودّ أن أشير إلى أني من البدايات كنت أتأمل الآية القرآنية: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟!﴾([1]) التي يمكن اعتبارها قانونًا وسنّةً إلهية، حيث تفيد هذه الآية أن هناك خطًّا وهدفًا يمشي نحوه الإنسان، ولا يوجد ما هو عبثي في هذه الحياة، بل هناك ما يتوخّاه الإنسان من حياته التي يعيشها، وهذه الغاية -بالاستفادة من النصوص الأخرى- تكون لمصلحة الإنسان، وهذا أمر جعلني أضع أمامي هذا السؤال في كل كتاب أدرسه وكل موضوع وباب فيه، بحيث أضع نصب عيني الفائدة من دراسته وموقع هذه الفائدة داخل العلم وفي كل باب منه.

وتجد هذه النقطة واضحة جدًّا في كتاب خلاصة المنطق، حيث كنتُ أكتب في نهاية كل موضوع الفائدة من البحث. وهذه النقطة كانت مفقودة في المقرّرات القديمة، وللأسف إن هذا الأمر لا زال قائمًا في كثير من المقرّرات الدراسية التي تظهر مؤخَّرًا، فطالب الحوزة يبدأ دراسته الحوزوية بغرض الدراسة، ولا تجد لديه هدفًا وراء ذلك، غير أن بعضهم يتّخذها كأنها أمر وراثي، إذ يكون ابنًا لأحد طلاّب العلم، فيتبع والده ويرث عنه مسجده ودوره الاجتماعي من تزويج وتطليق ووعظ وإرشاد تقليديين. من غير أن يدرك هؤلاء أن الهدف من الدراسة الحوزوية هو التبليغ، الأمر الذي يقتضي أن يعي كل طالب أهمية هذه النقطة والآليات الصحيحة لتحقيق هذا الهدف.

العوامل البيئية المساعدة في مسألة التجديد

يفهم من هذا أن العوامل التي ساعدت في اتجاهكم لتأليف المقرّرات ترجع في جانب كبير منها لشخصيتكم وكذلك لتوجهكم للتدريس في كلية الفقه، هل نستطيع أن نقول بأن تلمذتكم للشيخ المظفّر كان لها دور أيضًا؟

ربما يكون العامل المساعد في أن أتوجّه أنا وغيري للاهتمام بمسألة التجديد في الحوزة هو الجوّ العام في النجف في ذلك الوقت، حيث كان هناك عوامل كثيرة تحفّز بهذا الاتجاه، فهناك من يعملون ويحاولون تطوير الدراسة أو الوضع الدراسي الديني في النجف حتّى يصبح أكثر فائدة، فكان من هؤلاء: الشيخ عبد الحسين الرشتي (رحمه الله). والشيخ عبد الحسين الحلي كذلك. ومنهم أيضًا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، الذي أنشأ مدرسة نظامية لتدريس المقرّرات الحوزوية، ولكن لم يكتب لها النجاح. وكان منهم كذلك السيد محسن الحكيم.

وكان على خطاهم الشيخ محمد رضا المظفّر، الذي خطا خطوات جادّة في هذا الاتجاه، فأنشأ جمعية منتدى النشر، وفتح مدارس تابعة لها، وأنشأ كلية الفقه.

في هذا الجوّ الذي عاصرتُ فيه أكثر من تجربة للتجديد نشأتُ، كما أني التحقتُ مع بعض زملائي في الحوزة بكلية الفقه التي أنشأها الشيخ المظفّر، حيث درستُ فيها الموادّ الإضافية التي لم نكن ندرسها في الحوزة، فكنتُ مع بقية زملائي أول دفعة نتخرّج في هذه الكلية، ثم مارستُ التدريس فيها ورئاسة قسم اللغة العربية، وفي هذه الظروف أمكنني أن أفاضل بين نمط الدراسة النظامية الجامعية والدراسة الحرّة الحوزوية حيث يجد الإنسان بعض ما هو إيجابي وما هو سلبي في كل من هذين النمطين من الدراسة.

ما أول ما ألّفه الشيخ من مؤلفات دراسية؟

التربية الدينية.

وأين اعتمد كمقرّر دراسي؟

في متوسطات جمعية منتدى النشر.

ومتى كان ذلك؟

في الستينات الميلادية، حيث أذكر أني ألفته بعد سقوط الملكية في العراق، أي بعد انقلاب عام 1958م.

كلية الفقه البيئة الأولى للتجديد الحوزوي

لم يكن الشيخ الفضلي المنتمي الوحيد لكلية الفقه، هل كان للمنتمين لهذه الكلية دور مشابه لدوره في إيجاد المناهج الجديدة؟

لم يكن هناك من أساتذة الكلية وطلابها مَن اتجه نحو تأليف المقرّرات والمناهج الدراسية باستثناء السيد محمد تقي الحكيم والشيخ المظفر، ثم حاولتُ أن أتبع خطاهما في ذلك، ولا أذكر من مجايليَّ من طلاب الكلية وأساتذتها -بعد ذلك- من خطا في هذا الاتجاه.

ولكن هناك من استفاد من جوّ التطوير السائد في النجف الأشرف في تلك الفترة ومن التحاقه بكلية الفقه، ولكن ليس في جانب التأليف، وهو الشيخ الوائلي (رحمه الله) حيث طوّر منبره، واستفاد من الدراسة الحوزوية والجامعية بحيث شكّل منبرُهُ مدرسة خطابية متميّزة، وهذا واضح عندما تستمع إلى مجالسه ومحاضراته، فترى الجانب الجامعي حاضرًا فيها بقوّة كما تجد الجانب الحوزوي حاضرًا أيضًا.

هل هناك أساتذة في كلية الفقه بحيث يكونون هم الذين أبدعوا في مسألة تطوير المناهج ثمّ جاء مَن يكمل بعدهم المسير؟

السيد محمد تقي الحكيم كان أستاذًا في الحوزة قبل أن يكون أستاذًا في الكلية، ولكن عندما أنشأ الشيخ المظفّر كلية الفقه قام (الشيخ المظفّر) بخطوات عملية بإيجاد المناهج البديلة فألّف المنطق وأصول الفقه، ومشى على خطاه وأكمل مشروعه في تأليف كتاب أصول الفقه السيدُ محمد تقي الحكيم فألف الأصول العامّة في الفقه المقارن، ليكمل الحلقة التي بدأها الشيخ المظفّر.

وهل تضعون نفسكم في هذه الحلقة؟

إلى حدٍّ مّا حاولتُ أن أنتمي إليها ولكني حاولتُ أن أبدأ مع الطالب من البداية، فألفت خلاصة المنطق ليكون مقدّمة لكتاب المنطق للشيخ المظفّر، ومبادئ أصول الفقه كمقدّمة لأصول فقه المظفّر أيضًا.

مؤلّفات العلاّمة الفضلي ومحاور التجديد

مما تتميّز به كتابات الشيخ التجديدُ في هيكلة العلم وفي مضمونه.. كيف تحصَّلتم على هذا الوعي التجديدي في ذلك الوقت؟

هذا يأتي مع الممارسة، فقد ذكرتُ لك أني أتبع في مسألة تدوين كتب المقرَّرات الدراسية طريقة أبدأ فيها في كل علم وفي كل باب بالتساؤل التالي: لماذا أدرس هذا العلم؟ ولماذا وُجِدَ هذا الباب في هذا العلم؟

وفي هذا الجانب أتذكَّر -عندما طلبت مني الوالدة رحمها الله- أن أدرس المقدّمة الآجرومية عند والدي (قدس سره)، فامتثلتُ لطلبها، بدأنا دراسة المقدّمة الآجرومية، وفي هذه المقدّمة كنّا نبدأ بدراسة علم النحو مباشرة دون وعي منّا أو من قبل المقرَّر الذي كنّا ندرسه للغاية من دراسة هذا المقرَّر أو هذا الكتاب بالذات. وهذا أمر ينطبق على مادّة المنطق أيضًا، التي كان يلقننا أساتذة الحوزة بأن الإنسان يدرس هذه المادّة لأنها تعصم الفكر من الوقوع في الخطأ، وهذا أمر لم يقنعنا، لأنَّنا كنّا ندرسها وغيرنا يدرسها، ونقع في الأخطاء، فهذا جعلني أفكّر في السبب الحقيقي لوضع هذا العلم ودراسته في الحوزة بالذات.

وهكذا عندما بدأتُ ألتحق بالدراسة الحوزوية لم يكن أحد من أساتذة الحوزة يوضح لنا سبب اختيار هذه المادّة في سلك الدراسة الحوزوية، أو سبب وضع باب معيّن في كتاب مقرَّر، وإنما نبدأ مباشرة في دراسة العلم.

فكنتُ أحاول فهم السبب الذي من أجله ندرس كل مادّة كاجتهاد مني.

وربما تكون هذه التساؤلات وهذا التفكير هو الذي دفعني لمحاولة التجديد في المناهج الدراسية، بالإضافة إلى أنني عشتُ في الوقت الذي كانت النجف تعيش موجة من دعوى تجديد المناهج وأسلوب الدراسة الحوزوية.

ولكن الكتابة المنهجية بهذه الطريقة المتقدّمة لابدَّ أن تسبقها بدايات جيدة؟

تلمذتُ عند السيد محمد تقي الحكيم، وقد كان يتمتّع بكتابة منهجية متميّزة، مع أنه لم يدرس بالجامعة ولا حتّى في مدارس نظامية، بل درس كل علومه بالحوزة، ولكنه كان موهوبًا في خصوص ترتيب العلم والمنهج، أي أنه موهوب من ناحية المنهجية، وكان قد قرأ في الكتب الحديثة التي تبحث في كتابة المناهج، وكذلك اطّلع على نماذج من تلك الكتب الحديثة الممنهجة والمكتوبة بالطريقة العلمية الحديثة، واطلاعه هذا صقل موهبته التي كان يتمتّع بها، وقد أجد نفسي متوفِّرًا على شيء من هذه الموهبة التي أشرتُ إليها عند أستاذنا السيد التقي الحكيم.

الشمولية شرط أساس في المقرّر الدراسي

في كتبكم المنهجية تحاولون ألا تقصون رأيًا دون آخر؟

في الكتب الدراسية -بالذات- من المفترض بالكاتب لهذه المقرَّرات ألَّا يركّز على ذاته. نعم، من المفترض أن تبرز شخصيته العلمية في الكتاب، ولكن ليس عن طريق التركيز على ذاته، بل عن طريق ما يمتلك من علم وموهبة في إبراز الفكرة، فأصحاب أي علم -وإن كان المؤلِّف يختلف معهم- كلهم ساهموا في إبراز أفكاره وعناصره وتقسيماته، فلا يصحّ من المؤلِّف -لأنه لا يرتضي رأيًا معينًا- أن يقصي هذا الرأي أو ذاك، فقد يأتي من يرى صوابية ما يرى المؤلف خطأه. فالمفترض بالكتب العلمية التعليمية ألاَّ تبخس حق أحد، لتتيح للطالب حين دراسته أن يدرس كل ما يحيط بالفكرة.

ما تذكرونه ربما لا ينكره أحد، وقد يتّخذه المؤلف كقرار داخلي، ولكن محيطه قد لا يساعد على ذلك إمّا من ناحية معلوماتية بحيث تقل أو تشحّ فيه المصادر لجميع الأطراف حول القضية التي يعالجها هذا المؤلف، أو بسبب حالة عصبية يعيشها ذلك الجوّ إزاء جهة معينة، فكيف توفقتم للوصول إلى هذه النقطة؟

مما يؤسف له أن أغلب جامعاتنا العربية تفتقد مقرَّراتُها ومراجعُها الناحية التربوية، فلا تربي الطالب علميًّا، بعكس الجامعات في الغرب، حيث تهتمّ بتنشئة الطالب وتربيته علميًّا بحيث تهيئ ذهنيته بطريقة علمية. فالطالب الذي ينشأ في الجوّ العلمي يدرك أن الشمولية في المعرفة مطلوبة في مجال العلم والدراسة.

ولكنكم لم تعيشوا مثل هذا الجوّ أيضًا؟

ربما أكون قد استفدتُ هذه النقطة من كتابات الآخرين، فحينما تقرأ كتابات الألمان -مثلاً- في علم اللغة تدرك أن هؤلاء علماء لغة حقيقة، وتدرك أنهم علماء ليسوا لأنفسهم، وليسوا للألمان فقط، بل للعالم أجمع، وهكذا هم البقية.

لذلك حينما تحاول أن تعرض العلم الذي يمثِّل طائفتك أو أمتك عليك أن تعرضه ليس كعلم فرد أو طائفة أو أن يكون موجَّهًا لفرد أو طائفة أو فئة وإنما تعرضه بالمقارنة مع ما قدَّم الآخرون في المجال نفسه. وهذا ما حاولت إبرازه في كثير من المؤلَّفات التي قمتُ بإعدادها، مثل مبادئ علم الفقه ودروس في فقه الإمامية.

ولكن كمبتدئ في التأليف والبحث العلمي ألا يكون هناك صعوبة في الحصول على جميع الآراء، فهكذا بحث بهذه الشروط التي تضعونها متعب ومضنٍ للباحث والمؤلِّف؟

قد يصعب على المبتدئ ذلك إذا كان ما يبحث فيه من موضوعات كُتِبَ فيها بكثرة وتعدَّدتْ حولها الآراء لدرجة كبيرة، ولكن إذا كانت المسألة تحتوي على ثلاثة أو أربعة آراء أو أكثر بقليل فهذا بالإمكان إدراكه وتحصيله من خلال البحث.

وهذا موجود في الكتب القانونية حيث تتعدّد الأوجه والآراء والتحليلات القانونية، فالقانون أكثر ما يعتمد فيه على مسألة الحفظ، باعتبار كثرة المواد القانونية وتفريعاتها وفقراتها.

تجارب التحديث الحوزوي ما لها وما عليها

ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات للتجديد، مثل محاولات الشيخ جعفر السبحاني والشيخ باقر الأيرواني والمركز العالمي للدّراسات الإسلامية في قم المقدّسة. كيف تقيّمون هذه التجارب؟ وما هي أبرز المؤاخذات التي تجدونها على هكذا تجربة؟

كنتُ قد كتبتُ عن هذه التجربة، وقد نشر ذلك في حوار مع مجلّة فقه أهل البيت الصادرة عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية في العدد (35)، وما ذكرتُه هناك ألخِّصُه هنا فأقول:

التفكير في التجديد -بحدّ ذاته- أمر جيد، وأن يُقدم الإنسان على تحقيق هذا الأمر ويحاول فهذه خطوة ثانية إلى الأمام. ولكن الأمر الذي أرى أن كثيرين يفتقدونه هو الاقتصار على ما لديهم في الحوزة، بينما من المفترض أن ينفتحوا على المؤسسات الأخرى والمؤلّفين الآخرين من الاتجاهات الأخرى ويرون ما لديهم ويحاولون أن يستفيدوا منهم، لأن الطريقة الحوزوية هي طريقة موروثة لأكثر من 500 عام، بينما نحن نحتاج الآن إلى الطرق والأساليب الحديثة للتعبير، ولذلك فإن أهم ما يؤخذ على هذه التجارب أنها تفتقد الاستفادة من التجارب الحديثة في تطوير المناهج الحوزوية.

وهل ترون مَنْ بدأ يخطو هذه الخطوة؟

بشِكْل جيّد لا أرى.

غالبًا ما تكون محاولات التجديد هذه قائمة على مجموعة من الأفراد، ما العائق أن تنشأ مؤسسات ترعى هذه المشاريع؟

هذا يتحقَّق فيما لو حاولنا أن نطوّر في الحوزة، أو ننشئ جامعات إسلامية (أي جامعات تتبنّى الخطّ الإسلامي)، أما الحوزة بوضعها الحالي لا تستطيع أن تعطي بالشِّكْل المؤسسي المطلوب، وستبقى هذه الجهود تتركّز على الأفراد.

ولكن في الاتجاه الآخر هناك محاولات لفتح جامعات وكليات في مدينتي النجف الأشرف وقم المقدّسة، ونتمنّى لها أن تتطوّر مع الزمن، لأن ذلك سيفسح المجال لظهور مقرَّرات حديثة تتناسب والجوّ الجامعي الأكاديمي.

ولكن الفترة التي بدأت معها محاولات التجديد إلى الآن فترة طويلة وإلى الآن لم يظهر ذلك المشروع المتكامل، لماذا؟

هذا أمر طبيعي، لأن مجتمعاتنا مجتمعات بدائية، والتغيير فيها بطيء وصعب جدًّا، بخلاف المجتمعات المتحضِّرَة حيث التغيير فيها سهل وسريع، لأن الأفراد فيها يفكِّرون، بحيث لو دعا شخص إلى فكرة تجديدية معينة فإن أفراد تلك المجتمعات يفكرون في الأسباب الداعية للتغيير الذي يدعو إليه هذا الشخص، فإذا رأوا فيه الفائدة قبلوه وأيدوه في هذه الدعوة، بينما مجتمعاتنا الأفراد فيها لا يحكمهم عنصر التفكير المتواصل، بل يندفعون خلف أشخاص وقيادات ويتعصّبون لها دون تفكير متروٍّ، فهذا هو السبب.

المختصرات الدراسية

في كتابتكم للمقرَّرات الدراسية تميلون كثيرًا لكتابة المختصرات الدراسية، لماذا؟

في البداية يحتاج الطالب إلى هذه المختصرات، لأن غالبية هذه المقرَّرات التي دوِّنت كمختصرات هي المقرَّرات التأسيسية في كل مادّة، فهي أول ما يدرسه الطالب في هذه العلوم.

ومن المفترض أن تكون هذه البدايات عبارة عن مختصرات دراسية، تكون حلقة في سلسلة المقرّرات التي تراعي مسألة التدرّج في إعطاء الطالب للمعلومة، إلى أن يصل الطالب إلى مرحلة التخصُّص حيث بالإمكان التوسُّع.

مواصفات المقرّر الدراسي مؤلِّفًا ومؤلَّفًا

ما هي الشروط التي تشترطونها في مؤلِّف المقرَّر الدراسي؟

بالدرجة الأولى لابدَّ أن يكون موهوبًا في وضع المقرَّر الدراسي وَفْق المنهج العلمي الحديث الذي يتدرَّج فيه مع الطالب من المعلوم إلى المجهول وَفْق ترتيب منطقي متسلسل.

وثانيًا: أن يكون لديه اطلاع عملي على المناهج الأخرى حتى يستفيد من الجيّد منها.

وثالثًا: أن ينظر نظرة إلى المستقبل لا إلى الحاضر.. أي أن تكون نظرته أبعد من الحاضر.

وما هي الشروط المطلوبة في المقرَّر الدراسي؟

ما كرّرناه مرارًا خلال مناسبات عدّة، وهو أن يحتوي المنهج على عنصرَي:

الجانب العلمي والجانب التربوي. والتربويون يذكرون أن المناهج يجب أن يتوزّع فيها هذان الجانبان (العلمي والتربوي) بما يتلاءم والمرحلة العمرية، وذلك على النحو التالي:

- في مقرَّرات المرحلة الابتدائية يركّز المؤلِّف فيها على العنصر التربوي أكثر بنسبة 75% لصالح الناحية التربوية، بينما يترك الـ25% لصالح الجانب العلمي.

- والمرحلة المتوسّطة يتوزّع هذان الجانبان النسبةَ بينهما، بحيث يكون لكل منهما 50% من المقرّر.

- وفي الثانوية يكون للجانب العلمي 75% والجانب التربوي 25%.

- بينما المقرّرات الجامعية يتركّز المنهج التعليمي فيها بحيث يكون الجانب العلمي فيه 100%.

ربما لا يفهم القارئ مقصودكم من مصطلح «الجانب التربوي» في المقرَّر الدراسي، هل بالإمكان أن توضحوا لنا هذه النقطة كعنصر أساس في المنهج؟

سأضرب لذلك مثالاً، إذا أراد شخص أن يكتب مقرَّرًا في اللغة العربية، فالمطلوب منه في البداية -ليتدرّج مع الطالب- أن يلقّن الطالب تلقينًا، لأن ذهنيته لا تتحمّل أن تكون ذهنية علمية، لكن مع ذلك يحاول أن يحرّك هذا المقرَّر ذهنيته شيئًا فشيئًا عن طريق التمرينات في طيّات الكتاب، ويُراعي في هذه التمرينات أن تكوّن لدى الطالب الذهنية العلمية التي تحاكم ما يطرح لديه من مادة علمية.

فالمطلوب من كل الدراسات في المرحلة المتوسّطة والثانوية قبل الجامعة -وكذلك الأمر في الحوزة في مرحلتي المقدّمات والسطوح قبل البحث الخارج- أن تكون الغاية من المقرّر الدراسي فيها: تكوين الذهنية العلمية لدى الطالب.

وما يكوّن الذهنية العلمية لدى الطلاّب ليس العلم والمادّة العلمية فيه، وإنما التربية والممارسة، فالمدرّس يستطيع أن يعلّم الطالب فقهًا وأصولاً وعلم رجال وعلم حديث، ولكن هذه العلوم -منفردةً- لا تكوّن -داخل الحوزة مثلاً- المجتهد أو الفقيه دون أن يمارس هذه العلوم أثناء الدراسة من خلال كتابة البحث -مثلاً- أو من خلال الأسئلة التطبيقية في كل مادّة منها.

القسم الثاني «التطبيقي»

«التربية الدينية».. البداية الأولى

ذكرتم أن أول ما ألفتم من مقرّرات دراسية كتاب «التربية الدينية»، كيف كانت هذه البداية؟

التربية الدينية يُعَدّ أول ما ألفت من الكتب الدراسية، وقد كان ذلك استجابة لطلب من «جمعية منتدى النشر»، وذلك عندما بدأت هذه الجمعية بتأسيس مدارسها الابتدائية والمتوسطة الأهلية، حيث طلبوا مني أن أضع كتابًا للتربية الدينية للمرحلة المتوسطة.

فقد كانت الطريقة المتبعة والمألوفة في العراق بالنسبة للمدارس الأهلية -في ذلك الوقت- أن يدرس الطالب المقرر الوزاري للمادّة كاملاً بما في ذلك مادّة التربية الدينية، فإذا أرادت المدرسة الأهلية أن تضيف على هذا المقرّر فلها الحق في ذلك، فالمدارس التابعة لإخواننا أهل السنة لهم الحق في أن يدرسوا طلابهم مادّة التربية الدينية وَفْق مذهبهم السنّي، وكذلك المسيحيون لهم الحق في أن يدرسوا مادّة التربية الدينية وَفْق الديانة المسيحية.. وهكذا.

وتطبيقًا لهذا القرار أضافت مدارس جمعية منتدى النشر كتاب التربية الدينية الذي قمتُ بوضعه لهذه المادّة.

وقد أُخضع الكتاب للتجربة فترة من الزمن قمتُ خلالها بتدريسه، وسجلتُ ملاحظاتي التي ظهرت لي أثناء عملية التعليم، ثم قام معلمون آخرون بتدريسه وسجلوا عليه ملاحظاتهم، وبعد هذه التجربة قمتُ بصياغته صياغة نهائية وتعديله وَفْق الملاحظات التي ظهرت أثناء قيامنا بتدريسه.

وكانت أول طبعة منه بمساعدة من السيد محسن الحكيم (قدس سره)، وبعد ذلك تكررت طبعات الكتاب. فالسيد الحكيم (قدس سره) قام بطبعه عدّة مرات ليبعثه مع الرسالة العملية ككتاب مبسّط عن أصول الدين، حيث كانت الطريقة المتبعة قديمًا أن يُقدَّم للرسالة العملية بمقدّمة بسيطة عن أصول الدين، ليشرع الفقيه بعد ذلك بتناول فروع الدين التي تمثّل مجمل أبواب الفقه.

كما أن السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ساهم في طبعه ونشره. وبعد ذلك أخذ الكتاب طريقه إلى النشر من قبل الناشرين دون علم أو متابعة من قبلي.

وفي الفترة التي اعتمد الكتاب كمقرّر دراسي في متوسطات جمعية منتدى النشر سلك طريقه أيضًا في حلقات الدراسة الحوزوية، بجانب ما يدرسه الطالب في مرحلة المقدّمات، حيث يدرسه كمقدّمة لدراسة علم الكلام فيما بعد.

على أي أساس تمّ اختياركم لكتابة وإعداد هذا المقرّر؟

ربما كان القائمون على جمعية منتدى النشر يقدّرون بأني الأكثر معرفة وخبرة في مسألة الكتابة المنهجية، لأن الكتاب الدراسي لابدّ أن يكون منهجيًّا يجمع بين عنصري التعليم والتربية، وعلى هذا الأساس تمّ اختياري، لما يعتقدونه من أني الأقدر على تحقيق هذين العنصرين.

ربما كان اسم «التربية الدينية» باعتباره مقرّرًا دراسيًّا في المدارس المتوسطة لهذه المادّة؟

فعلاً لقد اخترت هذا الاسم للكتاب باعتبار أن المادّة المقرّرة كانت بهذا الاسم في ذلك الوقت.

وهل لازال الاسم صالحًا للمضمون باعتبار أن محتوى الكتاب في غالبيته حول العقيدة الإسلامية ومبادئها؟

ربما يكون تغيير الاسم الآن صعبًا، وذلك لانتشاره في الأوساط الدينية والحوزوية به، وأخذ يطبع عدّة مرّات في كثير منها دون علمٍ منّي، ممّا ساهم في انتشاره بشكل واسع، كما أني لا أجد انحرافًا كبيرًا بين الاسم ومضمونه حتى يستدعي الأمر ضرورة تغيير الاسم.

هل كان كتاب «التربية الدينية» يدرّس في النجف الأشرف فقط أم امتدّ تدريسه في بقية مناطق العراق؟

كان مقرّرًا دراسيًّا -في البداية- لمدارس جمعية منتدى النشر فقط، ثم أخذ طلبة الحوزة المبتدئون دراسته كمقرّر من مقرّرات مرحلة المقدّمات بجانب المقدّمة الآجرومية وغيرها من الكتب الأولى التي يدرسها طالب الحوزة في هذه المرحلة.

هذا بالإضافة إلى اعتماده في الدورات التي كانت تفتح للتعليم الديني في فترة الصيف في مكتبات السيد الحكيم المنتشرة في مناطق العراق، وذلك لسهولة تناول المادّة العلمية فيه بالمقارنة مع غيره من المقررات.

عندما اعتمدت جمعية منتدى النشر كتاب «التربية الدينية» كمقرّر لهذه المادّة وصغتموه صياغة نهائية بعد التعديلات التي أجريت عليه نتيجة إخضاعه للتجربة احتجتم لاستصدار إذن بطباعته، ألم تواجهكم بعض العقبات أثناء استصدار هذا الإذن؟

جميع المقرّرات الدراسية كانت تخضع للرقابة قبل الإذن بطباعتها، ولذلك أثناء استصدار الإذن لطباعة «التربية الدينية» أبدى الموظّف المسؤول تحفظه على بعض فقرات الكتاب، فلمّا راجعته فيها تراجع عن ملاحظاته ما عدا ما يقارب سطرين كانا بخصوص الإصلاحات التي قام بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والتي كانت فيها إشارة إلى جانب من الفساد في عهود الخلفاء السابقين، وكان هذا أمرًا من الممكن تجاوزه أثناء عملية التعليم، حيث بالإمكان إضافتهما بالقلم. لذلك يمكن القول بأن الكتاب فسح بشكل طبيعي تقريبًا، ولم تكن هناك عقبات تذكر.

ألم تواجهكم عقبات في تدريس الكتاب في حلقات المساجد بسبب تغييركم في منهجة وتقسيم أصول العقيدة الإسلامية، إذ إنكم لم تدرجوا العدل كأصل من أصول الدين؟

لم يكن ذلك مثيرًا للغرابة ولم يثرْ جوًّا من المواجهة أو الغضب لدى العلماء وطلبة العلوم الدينية حينها، وذلك لأني وجدتُ هذا التصنيف والتقسيم موجودًا عند المتقدّمين من علماء علم الكلام، حيث كانوا يعدون أصول الدين أربعة.

مثل..؟

لا أذكر الآن، ولكنه أحد العلماء الكبار، فقد كانوا يذكرون في كتبهم أصول الدين دون أن يشيروا إلى العدل كأصل مستقل، وإنما أفرد في بعضها للخلاف بين العدلية من جهة والأشاعرة في الجهة المقابلة.

«التربية الدينية» والمنهج التكاملي في دراسة العقيدة

في هذا الكتاب كانت لكم طريقتكم المبتكرة في مسألة دراسة أصول العقيدة الإسلامية، حيث كانت وَفْق المنهج الذي وصفتموه في مقدّمة كتابكم «خلاصة علم الكلام» بالمنهج التكاملي الذي يدمج في دراسة أصول الدين بين العقل والنقل. وهو منهج ربما يكون في ذلك الوقت -بل وحتى في الوقت الراهن- نادرًا من يتناول أصول العقيدة وَفْقَهُ، ألم يكن مستغربًا أن تتبعوا هذا المنهج رغم قلة سالكيه من جهة وعدم تقبّل الوسط الديني له من جهة أخرى؟

يوجد من القدماء من تناول أصول الدين وَفْق هذا المنهج، الذي جمع فيه بين العقل وما يوافقه من النقل، مثل السيد عبد الله شبّر في كتابه «حق اليقين»، وكذلك الملا صدرا في «الحكمة المتعالية»، ففي الوقت الذي يستدل فيه الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي على أصول العقيدة بالقواعد العقلية يساند ذلك بما يوافق هذه القواعد من الآيات والروايات، وهذه الطريقة التي أسميتها بالمنهج التكاملي في دراسة علم الكلام موجودة ولكنها لم تكن بشكْل شائع.

هل كان لدراسة المقرر في المدارس النظامية دور في اتخاذ هذه الطريقة في تعليم العقيدة، حيث يُنتقى في مناهج المدارس النظامية ما هو أقرب إلى سن الطالب وأسهل في تناول المادّة العلمية، وربما يكون المنهج التكاملي أسهل وأقرب إلى عقلية الطالب من الاقتصار على المنهج العقلي؟

لم يكن لذلك علاقة، لأن مقرّرات المادة الدينية التابعة لوزارة المعارف في العراق كان تتناول قضايا تاريخية ترتبط بالخلفاء وبعض الصحابة وقصص من القرآن وبعض الأحاديث الأخلاقية، وكذلك تعليم الصلاة بشكل مبسّط جدًّا والإشارة إلى بعض العبادات الفردية.

ولكن ما يلاحظ أن المدارس تنحو إلى اتخاذ الأسلوب التربوي في عرض مادّتها العلمية، وهذا لا يتناسب والمنهج العقلي الجافّ؟

بالإمكان عرض العقيدة الإسلامية وَفْق المنهج العقلي ومراعاة الأمور التربوية، حيث يمكن عرضه بالتمثيل بالقضايا العقلية البسيطة، فهذا لا يتنافى والجانب التربوي.

الاختصار في بحث أصل المعاد

من الملاحظ في كتابكم هذا «التربية الدينية» وكذلك «خلاصة علم الكلام» أنكم لم تطيلوا الحديث كثيرًا في أصل المعاد، وهناك وجهة نظر حول مسألة مناقشة كثير من القضايا التفصيلية في المعاد من قبيل روحانية البعث أو جسمانيته، ومسألة منطقة الأعراف وتجسّم الأعمال، ومَنْ يدخُل الجنّة ومن يدخل النار، فالبعض يُعرِض عن الدخول فيها لكونها من الغيبيات التي مِنْ غير الممكن الجزم فيها بنتيجة محدّدة، وليس من الضروري البحث فيها، والبعض الآخر يصرّ على البحث فيها، هل كان الشيخ يميل للرأي الأول فلا يفضّل البحث فيها؟

ربما يرجع ذلك إلى أن شؤون ومسائل المعاد عرضت في القرآن بشكل واسع وتفصيلي، فالقرآن تطرّق إلى كل شؤون المعاد من القبر إلى الجنة والنار كاملاً، ولو أردتُ أن أعرض لهذه التفاصيل لاحتجتُ إلى كتاب مستقل، وكان غرضي من عرض أصل المعاد في هذين الكتابين هو الإشارة إلى الآيات كدليل على المعاد واستقيت منها بعض التفاصيل.

ومسألة روحانية أو جسمانية البعث لا تدخل -في الوقع- في الأمور الاعتقادية، لأن هذا البحث قائم على أساس نظرية فلكية فيزيائية قديمة، وهو أن الإنسان مكوّن من أربعة عناصر: النار والتراب والهواء والماء، وهذه العناصر الأربعة موجودة في طبقات الفضاء -كما تقول النظرية-، فإذا وصل الإنسان أثناء صعوده إلى عنصر الماء يأخذ منه الماء قسمًا، وإذا وصل إلى الهواء يأخذ منه قسمًا آخر، فإذا وصل إلى القسم الرابع أخذ منه ما تبقّى، فلا يبقى منه إلا الروح. وهي نظرية غير ثابتة، فلا العلماء قديمًا أقرّوها كحقيقة علمية ثابتة، وبطبيعة الحال فإن علماء العصر الحديث لا يقبلون هذه النظرية، كما أن مسألة آلية البعث وكيفيتها بكل تفاصيلها أمور غيبية تتعلّق بقدرة الله سبحانه ولا توجد تفاصيلها فيما هو ثابت قطعيًّا في القرآن أو السنّة، فالعلم الحديث يثبت أن بعض طبقات الفضاء إذا وصلها الإنسان يتلاشى، فكيف عُرِجَ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف سيُحْشَر الناس بعد ذلك، هناك احتمالات عدّة بهذا الشأن، ولكن لا يقطع بها الإنسان حتّى تكون أمورًا اعتقادية وتدخل في صلب أصول الدين.

وهذه نقطة مهمّة من المفترض أن يُلِمَّ بها من يكتب في علم الكلام، ولا أرى أن الدخول في كثير من التفاصيل الخاصّة بالمعاد التي لا تكون مثبتة في القرآن أو في السنّة مجدٍ. نعم، ما ذكره القرآن من تفاصيل يجب الاعتقاد به، لأنه صادر عن الله سبحانه.

«خلاصة المنطق».. بين الإضافة والحذف والتغيير

ربما يكون كتاب «خلاصة المنطق» هو أكثر كتبكم انتشارًا، وربما يكون ذلك من البدايات، أي منذ صدور الكتاب، ما السبب الذي دعا لانتشاره هذا الانتشار الواسع؟

ربما أُرجِعُ سبب انتشاره إلى سهولة تناول المادّة العلمية فيه من حيث التعبير ومن حيث تنظيم المادّة، فالمنطق كان يدرّس ولا يذكر في المقرّرات السابقة الغاية من دراسة المنطق إلا على نحو مجمل أو غير واضح، كأن يذكر في البداية أن الغاية من دراسة المنطق هو التصوّر والتصديق، من غير أن يشار إلى المقصود من هذه العبارة، ولذلك عندما قمتُ بتأليف «خلاصة المنطق» أوضحتُ أن المنطق يبحث في نقطتين أساسيتين، هما: التعريف والاستدلال، حيث يمثلان القسمين الرئيسين في المنطق، فالغاية من دراسة المنطق أن يتمكّن الدارس له من التعريف والاستدلال وَفْقًا للقواعد المنطقية الصحيحة.

في تنظيمكم لأبواب الكتاب أضفتم البابين التاليين: «التحليل والتركيب» و«مناهج البحث العلمي»، ولم يكونا ضمن أبواب المنطق، كيف أدخلتم هذين البابين إلى علم المنطق وعلى أي المصادر كنتم تعتمدون في إضافة أو حذف بعض الأبواب؟

استفدتُ إضافة هذين البابين من كتب المنطق الحديثة، التي كانت تُدرَّس في ثانويات مصر والبلاد العربية الأخرى، وقد لجأتُ إلى كتب المنطق الحديثة لأنها تحاول أن تجمع -إلى حدٍّ ما- بين المنطق القديم والحديث، حيث تأخذ قدرًا بسيطًا من المنطق القديم، فتأخذ بمبادئ القياس والاستقراء وتطعّمها بالمصطلحات والأبواب الحديثة، مثل باب مناهج البحث العلمي. وقد حاولتُ أن أطعّم كتابي «خلاصة المنطق» بما هو سائد في الحوزة، ومما هو في كتب المنطق الحديثة، حيث استفدتُ من كتاب عفيفي: المنطق التوجيهي الذي كان يدرّس في ثانويات مصر.

في هذا الكتاب كما قمتم بإضافة بعض الأبواب تصرّفتم في هذا العلم فحذفتم منه كذلك بعض الأبواب، ولعل أبرز الأبواب التي حذفتموها «باب الصناعات الخمس»، لماذا؟

الصناعات الخمس ما عادت من المنطق الآن، وأصبح لكل صناعة منها المناهج الخاصة التي تتناولها، ولا أرى من داعٍ لإدراجها ضمن أبواب المنطق.

لم تكن هذه هي التغييرات فقط، فقد غيرتم في كثيرٍ من مصطلحات العلم وأبدلتموها بمصطلحات حديثة، فبدلاً من التعبير بِـ«القول الشارح» أو «المعرِّف» عبرتم بقولكم «التعريف»، وغيره من المصطلحات..

يمكن تلخيص ما قمتُ به من تغييرات في هذا الكتاب في: تغيير التبويب من إضافة بعض الأبواب وحذف بعضها، وكذلك تغيير كثير من مصطلحات المنطق القديمة، وجعلها أكثر عصرية، وتوضيح الغاية من دراسة المنطق.

وأظن أن هذه التغييرات أثّرت كثيرًا في قبول الكتاب واعتماده كمقرّر أساس في تدريس هذه المادّة.

مجاراة القوم ومخالفتهم في وضع مقرّرات العلوم

ذكرتم في كتابكم «خلاصة المنطق» أن المناطقة في بحثهم للدلالة عدّدوا الدلالة العقلية والطبعية والوضعية اللفظية منها وغير اللفظية، وكان الأجدى بهم أن يقصروا بحثهم على الوضعية اللفظية، وذلك من ناحية منهجية لارتباطها -وحدها- بالألفاظ دون البقية التي لا صلة لها بالبحث، ولكنكم جاريتموهم باعتبار أن مجاراة أكثر القوم في سلوكهم تكون مغتفرة أحيانًا، إلى أي درجة يجاري فضيلة الشيخ الدكتور القوم في المقرّرات الدراسية وإلى أي درجة يخالفهم؟

في الكتب القديمة يخصصون موضوعًا مستقلاًّ بعنوان «مباحث الألفاظ» يقصدون منه مصطلحات العلم، وكل من يدرس كتب المنطق القديمة لا يدرك أنهم يقصدون بذلك المصطلحات، وعندما أشرتُ إلى هذه النقطة في كتاب «خلاصة المنطق» ذكرتُ أنه من المفترض أن يُقتَصَر -لفهم المصطلح- على دراسة الدلالة الوضعية اللفظية فقط دون بقية الأقسام، لأنها تعني وضع الألفاظ لمعانٍ، ومصطلحات كل علم هي عبارة عن وضع ألفاظ معينة لمعانٍ اصطلاحية جديدة داخله غير تلك المعاني المتداولة عرفيًّا.

ولكني عندما جاريت القوم كان بغرض ألَّا تنفصل مقرّرات الحوزة عن القديم تمامًا، خصوصًا عندما يكون الإبقاء على بعض القديم لا يضرّ كثيرًا بفهم العلم والاستفادة الحقيقية منه، هذا بالإضافة إلى أنني أشرتُ إلى المخالفة المنهجية في الكتاب، وهذا بحدّ ذاته إلفاتة جيدة للطالب.

ولكنكم جاريتم المناطقة في بعض النقاط التي لا ترون صحّتها في المنطق، ومع ذلك أثبتموها في كتابكم «خلاصة المنطق»، من ذلك أنكم ذكرتم الغاية نفسها التي يذكرها المناطقة من دراسة المنطق، وهو: عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر، لماذا؟

في كتاب خلاصة المنطق لم أُشِرْ إلى هذه النقطة (عصمة الفكر عن الوقوع في الخطأ) تحت عنوان الغاية من دراسة العلم، وإنما ذكرتها كأحد القيود التي يضعها بعض المناطقة في تعريفهم للمنطق. ومن الجيّد الالتفات إلى هذه نقطة حيثُ يُغفل الإشارة إليها في تدريس المنطق، فالمناطقة في تعريفهم لعلم المنطق يعرّفونه بأنه: «آلة قانونية تعصم مراعاتها الخطأ في الفكر»، وفي مجال التطبيق نجد أن هذه النقطة غير متوفّرة من أكثر من جهة: الأولى: أن المنطق علم يدرس كيفية تعريف المفردات والاستدلال على القضايا، ولكنّه يدرسها شكلاً لا مضمونًا، بمعنى أن علم المنطق لا يدرس صحّة مضمون كل عبارة في التعريف، وكذلك لا يدرس صحّة مضمون كل عبارة في الاستدلال، وإنما يدرس الآلية الشكلية للتعريف أو الاستدلال، وما دام الأمر لا يطال صحّة المضمون لا يمكن أن يعصم المنطقُ الإنسانَ من الخطأ.

والثانية: أن من يدرس المنطق لا يُعْصَم فكره من الخطأ في الواقع العملي.

ومن جهة ثالثة: كان المفترض من علماء المنطق أن يتبينُوا الغاية من علم المنطق من خلال تتبّع مفردات العلم نفسه، ومن الواضح أن علم المنطق يركّز في دراسته على نقطتين أساسيتين، هما: التعريف والاستدلال.

ولكنكم في تعريف علم المنطق وكأنكم جاريتم القوم في التعريف مع تغيير يسير؟

في تعريفي لعلم المنطق اتخذتُ طريقًا وسطًا بين ما يذكره القدماء وبين واقع العلم، فعرّفته بقولي: «المنطق: دراسة قواعد التفكير الصحيح»، فهذا التعريف لعلم المنطق يتوافق بشِكْل قريب مع التعريف القديم، وكذلك يتوافق بشِكْل غير صريح مع واقع العلم، لأن تعلُّم تعريف المفردات والاستدلال على القضايا بصورة صحيحة يشكّل قاعدة مهمّة من قواعد التفكير العلمي الصحيح.

بعض المصطلحات التي تعترضون عليها أبقيتموها كما هي، فأنتم لا توافقون على مصطلحات مثل: «الصغرى» و«الكبرى» و«الحدّ الأوسط»، لاعتبارات لغوية، ومع ذلك بقيت كما هي في كتابكم «خلاصة المنطق»؟

لا يمكن التغيير بشكل جذري دفعة واحدة، لأن هذه المصطلحات الخاصّة بعلم المنطق -مثل: الصغرى والكبرى والحدّ الأوسط والنتيجة- أخذت طريقها من المنطق إلى علم الأصول والفقه وكذلك إلى الرياضيات، فليس من السهل أن يأتي فرد ويغير كل هذا التراكم الذي حصل نتيجة عقود وتناثر في مئات الكتب وتردّد على آلاف الألسنة، إن المجامع اللغوية لو أرادت ذلك لن تستطيع؛ لأنه يحتاج إلى وقت، ولكن ما أقوم به في بعض الأحيان هو الإشارة فقط إلى هذه الأخطاء، وهو أمر جيّد بحدّ ذاته.

 

 



([1]) المؤمنون: 115.