شعار الموقع

إنها إشكالية مفهوم! تأملات في سؤال التسامح

ادريس هاني 2008-06-06
عدد القراءات « 964 »

مدخل

تحتل المشكلة المفهومية قاعدة الأزمات التي تواجه أنماط التفكير وقضايا المعرفة. لذا لزم أن تتنزل منزلة مقدمة الواجب في البحث العلمي والتحليل النظري. وقد بات مؤكداً عند أهل النظر، بحكم الخبرة والمعايشة لأهم المشكلات المعرفية، أنه غالباً ما يكون مدخل تحرير محل النزاع هو المعالجة المفهومية التي عادة ما تتأثر بطبيعة تصورنا للوقائع والأشياء ومن ثمة كيفية تعريفها. ومن المؤكد أنك متى ما تصورت غيرك عدواً، فسيكون تعريفك أو وصفك للإنسان حتماً على أنه عدو لأخيه الإنسان. ليس الآخر هو العدو إلا إذا سلمنا بأن الأنا باعتبارها «آخر» أيضاً مشمولة في هذا الوصف. فالقول: إن الآخر ذئب يستدعي القول: أنا ذئب للآخر..والقول: الآخر هو الجحيم، يستدعي القول: أنا الجحيم.

وعليه، فمن شأن تصور كهذا أن تترتب عليه آثار سلوكية، كلزوم الحذر الشديد والريبة والتبييت للآخر والتربُّص به أو تشريع ما يسمى اليوم -تحت طائلة الهوس الإرهابوفوبي- بالحروب الاستباقية، التي تعيدنا إلى شريعة القتل بالشبهة والظنة وترسم للنوع خريطة طريق سالكة لمستقبل أكثر وحشية وفوضى. إن للمشكل المفهومي تأثيراً كبيراً فيما نعانيه من أزمات تسم علاقتنا بالآخر. إذ ليس في مكنة عقل مشحون بصورة نمطية عن الآخر أن يقبل به نظيراً له في المعاش، أوطرفاً له في الحوار أو شريكاً له في المواطنة. من هنا ارتأينا تأمل مشكلة التعصب ومطلب التسامح من ثلاث زوايا أساسية: التسامح مفهوميًّا وإنسانيًّا ودينيًّا. وصفاً لآفة المتداول مفهوميًّا واجتراحاً لمفهوم نموذجي للتسامح. ووصفاً كذلك لواقع التسامح إنسانيًّا ومن ثم اجتراح مفهوم نموذجي للإنسان حامل التسامح. كما نروم وصف واقع التسامح والتعصب دينيًّا بحسب الواقع بحثاً عن مفهوم نموذجي للتسامح الديني المنشود. وقد راعينا في الترتيب جهة المواسعة والمضايقة، من حيث أن محل المشكلة المفهومية هو الفكر والعقل وهما أوسع وأرحب من تاليهما، حيث العالم العقلي هو مجال التفكر في الممكنات غير المحصورة، فهو أوسع من عالم التحقق والتشخص -إذا وجب الوجود لشيء وجد-، كما أن المعالجة في الدائرة الإنسانية هي أعم منها في الدائرة الدينية. غير أننا سنضطر من الناحية الإجرائية إلى تقسيم الجانب المفهومي إلى مستويين. ذلك لأننا سنتأمل، في البدء، المشكل المفهومي من الناحية العامة، ومن ثمة تأمل المشكلة التي تعتري المفهوم والنقص الذي يشكو منه. إننا سنتعاطى مع الجانب المفهومي في مستواه الأول بوصفه فرضيةً ليس إلا، حيث إن كنا غير قاطعين بوجود المشكلة المفهومية، فإن افتراضها للاعتبارات المذكورة يظل أمراً تقتضيه المعالجة العلمية. وفي المرحلة الأخيرة، مرحلة إعادة بناء المفهوم وتطويره في ضوء المعالجة الإنسانية والدينية، ستكون الزاوية المفهومية في هذا المستوى بمثابة نتيجة وثمرة لهذا التأمل. وهكذا تكون النتيجة هي الفرضية، وتأكيداً لصدقها، لكن بصورة أوسع وأنفذ وأكمل من الفرضية. ذلك لأن النتيجة في الحقيقة لا يمكن أن تكون مجرد تأكيدٍ لصدق الفرضية، بل إن النتيجة تستزيد كمالاً وجدة ونضجاً وتبلوراً مع سير البحث والنظر. فالتحليل والمعالجة ليسا غير معنيين بتطوير النظر للفرضية نفسها، بل إن للتحليل والمعالجة دوراً أكبر من مجرد تأكيد الفرضية. إن الفرضية ما هي إلا مدخل ممكن في مجاهيل الإشكالية. والنتيجة لا تأتي بالضرورة مساوية للفرضية، بل هي أكبر منها قطعاً، لأن خطوات التحليل والبرهنة العلمية تفتح العقل على آفاق وتدرجات معرفية لا تنطوي عليها الفرضية. فكل مرحلة وكل نكتة في سيرورة البرهنة تفتح كوّات هائلة للحدوس التي ترافقها وتخرم وسائطها وتتربص بها، فإذا بالفرضية تجد نفسها مع كل خطوة في البرهنة أمام آفاق جديدة وموسعة. فتنضج الفرضية تباعاً، وتنمو مع سير الدليل والتحليل. لذا رأينا أن الحديث عن الجانب المفهومي يتطلب مستويين: أحدهما فرضي، وفيه سنشير إلى مشكلة المفهوم العامة، والثاني استنتاجي، وفيه سنعيد بناء المفهوم الخاص، أي الخروج بتصور مختلف لمشكلة التسامح والتعصب. وبينهما سيجري الحديث عن التسامح إنسانيًّا ودينيًّا؛ واقعاً مفترضاً وبديلاً مطلوباً.

في التسامح مفهوميًّا

ليست المفاهيم عناصر قارّة، أو مفصولة عن أنساقها المعرفية. فمثل هذا القرار لا نُسلِّم به حتى للعناصر الطبيعية ولا للجبال التي يراها الناس ثابتة فيما هي تمرّ مرّ السحاب. فبما أن عالم البشر محكوم بقوانين اجتماعية وتاريخية شديدة التحوُّل بحكم المجرى التداولي الذي لا يني يتطور حثيثاً بحثاً عن الكمالات الممكنة، حتى أن النكوص إلى ما بالقوة بعد التحقق بالفعل من المحالات، فإن ثبات المفاهيم وعدم تقيُّدها بالتحولات التي تمس أركان النمط المعرفي هي من كبرى الأوهام التي لا يزال يدين بها عموم البشر. وكنا قبل ذلك وفي محل آخر قد أشرنا إلى أهمية نقد النمط المعرفي، الذي لا يزال أمراً غائباً عن تفكير أهل الأديان بصفة خاصة، نظراً للوهم الذي يجعلهم على درجة كبيرة من الخواف بفقد ميزة الثبات في هذا الدين. كما لو أن فكرة التطور والحركة مهددة لجوهر الدين ذي الطبيعة القارّة والثابتة. وقد كنا بيَّنا في محله أن القول بالثبات هو بخلاف التصور الديني الصحيح، لأن القول بالثبات يحرم البشر من حقهم في التقدم والتطور ابتغاء الكمال، إذ الحركة ما هي في نهاية الأمر سوى هذا الخروج من القوة إلى الفعل طلباً للكمال. إن القائلين بالثبات، يتوهمون أننا نعيش في عوالم الكُمَّل الذين لا حاجة لهم لمزيد من نشدان التقدم والتطور. بل حتى أولئك الذين قسَّموا العالم إلى ثابت ومتحوِّل، في محاولة توافقية وسطية ميكانيكية وليس تواسطية جدلية، كانوا قد وقعوا في المحذور من حيث أنْ لا ثبات على الإطلاق في عالم غير الكُمَّل. وأن ما يبدو لهم ثابتاً هو متحوِّل بالذات أو بالعرض أو بالشأنية. لذا تحدثنا برسم التواسطية عن مفهوم الثابت/ المتحوِّل وليس الثابت و المتحوِّل. لقد شهدت أوروبا خلال القرن التاسع عشر ذلك الجدل الذي فجَّرته الداروينية، حيث تعدَّى النزاع من دائرة العلم إلى دائرة الأيديولوجيا. فكان الصراع بين موقف التطور وموقف الثبات، الذي مثَّله رجال الدين. ومع أن قسماً كبيراً من نتائج النشوئية الداروينية واجه اعتراضات علمية اليوم، إلا أن الغلب الذي مكَّن الداروينية من الانتصار هو الفلسفة التي تكمن وراء كل الاستنتاجات الداروينية بما في ذلك الاستنتاجات التي ثبت اليوم خطؤها العلمي. ومع ذلك ففكرة التطور والحركة مما فاضت به فلسفات البشر منذ أقدم العصور الفلسفية إلى يومنا، حتى أن العالم الإسلامي شهد من علماء الدين والفلاسفة من أقر بالحركة الجوهرية كما لا يخفى، مقيماً عليها أهم الأدلة الفلسفية وأحكمها حتى الآن. وإذا كان عالم البشر هو في تحوُّل وتطوُّر شؤون، فإن الإنسان لا يعاقر العالم مباشرة، بل يفعل ذلك حتماً بواسطة الفهم. وما تطور الأفهام إلَّا عَرَض لتطور شؤون البشر، يتحدد ذلك بتجدد النزوع وتطوُّر أشكال التكيُّف مع المحيط والعلاقة مع الأشياء.. فالإنسان هذا الكائن الثوري الذي لا يتحدد وجوده بالنمط المعرفي الواحد، يجدد فهمه للأشياء بما في ذلك الأشياء التي تبدو له ظاهرة، فلا شيء ثابت على الإطلاق. ولقائل يعترض قائلاً: حتى الله؟!

نقول: إن ثمة ما يغفله هؤلاء في تصورهم للتوحيد. فتصورهم لله من سنخ تصورهم للمخلوق؛ حيث ما قدَّروا الله حق قدره.. فلم يقدِّروا مخلوقه حق قدره.. فلا يعون سر الإلوهة الا مقدار ما يجود به الخيال، وهو من الحس. بالخيال نفسه أدركوا من أمر الجنة رُمَّاناً ولحم طير مما يشتهون، لا متعة عالم العقل التي لا يحدُّها خيال.. فأقول:

أولاً: إن الله كل يوم هو في شأن كما أخبر عن نفسه، وهو ما أسميه بالحركة الشأنية، وهي على كل حال، شأنية الفيض والتجلي الجلالي والجمالي بلحاظ أحوال الممكنات القابلة للحوادث كما شاء لها بارئها، وقائمة مستمرة بواجب الوجود. فلا يذهب بك الخيال والغفلة عن الاعتبار مذاهب الغمر الدهماء، فكلٌّ بحسبه، فافهم!

ثانياً: إن معرفتنا لله ليست قارة ولا يستحسن أن تكون ثابتة، فهي متطورة بحكم المجاهدة والأسفار العقلية والروحية نظراً وسلوكاً، يُدرك ذلك من آنس مقامات أهل الأحوال، وذاق من متعة رهق الأسفار ما ذاق.

ثالثاً: إن فهمنا مهما علا لن يدرك حقيقة الله المتعالية، فلكلٍّ حصة من الوصول ولا وصول إلا لأهل الأسرار، ولهم في حاقّ المرتبة المذكورة مراتب تخضع لتراتبية مناسبة للمقام.

رابعاً: فلا يحسبنَّ أحد أن حديثنا عن الحركة الشأنية هو حقيقة في حق الله تعالى عن ذلك علوًّا كبيراً، وتنزَّه عن سقطات المعبرين، بل هو من باب التقريب للأفهام القاصرة، والعقول الدانية التي يتربَّص بها التشبيه ويلابسها الخيال ويدبُّ إليها التجسيم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء. ومن هنا معرَّة المتكلمين عن الله من دون قيود إحرازية، وآفة المفاهيم وضرورة تطورها، وبؤس اللغة وقصورها عن وصف ما كان من أسرار الحضور وهوله لا الحصول وهونه. بل إذا سلمنا بأن الله لا يجوز في حقه الحركة المتوقفة على الأحياز والأزمان، فإن الثبات أيضاً لا يجوز في حقه لأن الثبات أيضاً يستدعي تصور مكان الثبوت والدرجة الصفر للزمان، وفيه تعالى لا يجوز لا القول بالثبات ولا القول بالحركة، وكل ما نتصوره كذلك في حقه كالحركة الشأنية هو باعتبار علاقة الخلق بفيض نعمائة وبما يبدو للأفهام من أمره. لأننا جُبلنا على تصور ابتدائي للفراغ والزمان، سابقين بالمعنى الكانطي لكل تحصيل وخبرة معرفية، وحيث تقصر بنا اللغة ويقصر بنا الفهم أن نتصور المطلق خارج الزمان والمكان، تأكدت قيمة المجاز والعجز عن التعبير على وجه الحقيقة. وهذا التجدد هو الذي يكسب وجود المخلوق معنى حقيقيًّا. من هنا نؤكد أن الخوف الذي لاحق به أهل الأديان فكرة الحركة والتطور، هو نابع من طبيعة النمط المعرفي الذي تحددت به طريقة تصورنا للأفكار والمعاني، ما جعل عالم البشر عالماً لأدعياء الكمال، أي آلهة مزيفة تكتفي بمنازلها في الوجود. والحق أن الثورات المعرفية التي قطعها الإنسان، ولا سيما الحداثة التي بلغ تأثيرها إلى أهل الأديان أنفسهم، وساهمت في تعريفهم بالكثير من أسرار أديانهم، قلبت التصورات الموروثة عن النمط المعرفي المهيمن قبل الحداثة، وإن وجد مبثوثاً أشتاتاً في خزائن الأقوام السابقة. يعتقد أهل الأديان بأن الحديث عن تحوُّل المفهوم هو جرف لأركان مجال تداولي غير قابل للخرم بأي حال من الأحوال. بل يرون في ذلك استحداثاً لمفاهيم جديدة ولأفكار جديدة على أنقاض فكرنا ومفاهيمنا وقيمنا. على أننا متى أمعنا النظر في التاريخ السوسيو-ثقافي للمسلمين مثلاً، نقف على تحوُّلات كبيرة في نمط المعرفة واستحالة المفاهيم والأفكار إلى مستويات نسقية مختلفة. فنمط التفكير عند المسلمين في القرن الرابع الهجري يختلف عن النمط المعرفي لديهم في القرون السابقة واللاحقة. ولا داعي للاستشهاد بتاريخ اليهود والمسيحين أيضاً. إن التحوُّل الذي يطرأ على الأفكار والمفاهيم لا يعني نهايتها وتلاشيها كما يؤكد أنصار الثبات والمجال التداولي الخاص، بل نعتقد بموجب المجرى التداولي الذي يجعل عالم البشر في نمو دائم وتطور ونشوء مفاهيمي وأفهامي هو تجلٍّ لحركة إنسان متطلع إلى أرقى الكمالات التي هي جبلِّية فيه، ومقوِّم من مقومات وجوده. وعلى هذا الأساس نعود ونقرر أهمية وضرورة التعاطي المتجدد مع الدين بوصفه تعاليم وليس منظومة مركبة بحسب النمط المعرفي الذي صادف مورد تنزُّلها الأول، مما يعطي مشروعية للتأويل المضيَّع في لجة دعاوى التقيد بالمورد الوحيد. لأن تفكيك التعاليم إلى شذر مذر يتيح معاقرتها من مستوى آخر ووفق نمط معرفي معاصر يستجيب لتطلعات الإنسان المعاصر وإكراهات وشروط وجوده. أي ما يتعين تلاشيه هو النسق المتركب من هذه التعاليم والذي يوظفها بحسب أنماط لعلها كانت تتحدد بشروط الاستجابة لشروط وظروف ما. فموت النسق هو مقدمة لنشوء نسق جديد تتواجد فيه التعاليم نفسها لكن في نسق وظيفي مختلف يستدعي جوانبها المعطلة أو مكامنها اللامفكر فيها قبلا[2].

 

إن الأفكار متى ما انهدَّ النسق تصبح في حال من التسكع والشتات، كأيتام لا مأوى لها تتطلع إلى أنساق تستوظفها. إنها بمثابة أطياف هائمة يأخذها الحنين للتناسق، وإلى أجساد لتتلبسها وتصرعها صرع الأرواح الشاردة للأجساد. فمتى ما تحررت الأفكار من نمط معرفي، تصبح أكثر تحرراً وتنتشر بشكل كبير وفوضوي وتتسلل لأحشاء كل المنظومات. لذا عبثاً نحاول الحديث عن موت الأفكار والتعاليم أو نهايتها. بل كل ما هنالك هو إعادة انتشار أو عن إعادة تركب أو تحرر الأفكار من وصمة النسق وقوانينه وإكراهاته. نعم، للأنساق نهاية، لكن الأفكار لا نهاية لها. إن القطيعة هي مع النمط لا مع الأفكار، مع طريقة في تركب الأفكار والتعاليم وليس مع الأفكار التي هي مثلها مثل المادة لا تخسر ولا تربح لكنها تعيد تشكيل نفسها: قاعدة لافوازييه مناسبة هنا أيضاً. ولذا لا غرابة أن الأفكار ذاتها تجدها تتحرك بين أهل الأديان والمذاهب المختلفة، وفي نوع من الحرية. لذا أمكن أن تجتمع الناس وتتفق على أفكار، دون أن تتفق حول أنساق. إن قيمة إعادة التعاطي مع التعاليم خارج أنساقها هو أن عملية التنزيل بعد المورد الأول أصبحت بيد التأويل. لقد أصبحنا نحن من يتحكم في عملية استنزال النصوص على وفق ما تتطلبه ضرورات واقعنا المعاصر. نحن المكلفون اليوم باستنزال هذه الأحكام تأويلاً. فحين يستنفذ نمط معرفي ما أغراضه يتعين تحريره من أغلاله باستثارة باطن العقول. وقد تأكد أن تاريخ المعرفة لا يقبل بالفراغ، بل هو مسلسل طويل من الثورات المعرفية الهائلة. إن النمط المعرفي هو كيفية من تركب الأفكار التي تحدد علاقتنا بالعالم وليست هي الأفكار نفسها. من هنا تظل مشكلة البشر ليست مع الأفكار كما هي، أفكار مجردة، بل هي مشكلة مع الأنساق والمركبات وأنماط التفكير. إنني أعتقد أن البشرية جربت أقوى أشكال التفكير في كل زمان ومكان. وحجم التفكير في الفزياء النووية والهندسة الوراثية لا يفوق حجم التفكير في الاستقسات الأربعة، إذا وضعنا كل تفكير في لحظته التاريخية وفي صلب النمط العلمي والفلسفي المهيمن. وحينما نقرأ نصًّا لأرسطو أو ابن سينا أو ابن عربي أو ابن خلدون فإننا نكتشف قوة تفكيرية تفوق درجة العمق الفكري لمفكرين معاصرين. قد يكون ديكارت أكثر حداثة من ابن سينا، لكن ثق تماماً أن ابن سينا أقوى وأعمق تفكيراً من الأول. إذن هل المسألة تتعلق بقوة التفكير أم بجريان التفكير ضمن قواعد ومقاصد النمط المعرفي؟! من هنا فإن حجماً كبيراً من التعاليم الإسلامية الحاثّة على التسامح لا يجدي أمام قليل من الأفكار التسامحية التي بشَّر بها فولتير ونظراؤه، وإن كان تاريخ الغرب حافلاً بالإجرام ضد الإنسانية، لسبب بسيط، وهو أننا نتعاطى مع مقولة التسامح بوصفها فكرة أو فضيلة أخلاقية وليس بوصفها مفهوماً يستند إلى مرجعية فلسفية وتاريخية ونمطية. إن المطلوب من الفكر الإسلامي ليس أن يحشد ما لنا من تعاليم تحث على التسامح بقدر ما هو مطالب بأن يقدم أجوبة معينة عن أسئلة محددة. والنجاح في الإجابة عن هذه -لنقل- الأسئلة النموذجية للتسامح هو الذي يحدد هل هذا الفكر تسامحي أم لا. على هذا الأساس، فإن الغرب بما أنه أجاب عن هذه الأسئلة المحددة، اعتبرت أنظمته السياسية ومجتمعاته المدنية وثقافته تسامحية، حتى لو شابها ما كان يعد مدمراً لأمم أخرى أو حتى لطبقات اجتماعية أخرى. إن الجواب على الأسئلة النموذجية هي أجوبة أيديولوجية. ولذا لا ينفع أن يواجه الغرب اليوم بنماذج من انتهاكاته لحقوق الإنسان خارج مجتمعاته. فثمة على كل حال أنماط تتحكم بالعلاقات الدولية كما أن ثمة أنماط تتحكم بالمعرفة. من هنا سيظل الجدل عديم الفائدة ما دمنا نصرّ على الحجاج القائم على المعالجة المنطقية المجردة التي تتجه إلى نفس الأمر ولا تلحظ الأنماط المتحكمة. إن حالة الغرابة التي تنتاب القيِّمين على الفكر الإسلامي إزاء الجدل السفسطائي وسياسة الكيل بمكيالين ناتجة عن أنهم يفكرون في نفس الأمر ويخطئون أنماط المعرفة. أي أنهم لا يفكرون تفكيراً معاصراً. وكان بإمكانهم أن يقدموا للنموذج الحديث الكثير من أفكارهم، لو أنهم أدركوا أن الطريق إلى ذلك يتم بالاندماج الإيجابي في الحداثة والقائم على أساس المناورة في ابتكارالنموذج الناجح، وليس محض الممانعة السياسية والديماغوجية التي هي على نفعها المحدود، لا تتجاوز الموقف السلبي الذي يحمي الديار ولكنه يبقي دار لقمان على حالها.

التسامح: إشكالية المفهوم وفلسفته

قد يبدو الحديث عن التسامح من ناحية المفهوم، ضرباً من التجريد لا يخدم الغرض، من حيث إن التسامح قيمة أخلاقية، هي إلى العمل أنسب منها إلى النظر. فأي إغراق في التحليل الفلسفي للمفهوم، من شأنه الخروج بالنقاش إلى ترف القول وزوره. فهو بهذا المعنى حديث بلا هدف، ونزاع لا تترتب عليه ثمرة. وهذا اعتقاد مغالط، وإن كان يستند إلى عموم ما تقع فيه مجمل التنظيرات حول القيم، حيث قلَّما تحرر محل النزاع، وقلَّما يسرت ولوج الموضوع من دون صعوبات مفهومية من ذاك القبيل. غير أن حصول مثل هذا النوع من الانزياح عن الأغراض الموضوعية لأي نقاش مفهومي، ليس دليلاً على عدم جدوى ذلك. إن جل مشكلاتنا المعرفية تبدأ من الأرضية المفاهيمية التي تنطلق منها جل حواراتنا أو نزاعاتنا. فمن المفهوم ما قتل! فبينما يبدو لنا الأمر كما لو كنا متفقين على منطلقات مشتركة في النقاش، فإن الحقيقة المرة، هي أننا ننطلق من أشد ما يكون الاختلاف قسوة في منطلقاتنا المفهومية. فلو أننا وعينا بذلك منذ الوهلة الأولى لكان الأمر واضحاً يسيراً أمام المتناظرين، فالاختلاف المفهومي لا يؤدي إلى اتفاق، بل مقتضى الاتفاق ولو على أرضية مشتركة للحوار، يقتضي تفاهماً مشتركاً تشارطيًّا محكوماً بمعايير نظرية. إن مفاهيمنا تحتاج دائماً إلى قدر من إعادة البناء والتوجيه والتفكيك والتجريد. فالتجريد شرط من شروط إعادة النظر في القيم العملية. حيث إن كان ما هو واقع هو واقع بالفعل، فالتجريد النظري هو بحث في الإمكان، وبحث فيما هو في حكم ما ينبغي أن يكون. ترى هل حقًّا قمنا بما يكفي من التجريد لمفهوم التسامح كما يتناهى إلى مسامعنا بالليل والنهار عبر وسائل الإعلام المختلفة؟! هل حقًّا استطعنا فهم هذه اللغة التي استبدت باهتمام العالم؟! وإذا كان الأقوياء اليوم هم أكثر صناع العنف ومروجي ثقافته، فهل المعني بالتسامح هم الضعفاء والمعذبون؟ إننا عندما نتحدث باسم التسامح، ترى هل نتحدث لغة واحدة أم أن منا من يفضل ضروباً من الرطانة، ليصبح التسامح نفسه فخًّا من فخاخ أيديولوجيات الموت الناعم ودعابة ساخرة لمصاصي الدماء لحظة اختفاء القمر؟! من شأن المعالجة المفهومية أن تعيد النقاش العقلاني إلى محله، وإنقاذ المفاهيم من خطر المجمودية والانقلاب الذي يطرأ عليها بسبب استبداد شيطان الأيديولوجيا وصرعها الجسد المعرفي والقيمي[3]، و

 

من ثمة، استدماجهما في لغة التزييف.

مسألة المنهج والإطار المعرفي

من حقنا أن نتساءل: في ضوء أي منظور مفاهيمي، وفي إطار أي نموذج يجري الحديث اليوم عن التسامح؟

إن أي نقاش فوضوي للتسامح، أو أي معالجة خارج المكون المفاهيمي والنموذج المعرفي المحدد له، لن تجدي نفعاً. فالتسامح، هذا المفهوم اللفظي المتداول ببراءة، حملته كل اللغات الإنسانية بقدر يفوق أو يقل بعضها عن بعض. بل ربما لو فتشنا في قواميس الثقافات خارج المجال الأوروبي، لوجدنا للتسامح حضوراً في لغاتها هو من الغنى، بحيث تبدو الثقافة الغربية أمامه في حكم اللغة الفقيرة. إذن، إنها ليست تعبيراً لفظيًّا، بل إنها مفهوم أيديولوجي مركب أيما تركيب، يستند إلى اللغة الفلسفية قبل كل شيء، وإلى المرجعية التاريخية التي على أنقاضها قامت الدولة الحديثة في مقاصدها القائمة على العيش المشترك والتسامح الديني. ومثل هذا المفهوم هو الذي تحدَّث عنه فولتير بكثير من الحماسة؛ مفهوماً أيديولوجيًّا يرسم آفاق مجتمع أنهكته الحروب الطائفية بين المذاهب المسيحية الكبرى وبين الأديان الأخرى. إن مفهوم التسامح، يحمل وراءه كل هذا التاريخ الصراعي المرعب، ويختزل كل تلك الصورة التاريخية لملاحم الفتك والتدمير الذاتي التي مارستها أوروبا جوانيًّا قبل أن تشرع بعد قرون من ذلك في التعدي بها إلى الخارج في شكل غزوات وحشية ومدمرة لدول ومجتمعات ما وراء البحار. لقد تناول فولتير ككل الأنواريين يومها مفهوم التسامح بحماسة منقطعة النظير. هذا التسامح الذي كان عليه أن يجد لغته في الفلسفة وليس في الدين كما أكد فولتير نفسه. وهو التأسيس الذي سيستمر تباعاً عبر مسلسل من المحاولات النقدية للأورثدكسية الدينية مروراً برسالة سبينوزا في اللاهوت وانتهاءً بالنقد الكانطي للدين اللاهوتي، وهي محاولات للقبض على شكل جديد من الدين: الدين العقلاني الخالص الذي يخفف شيئاً ما من سلطة المطلق النظري ويفتح المجال للنسبي حيث يمكن فقط وفقط قيام فكر التسامح. إن عبارات فولتير عن التسامح تحيلنا إلى ذلك الجانب التاريخي المحمول في ثنايا المفهوم نفسه. فهو يقيم المفهوم المذكور ويحيطه بكل مقومات النموذج المعرفي ومميزات الصراع الأيديولوجي لعصره. مقومات تستند إلى الادعاءات التالية:

- التسامح لا يكون في العلم، بل إن موضوعه هو الأديان، لذا فالعلماء لا يختلفون. ومقتضى هذا الكلام، أن دائرة التسامح محصورة لا عامة[4].

 

- لغة التسامح وميدانه الفلسفة وليس الدين[5].

 

- أن الدين الأكثر إيحاءً بالتسامح من بين كافة الأديان الأخرى هو الدين المسيحي[6].

 

وهي الادِّعات التي تجعل المعالجة الفولتيرية للتسامح مرتهنة للنمط المعرفي لعصره، وهي تمجيد علوم بعينها إلى درجة الهوس كما هو شأنهم مع الرياضيات وتحديداً مع الهندسة. التمجيد والتسليم الكامل للفلسفة. التمركز الديني، حيث متى تعلق الأمر بالأديان، اعتبرت المسيحية في مقدمة كافة الأديان الأخرى.

مع أن التسامح ظهر أول مرة كخطاب أيديولوجي يكتسي طابعاً إنسانويًّا مع رواد التنوير الأوروبي، في المجتمعات المسيحية، كردِّ فعل على التعصب الديني تجاه الآخر المختلف دينيًّا أيضاً، إلا أن التيار العارم لنزعة التمركز والتعصب للمجال، سرعان ما رأى في المسيحية الديانة الوحيدة التي تنطوي على هذا المخزون من قيم التسامح على الإطلاق. وهذا بخلاف باقي الأديان الأخرى. وقد كتب فولتير كتاباً حول التعصب أو محمد النبي، كمثال على التعصب. وقد بدا هذا القدر من التعصب للقيم المسيحية ولمجمل ما يتقوم به تيار التمركز الأوروبي مجاليًّا، ضروريًّا لتأمين الحد الأدنى من التعصب داخل المجتمع المسيحي الأوروبي. إن دعاة التسامح وكبار مؤصليه غداة النهضة والأنوار الأوربيين، لم يستطيعوا الانفلات والتحرر من سطوة هذا النوع من التعصب المقوم لأفضلية المجال الأوروبي، من أجل القبض على التسامح في كل الثقافات وكل ما أبدعه الإنسان أو دان به، بالبحث عن اللامفكر فيه أو اللغة المنسية في الثقافات والأديان والفلسفات. والواقع أن التاريخ لا يزال يجود ببعض صور التعصب الديني الذي عاقرته الأديان، جريًا وانسياقاً مع الأنماط الوحشية التي حكمت مجتمعات القرون الوسطى وما قبلها. بل والتي لا تزال حاكمة على النمط الحديث ولو بأشكال وألوان أكثر خداعاً لكنها أكثر فتكاً بالآخر من بين كل العصور. إن التعصب هو إنساني. والخلل الواقع في عملية التجادل الطبيعي بين التعصب والتسامح هو سبب عنف الإنسان وخروج التعصب من دائرة الإيجاب إلى دائرة السلب، حينما يصبح تعصباً ليس نضالاً لأجل التواصل والتعايش مع الآخر، بل تعصباً ضد الآخر.

إن الآراء الفولتيرية بما في ذلك الآراء الأكثر حماسة، تعكس بصورة صارخة غرور عصر الأنوار وثقته العمياء في العلم، وتحديداً الهندسة. إنها الأفكار الأولى المؤسسة للعلموية وللتعصب الوضعاني في منتهى هذيانه. وإذا كان التعصب ينزع إلى تصويب الرأي الواحد والمطلق، فإن كل آراء فولتير كانت تمارس بعضاً من التعويض في جهة العلم. أي التعدد في الآراء والمعتقدات. لكن التعصب لوحدة العلم، كادعائه وحدة الهندسة التي قارن بينها وبين الأخلاق في مقام آخر، مؤكداً بذلك أن العصبية للعلم التي طبعت عصره بنحو من التطرف، ستكشف على مدى تهدله هندسة ليوباتشوفسكي وريمان والهندسات اللاأقليدية. بهذا يكون فولتير وعصره، يقطع مع نمط من العصبيات ويؤسس لنمط جديد منها، لعله المسوغ الأيديولوجي التاريخي لعنف الحداثة والنزعة العلموية التي ستأخذ في النمو وتدخل طورها التعسفي، أي الوجه اللاتسامحي للحداثة نفسها، والتي حركت عملية النقد الكبرى لما قيل عنه حداثة بعدية تسعى لتعرية الوجه العنيف للحداثة بشيء من الفضح الذي تبدو فيه الحداثة صانعة العنف الأكبر في تاريخ النوع. قصارى ما هنالك أن التعصب برح المجال الديني ليبني له مملكته في العلوم البحتة وفي الفلسفة. ومن ناحية أخرى، إن عصر فولتير لم يكن ليشهد ما آل إليه نزوع بعض الفلسفات الغربية إلى ما دون فلسفة الإنسان، حيث كانت حروب أوروبا -المدعومة بغطاء فلسفي يمتحي مشروعيته من رسالة التنوير ويوظف السوسيولوجيا في عملية الترويض- أكثر فتكاً في تاريخ النوع. لقد شهد عصر ما بعد فولتير انبثاق فلسفة موت الإله وموت الإنسان، وقبل ذلك بقليل ماعت فلسفات الإنسان وتدفقت كأيديولوجيات جوفاء في الصالونات وفي محيط النخب، وساد نوع من النفاق النخبوي، بحيث غدت النزعة الهيومانية أكثر فأكثر مجرد تيار شكلاني، بما مهد لفلسفات موت الإنسان، والبحث عن شكل مختلف للإنسانية، لكن في نهاية المطاف مجاوز للإنسانية في مطالبها التقليدية، بلوغاً إلى منتهى الاستلاب واللامعنى. إن الارتهان للفلسفة لم يكن مخرجاً لإنسانية لم تجد حقيقتها في كل ما أنتجه الإنسان في المجال، فالفلسفة والفهم الديني وكل ما أبدعه الإنسان، لن يخلص الإنسان، ما دام الإنسان نفسه لم يقف وقفته التاريخية ولم يتحصل لديه الوعي بلحظته التاريخية للخروج من حال الاستلاب إلى حال الحرية. إن التعصب والتسامح كلاهما آليتان طبيعيتان في الإنسان. والبحث عن أحدهما ومحاولة ذم الثاني، رؤية قاصرة، حيث الحياة الاجتماعية والحضارات تقوم على جدل التعصب والتسامح. فالتعصب وحده لا يصنع حضارات وكذلك الأمر بالنسبة للتسامح. إنما السؤال المطروح: ما هو مجرى التسامح وما هو مجرى التعصب؟! لاشك أن سؤالاً بالكيفية إياها يحمل سوء تقدير لجدل التسامح والتعصب. فالتعصب لا يظهر مستقلاً وكذلك التسامح لا يظهر مستقلاً. من هنا يكون الحديث أولى عن شكل من التسامح في التعصب والتعصب في التسامح. إن اختلال التوازن في جدلهما هو المسؤول عن كل المشكلات الإنسانية. إذا كان المتعصبون الكافرون بالتسامح مطلقاً يقتلون الإنسان، فإن المتسامحين مطلقاً الكافرين بمبدأ التعصب مطلقاً، لا يحركون ساكناً تجاه عذابات الإنسان، تلك الحركة التي تتطلب تعصباً لغايات أخرى. فيكون حينئذ كلاهما سواء، مشاركين في خراب العالم. المشكلة تكمن فيما وراء التعصب من قيم. فليست حاجة قيم الخير للتعصب بأقل من حاجة قيم الشر له. من هنا كان من المفروض أن نتحدث عن التسامح واللاتسامح كمتقابلين في لغتنا العربية تماماً كما هو الأمر في اللغة الفرنسية مثلاً tolerence et intolerence. وأن نبحث عن مرادفات اللاتسامح في العناد والمكابرة والفضاضة والقسوة والأنانية وغيرها من المعاني التي قد تُشكِّل متواليات قيمية في طول المفهوم النقيض للتسامح. إن البشرية اليوم غير قادرة وليست في الموقع المناسب لكي تقدم دروساً في التسامح لبعضها بعضاً. فالإجرام ما خلا منه مجال. وقد كان الغرب السياسي والعسكري -كما يحدثنا روجيه غارودي- «أكبر مجرم في التاريخ»، وإن كان قد أنتج ثقافة هي الأكثر تظاهراً بالتسامح من أي وقت مضى. وسوف يكون الأمر في غاية المفارقة، ألَّا نعترف بذلك. وليس غريباً أن العنف الذي ينطلق من المجال العربي، لا يكون فعَّالاً إلا إذا اكتسى طابعاً غربياً وبالذات مذاقاً هوليوديًّا كما رأينا ولا زلنا نرى. إن فولتير لم يشهد كل هذا، ولم يشهد عصرنا الذي تبدو فيه الفلسفات أقل إنسانية، وأحياناً أكثر نفاقاً. فالفلسفات لم تكن في يوم من الأيام فلسفات حرة يمارسها أناس أحرار، بل كثيراً ما كانت فلسفات أيديولوجية يمارسها «فلاسفة عمَّال» كما وصفهم نيتشه بكثير من الاشمئزاز. الإنسان الحر هو صانع الفلسفات الحرة. والإنسان الحر هو صانع الأفهام الدينية الحرة. فالفلسفات والأديان الأكثر غنى بمعاني الحرية والقيم الإنسانية إذا لم توضع في المجال المناسب ولم تشهد دورة التاريخ الفعَّال، فإنها سوف تلبس لبس الفرو مقلوباً، وتتحول إلى فكر يُسوِّغ قتل الإنسان للإنسان. فمن المسؤول إذن؟

التسامح مسؤولية من؟

إنه مسؤولية الجميع تجاه الجميع. إن أكثر أشكال التعصب ومفارقاته، تتجلى في نعتنا الآخر بالتعصب ونفي التعصب عن ذواتنا. فهذا منتهى التعصب العاري تجاه الآخر. لقد سكت الغرب السياسي عن أكثر أشكال التيارات عنفاً وتعصباً في ديارنا، وربط علاقات تعايش وتوافق مصالح مع مستبدينا ومتطرفينا. ولم تنطلق الحرب ضد هذه التيارات العنيفة إلا بعد انفراط عقد المصالح بينهما. فالتعصب والتسامح، هما في نهاية المطاف موضوع استغلال سياسي ومصالح سياسية وليست أخلاقية. بما أن السياسة ليست إلا لعبة مصالح. ومن هنا من يضمن أن لغة التسامح الرائجة اليوم ستجد الرعاية الكافية من الغرب السياسي، إذا لم تتحقق مصالحه على أساس من التسامح المؤدلج.

في التسامح إنسانيًّا

قد يخطر للبعض تحت تأثير هجاس الخطاب الميديولوجي، الذي بات يجتاح العالم كالعدوى، أننا بصدد ركوب موج هذه اللغة الغارقة في معميات النفاق العالمي، كما تعاقر دوائر الإعلام السمعي البصري مستقوية بخيمياء الصوت والصورة، في غمرة سباق فانتازي نحو العولمة، مكتسباتها وأوهامها، بغرور يذكرنا بغرور النهضة الأوروبية وبجاحات الأنوار تحت تأثير سكر الميتافيزيقا الجديدة، يوم كان أهل الأنوار حديثي عهد بأحجيات تأليه العقل، قبل أن تنتفض الحداثة ضد مجازات الحالمين. إن العالم اليوم يعيد تكرار المشهد؛ انبهار بشيطان التقنية والتقدم البشري إلى حدود الدرجة الصفر للإقلاع نحو شكل جديد من أشكال الأساطير التي يطلقها خيال إنساني مزود بكل آليات الحجب والإظهار. فأن نحلم بمجتمع متسامح، هو حلم رافق هذه اللعبة الخادعة لمخيال ما فتئ يعد مستقبلات الإنسان بصور الكليانية العقلانية أو الأخلاقية، إذ قلَّما انحدر إلى مقاييس الحد الأدنى من أحلامه، وذلك أبرز دليل على عبقرية الخيال الإنساني التوَّاق إلى كليانية الكمال. لكن هذا التوق التوتاليتاري، إن هو إلا دليل على انشداد الإنسانية إلى ذلك الشكل البسيط من الخيال الذي لم يعد العصر قادراً على مسايرته في هذا الهذيان المتجاهل للواقع المعاش. أي الحلم وفق متطلبات وشروط وإمكانات عالمنا المعاصر، في تجسيد الحد الأدنى من التسامح الضروري لحياة تتسع للمختلف، ويستطيع المختلفون أن يحققوا فيها قدراً من العيش المشترك القائم على الاحترام المتبادل، على مقاييس الحد الأدنى وليس بالضرورة على مقاييس حالمة. فحتى يوتوبيا عصر النهضة كما سطَّرها خيال توماس مور، كانت مثالاً لجزيرة الفكر الواحد والحصر الثقافي، وليست جزيرة للتنوع الجميل أجل، قد يحسب المرء أننا بصدد الانخراط في واحدة من أبرز مغديات الرأي العام الراهن. وهذا بحق أمر يملك دلالته انطلاقاً من هذا التوزيع العالمي لأوهام الاستراتيجيات الكبرى. بل وينضاف إلى ذلك، أننا بصدد تحيين ما كان قد شكل محل نزاع في عصر النهضة والأنوار الأوروبيين قبل قرون خلت. فهل حقًّا هذا هو مناط مقاربتنا؟ إننا لا نساير ذلك الانطباع لسببين: أولاً، إن ما نسعى إليه هو الخوض على خلاف ما يجود به الإعلام. حيث إن غايتنا السير بموضوع التسامح إلى منتهى حقيقته الإنسانية. ليس كموضوعة طارئة بل كضرورة ظلَّت دائماً ملازمة للإنسان. إذا كان النمط السائد في العصور القديمة يقوم على نوع من سلطة القوة العارية، فإن عالمنا الحديث يستدعي صوراً أخرى للقوة، منزوعة المخالب، لكنها ناعمة إلى حد السيطرة بقوة الإغواء والضغط. إنه عالم يستدعي وسائل التحدي بالانتحار، وليس بالحروب. إن التحول في أنماط القوة، جعل الضرورة قاضية بإعادة رسم جغرافيا القيم انطلاقاً من المخزون الفكري والثقافي والديني نفسه، لكن بتوزيع الأدوار بين المتتاليات القيمية في جدل الحضور والغياب. فالحياة الحديثة تفرض هذا الاستدعاء للوجه الآخر المستبعد نمطياً أو اللامفكر فيه في منظومة القيم الإنسانية. إن قيمة التسامح موجودة في كل الثقافات، وإنما يظل الفارق في مقدار بروزها وخفائها بحسب ما يسمح به الكيان ومدى قربه أو بعده من إكراهات الدينامية الحديثة. على أن التسامح لا يزال مطلباً إنسانيًّا لم ينجز بعد، في مجالنا كما في الغرب الحديث نفسه[7].

إن التسامح إنساني والتعصب إنساني. فعالم البهائم ليس عالماً للتعصب والتسامح. من هنا، تعيَّن على الناظر أن يتأمل أكثر فأكثر مثل هذه العناوين، حتى لا يكون ضحية أنماط معرفية، ومغالطات أيديولوجية ومعميات فلسفية مثلما نقلت لنا آراء فولتير الحاكية عن نمط في التفكير مرتهن ليوميات ما جاد به المشهد الاجتماعي والديني والسياسي الأوروبي حينئذ. من هنا اجتمعت بساطة المعالجة وسطحية التفكير وضحالة المعطيات الفلسفية والعلمية، إلى جانب الخطاب التنويري والعقلاني الذي استند إليه هذا الأخير. وهي بلا شك، تهمة لعصر بكامله غرق في بجاحات وتنطع نهضوي موسوم بغرة وسذاجة وليست تهمة لفولتير الذي حاول إشعال شمعة في ظلام أوروبي أشبع استبداداً عارياً وتعصباً غالياً. وطبعاً إنها تهمة لا معنى لها إلا بلحاظ معيار التقدم المعاصر وبأثر رجعي. فليس غريباً أنه فيما كان ينقله فولتير من التجربة الإنجليزية إلى الشارع الفرنسي، جعله يبدو في وضع القابع بين فكي مستويين من الخطاب التنويري. فبقدر ما يبدو لا دينيًّا أكثر بالمنظور الفرنسي يومها، كان يبدو أكثر تديناً في نظر الإنجليز حسب ويل ديورانت. إنها مسألة نسبية للغاية. وإذا كان التعصب والتسامح كلاهما إنسانيين، فهل يعقل أن تخلو الحياة الإنسانية منهما؟! إن المطلوب، هو حياة إنسانية يتناغم فيها التعصب والتسامح في تجادل مستمر. فحتى التسامح لا يمكن أن يسود العالم بتسامح. فالإصرار على سيادة لغة التسامح في العالم تتطلب قدراً من التعصب للتسامح. بل إن ما ينقص العالم اليوم هو فقدان الحد الأدنى من التعصب لقيم نبيلة، ليس التسامح سوى ثمرة من ثمراته. فالعيش المشترك هو مجال تكامل وتجادل التعصب والتسامح. التعصب للحياة الجماعية والوطنية والصبر على الآخر كلها مصاديق للتعصب لقيم إنسانية نبيلة ونافعة. فالذين يقبلون بالآخر، هم بلا شك متعصبون لقيم خفض الجناح والصبر والعفو والمدارات وما شابه.

هل العالم متسامح؟

إن الحكم بالإثبات والنفي، لن يجدي هنا نفعاً، ولن يؤدي إلى مطلوب البتة. فهو بهذا المعنى جهل مركَّب، من حيث إن التسامح ليس محمولاً إنسانيًّا على نحو الوجوب. بل هو محمول إنساني على نحو الإمكان. فتعيَّن القول إذاك بأن التسامح لا يوجد بقدر ما لا ينعدم مطلقاً. إن عالم البشر منذ غابر العصور إلى يومنا هذا، هو عالم تناقضي، يتعايش فيه التسامح والتعصب. يتغالبان تارة ويتكاملان تارة أخرى. ليس ذلك لأن التسامح هو القيمة الوحيدة التي تطبع حقيقة الإنسان، بل لأن العصبية قيمة أخرى لا محيد عنها في دنيا البشر. فعلى مدى آلاف السنين من تقدم البشر على ظهر هذا الكوكب، لم يختف التسامح ولم يختف التعصب مطلقاً. كل ما هنالك، أن القيمتين معاً كانتا تتبادلان الأدوار والحكومة على فعل الإنسان، فثمة مساحات اتسعت في عالمنا المعاصر لمزيد من التسامح. غير أن ثمة مساحات أخرى تقلصت لصالح التعصب. إننا نبدو أكثر تسامحاً في عصرنا لأننا أنتجنا الدستور ودولة الحق والقانون كما أنتجنا مفاهيم نظير التعددية وحق الخلاف والعيش المشترك وثقافة التسامح. حتى أن عصرنا يبدو كما لو كان عصر التسامح بامتياز، إذا ما قورن بالعصور الغابرة. ومع ذلك فإن عصرنا من جهة أخرى يشهد على نفسه بأنه أكثر عنفاً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً، إذا ما نظرنا إلى سياسات توزيع الثروات وإلى العنف الممارس ضد البيئة وإلى العنف الذي تمارسه القوانين نفسها في حق الإنسان المعاصرالأكثر استيلاباً في أنماط العيش وأساليب وفنون الاستهلاك المفروضة والعمل، وإلى ضروب التحطيم الذاتي التي يمارسها الإنسان ضد نفسه تحت تأثير ضغط النمط الحديث، ومظاهر الانتحار الفردي والجماعي والحروب التي تحصد ضحاياها بالجملة، وشعوب تقع تحت لعبة زر تتحكم بها أنامل وأيادي خبيرة تملك تدمير الكوكب مرات ومرات، في أبشع مفارقة لصناعة الموت وقتل الموتى مرات عديدة، نعم، ربما زاد أمل الحياة بفعل الإنتاج وتطور النظام الغذائي والطب، لكن هذا لا يعني -على انحصاره في بؤرة الشمال الغني دوليًّا وفي الطبقة الميسورة اجتماعيًّا- أن ضغط الحياة المعاصرة والتوتر اليومي لنمط الإنتاج جعل مقدار ثمانين سنة من متوسط عمر الإنسان في البلاد المتقدمة لا يساوي أربعين سنة من عمر الإنسان البدائي الذي كان يجد ذاته بصورة يومية وليس فقط يجدها في ملهياته الموسمية؛ شهراً في العام. إن البدائي الذي يعيش أربعين يوماً كاملة ليس هو الإنسان المتقدم الذي يعيش ثمانين شهراً، هي مجموع عطله الصيفية التي قضاها متسكعاً عبر القارات يستبرئ فيها من كل ضروب الاستلاب في العمل والضغط والتوتر كما أنتجتهما أنماط الإنتاج ووسائله في الدولة الحديثة، أنماط وشروط العمل التي هي بمثابة عبودية مقنعة في إقطاعيات مقنعة وإن اتَّحد المناط. وهذا أيضاً لا يعني أن حياة البدائي هي مستودع للتسامح، كما حاولت دائماً الأنثربولوجيا، من خلال التلميع الشعري لصورة كل ما وجد طريقه خارج التطور التاريخي لعموم البشر. فلكلٍّ نسبته من التعصب. ندرك ذلك متى ما نظرنا إلى مشاهد القرابين التي قدَّمها الإنسان البدائي تفادياً لغضب الطبيعة، ضحايا إرهاب الطبيعة؛ أو بالأحرى ضحايا الجهل المركب بقوانينها؛ إنه بالنتيجة جهل الإنسان المسؤول عن تقدمه وانحطاطه. قديماً أو حديثاً. فليس المطلوب حينئذ الاعتراض على المقاربة الأنثروبولوجية النمطية بإيراد مثال تعلق الـ«homo-oeconomicus» بأشيائه إلى حد الاستلاب تنويعاً على مبدأ المشاركة، بل أليس من الجرأة المطلوبة، القول بضرورة التعدي بالمقاربة الأنثروبولوجية إلى المجال الغربي الحديث، حتى يصح أن يقال بأن انشداد الإنسان الحداثي لأشيائه حق، حيث دائماً اعترفت الأنثربولوجيا بهذا التعلق الإنساني بالأشياء. فالإنسان الحديث كالبدائي بتعبيرهم سيان في مبدأ التعلق والمشاركة. كان الإنسان دائماً ولا يزال في دوامة من الاستلاب. تغيَّرت صوره وموضوعاته لكن ظل جوهره قائماً في اللاوعي الجمعي.

إن تاريخ الإنسان هو تاريخ حروب وصراعات، لم يخلُ زمان من عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان. فالتعصب والكراهية كانتا دائماً الحطب الذي تزود به نار الحروب في دنيا البشر. بل هي ما كان وراء كل هذه المكتسبات من توزيع غير عادل للثروة والنفوذ. إن تاريخ البشرية هو تاريخ عنف وعنف مضاد. بل إن التأريخ البشري نفسه -هذا العلم الذي كان من المفترض أن يحتفظ بمساحة من الموضوعية محايدة بوصفه علماً- هو تأريخ عنف. فالضحية يمارس عليه العنف تاريخاً و تأريخاً، حيث يمارس على ذاكرته فعل النسيان والتزييف. فتاريخ البشرية مليء بالإجرام بالقدر الذي يبدو تأريخها مليئاً بالتزوير[8].

 

لم يكن توماس هوبز أقل تأملاً من جون لوك، لما استوعب نظره إلى الإنسان، ذلك الجانب الأكثر شراسة، حينما أعلن: أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. ومع أن هذه الرؤية الأكثر واقعية وبداهة فيما تؤكده مجريات الأحوال، من شأنها أن تزعج حدساً مثاليًّا يرى إلى جانب الخير للإنسان موسعاً له -على طريقة جون لوك وروسو- ليستغرق حقيقة الإنسان، فإن توماس هوبز ينطلق من وقائع تاريخية معاشة، وليس من مثل فلسفية حالمة. لكن كلا النظرتين، ماسكة بناصية الأقصى، تطرفاً وغلواً. فخيرية الإنسان المطلقة لا تقل تطرُّفاً من شرانيته المطلقة[9].

 

لقد فتك الإنسان بأخيه الإنسان في أول رسوٍّ له على الكوكب. فنازع -بحسب أقدم تأريخ لأقدم جريمة إنسانية- قابيل أخاه هابيل وقتله، بسبب رأسمال رمزي؛ القربان. لقد خلَّدت لنا الرواية الدينية، أن أولى جرائم الإنسان ضد الإنسان تضمنت سؤالي «الأنا» و«الآخر»: لماذا تُقُبِّل منك «أنت» ولم يُتَقبَّل مني «أنا». انطلقت إرادة القتل من داخل الإنسان نفسه المزود بهذا الاستعداد من داخل النفس: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}. وهنا تحاول الرواية أن تذكِّر بأن أي شكل من أشكال القتل إنما هي قتل للآخر الإنساني، ومن هنا فظاعته. لكن لا ننسى، أن عامل «الندم» هو أيضاً إنساني. الإحساس بالأخوة الإنسانية يتجلى هنا إلى حد أن مدّ اليد لقتلي لن يكون دافعاً لي لكي أقتلك -موقف هابيل-؛ وبين موقف العدوان والتعصب في أرقى مراتبه. غير أن استمرار الحياة يقتضي تراجعاً وتسامحاً من صلب القاتل الذي قام بمواراة أخيه، تكريماً لذاكرة الضحية. إن قصة هابيل وقابيل، تؤكد الطبيعة المزدوجة إلى حد المفارقة، بين موقف التسامح الإنساني في أرقى مراتب الظلم والجهل، إلى حد أنني سأقتلك حتى لو كنت متسامحاً إلى هذا الحد -موقف قابيل-. كِلا الاستعدادين مغروس في جبلة كائن قال عنه خالقه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[10].

 

أجل إن العالم اليوم لم ينعم بالتسامح المطلوب للتعايش الأمثل بين البشر. وفي العصر الحديث، قامت حروب هي الأفتك من نوعها في تاريخ النوع. فالعالم كله دخل أتون حربين عالميتين، بوسائل تدمير هائلة. وأما ثقافة العنف كما نراها اليوم غذاءً للنشأ تغزو قاعات السينما وكل البيوت عبر الأقمار الاصطناعية، فقد تجاوزت الصورة التقليدية لعنف الإنسان. بل إن العنف كما تقدمه هوليود، هو عنف قذر، لكنه -يا للمفارقة- معروض في أحشاء جمال الصورة، وتقنية الإخراج. فالجريمة لم تعد واقعية، بل لقد اخترقها الخيال؛ خيال عنيف ومجرم إلى حد تورم العنف المتخيل كما تعكسه حالة المجاوزة للجريمة التقليدية وصورة جثت الضحايا الملفوظة في كل مكان. فالدم لم يعد أحمر قرمزيًّا كما هو المعتاد -مجرد دم دم دم...-، بل الضحية اليوم يخضع لأفتك أساليب وأدوات التدمير، بحيث لا يموت بسرعة، بل يخضع لحالات مسوخية، فيتحول الدم إلى ألوان من الطيف وطبقات من الصديد، وأحياناً إلى بخار سام وقاتل.. إنه منتهى الهذيان والعصاب، ومنتهى إرادة الموت. لم نعد نشهد في خيالات التدمير المبدع للإنسان حتى آثار الدم بلونه الإنساني الأحمر، بل أرادوا أن يعاوضوا هذا اللون نفسه بألوان أخرى لا يزال الخيال البشري يشمئز منها ليس لأنها شيئا آخر سوى مسخ للون الدم نفسه في هذيان تدميري لا يكاد يعرف حدوداً!

وقد تكون واحدة من أخطر صور التعصب واللاتسامح، أن يصبح التسامح موضوع مزايدات وابتزاز يمارسه الأقوى على الأضعف في موازين العلاقات الدولية. فالتسامح في العالم الثالث يواجه تحديات داخلية وخارجية. وإذا كان ما هو داخلي بإمكان الانتصار عليه بفعل الصراع الحتمي بين القوى الداخلية، فإن التدخل الخارجي عادة ما يشوّش على مسيرة العالم الثالث في اتجاه التقدم الثقافي والاجتماعي. من خلال سياسة الكيل بمكيالين أو الابتزاز أو تصفية الحسابات السياسية وممارسة الحروب القذرة باسم نشر رسالة التسامح. إن مشكلتنا في العالم العربي والإسلامي ليست مشكلة دين إسلامي رأى فيه البعض، تعسفاً، مصدراً للتعصب، بل إن مشكلتنا أننا ننتمي للمنظومة الثالثية، وما هو مفروض عليها من معوقات ضد نموها الطبيعي، وتقدمها المشروع. وحتى لو كنا ملائكة، فإن لعنة العالم الثالث، التي ساهم في تكريسها العالم المتقدم، لن يجدي معها ذلك نفعاً. فالمجتمعات التي ينهشها الفقر والتهميش والاستعمار والتآمر، لا يمكن أن تكون متسامحة بالمعنى الذي نجده في مقالات الحالمين. الحرب ضد التعصب، يجب أن تكون في الواقع حرباً ضد مناشئ التعصب: حرباً ضد الفقر والتهميش والفساد الإداري والمحسوبية والظلم والشطط في ممارسة السلطة والفوارق الطبقية القاتلة والاستعمار وسياسات صندوق النقد الدولي ضد البلدان الفقيرة، وأهوال ومؤامرات الكبار تحت يافطة العولمة وسياسات التدخل والتعليم الفاسد والكراهية والديكتاتورية. فالتسامح في العالم الثالث هو مطلب الجميع، لكنه لا يتحقق إلا بتضافر جهود الجميع. بل إن الغرب السياسي والاستراتيجي لا يبدو متسامحاً في تقدم العالم الثالث في اتجاه السلم المجتمعي بإعاقاته لمسارات التنمية والدمقرطة الجادة في هذه البلدان، حيث من حقنا أن نتساءل: أي تسامح سيعم هذه العوالم المفجوعة والمهمشة تحت طائلة ازدواجية المعايير والمتاجرة في حقنا في نمونا وتقدمنا وتحررنا من دون مزايدات تتم برسم الاستراتيجيات الكبرى؟! فمقومات التسامح تتجلى في وجود حد أدنى من الحقوق والخدمات والتعليم. فمجتمع الجوعى والفقراء والمنبوذين الذين يقتلهم التهميش وتعتصرهم سياسات التقشف والارتهان لسياسات القروض صانعة الموت الجماعي في العالم الثالث. كل هذا يجعل الغرب المتمركز على نمطية الإنتاج المهيمن ونمطية التوزيع اللامتكافئ للثروة، مسؤولاً عن جزء كبير من التردي القيمي في مجالنا. ما يعني أن مسألة التسامح لم تعد مسؤولية ثقافة ما أو دين ما أو حتى إنسان ما في مجال ما، بل هي مسؤولية العالم، وبالدرجة الأولى مسؤولية الدول الكبرى المهيمنة على الإنتاج والثروة والتوزيع. ليست مسؤولية انتهاك السيادات والابتزاز والمتاجرة في رهانات الشعوب وحريتها، بل مسؤولية تقتضي طريقة أخرى في التدخل، هي الكف عن سياسات التخليف والتهميش. التدخل الذي يوقف سيلان استحقاقات الديون التي ارتهن لها اقتصادنا. ونهج سياسات تحفظ كرامتنا بعدم نهج سياسة التحيز ضد مصالحنا، وفي مقدمتها حل مشكلة الشرق الأوسط وفق سياسة الكيل بمكيال واحد وليس بمكيالين. فالشعوب التي تهان وتخدش كرامتها، هي شعوب مؤهلة لكل أشكال العنف.

إن سلب حد أدنى من الحقوق من المجتمعات الغربية لو أمكن تحقق ذلك، سيعرضها إلى موجة من العنف والحروب الأهلية الفتاكة. ولو كان المجتمع الغربي يعيش ربع ما يعيشه العالم الثالث من اختلالات في منظومة الحقوق السياسية والاقتصادية، لما استطاع الحفاظ على استقراره وسلمه المجتمعي يوماً واحداً. إن المجتمع العربي الإسلامي على الرغم من كل هذه الفظاعات، لا يزال يملك من المخزون القيمي الذي يحول دونه والانهيار التام، إننا مدينون لهذا الحد الأدنى من التعاليم والموروث القيمي والأخلاقي أكثر من أي عامل آخر، في استمرار تعايشنا.

وبما أن موضوع التسامح هو الإنسان، وبما أن المطلوب هو تعصب إنساني لقيم التسامح البيني، فإن التسامح بهذا المعنى هو مطلب تعايشي. ومن ثمة فهو قيمة إنسانية.

يؤسس فولتير لمبدأ التسامح على قاعدة الإنسان الخطَّاء، حيث بما أننا جميعاً مخطئون، فليتحمل بعضنا بعضاً. وهذا تأسيس معقول، لأنه بقدر ما هو تأسيس عقلاني، فهو تأسيس ديني أيضاً. فكل إنسان هو خطَّاء بالقوة أو بالفعل. وكل إنسان هو متدين بالقوة أو بالفعل. فالجوهر الارتكازي للتسامح هو إنسانية الإنسان بوصفه كائناً محاطاً بفرص الإمكان، وفي متاهة من الاختيارات المفتوحة. فالمتعصبون ضد الآخرين يفترض ألَّا يكونوا خطَّائين. ومع ذلك فإن من قيل في حقهم أنهم معصومون كانوا أكثر تسامحاً مع الآخر، لأنهم يدركون بعصمتهم أنهم ليسوا جبّارين على من لو شاء الله لجعلهم على ملة واحدة. بل تجدهم يضعون أنفسهم مواضع الظالمين؛ ليسوا فوق أن يخطئوا إمعاناً في الشعور بالتقصير وهم غاية في التسامح.

في التسامح دينيًّا

الآخر في الفكر الديني

لقد وعد الفكر الديني بحياة السلم والتعايش والرحمة والتسامح. وعلى الرغم من أن أشكالاً كثيرة من العنف مُورست باسم الدين، إلا أن ملامح التخيل البشري والأهوائي تظل أمراً مفضوحاً متى ما تأملنا في مفارقات النصوص والتعاليم. إن الأفكار التسامحية الجميلة التي ظهرت في القرن السابع عشر في أوروبا، كان موضوعها الرئيس هو الدين. فالدين هو المشكلة وهو الحل في الآن نفسه. على أن الفهم الديني، أي فكر البشر هو المسؤول عن كل ما يبدو مشكلة دينية. ولذا ما كانت الدعوة مشروعة إلا بعد إيجاد الإنسان المشخص الحامل لقيم التسامح والقول الجميل والجدال بالتي هي أحسن. ذلك لأن الشخصية العصابية، هي ممنوعة من الدعوة والتبشير، لأنها تتقوَّل على الدين وتجترح فهماً دينيًّا يتلون بلون عصابها. إن مشكلة الأديان هي في الواقع مشكلة الحامل الديني. فالأديان التي يصوغ أفهامها عصابيون أو تلك التي ينتج فكرها عصابيون في بيئة عصابية، هو دين مريض، لن يكون رحمة للناس ولا فيه ما يعدهم به سوى المرض: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}[11].

 

ذلك لأنهم يُسقطون فصامهم الشخصي العصابي على الدين فينتجون به مرض الوعي ومرض السلوك.

لقد احتل الآخر في الفكر الديني مساحة كبيرة. إنه الآخر المحتمل أخاً في الدين، وإلا كان أخاً في الخلق والإنسانية. ولهذا نجد التعاليم الدينية ما فتئت تحث صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وبأن يقول للمختلف قولاً بليغاً، وبأن لا يكون فظًّا غليظ القلب وإلا انفضوا من حوله، وبأنه ليس عليهم بمسيطر ولا هو عليهم بجبار.. وكلها تعاليم واضحة لقارئها تذكّر الغافلين عن أن الأصل في الدين، الرحمة والسلم والتسامح والصبر على الأذى وعدم التعصب. وكلها متتاليات في منظومة أخلاقية واحدة. فالذي يتعصب، يسعى لتضييق رحمة الله الواسعة على خلقه. وحينما حدّث القرآن الكريم: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[12]،

 

إنما بيَّن أن الحق والصبر متداخلان متكاملان، فالتعصب للحق لا يزدان إلا بالصبر على المختلف. ولا شك أن قصة العنف التي يقدحها التعصب، إنما هي ناتجة عن تعصب للحق لا يقوِّمه ولا يهذِّبه صبر. فحتى العنف الذي يمارس برسم الجهل المركب هو من هذا القبيل. إن الجهل المركب هو من قبيل التعصب للعلم، لأن الجاهل جهلاً مركّباً هو قاطع بموضوعه متعصب له كما لو كان علمه به على النحو الواقعي. ولذا فالصبر يلجم حماسة القاطع بعلمه المخالف للواقع على نحو الجهل المركب، ويذكره باحتمالات حصول الخطأ في تقديره وفي علمه. ومن هنا نرى أن قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}[13]،

 

 إنما هو أخذه بعلم وصبر، لأن الشديد ليس بالصرعة وإنما بالتحمل والتسامح.

أسباب ومناشئ التعصب الديني

إن الإنسان هو المسؤول عن كل الفظاعات التي لم يكن الدين فيها إلا ضحية عنف الإنسان وعصبيته. ودائماً كان الإنسان يتدخل في إعادة صياغة النص الديني بالتحريف أو إعادة صياغة المعنى والتأويل الخاص للنص إذا ما استعصى النص على التحريف. وفي الحالتين كلتيهما، كان الإنسان هو الذي يرسم لنفسه مدارات العنف، وهو من يؤسس لعصبيته ويسندها بمبررات فلسفية وخيالات أيديولوجية، وتاريخية، وشعرية...

كان دائماً هناك حصيلة كبرى من الضحايا، باسم التعصب الديني والفلسفي والإنساني. هناك ضحايا قضوا باسم التعصب اليهودي والمسيحي والإسلامي والشيوعي والليبرالي... فهل الأديان هي المسؤولة، أم الإنسان الذي يساهم في منظومة الاستنزال التأويلي لهذه الأديان هو المسؤول حقًّا؟! إذا كان ثمة من بين أهل الأديان من يمارس العنف ضد الآخر باسم الرب، فثمة من مارس العنف نفسه وأزيد منه باسم العرق، والقوم، والمصلحة، وما خفي أعظم.

وبما أنني معنيّ هنا، بالحديث عن الدين الإسلامي، فإنني ألفت إلى أن التاريخ الإسلامي قد أصابه ما أصاب الأديان، من تعصبات، ساهمت في صياغة أفهام سوغت ممارسة العنف تجاه المختلف المسلم، تماماً كما حصل في الديانات الأخرى، حذو النعل بالنعل.

فمنذ اللحظات الأولى التي أعقبت وفات صاحب الدعوة حدث تعصب كثير. ولولا العناية لكان بالإمكان قيام حرب أهلية فتاكة، ظهرت بوادرها في معارك من سماهم التاريخ بالمرتدين أو مانعي الزكاة أو المعتصمين الرافضين للبيعة... إن صاحب الدعوة هو نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما تحكي السيرة تعرّض لمحاولات اغتيال، لعل آخرها ما كان من أمر الملثمين كما يورد الحلبي وغيره[14].

 

وبعد ذلك شهد ما سمي بالعهد الراشدي صوراً من العصبية والعنف، حيث تعرَّض الخلفاء لعمليات اغتيال منظمة، بعضهم قتل في المحراب وباسم الدين. وشهدنا كيف أن بعضهم الآخر ظل يُلعن من على المنابر أكثر من مئة سنة في أبشع لون من الإرهاب الرمزي. قتل عمر وعثمان وقتل علي بن أبي طالب -وفي رأيي حتى الخليفة الأول قضى غيلة-، وقتل سعد بن عبادة ومحمد بن أبي بكر وقتل عبد الرحمن بن أبي بكر وقتل الحسين بن علي وجماعة من أهل بيته في وحشية نادرة في العاشر من عاشوراء بكربلاء. لقد قتل الكثيرون وحصلت مذابح ومجازر، راح ضحيتها الكثير. فكان لا بد من ابتكار تقليد جديد في الكتابة التأريخية عنوانه المقاتل: كمقاتل الطالبيين. إننا نتحدث عن محنة ابن حنبل ومحنة الطبري ومحنة النسائي ومحنة ابن رشد... والحق أن ثمة محن أكبر من تلك وأعظم. هناك من عبر عنها أجمل تعبير، أقصد المرحوم المفكر الإسلامي رشدي فكّار في كتابه الموسوم: «بلاء الوجود في ديار الإسلام». مستعرضاً كل هذه المحن مع شيء من التبرير يوحي بأن عنفنا ليس عنفاً مقصوداً كعنف أغيارنا[15].

 

هكذا ينقل لنا التاريخ شذرات من تلك الصور؛ محنة التراث الآخر مثالاً!

إن تاريخ الاسلام شهد هو الآخر ما لم يكن من اليسير هضمه وفق التعاليم الإسلامية. لم يطور المسلمون ثقافة للتسامح النظري والعلمي فيما بينهم، ماعدا تقاليد أخلاقية تستند إلى منظور وعظي للأخلاق لا يرقى بها إلى مصافّ القانون الأخلاقي. ومهما حاول المؤرخون إخفاء تلك المآزق عبثاً، فإن الوقائع دالة على أن ما ينتظر المسلمين بهذا الشأن هو كثير، بحيث لا مجال لتبريره أو تأويله. إن تاريخنا وتجربتنا لم تقدم إلا أكثر الصور بشاعةً وتعصباً وعنفاً. لم تكن السياسة وحدها العامل المفسر لبروز العصبيات في التاريخ الإسلامي، فثمة ثقافة كاملة، تتغذي من القبليات والعشائريات والعوائليات ساهمت في إذكاء روح التطاحن المذاهبي والطوائفي؛ كان ذلك كارثة على العالم الإسلامي، ولا يزال حتى الآن لم يجد طريقه نحو وفاق وتسامح يخفف شيئاً من وطأة ذاكرة مثقلة بالثأر والحنين إلى الصراع برسم الاختلاف المذاهبي والكلامي والعرقي. استمر هذا الوجع، ولم يعافى منه الجسد الإسلامي، إلى أن تلاشت منه كل أسباب القوة، وكان أقل قدرة على تدبير الخلاف البيني، وأقل قدرة على الإفادة من إيجابيات التعددية في الفكر والرأي.

أن نعلق فشل تحقق التعايش السلمي المطلوب على مشجب الأديان، هو تجلٍّ من تجليات تعصبنا للأحكام المعيارية التي يقوم عليها صرح الاعتقاد الخاص المتمركز على الخصومة الفلسفية والتاريخية لكل ما هو ديني. ومن مقتضى التسامح، التأني والحفر في العوامل الحقيقية التي تكمن خلف مختلف أشكال التوظيف الخاطئ للدين. وما يقوِّي هذا الموقف هو أننا نجد التعبيرين معاً حاضرين في المجال الواحد والدين الواحد. ففي كل دين هناك تجارب دينية للتسامح وأخرى للتعصب. هناك يهود ومسيحيون ومسلمون يقتلون ويمارسون الإرهاب وهناك يهود ومسيحيون ومسلمون يحتجون ضد العنف ويصلون ويعزون الأبرياء.أهل الدين يقتلون وغير أهل الدين يقتلون. ودائماً هناك الوجه الآخر النقيض لمن زُوِّد بعينين: بصراً وبصيرةً. قبل أن يكون الإنسان متبنياً لدين من الأديان هو إنسان محكوم بإكراهات ومزوَّد بغرائز ومحاط بأحلام وآمال وطموحات ومرتهن لإكراهات طبيعية واجتماعية ونفسية.إذا اعتبرنا الدين هو أيديولوجيا المتدينين، فإن للأيديولوجيا منطقاً عامًّا يشترك فيه المتدينون وغيرهم. وهو منطق يعمل برسم الوظيفة وأيضاً برسم الجهاز -هنا التعبير لآلتوسير- الذي يحتل مرتبة surdetermination.. ومعنى ذلك، أن الدين في مثل هذه الحالة يقوم بوظيفة لتأمين مصلحة اجتماعية طبقية فئوية. ففي مثل هذه الحالة سيجد المتدينون أنفسهم كغيرهم يتمتعون بتعبيرات مختلفة ومتنوعة و يتموقعون في مستويات فئوية واجتماعية مختلفة. فالدين كما يفهمه الإنسان البورجوازي -بالمعنى الأيديولوجي- ليس هو دين الكادح أو المهمش أو دين المحرومين، فذاك يقوم بوظيفة حماية مصالح الإقطاع ولعبة الهيمنة والتفاوت في فرص العمل وتوزيع الثروة، وهذا يقوم بوظيفة الاحتجاج والثورة على الفساد والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وفي مثل هذه الحالة، يكون الدين كما وصف علي بن أبي طالب القرآن بأنه: «حمال وجوه».

وثمة صورة أخرى للتعاطي الديني، تتعلق بلحظة اليأس القصوى وعدم الوعي بالتحولات التي تتحقق في الواقع الخارجي والهزائم المتتالية للوعي والأفكار، لحظة تفاحش الوعي الشقي الذي يجرف عالم المتدينين وغيرهم إلى حافة الموت والانتحار. وهذه الظواهر هي في الحقيقة ظواهر إنسانية وليست دينية بالضرورة، حتى وإن اكتست طابعاً تعويضيًّا دينيًّا ما. إن الرغبة في الانتحار هي رغبة إنسانية مصاحبة لليأس. ولذا كان اليأس كبيرة لا تُغتفر لأنها تؤدي بصاحبها الى الانتحار. ففي المقاربة الوصفية الإحصائية التي قام بها دوركهايم في الانتحار، مقارناً بين ظاهرة الانتحار والدين، اتضح أن الانتحار في البروتستانتية أعلى نسبة منه في صفوف الكاثوليك، مثلاً، وهكذا نلاحظ أن التشديد على تحريم الانتحار يقلل فرصة هذا النوع من الانتحار الفردي، لكنه يفتح مساحة للتعويض تنفيساً عن الوعي الشقي الذي ينتاب المتدين متى عمّ اليأس وتقلصت فرص التحقق الأيديولوجي أمام إكراهات التحولات الواقعية. من هنا سيجد بعض المتدينين ذريعة للانتحار، عبر مسوغات دينية تجعله يقتل نفسه قبل غيره. والحق أن قتله لنفسه قبل غيره أو قتله لنفسه لغيره، إنما هي صورة ظاهرية بلحاظ السبق واللحوق الزمانيين لفعل القتل، وإلا، فلو نظرنا إلى الموضوع باعتبار العلة الغائية، فإن القاتل كان قد تصور حجم ضحاياه قبل أن يقتل نفسه، فهو إذن بهذا المعنى قتل الناس قبل أن يقتل نفسه. في حين هو يقتل الآخرين ليقتل نفسه. ويحاول هذا النوع من الانتحاريين التشبه بالاستشهاديين في قضايا عادلة ووسائل عادلة وبحسب إكراهات شروط حقيقية يفرضها منطق الحرب، كالذي يستشهد دفاعاً عن وطن أو عن حرمات وحقوق الناس... يقتل نفسه ليعيش المحرومون ويتحرر الناس ويتحرر الوطن وليس يقتل العالم ليقتل نفسه من باب عليَّ وعلى أعدائي، ويقتل الأبرياء والأمهات والرضع كما يحدث اليوم في العراق إلى حد العبثية. هذا القتل الذي يحمل آثار التهريج الباعث لهذا الفعل الأرعن كما يعكس غباء التعبيير الفاضح عن مرضية هذا المهرجان الاستقتالي المنزوع من سمات ذكاء وشجاعة الموت الهادف؛ يحكي عن ذلك حال من ينتحر الى جانب مأتم عزاء على انتحاري سابق حامل لنفس مشروعه الاستقتالي، أو عن الذي يقتل نفسه في سوق مكتظة بالناس يلتمس دخول الجنة بقتل الناس في الأسواق. هذا القتل الأهوج للذات الذي يعكس أنانية متعدية، أي أنانية قاتل النفس المحترمة التي تظهر عليه مظاهر حب النفس حتى وهو عازم على قتل نفسه. حالة التعويض هذه هي من ساهم في استشراء الوعي الخاطئ بسهولة قتل النفس الفردي. إن البعض يسميها الانقتال أي أن المقتول يقتل نفسه ليقتل الآخرين، أقول: إن أفضل تعبير عن هذه الحالة هي: الاستقتال. أي أن قاتل نفسه يقتل نفسه بقتل الآخرين، أي أنه يقتل الآخرين ليقتل نفسه. فهو بالأصالة طالب موت لنفسه باحث عن مسوغ لانتحاره استعجالاً لدخول الجنة. على أن الطريق الى الجنة هو قصد القربة لا عبادة المتاجرة العارية التي تجعل المنتحر يدلّس على الله في شراء سلعته الغالية. ولا شك أن هذا النوع من التسويغ الديني للانتحار غير المشروع يصبح أخطر من الانتحار الفردي. فهذا على الأقل يقتل نفسه ويريح العالم منه، لكن ذاك يوتر النفوس ويقتل العالمين قبل أن يريح العالم منه. فهذا يقتل نفسه بنفسه لنفسه، وذاك يقتل غيره بنفسه لنفسه.

إن التعبيرات الدينية لثقافة التعصب والموت والكراهية للعالم والناس، لها جذور حقيقية في شروط الحرمان التي تواجه الإنسان. من هنا فإن اتهام دين ما بأنه وحده المسؤول، لهو أمر في غاية في الخطأ لا بل في غاية السخف. القرآن الكريم حينما اتَّهم الآخر لم يتهم الفكر -الذي ناقشه بمنطق الاستدلال والحوار- بل اتهم الشخص. لم يقل: إن اليهودية أو النصرانية، بل قال: اليهود والنصارى، أو الذين قالوا إنا هوداً أو نصارى. لكن أي يهود وأي نصارى هم المقصودون؟ إنهم الذين دخل معهم في حروب سياسية، وقد عاب بعضهم على بعض {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[16].

 

في تلك الأثناء وصف القرآن أهل الكتاب وهو عنوان يحمل الكثير من الاحترام لأهل الأديان، بصورة فيها تفصيل، حينما قال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}[17].

 

 فالمعيار شخصي وليس نوعيًّا في المقام. أما الدين فقد اعتبره ديناً واحداً: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} -محيلاً إياهم إلى جوهر الدين السماوي باعتباره إسلاماً به يحاججهم- وهو في جوهره الدين العالمي السماوي. فما كان موسى بن عمران ولا عيسى بن مريم الا مسلمين ومن ملة ابراهيم. ومن ثمة كيف يمكن للمسلم أن يكره يهوديًّا تتقوَّم هويته الدينية باتباع موسى بن عمران، أو مسيحيًّا تتقوَّم هويته الدينية باتباع عيسى بن مريم، وكلاهما له تعظيم خاص في نفوس المسلمين. ومع كل ذلك، فقد احتفظ التراث العربي والإسلامي بصورة مشرقة وفريدة في تعامله مع الأقليات الدينية. إن أكبر عنف شهده التاريخ الإسلامي كان إسلاميًّا - إسلاميًّا. والسبب واضح: إنها السياسة. لم يبالغ الشهرستاني لما وصفها وصفاً دقيقاً: ما استُل سيف في الإسلام على أمر أكثر منه على الخلافة!؟

وعليه، وضح الآن أن المغالطة أعلاه هي من كون البعض يرى أن التعصب ديني بامتياز. في حين ليس التعبير الديني سوى عَرَض لتعصب إنساني يجد له جذوراً في معاش الإنسان وشروط تواجده على الأرض. ومثل هذه الرؤية أصبحت وآن لها أن تصبح رؤية متجاوزة. لأن ضحايا التعصب الديني على الأقل في عالمنا العربي والإسلامي كانوا هم أهل الدين أنفسهم وضحاياهم من المتدينين هم أكثر من ضحاياهم من غير المتدينين. وقد تراءى لبعضهم أن لا خروج من مشكلات التعصب الديني إلا بالخروج من الدين، ولكن هذه المرة عبر حيلة جوانية تبحث عن مسوغ ديني للخروج من الدين كما رأينا مع غوشي، وبأن الدين الأوحد والأقدر على تأمين هذا الخروج هو المسيحية، في نوع مخاتل من استدعاء التمركز الديني على خلفية التمركز المجالي والعرقي، وهو شكل من أشكال العنف الرمزي الذي يمارسه أولئك ضد أصحاب الديانات المختلفة.

هل بالإمكان أن يساهم الدين في إشاعة روح التسامح

ليس الدين هو المسؤول عن ذلك بقدر ما أن المسؤولية ملقاة على الحامل الفردي والجماعي للدين. إن ذلك يبقى رهن الطريقة التي يتم من خلالها معاقرة الدين، وصورة الفهم الذي يشكله المتدين عن الدين. إن قدرة الإنسان على العناد والمكابرة والتزييف والتحريف والاستغلال، تجعله قادراً على تغيير المحتوى القيمي للدين نفسه. فالحديث عن الشكل الديني الأكثر تسامحاً هو مغالطة تخفي ضرورة الحديث عن الشكل الإنساني الأكثر قبولاً بالتسامح الديني. لقد تعرضت الأديان ولا زالت لبغي التصورات الهوجاء للدين بما يُحوِّله إلى ثقافة للموت. وقد برزت أيضاً إلى جانب ذلك نماذج حافظت على سماحة الدين. ينشأ الغلاة القتلة والمجرمون المنتحرون في الدين وبالدين ثم يفشلون وتذهب ريحهم ليبقى صوت التواسط والاعتدال والتسامح شامخاً فوق واحة الدين. لقد أثارت هذه الإشكالية كثيراً من الفلاسفة واللاهوتيين الذين حاولوا بحث المشكلة الدينية في طبيعة هذه الاستحالة التي يشهدها الدين أو تلك التي ينبغي أن يشهدها الدين. وفي تصورنا ثمة طريق سالك لهذه الاستحالة التي تصل بالدين إلى بر الأنسنة. حيث معيارها أن أي معاقرة للدين لا يكتسب فيها المتدين رصيده من الأنسنة، هي طريق غير السُّلَّاك الحقيقيين، أي طريق المنتحرين الفاشلين إنسانيًّا المتباكين على عالم ليس هو عالم الإنسان، وطبعاً ليس هو عالم الملائكة، ما دام أن هؤلاء أنفسهم استشكلوا متسائلين ضد ما في مكنة هذا المخلوق من فعل الإرهاب المفترض:

{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[18].

 

إنه طريق الصحو من سبات الدين المطلق إلى دين الإنسان. إن الدين المطلق الذي يعبِّر عن مطلق المعرفة أمر مستحيل في دنيا عموم الخلق. ولا يحتاج الإنسان للتعبير عن هذه الحقيقة إلى كثير من التفلسف كي يثبت هذه الحقيقة. فالتجربة الدينية تتيح هذا الضرب من القناعة بأن الدين المطلق -{اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}- هو مقصد أعلى يخرج المتدين من دنياه قبل أن يدرك مراتب أدنى من الفهم المطلق للدين. هناك أوهام بالمطلق وليس علماً مطلقاً. وما دام شكل التدين لن يكون على الأرض برسم الاجتماع إلا شكلاً يقع تحت سقف المطلق، فهو تعبير كافٍ بأن مجتمع المتدينين لن يكون خالياً من الخطَّائين. ومجتمع الخطَّائين يفرض قدراً كبيراً من التسامح، ما دام الخطَّاء ليس له الحق ألَّا يتسامح. ومن يتوقع الخطأ في حقه يتسامح مع خطأ غيره. ومن في ذمته حد لا ينبغي أن يشارك في حد غيره.

فالدين يفترض حاملاً فرديًّا وجماعيًّا أمامه دنيا بكاملها للارتقاء في المعرفة، وهذا ما يدل على أن الأفهام الدينية هي بالفعل تجارب الإنسان ومقدار نجاحه أو فشله في اقتحام عقبة فهم الدين. فالدين كنز لا ينفع إذا لم نستخرجه من باطن الأرض. وهذا الاستخراج الذي سماه العرب استنباطاً -استنباط الأرض- يتوقف على مقدار اللياقة والنوايا التي يتقدم بها الإنسان نحو الدين. وعموماً كان الدين دائماً ضحية عنصرين: استغلاليين جعلوا الدين دارقة لتحقيق مآربهم ومطية لبلوغ مصالحهم، شأن من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو من قضى شهيد حمار كما تتحفنا السيرة. وأيضاً زمر من حاملي الجهل المركَّب بحقائق الدين وضحايا الوعي الشقي يحملون فهماً للدين وصفه علي بن أبي طالب أبلغ وصف حينما قال: «ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً».

ولعله من الخرافي أن نأمل من الدين أن يحلَّ مشكلة لحامل اجتماعي ينهكه التخلف والفقر والأمية والقمع بكل ألوانه دون أن يحصل تبنٍ حضاري لهذا الدين، وبأن يحدث ذلك على أرضية تجديد جذري للمفاهيم التي أفرزتها عصور الانحطاط. إنها ليست حتى مشكلة تعبيرات معينة للدين تروم الاستقواء بتعبيرها ضد نظرائها. بل هي مشكلة مركبة تمتد في التاريخ العربي والإسلامي.وإذا أردنا أن نكون صرحاء بعض الشيء، فإن أكثر التعبيرات الدينية استئصالاً في العالم الإسلامي ما كان لها أن تستقوي لولا وجود عناصر استقواء موضوعية مشهودة. وليس من النافع الحديث عن ظروف نشأتها وانطباعها بالبيئة البدوية وما شابه ذلك، متى ما علمنا أن للبداوة قيمها في التسامح أيضاً. بل إن تاريخ المجتمعات القديم شهد أشكالاً من التعبيرات الدينية الاستئصالية، وليست حروب الكاثوليك والبروتستانت ببعيدة عنا. فالذي يفرض التحول بالتعبير الديني إلى مستوى التسامح والقبول بالآخر والصبر على الاختلاف هو المتدين وليس هو الدين. فتصبح المشكلة مشكلة متدينين لا مشكلة أديان. وهذا لا يعني أن الأفكار لاتؤثر بدورها في نوعية السلوك والمواقف للمتبنين لها. بل إن علاقة الفكر وحامله هي علاقة تأثير متبادل. إن الحامل الديني الذي تشكَّلت شخصيته وتطبَّع وعيه بفعل العوامل المجالية يؤثر بقدر ما يتأثر بفكره. فهو يتفاعل وينتقي ويحجب ويظهر. فعلاقته بالتعاليم التي يتبناها علاقة متوترة، تختلف نسبيًّا بحسب حالات الحامل وظروفه وانتكاساته. علينا على كل حال أن نُميِّز بين الدين لحظة انبعاثه كثورة اجتماعية ورسالية وحضارية والدين عندما يصبح ظاهرة اجتماعية وجزءاً من تراث أمة. ففي الحالة الأولى يكون عنصراً ديناميًّا لنهضة حامله، وفي الحالة الثانية يتحوَّل إلى ثقل تاريخي يفرض على حامله مهام تأويلية واستنطاقية وتجدداً في وجدانية حامله. ومجتمعاتنا الإسلامية تعيش هذه الحالة من الثقل التاريخي وخمول الوجدان الديني المتجدد الذي يعيد العلاقة المتجدد مع هذه التعاليم على وجه من التأويل يحررها من الثقل التاريخي أو لنقل من التعبيرات التاريخية الأزموية التي أعاقت تفتق التعاليم الدينية على تعبيرات معاصرة جديدة في إطار من التكييفانية الخلَّاقة ونحو من التبني الحضاري والتجديد الجذري. إن تراث أمة من الأمم من شأنه أن يتحول إلى عائق حضاري إذا لم تتجدد الوجدانية وتنبعث الجوانية على أسس تعبيرية وتأويلية متجددة. فتكون نقطة قوتنا هي نفسها نقطة ضعفنا، ما دمنا نخطئ دائماً التفكير والتعبير على وفق النمط المعرفي والحضاري ذي السلطان في زماننا.

إن نمط التدين الذي يُعوِّل على مدى ما تحدثه التفاعلات الاعتباطية مع الدين دون بذل الجهد في تغيير الذات، لا يجدي نفعاً. والمتمثل للواجب الأخلاقي على أساس الخشية من قهر ما يتوعَّد به الدين العصاة وليس انسجاماً مع نداء الضمير، ليس تديُّناً حرًّا، بقدر ما هو تديُّن العبيد. فالدين يعطي بقدر همة وطلبة المتلقي لوحي تكمن وظيفته في إثارة دفائن العقول. حتى إذا فسد لا تصلحه إلا العقول. إننا نتفاعل إيجاباً مع الدين، حيث حصيلة تديننا هي جملة التجارب وجملة الإجابات التي يقدمها الدين. فالدين ليس مجرد تعاليم يتساوى في إدراكها المتلقون، بل هو تجارب إنسانية يعتمل فيها الفهم والتأويل والتفكر، فيصبح الدين أديانا بعدد الأنفس.

ختاماً

في موضوع الظاهرة الدينية يتعيَّن الحذر الشديد من أشكال التعاطي الخفيف. فالمسألة الدينية هي اختبار حقيقي للمقاربات السوسيولوجية الجادة والمسؤولة. إن التعاطي الخفيف مع الدين هو خفة تشمئز منها السوسيولوجيا التي تدرك أن الحضور الديني هو أعمق وأعقد وأقدم وأبقى من أن نتعاطى معه بخلفية الاستخفاف والرفض والعدمية. وعليه أمكن القول إذا حاول بعضهم أن يستقرئ من الأحداث ما يُهوِّل به أمر الأديان بوصفها صانعة العنف والتعصب كما لو كان العنف والتعصب لا وجود له إلا في المجتمع الديني، فإن السوسيولوجيا وجب عليها أن تستقرئ وتحصي المديات التي احتلها الشعور الديني ومدى مردودية ذلك على مستوى السلم والاستقرار المجتمعي، بدءاً بالتكافل الاجتماعي الذي يخفِّف من وطأة اختلال سياسة التوزيع وانتهاءً بالروح المعنوية وقوة التفاني في خدمة الاحتياطي المتبقي من روح القيم. ووحدها هذه الأخيرة لها الفضل في الإمساك بمجتمعاتنا الواقعة تحت الحضيض دون الانهيار المتوقع. إن انتظاراتنا من الدين لم تكن انتظارات تعبِّر عن مستوى الرشد الذي ينتظره الدين منا أيضاً. الدين ينتظر رشدنا لتفجير حقائقه الإنسانية العالية. إن الدين ينتظر منا الرشد بقدر ما ننتظر نحن من الدين من وعود.

وجب أن نقول في هذا الختام: إن فكر التسامح ينطلق في لحظات الضعف وافتقاد السلطة وهذا أمر طبيعي. وجب أن ندرك أننا ننتصر معرفيًّا وأخلاقيًّا متى استوعبنا أزمتنا وكان إحساسنا بالضعف إيجابيًّا يرمي إلى تجاوز واقع المغلوبية بمزيد من الإصرار على إطلاق جنود العقل لتحل محل جنود الحرب. هزائمنا مطايانا للتعقل إذا أدركنا أن الهزيمة لا تكتمل إلا بهزيمة العقل. فإذا لم ننهزم عقلاً انتصرنا نصف انتصار. الضعف والمغلوبية يتيحان فرصة لتعقيل الأفكار وتعقيل المواقف.. الضعفاء هم المؤهلون أمام الأقوياء الذين افتقدوا الرشد تحت تأثير سكر القوة لأن ينتجوا ثقافة التسامح. واضح أن مفهوم التسامح نتج في أوروبا لحظة إحساس الفلاسفة بالضعف أمام السلطة المهيبة للكنيسة، وهو اليوم ليس سوى رجع صدى، لما تحول التسامح إلى خطاب أجوف تكذبه سياسة الترهيب واستراتيجيا الاحتواء والتدمير.

علينا ألَّا ننسى أيضاً أن ما نشهده في الغرب ليس تسامحاً، بل هو تدبير أمثل للمصالح. ليس في الغرب من هو مستعد للتضحية بمصالحه من أجل الآخرين. وإذا ما وجد هذا الشكل من النبوغ فهو شاذ نادر يثير الكثير من الاندهاش. وفي مجتمعاتنا التي قيل عن ثقافتها الكثير، نستطيع أن نجد في اليومي ما يفوق التسامح. أليس عندنا فقط يوجد من إذا تعارضت مصلحته مع الآخر آثره وتنازل عن مصلحته لقاء تحقق مصلحة الآخر؟!. هذا تسامح وما في الغرب ليس تسامحاً، بل هي مصالح إذا لم ترعها وتضمنها القوانين الصارمة نشبت حرب أهلية لا تطاق. فمَنْ المتسامح بعد ذلك يا ترى؟! إننا رغم ما نعيشه وما تكبدته مجتمعاتنا القوية بقوة القيم التي لا زال لها حضور كبير في نسيجنا الثقافي في الموقع الذي يمنحنا أمل الإنسانية برمتها، لأننا الأمة الوحيدة التي تدين لقيمها في استمراريتها رغم خطورة النكبات. الأمة الوحيدة التي لا زالت تؤمن بقيمة النخوة والإيثار حتى لو أكرهت على تمثلها وترى إليها خاصية من دونها يفتقد الإنسان إنسانيته. إننا مدينون لاستقرار مجتمعاتنا -ليس بالطبع إلى منسوب الأمية والتخلف والتهميش والاستبداد والبؤس والنكبات التي وجب أن ينهار معها اجتماعنا- إلى ما تبقى من قيم التسامح التي تحل محل غياب القوانين المنظمة للاجتماع والرادعة عن الفساد.

واليوم كان لا بد أن ندرك أن الأحداث التي أعقبت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر الأسبق لم تكن مفيدة لمن أسكرتهم القوة حتى خسروا الرهان، بل كانت مفيدة لنا لمزيد من التأمل وتعقيل الموقف. وإذا كان الأمر كذلك، فالخشية من أن حديثنا عن التسامح وما في حكمه -التواصل، وحوار الثقافات والأديان- ينطفئ لمجرد أن تنتهي الأزمة ويخفّ الضغط الدولي ويتصالح المارد الأمريكي مع مستبدينا وحراس تخلفنا، فلا نؤقت مهامنا في الإصلاح بحسب القرب والبعد من الأجندة الأمريكية. فالإصلاح هو مهمة تاريخية مطلبية لأمة عريقة وليس نزهة في حدائق وول ديزني!

 



[1] hani_dr@maktoob.com

 

[2 ] 

أتصور أن مشكلة الأنبياء أنفسهم مع أقوامهم تكمن هاهنا؛ أي أن ثمة من الحقائق ما لا يسمح به النسق والنمط المعرفيين. فيكتفي النبي بتقريبها بنحو لا يتجاوز حدود ما يسمح به النمط المعرفي التاريخي المهيمن. هذا هو سر ما لم تفصح عنه مجازات القرآن نفسه إلا على سبيل الإشارة والتقريب، ما جعل ابن عباس يقول: إن هناك آيات سيفسرها الزمان. ولعله تعبير عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأعراف، 53 - 157). فهؤلاء الذين علقت في أذهانهم بعض الصور الباعثة على الترددات ومكابرات الانتظار سوف ينكشف لهم ذلك بالوضوح التام لكن عبثاً بعد فوات الأوان. ومع أن لسان الآية يفيد معنى العاقبة ويوم الحساب إلا أننا نستلهم حسرة كل تأويل بعد أن كان محض إشارة مجازية لم يستفد منها قبل تأولها وتحققها، لنقل الاستفادة من الحقائق هنا قبل أن يمنحها التاريخ معنى واضحاً. وهذا ما يجعل آلية فهم النص خارج النسق المهيمن في عهدة التأويل. فالتأويل وحده يملك تحرير التعاليم من النمط المعرفي المهيمن وإعادة قراءتها في ضوء النمط المعرفي الجديد. اذا كان البعض دفاعاً عن النسق التداولي المغلق يستند الى قاعدة أن ما من نبي إلا وبُعث في قوم ، فإن ذلك من باب أولى تأكيد على مشروعية التأويل، حيث لا تفسير بعد انسداد العلم  وتمام الرسالة الا أن يكون تأويلاً. وأن ما من تأويل إلا في سياق وفي قوم. أو بتعبير آخر، لا تأويل  إلا داخل نمط معرفي معين. إن الأنبياء خاطبوا بفكرهم جميع الأجيال، لكنهم تقيدوا بالنمط المعرفي التاريخي لقومهم، وأخفوا حقائق الأجيال القادمة تحت مجازاتهم، وهو ما ظل في عداد المتشابه عند القدامى ينتظر انبثاق النمط المعرفي المناسب لإحكامه. ذلك هو الوجه التاريخي للخطاب النبوي.

 

[3]

ثمة من يعتقد أن للأيديولوجيا هيمنة فقط على المعرفة وعلى النظر، والواقع أن لها هيمنة على النظر وعلى القيم وعلى العلوم المادية نفسها. وكل ذلك يتم من حيث إن علم الطبيعة وعلم الإنسان كليهما يمر من النظرية، وكليهما يمر تحت الغواية الأيديولوجية وينطبعان بها نحو انطباع، وينتظران لحظة الصفر أو التدليج الأعظم الذي تتعرض له المعرفة، متى ما توقف النقاش والمعالجة المفهومية والنظرية للمفاهيم بشكل دائم وبروح نقدية متواصلة، تلك هي الصيانة الممكنة للمعرفة حتى لا يأكلها صدأ الجمود، فإذا بها تخضع للانقلاب، برسم التدليج، فتتحول من معرفة تحمل قدراً من الحقيقة، إلى معرفة عارية إلا من الزيف.

 

[4]

يقول فولتير في هذا الصدد: «ليس ثمة طائفة للهندسيين أو علماء الجبر أو أصحاب الأرتميتيقا، ذلك لأن كل  مبادئ الهندسة والجبر والأرتميتيقا صحيحة. إنه من الممكن أن نخطئ في جميع العلوم الأخرى. فأي عالم دين توماوي أو سكوتيست يملك اليقين الجدي بما يفعل<. انظر:

Voltaire/dictionnaire philosophique-p406paris/editions garnier freres

 

[5]

يقول فولتير بهذا الصدد أيضا: «ليس ثمة من دواء آخر لهذا المرض إبيديميك غير العقل الفلسفي الذي ينتشر من الأقرب إلى الأقرب أدوسي في النهاية أعراف الناس (...) إن القوانين والدين لا يكفيان في مواجهة طاعون النفوس». انظر المصدر نفسه ص 197.

 

[6] المصدر السابق ص 403.

 

[7]

إننا نستطيع فقط الحديث عن فوارق ونسب كمية ونوعية في موضوع التسامح بين البلاد الغربية وغيرها. يُعزى أهمه لمنسوب التعليم والأمية وقوة نفوذ دولة الحق والقانون، وهي كما ترى مكتسبات غير معطاة لدولة الجنوب الفقير وتتناسب مع معدل النمو والوفرة ووحدة المصير مع الحلفاء -وهم حلفاء في الحرب والثقافة و السياسة وفي استراتيجيا توزيع النمو على المجال المتخلف-، لكننا لن نقف على التسامح الحقيقي متى دنونا من تفاصيل الاجتماع الغربي ووقفنا على العنف اليومي الذي يطال شرائح اجتماعية بعنف ممأسس وناعم وأحياناً بقوة قوانين عمياء أكثر وفاء لمصلحة الرأسمال منها للانسان، وهو حديث لم يعد يخفى أمره على أحد.

 

[8]

ثمة شكل آخر من الإرهاب والعنف الذي يطال الرأسمال الرمزي للثقافات والتراثات الآخرى، هو اللاتسامح الذي يهدف اختزال حركة التقدم في تاريخ دون آخر. والأخطر من ذلك أن نُكرِّس الصورة النمطية الخاطئة عن دين وثقافة ما بأنها منشأ الفساد والإرهاب والتخلف والعنف. عدم التسامح ضد التأريخ الموضوعي والمنصف هو واحدة من علامات اللاتسامح التي لا زالت ثقافتنا المعاصرة مرتهنة لها بامتياز.

 

[9]

ليس ثمة من تصور أكثر سذاجة من اعتبار ماهية الإنسان خيرية فقط أو عكسها شرانية فقط. هذه الرؤية إن كانت تنحدر من التوصيف الحكمي والعرفاني الذي يرى الوجود خيراً محضاً، بقيد اعتبارات وتنسيبات معينة فهذا حق لا ينطبق على معايير عالم الخلق باعتباراته وتنسيباته أيضاً. إن الانسان ماهية مركَّبة تتجادل فيها نوازع الخير والشر. فالخيِّرون ليس أنهم لا عهد لهم بالشر، بل هم قوم نجحوا في تغليب إمكانية على أخرى فتحصلت لهم بذلك الملكة المناسبة. فالخيّر من ظهرت آثار خيره والشرير من ظهرت آثار شره، فكلنا أخفى ما أظهره فرعون. فهي آلية حجب وإظهار.. وحكاية نسخ وإحكام.. جهاد نفس وتسامٍ تربوي.

 

[10] سورة الشمس، آية 7 - 10.

 

[11] البقرة، آية 10.

 

[12] العصر، آية 3.

 

[13] مريم، آية 12.

 

[14]

ليس الغرض هنا التفصيل أكثر في عرض صور العنف السياسي والتعصب الثقافي في تراثنا بالمستندات والوثائق -وهو أمر في متناول أي باحث- لأن الغرض من هذا الإيراد المجمل هو التأكيد على أن ثقافتنا وتاريخنا وتراثنا ليس خالياً من صور العنف، ولا مجال للقول بأن التعصب  دخيل وجديد على الأمة. إن لنا نصيباً من ذلك العنف ونصيباً من التعصب، وله نماذج كثيرة في تراثنا أيضاً.

 

[15]

لا زلت أرى ذمتي مشغولة بتقديم هذا الكتاب منذ وعدت المرحوم د. رشدي فكار أن أفعل ذلك ذات مرة. والحق أنني حينما اطلعت على الكتاب وجدت نَفَساً طيِّباً وسمحاً كما هي عادة المفكر رشدي، لكنني لم أكن مقتنعاً بالطريقة التي تم بها تصوير تاريخ الأمة: شريطاً من البلاوي -وهذا مؤكد- ثم نعلّق المسؤولية على القدر أو نسعى إلى التبرير والتوفيق، وهذا في ظني يناقض مقاصد الإسلام في إشغال ذمة أتباعه بفعل الصلاح وتحميلهم المسؤولية فيما يقع في دنياهم، وهذا ما اعتبره قراءة مقاصدية للتاريخ الإسلامي لا تقل أهمية عن المقاربة المقاصدية للشريعة والأحكام. وبما أنني عزَّ عليَّ تغيير هذا المزاج الطيِّب لرجل أحببناه، وصديق كرّمناه، وكبير وقّرناه ، فلم أستطع -رغم غواية النقد وداعي الموضوعية ومتطلبات جهاد المعرفة- تقديم قراءة نقدية في الكتاب منذ أهدانيه قبل أزيد من 13 سنة. لكن عنوانه الموفق ظل يرن في أذني منذ ذلك الحين؛ إنه حقًّا «بلاء الوجود في ديار الإسلام»! رحم الله رشدي.

 

[16] البقرة، آية 113.

 

[17] آل عمران، آية 75.

 

[18] البقرة، آية 30.