شعار الموقع

التوجيه التربوي وآفاق التنمية البشرية والاجتماعية

عبدالعزيز سنهجي 2008-09-16
عدد القراءات « 1758 »

الموقع والدور

إعداد: عبدالعزيز سنهجي*

يمكن ربط ظهور التوجيه تاريخيًّا بعاملين أساسين: أحدهما انتشار التعليم على نطاق واسع وإجباريته في البلدان الرأسمالية الصناعية، والثاني تراكم المعارف وتزايد التخصص العلمي وتطور الصناعات والتقنيات وتفرعها خلال الحقبة التاريخية الأخيرة خاصة في القرن العشرين، مما فرض على المؤسسة التعليمية مواكبة هذا التطور والتكيف والانفتاح على محيطها التربوي والسوسيواقتصادي، باعتبارها مورداً أساسيًّا للثروة البشرية المؤهلة. و«حين تفاعل هذان العاملان في كل بلد مع وضعه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، عكس نظام التوجيه ذلك فاكتسب في كل بلد سماته وخصوصياته المميزة، ولم تأخذ ظاهرة التوجيه بعداً عالميًّا إلا نتيجة ما سمي «الانفجار المدرسي» الذي حصل إثر الحرب العالمية الثانية»[1].

ومهما يكن من تعدد نماذج التوجيه، فإنه كان يتوخى دائماً من ورائها وبشكل صريح تحقيق الانسجام والتفاعل الإيجابي بين النظام التربوي والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تحقيق المواءمة بين مطالب الأفراد وحاجات التنمية ومخططات المجتمع. وحتى لا نغوص في سرد تاريخي لتطور سياسات واستراتيجيات التوجيه، سنكتفي بالقول بأن التوجيه -بحكم أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع- إنما هو انعكاس للصراع الدائم بين المصالح المتعارضة والقوة النسبية لتلك المصالح. وبالتالي، كان ولا يزال يغيِّر غاياته وأهدافه وآلياته باستمرار، شأنه في ذلك شأن النظام التربوي ينطبع بهوية المجتمع الذي يستعمله: هل هو مجتمع يعيد إنتاج نفسه عاملاً بمبدأ المحافظة والتدجين؟ أم هو مجتمع يريد تطوير تركيبته البشرية باستمرار عاملاً بمبدأ التطوير والتغيير والتنمية وتحرير طاقات الأفراد والجماعات؟

وإذا كانت تلك هي أهداف وغايات التوجيه على المستوى «الماكرو»، فإنه على المستوى «الميكرو»، ومن خلال المؤسسة التعليمية، يفترض أن يصبح التوجيه، تبعاً لذلك، تلك الوسيلة المناسبة لتحقيق التفاعل والتصالح بين المؤسسة التعليمية ومحيطها الاجتماعي العام بكل مستوياته وأبعاده. ولإبراز جوانب من أدوار خدمات التوجيه في ترسيخ التنمية البشرية والاجتماعية، سنحاول مقاربة ذلك من خلال المباحث التالية:

1- التوجيه بوصفه خدمة تربوية.

2- التوجيه بوصفه خدمة اجتماعية.

3- التوجيه بوصفه خدمة إعلامية.

1- التوجيه بوصفه خدمة تربوية

إن مهمة التوجيه لا تختلف في نظر البعض عن مهمة التربية، وهي «السمو بكل فرد إلى أكمل مظاهر الإنسانية التي يسعى إلى بلوغها»[2]. و«غاية التوجيه كغاية التعليم، هي مساعدة كل تلميذ على الوصول إلى أعلى درجات التكوين التي تخولها له قابليته دون أن يعوقه عن ذلك وضعه الاجتماعي أو العائلي»[3]. وبهذا يصبح التكامل والتداخل بين التوجيه والتربية والتعليم أمراً ضروريًّا وموضوعيًّا، إذ يقول تايلر TAYLOR: إن تعريف التوجيه يكاد يكون تعريفاً للتربية ذاتها. ويقول فوغن VAUGHAN: إنه لا يمكن الفصل بين هذه المفاهيم الثلاثة، وأن الكثير من المشكلات التربوية تحتاج إلى خدمات التوجيه التربوي لحلها مثل: التسرب المدرسي والتأخر الدراسي ومشاكل الاختيار، ومشاكل التكيف والتوافق مع البيئة المدرسية والاجتماعية... إلخ[4].

وإذا كانت التربية وسيلة المجتمع لتجسيد التنمية البشرية بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية عن طريق المؤسسة التعليمية، فإن التوجيه يصبح تبعاً لذلك «الأداة الضرورية لتحقيق هذه التنمية»[5] وبالتالي «فلا معنى للتوجيه إن عزلناه عن إطاره التربوي ومحيطه الاجتماعي العام»[6].

من هنا يصبح التوجيه التربوي:

- جزءاً لا يتجزأ من وظائف المؤسسة التعليمية، تباشره انطلاقاً من حياتها المدرسية، وما تحتوي عليه من مناهج وبرامج وأنشطة ومشاريع مختلفة...[7].

- آلية تدبيرية مؤسسية أساسية لتحقيق انتظامية النسق التربوي وتوجيهه نحو الفعالية وما تقتضيه من إنجاز للأهداف التي وُضع من أجلها هذا النسق، ونحو النجاعة وما تتطلبه من إحراز التطابق بين أهداف النسق التربوي ومحيط هذا النسق.

ويشير المتخصصون في مجال العلوم التربوية، إلى أن أحد الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الكفاية الداخلية والخارجية للأنظمة التربوية، هو عدم العناية الكافية بالتوجيه بوصفه خدمة تربوية في مؤسساتنا التعليمية، وهذا يعني أن لهذه الخدمات مكانة تتعاظم أهميتها في تطوير وتحديث وتنمية العملية التربوية. وبالتالي، أصبح للقائمين بهذه الخدمة مسؤولية تناول المشكلات التربوية المتنوعة والعديدة المتصلة بالمجال التربوي والتي يمكن أن تواجه التلاميذ. ويمكن تصنيف هذه الخدمة إلى ثلاث أنواع رئيسة[8]:

الخدمة التوافقية Adjustive

حيث يتم تخصيص هذه الخدمة لبعض التلاميذ الذين يعانون من مشاكل خاصة كالتعثر، والتسرب المدرسي...، ويقتضي هذا النوع من الخدمة معرفة التلميذ الذي تقدم إليه هذه الخدمة والموقف الذي يتواجد فيه وتقديم المساعدة الواجبة في حينها.

الخدمة التوزيعية Distributive

من خلال مساعدة التلاميذ على اختيار البرنامج والنشاط المدرسي والشعب الدراسية المناسبة لهم، مما يستدعي الاطلاع الواسع على المعطيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمستفيدين من هذه الخدمة وللمحيط الذي تتم فيه.

الخدمة التكيفية Adaptative

من خلال إدماج هذه الخدمة في الحياة المدرسية، ومشاركة القائم بها في المنهاج بكل مستوياته، كما عرضنا ذلك سابقاً.

نستخلص من هذا كله، أن التوجيه بوصفه خدمة تربوية تشمل المعلومات والخبرات التي تتضمنها التربية على التوجيه والتعريف بالإمكانات التربوية المختلفة والخدمات المتعلقة بالاستشارات التربوية وحل المشاكل المرتبطة بالتأخر الدراسي، والعمل على تحقيق التوافق المدرسي، بالإضافة إلى الاهتمام بتوجيه التلاميذ والإسهام في تطوير المنهاج والمساعدة في تحسين وترشيد العملية التربوية والحياة المدرسية بشكل عام...[9].

2- التوجيه بوصفه خدمة اجتماعية

تؤكد برلمان PERLMAN على أن خدمة الفرد هي إحدى الوظائف الأساسية للخدمة الاجتماعية، والتي تتغيا مساعدة الأفراد على المواجهة الفعَّالة للمشاكل التي تعوق أداءهم الاجتماعي[10]، ومن ثم مساعدتهم على تحقيق ذواتهم وتلبية حاجاتهم. ويقدم كنيت براي K. PRAY تعريفاً للخدمة الاجتماعية على أنها «وسيلة اجتماعية طبيعية بنائية...، وجزء ضروري في بناء مجتمع متحضر يقوم على التخطيط السليم الذي يوجه نحو مساعدة الأفراد للتصدي للمشكلات التي تنشأ عن التغير الدائم لعلاقتهم بالآخرين ومع المجتمع في جملته...»[11]. وبالتالي، تصبح الخدمة الاجتماعية منخرطة ومساهمة في التفاعلات التي تحدث بين الأفراد والتنظيمات التي يوفرها المجتمع، وتروم هذه الخدمة تحقيق مجموعة من الأهداف نحصر أهمها في:

- إنماء القدرات الخاصة للأفراد قصد النمو والتطور والتصدي للمشكلات.

- تحقيق التعديل المناسب في الأنساق التي تمد الأفراد بالموارد والخدمات.

- ربط الأفراد بمختلف الأنساق التي يمكن أن تمدهم بالخدمات والمساعدات.

وقد برزت مجموعة من النماذج والمنظورات[12] في ممارسة خدمة الفرد لعل أهمها وأنسبها لبحثنا هو المنظور التفاعلي La vision interactive

ويعبر عن هذا المنظور في خدمة الفرد من خلال «نظرية النسق[13] والتواصل»[14]، ويشير إلى أن النسق الأساس الذي يوجه إليه كل من التشخيص والعلاج والوقاية هو الكل المؤلف من: (الفرد - الموقف - موارد البيئة). وبالتالي، ينبغي النظر إلى المساعدة في مضمون تفاعل الفرد وعلاقته مع مكونات محيطه الذي ينتمي إليه، وقد تمثل الأسرة والبيئة المدرسية وجماعات اجتماعية... بعض مكونات هذا المحيط.

ويضع هذا المنظور، الفاعل في الخدمة الاجتماعية، في مسار عمليات الاتصالات المتعددة من أجل إيجاد التسويات والتوافقات الممكنة. وعليه، يصبح لديه مجموعة من الوظائف والأدوار:

- دور الوسيط الاجتماعي: بوصفه حلقة وصل بين الأفراد والمصادر الأخرى في المجتمع، والهدف الأول لهذا الدور هو توجيه الأفراد نحو الخدمات التي توفرها البيئة الاجتماعية والاستفادة من عناصرها المتنوعة.

- دور المساعد: يوجه هذا الدور نحو مساعدة الأفراد على اكتشاف ما لديهم من إمكانات وقوى إيجابية قصد استخدامها في التعامل مع بيئتهم لإحراز التغيير المنشود.

- دور المدافع: من خلال التحدث باسم الأفراد وعرض ومناقشة وشرح أفكارهم والنضال والتفاوض من أجلها كلما دعت الضرورة لذلك.

وفي أفق إيجاد منظور شامل متكامل يستحضر من جهة طبيعة العمل الاجتماعي الذي يقع على الحدود المشتركة بين «الأنساق البشرية والأنساق البيئية»[15]، ومن جهة أخرى الكل الدينامي الذي يضم «المشكلة والوحدة الإنسانية - البيئة كحالة أو وحدة للخدمة»[16]، برز منظور الأنساق الإيكولوجية[17] الذي جمع بين نظرية الأنساق الاجتماعية والأنساق العامة ونظريات الإيكولوجيا الإنسانية، حيث أكد على الطابع التفاعلي الدينامي المتبادل بين الأشخاص والبيئات التي يعيشون فيها.

وبالتالي، أصبح النسق الإيكولوجي بما يحتويه من أفراد وأشياء وأماكن ومنظمات وأفكار... إلخ، من الناحية الإجرائية وحدة اهتمام الخدمة الاجتماعية سواء من حيث أساليب التدخل أو عملية المساعدة. وفي هذا الإطار أصبح الفاعلون الاجتماعيون في الخدمة الاجتماعية في موقع نسق إحداث التغيير وتعديل أنماط التفاعل بين الأشخاص وبيئاتهم الاجتماعية والنفسية.

وفي تقديرنا فإن هذه الأدوار والوظائف تقع في صلب خدمات التوجيه، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار منطقين أساسين:

- المنطق الأول: أن التوجيه يراهن أساساً على تحقيق تصالح الفرد مع محيطه، ولا يمكن لتصالح مثل هذا أن يتم إلا عن طريق التفاعل الإيجابي بين هذا الفرد وذلك المحيط. وأكثر من هذا، هناك من رهن مستقبل الاستشارة والتوجيه بقدرتهما على اكتشاف وأجرأة هذه التفاعلات بين الفرد/ التلميذ والمحيط العام وفق منظور تكاملي: إنساني أخلاقي إيكولوجي[18]. وفي هذا الصدد ما فتئ مهنيو التوجيه يؤكدون «أن أنشطتهم تندرج أساساً في سياق إنساني يتجه نحو خدمة الأفراد وبالتالي نحو تحقيق التنمية البشرية»[19].

- المنطق الثاني: إذا كانت الخدمة الاجتماعية ترتكز على التفاعل بين الفرد والبيئة؛ فإن دور التوجيه لا يبتعد عن هذا إذا ما نظرنا إليه من زاوية اجتماعية بنائية وظيفية، باعتباره مشروعاً للحياة المقصود به في «دلالته السوسيولوجية والسيكولوجية العامة، مجموع السيرورات والمراحل التي يقطعها الفرد في إطار نموه الجسمي والفكري والنفسي، وفي علاقاته المتعددة بمختلف الفاعلين الاجتماعيين المكونين لبيئة مؤسسات التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية التي يمر بها الفرد ويتفاعل معها، وينمو ويتطور أيضاً في مناخ اجتماعي وثقافي له محدداته وخاصياته النوعية»[20].

وتأسيساً على ما سبق، يصبح التوجيه خدمة اجتماعية تروم التدخل عبر ثلاثة مستويات أساسية:

المستوى الأول: التلميذ باعتباره فرداً منخرطاً في مشروع مستقبلي يستدعي التخطيط والإنجاز والتقويم المستمر، ويتطلب في الآن ذاته «بناء علاقة مغايرة مع الذات والبيئة»[21]، مما يجعله في أمس الحاجة إلى خدمات متمحورة حول القدرة والمعرفة والكفاية:

- إن المقصود بالقدرة هنا، هي كل ما يلزم التلميذ من وسائل الدعم والمتابعة والبحث النابعة من بيئته المباشرة وغير المباشرة قصد مساعدته على تعديل وتحسين نوعية تجليات التبادلات بينه وبين محيطه العام، مما يطرح على المؤسسة التعليمية إكفال الشروط المؤسسية والموضوعية لأداء هذه المهمات وتوفير الوضعيات المناسبة لذلك.

- أما الكفاية فهي نظام من المعارف المفاهيمية الإجرائية، التي تجعل الفرد قادراً على الفعل عندما يكون في وضعية معينة، أو إنجاز مهمة من المهام أو حل مشكلة من المشاكل...[22].

- وأما المعرفة فيقصد بها كل ما يحتاجه التلميذ من إعلام واستعلام حول ذاته وبيئته، وسنعمل على إبراز وتفصيل بعض جوانب ذلك لاحقاً.

المستوى الثاني: المحيط العام بوصفه مجالاً يحتضن المشروع الشخصي للتلميذ حاضراً ومستقبلاً، وبوصفه مجموعة من شركاء التلميذ التربويين والاجتماعيين...، ويتجلى المضمون الاجتماعي للتوجيه في هذا المستوى، في مساعدة التلميذ على رصد مكونات هذه البيئة، والتدخل لدى مختلف الشركاء قصد تيسير تمدرسه، وانفتاحه على محيطه، وتوفير شروط مواكبة وتنفيذ مشاريعه.

المستوى الثالث: التفاعل بين التلميذ والمحيط العام: إن تحقيق المشروع الشخصي للتلميذ لا يتوقف على معرفة الذات والمحيط، بل يتطلب التأسيس لسيرورة دينامية تفاعلية مستمرة بين التلميذ والمحيط تراهن على تحقيق التناغم إلى أقصى حد ممكن بين تلك الذات وذلك المحيط. فبناء المشروع يعتبر قبل كل شيء «بناء طريقة لفهم واستيعاب الفرص»[23]، ويبقى استثمار الفرص التي يتيحها المحيط والعمل على تجاوز الإكراهات التي تعترض التلميذ، من الأبعاد الوظيفية للتوجيه بوصفه خدمة اجتماعية.

إذا استحضرنا التوجيه بوصفه وظيفة من وظائف المؤسسة التعليمية، جاز لنا أن نثير طبيعتها بوصفها مجالاً للخدمة الاجتماعية يفترض فيها أن تحتضن وتشرف على الخدمات الكفيلة بتجسيد المقاربة الاجتماعية لخدمات التوجيه بمستوياتها الثلاث. وما نطمح إليه ليس هو تحويل المؤسسة التعليمية إلى مركز علاجي ضيق الأفق، وإنما نريد منها موقعاً للحياة والنجاح المدرسي وتوطيد علاقاتها مع البيئة التي تتواجد فيها والمجتمع الذي يحتضنها. وذلك حتى تتحول، بفضل ذلك قاطرة للتطوير والتنمية والتحديث وبناء المواطن الفاعل في التنمية والمستفيد منها[24].

3- التوجيه بوصفه خدمة إعلامية

لقد أصبح للخدمة الإعلامية بمختلف آلياتها وقنواتها الدور الواضح في تكوين الصورة الذهنية للأفراد والجماعات، وتؤثر في الطريقة التي يدركون بها الأمور، كما تؤثر في اتجاهاتهم ومواقفهم نحو مجتمعهم وعالمهم الذي يعيشون فيه، ولم ينج حتى المجتمع المدرسي من هذا التأثير.

ويعرف ديربان DERVIN الإعلام بأنه «مجموعة معارف جديدة يبنيها الفرد انطلاقاً من معالجة المعطيات الآتية من محيطه أو من ذاته»[25]، ويرى روفينو RUFINO أن المقصود بالإعلام في سياق التوجيه هو «ذلك النشاط المنظم بهدف إخبار التلاميذ، وتنحية الشكوك والأخطاء المتعلقة بالمحتويات الضرورية لبناء قرارات مستقلة وواعية ومحفزة»[26]. وينتمي الإعلام الذي نتحدث عنه إلى ظاهرة أكبر وأشمل هي الاتصال التربوي، الذي يقوم على المشاركة في الأفكار والمعلومات والخبرات والتجارب، وهو أساس كل تكيُّف وتفاعل يطالب به المجتمع المدرسي أعضاءه وزبناءه سواء كان هذا الاتصال تلقائيًّا راجعاً إلى «اجتماعية» الفاعلين المعنيين، أو قصديًّا منظماً وممأسساً، كما أمست تلح عليه الأساليب التواصلية المعاصرة.

وبالتالي، يصبح الإعلام بأبعاده المدرسية والمهنية من الأركان الأساسية للحياة المدرسية والمنهاج الدراسي، لما له من فوائد تربوية ونفسية واجتماعية تحقق الكثير من الأهداف التي تسعى إليها المناهج التعليمية نفسها، ويمكن حصر هذه الأهداف في ثلاثة أبعاد أساسية:

البعد المعرفي، ويتجلى في:

- إكساب التلاميذ معرفةً أشمل وفهماً أعمق لوسطهم السوسيوثقافي والاقتصادي، وربطهم بعالمهم المعاصر ونقلهم خارج نطاق مدارسهم الضيق. ولا يمكن لهذه المعرفة أن تكون مفيدة، إلا إذا مكَّنت التلاميذ من نسج علاقات بين خصوصياتهم وحاجياتهم والمحيط الذي يعيشون فيه[27].

- ربط التلاميذ بواقع مؤسساتهم التعليمية من خلال التعرف على أنشطتها وبرامجها وقوانينها ومرافقها، وتعريفهم بالمساهمين في تعليمهم وتربيتهم.

البعد العملي، ويتمثل في:

- تنمية مهارات التلاميذ الخاصة بالبحث والتنقيب عن المعلومات من مختلف مصادرها، باعتماد الوسائل والاستراتيجيات المتنوعة. وتبقى مصداقية وجودة هذه المعلومات أساسية في تهيئة مختلف القرارات.

البعد السلوكي، ويراد به:

- إكساب التلاميذ الوسائل العملية لمواجهة المشكلات وتنمية القدرات على التأمل والملاحظة والتجريب واتباع الأسلوب العلمي.

- إعداد التلاميذ لاتخاذ مختلف القرارات والتعبير عن آرائهم والانخراط الإرادي في النوادي الإعلامية، والاستفادة من خدمات الإنترنت ومراكز الإعلام والقاعات المتعددة الوسائط... وكل الفضاءات الداعمة لعمليات الإعلام والاستعلام سواء داخل المؤسسة أو خارجها.

ولبلورة هذه الأبعاد الثلاثة لدى التلميذ، تلجأ الخدمة الإعلامية إلى مجموعة من القنوات والوسائط والخدمات لعل أهمها:

بالنسبة للقنوات والوسائط:

- الوسائط المقروءة: سواء كانت مطبوعة أو منسوخة كالملصقات والمطويات والمنشورات والكتيبات والدوريات والمجلات المدرسية... وتعتبر من الأدوات الهامة في تكوين وتوجيه الرأي العام المدرسي، وهي في الآن ذاته وسيط بين المؤسسة التعليمية والمجتمع.

- الوسائط السمعية: ومنها الشرائط والأسطوانات والإذاعة المدرسية... التي تعتمد على الكلمة المسموعة التي تتخطى كافة الحواجز والعقبات، لتصل في يسر وسلاسة إلى الساكنة المدرسية، وبصورة يسهل تذكرها مما لو قدمت مطبوعة أو منسوخة، وتتيح للتلاميذ فرص التفكير والتذكر دون عناء، وتقترب منهم اقتراباً شديداً لتُشبع رغباتهم وتواكب دوافعهم وتوقعاتهم وتنشيط خيالهم إلى أقصى حد ممكن[28].

- الوسائط السمعية البصرية: منها الأفلام على اختلاف أنواعها والتلفزيون بمختلف أنماطه، ثم الفيديو وشبكات الإنترنت والبريد الإلكتروني...، تخاطب في التلاميذ حاستي السمع والبصر عمدتي الحواس الإدراكية. وتعتبر من أكثر الوسائل قدرة على الإيضاح والتعبير، وتتجاوز بالتلاميذ حدود الزمان والمكان وتسمح لهم بتبادل البيانات والمعلومات والتجارب. وبالتالي، تصبح من أكثر وسائل الخبرة في حياة التلاميذ.

وهكذا تصبح هذه الآليات والقنوات لا تستهدف فقط التلاميذ، وإنما تراهن على تحقيق التواصل بين التلاميذ والطاقم التربوي والإدارة المدرسية...[29].

بالنسبة للخدمات: يمكن التمييز بين نمطين من خدمات الإعلام المدرسي والمهني[30]:

* الخدمات الإعلامية التي تتطلب الشراكة، وتعتمد المحيط العام للمؤسسة التعليمية مصدراً تربويًّا للمعلومات نخص بالذكرمنها:

- تنظيم لقاءات وحوارات مع بعض العمال سواء داخل المؤسسة أو في وسط العمل.

- مراسلات مع العمال والموظفين ومختلف التنظيمات.

- تقديم الآباء لشهاداتهم حول تجاربهم المهنية.

- ملاحظة العمال في أوساط العمل.

- تداريب داخل مؤسسات أو مقاولات.

- ندوات من تنظيم مهنيين أو قدماء التلاميذ.

- تنظيم زيارات للمؤسسات التعليمية والمهنية والخدماتية.

- حوارات مع ضيوف من عالم الشغل.

- الحصول على الدعائم الإعلامية والشرائط والأقراص التعريفية ببعض المقاولات والمؤسسات.

* الخدمات التي يتم تفعيلها داخل المؤسسة التعليمة، بوصفها مجالاً للاستكشاف والاستعلام:

- تخصيص رواق أو مركز قارٍّ داخل المؤسسة لعرض مختلف الدعائم والوثائق الإعلامية المحصل عليها من مختلف الأوساط والمؤسسات والمصادر الإعلامية والمعلوماتية.

- تنظيم الأبواب المفتوحة ومعارض مهنية قارّة ومتنقلة والأيام الإخبارية.

- تأسيس نوادٍ مهنية.

- تنظيم أنشطة مسرحية وفنية وثقافية...

- تكوين لجان قصد استكشاف المؤسسة التعليمية ومختلف مرافقها ومهامها...

- إنجاز مونوغرافيا مهنية حول شخصيات معروفة أو آباء التلاميذ.

- تنظيم حوارات جماعية حول تيمات مهنية معينة...

إن الحرص على جعل هذه الخدمات (التربوية/ الاجتماعية/ الإعلامية) في قلب استراتيجية موجهة يتطلب منهجية مخططة ومنظمة تراهن على الاستجابة لحاجات التلاميذ وحاجات المجتمع. ومن جهة أخرى، يظل التنوع والتكامل بين مختلف الآليات والقنوات والأنشطة من مواصفات التوجيه الناجح والفعال. ولا نتصور استراتيجية من هذا القبيل ممكنة إلا في ظل ممارسة علمية وعملية منفتحة على المحيط التربوي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي...، مؤسسة على منظور سوسيوتربوي وتنموي شمولي يتخذ من المناشط التربوية والإعلامية والاجتماعية، ومن مختلف قنواتها وآلياتها دعامة محورية تستند إليها سيرورات التربية والتكوين.

هكذا إذن، يمكن لهذه الخدمات أن تساهم في تقوية خبرات ومعارف التلاميذ وتمدهم بمجالات خصبة للتجربة والاستكشاف، والتمرن والتهيؤ لاتخاد القرار وبناء المشاريع بأبعادها الحياتية والمهنية والمدرسية[31]، مما سيساعد على تهيئة الفرص المناسبة للتوجيه، ويعزز العلاقات بين المؤسسة التعليمية وبيئتها العامة بمستوياتها المحلية والجهوية والوطنية والكونية، ويعمل على زيادة اهتمام المجتمع بالمدرسة، ويُحدث التنمية البشرية بكل أبعادها ودلالتها التربوية والثقافية والسوسيواقتصادية والحضارية الشاملة.

 

 



[1]* مفتش التوجيه التربوي/ مركز التوجيه والتخطيط التربوي ـ الرباط / المغرب.

 بلقاسم بنسالم: «التعليم العصري ونظام التوجيه المدرسي بتونس...»، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة علوم التربية، العدد 2، تونس، 1988، ص: 118.

[2]

G.ROGER, cité dans: « Pour une approche éducative de lorientation », gaetan Morin, éditeur, Canada, 1984,p:59.

 

[3]

I. CHIAVERINI et P. DASTE: « Orientation scolaire et professionnelle », Nancy ,Berger-Levrault,1971,p:217.

 

[4] صائب أحمد الألوسي، عواد جاسم التميمي: «الإرشاد التربوي في جامعات دول الخليج العربية»، مكتب التربية العربي لدول

الخليج، الرياض، 1990، ص23.

 

[5] GAL. ROGER, Op-cit, p:24.

 

[6] بلقاسم بنسالم، التعليم العصري ونظام التوجيه المدرسي بتونس...، مرجع سابق،ص119.

 

[7]

 M. DURU-BELLAT.: « Le fonctionnement de lorientation genèse des inégalités sociales à scolaires », Delachaux et Niestle S.A.,Lausane- Paris,1988,p:149.

- انظر أيضاً: يوسف مصطفى القاضي وآخرون «الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي»، دار المريخ، الرياض، 1981، ص: 54.

 

[8] يوسف مصطفى القاضي وآخرون، المرجع السابق نفسه، ص: 63.

 

[9] حامد عبد السلام زهران: «التوجيه والإرشاد النفسي»، الطبعة الثانية، عالم الكتاب، القاهرة، 1982، ص: 445.

 

[10] عبد الفتاح عثمان: «خدمة الفرد في المجتمع النامي»، مكتبة الآنجلو المصرية، القاهرة، 1984، ص: 26.

 

[11] ورد في محمود حسن محمد: «ممارسة خدمة الفرد»، مرجع سابق، ص: 18.

 

[12] هناك منظورات أخرى في الخدمة الاجتماعية:

* بالنسبة لخدمة الفرد يمكن التمييز بين المنظورات التالية: المنظور النفسي الاجتماعي؛ المنظور الوظيفي؛ منظور حل المشكلات؛ منظور تعديل السلوك.

* بالنسبة لخدمة الجماعة يمكن التمييز بين المنظورات التالية: المنظور التنموي؛ المنظور الوقائي التأهيلي.

[13] في خدمة الفرد وجب الانتباه إلى الأنساق التالية:

- ميكرونسق: micro système، الذي يحتوي على أوساط متعددة يتطور ويتفاعل فيها الفرد بشكل مباشر منها: الأسرة، الأصدقاء، عالم الشغل،...

- Cf: B. GAUTHIER: « Recherche sociale: de la problématique à la collecte des données », Sainte-Foy (Qc), Presses de lUniversité du Québec, 1995, p:566.

- ميزونسق: meso système، يضم العلاقات والتفاعلات بين الميكروأنساق المتعددة، التي يتواجد فيها الفرد، مثل علاقة المدرسة مع عالم الشغل.

- Cf: Robert CAMPEAU, Michèle SIROIS, Élisabeth RHEAULT et al: « Individu et société: Introduction à la sociologie », Boucherville (Qc), Éditions Gaëtan Morin, 1998, p:422.

- إيكزونسق: exo système، يحيل على البنية الاجتماعية العامة، التي يرتبط بها الفرد بشكل غير مباشر، مثل الشبكة الاجتماعية للآباء.

- Cf: J. GUICHARD et M. HUTEAU: « psychologie de lorientation »,Dunod, Paris, 2001,p:174

- ماكرونسق: macro système، يضم القيم والمعتقدات والأحداث التاريخية التي تبرز السياق الثقافي.

- Cf: B. GAUTHIEROp-cit, p: 566.

 

[14]

M. DU RANQUET, « Les approches en service social: Interventions au près des personnes et des familles », socioguides, edisem, 2ème tirage,bibliothèque nationale,Canada, 1983,p:19.

 

[15] جلال الدين الغزاوي «العمل الاجتماعي في المجال التربوي»، جامعة الكويت، حوليات كلية الآداب، الحولية الرابعة،

الرسالة السابعة عشرة، الكويت، 1983، ص: 26.

 

[16] محمود حسن محمد، «ممارسة خدمة الفرد»، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1983، ص: 68.

 

[17] المقصود بالإيكولوجيا، ذلك العلم الذي يهتم بدراسة أساليب تكيف الكائنات الحية مع بيئتها، كما يهتم أيضاً بالوسائل التي بها

تصل هذه الكائنات الحية إلى حالة من الاتزان الدينامي والتبادلية المشتركة بينها وبين هذه البنيات. ويمكن لنا أن نستمد من هذا العلم نموذجاً يتناسب مع الجهود التي تسعى إليها المهن المساعدة Metiers daide وخاصة تلك التي تهتم بالعلاقات القائمة بين الإنسان والبيئة. للمزيد من التفاصيل ارجع إلى: العمل الاجتماعي في العمل التربوي، مرجع سابق، ص: 26.

 

[18]

D. PELLETIER et R.BUJOLD, « Pour une approche éducative de lorientation », gaetan Morin, éditeur, Canada, 1984 , pp:428-437.

 

[19] J. GUICHARD et M. HUTEAU: « Psychologie de lorientation » ,Op-cit ,p:282.

 

[20] محسن، مصطفى: «الإدماج المهني للشباب وعلاقته بقضايا الهوية والاندماج الاجتماعي، رؤية سوسيولوجية نقدية في

قضايا الشباب وقضايا الهوية»، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 54، الرباط، 1996،ص: 20.

 

[21]

D. PEMARTIN, « Les démarches de projets personnels »,EAP,ISSY-Les moulineaux, 1995, p:23.

 

[22] عبد الكريم غريب «الكفايات واستراتيجيات اكتسابها»، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،

2001 ص: 76.

 

[23] J.P. BOUTINET: « Antropologie du projet »Ed, PUF,PARIS ,1990 ,p:230.

 

[24] عبدالعزيز سنهجي: «انفتاح المؤسسة التعليمية على محيطها العام / خدمات الإعلام والتوجيه نموذجاً»، مكتبة النيل، الطبعة

الثانية، الرباط، 2007 ص: 8

 

[25]

I.N.E.T.O.P: « lorientation scolaire et professionnelle »,vol 32, n° 4,Paris,décembre 2003, p:619.

 

[26]

D. PELLETIER et R. BUJOLD« Pour une approche éducative de lorientation », gaetan Morin, éditeur, Canada, 1984, p.p: 116 - 437.

 

[27]

TIEDMAN et OHARA ,cité par D. PEMARTIN et J. LEGRES: « Les projets chez les jeunes »,Ed. EAP,1988,p:45.

 

[28] أحمد عبد الباقي ثروث، «الوظيفة التربوية للتلفزيون من وجهة نظر رجال التعليم»، دراسات تربوية، المجلد العاشر،

الجزء 71، رابطة التربية الحديثة، 1994، ص: 225.

 

[29] المنصف شنوفي وآخرون، «دراسات إعلامية»، ذات السلاسل، الكويت، 1995، ص: 361.

 

[30]

Guide pour linformation et lorientation scolaire et professionnelle:

Cf: www.gpsao.educ.USherbrooke.ca

 

[31] مصطفى محسن: «في سوسيولوجيا الانتقال المهني لدى الشباب: أبعاد الأزمة وآفاق التجاوز، في مجموعة مؤلفين: علم

النفس وعالم الشغل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات، رقم 142، الطبعة الأولى، 2007 ص: 29.