الدكتور عبد الهادي الفضلي[1]
قد لا يتأتّى لنا أن ننطلق في الحديث عن موضوعنا هذا إلاّ بعد أن نُمهّد له بما يُحدِّد مفهوم الحضارة في لغتنا العربية المعاصرة، وذلك لنتبيّن محور البحث بوضوح وجلاء، فنتحرّك منه وإليه في مسيرة توصلنا إلى غايتنا دونما عثار أو تعثّر.
كذلك لابدّ لنا من أن نُمهّد له بما يكشف لنا عن مدى نجاح التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية، لما يُلقيه هذا النجاح من ضوء على ما نحن بصدد الإعراب عنه من إمكانية صمود المسلمين أمام إثارات ومؤثرات التحدي الحضاري الغربي القائم، ولما يساعد عليه من تمتين الرجاء وتقوية الأمل في نفوس المسلمين، وهو يحدوهم إلى أن يضعوا حضارتهم في مركزها الطبيعي الذي يمنحها التقدّم والازدهار مرة أخرى، لكي تخرج من هذا الواقع المعاش وهي أقوى قدرة وأمضى إرادة على تحقيق رسالتها التي هي النهوض بالبشرية إلى مستويات أعلى في العطاء الفكري المثمر، ومستويات أعلى في التجسيد الحي للعدالة الإنسانية في واقع هذا العالم المضطرب الذي يعاني غير قليل من عدم وضوح المستقبل وما سيصير إليه هذا الإنسان بسبب تفاعله مع ما يفرزه هذا الصراع الحضاري الراهن، فأقول:
إن لكلمة (حضارة) في لغتنا العربية المعاصرة معنيين، أحدهما قديم، يمتدّ في بدايات استعمالها فيه -كما يبدو من التعريف المعجمي له- إلى بدايات استعمال اللغة العربية الجاهلية، وثانيهما حديث معاصر، انتقل إليها بتأثير التفاعل الاجتماعي والتقارض اللغوي بين مجتمعنا العربي والمجتمعات الغربية، وبين لغتنا العربية واللغات الأوروبية، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية، وعن طريق الترجمة العلمية لمصطلحات ومفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وفي ضوء هذا لنا أن نسمي المعنى القديم بالمعنى اللغوي، والمعنى الحديث بالمعنى العلمي.
وفي تعريف المعنى اللغوي لا يختلف معجم عربي عن معجم عربي آخر في أن مفهوم الحضارة يقابل مفهوم البداوة، وأن كلمة حضارة تضاد كلمة بداوة، وكذلك مشتقاتهما، فكلمة (حاضرة) تضاد كلمة (بادية)، ومفهوم (حضر) يقابل مفهوم (بدو)، لأن أجدادنا العرب كانوا يقولون في قديم استعمالاتهم اللغوية الاجتماعية، وكذلك في جديدها المعاصر -لمن لا يزال يعيش في امتداد ذلك الواقع القديم-: «فلان من أهل الحاضرة» و«فلان من أهل البادية» و«فلان حضري» و«فلان بدوي».
ومنه أفاد المعجم العربي، حيث يقول في تعريفاته لمشتقات هذا الجذر اللغوي: «الحضر خلاف البدو» و«الحاضر خلاف البادي» و«الحضارة خلاف البداوة» و«الحاضرة خلاف البادية»[2].
وهذه المقابلة والمضادة تعني أن تعريف أحد المتقابلين والمتضادين يلزمه تعريف الآخر بسلب معناه عنه، فَلْنَرَ -في ضوء هذا- ماذا تعني البداوة لنعرف من خلال سلب معناها معنى الحضارة.
يقول المعجم: البداوة: هي الإقامة في البادية[3].
وعلى أساس منه، وفي ضوء ما ذكرنا، عرّف المعجم الحضارة بالإقامة في الحاضرة أو الحضر[4].
ويعرّف المعجم العربي الحضر بأنه: المدن والقرى والأرياف[5].
وتعلل تسمية الإقامة في المدن والقرى والأرياف بالحضارة -كما يستنتج من التعريفات المعجمية- لأن أهلها حضروا الأمصار وسكنوا الديار التي يكون لهم بها قرار.
وبالمقابلة فالبداوة تعني التنقّل والترحّل في البادية.
وعليه: فإننا إذا حاولنا أن نستعمل لغة الجغرافيا الحديثة، نقول: الحضارة تعني الاستقرار الاستيطاني، وبخلافها البداوة فإنها تعني عدم الاستقرار الاستيطاني.
وفي التعبير المعجمي المتقدّم (لهم بها قرار) مُلمِح إلى هذا المعنى.
ومن المعلوم -تاريخيًّا- أن من أهم معطيات الاستقرار الاستيطاني، أو بالأحرى: أن من أهم مستلزماته، هو التمدّن.
فهذا الملمح الذي أشرتُ إليه يشير إلى المعنى الحديث للحضارة الذي هو التمدّن.
وقد يكون لطريقة الاختصار التي التزمها المعجميون العرب القدامى في تعريفاتهم لمعاني الألفاظ تأثير على ذلك.
والحضارة بهذا المعنى تعطي أنها مرحلة متقدّمة من مراحل التطوّر الإنساني، وصل إليها الإنسان بعد أن قطع أكثر من مرحلة في طور البدائية والبدوية.
ومن أبرز من أشار إلى مراحل تطوّر الجنس البشري هو العالم الأنثروبولوجي لويس موركن في كتابه عن (المجتمع القديم) الذي نشره في عام 1877م، والذي عنونه بـ(بحوث في التقدّم البشري منذ عهد التوحّش وخلال فترة البربرية إلى فترة المدنية)، فقد قسّم المراحل إلى ثلاث، هي:
1- مرحلة التوحّش، وهي مرحلة الجمع والصيد.
2- المرحلة البربرية، وهي مرحلة الزراعة المستقرّة.
3- مرحلة المدنية، وهي المرحلة التي اخترع فيها الإنسان حروف الكتابة، وعرف الكتابة فانتقل بها من المرحلة البربرية الأمّية إلى بداية التمدّن.
ومن أهم عناصر ومقوّمات التمدّن:
1- العقلانية في التفكير.
2- الخلقية الفاضلة في السلوك.
3- العمران الفنّي في التصميم والإنشاء.
4- استثمار موارد الطبيعة زراعيًّا وصناعيًّا.
5- إنشاء المؤسسات الثقافية.
ومن هنا أضافت المعاجم اللغوية العربية الحديثة هذا العنوان لدلالة الحضارة.
ففي (الهادي): «الحضارة: خلاف البداوة، ويقال: فلان من أهل الحضارة، أي من سكان المدن والقرى.
والحضارة في معناها الحديث هي التمدّن»[6].
وفي (الصحاح: معجم اللغة والعلوم): «الحضارة Civilization: ضد البداوة، وتقابل الهمجية والوحشية، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني.
[و] جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة»[7].
ويقول البروفسور دينكن ميتشيل Pr. Duncan Mitchell في (معجم علم الاجتماع - ترجمة د. الحسن) - ص 67 ط2 -: «إن جميع التعاريف الأنثروبولوجية لاصطلاح الحضارة تأثرت بطريقة أو أخرى بتعريف البروفسور إدوارد تايلر Edward Tylor للحضارة»، الذي عُرِف عنه بأنه «اهتمّ بدراسة الحضارة البشرية أكثر من اهتمامه بأي موضوع آخر»[8].
عرّف تايلر الحضارة: «بأنها ذلك الكل المعقّد الذي يتكوّن من مجموعة المعتقدات والأفكار والآراء والقيم والمقاييس والمعارف والفنون والفلسفة والأديان والقوانين والأخلاق وجميع القابليات والمهارات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه»[9].
ويمكننا أن نعرف الحضارة بتعريف آخر يجمع التعريفين القديم والحديث وباختصار، وذلك بأن نقول: الحضارة: هي التوطّن.
فهو يقابل البداوة لأنها لا توطّن فيها، ذلك أن البدوي في البادية في تنقّل دائم لالتماس مواضع النجع حيث مساقط الغيث ومنابت الكلأ، ولأن التوطّن تستتبعه اللوازم التي ذكرتها في أعلاه كعناصر للتمدّن.
وهنا لا بدّ من الإشارة -تمهيدًا للموضوع أيضًا- إلى أن علماء الاجتماع وكذلك علماء الأنثروبولوجي ينقسمون إلى فريقين في المقارنة بين مفهوم الحضارة ومفهوم المدنيّة، وبالتالي بين مفهومي التحضّر والتمدّن، فريق يُرادف بينهما، فالحضارة -في رأيه- هي المدنيّة، والمدنيّة تعني الحضارة، وفريق يفارق بينهما، ومنه ما ذهب إليه بعضهم حيث عرّف الحضارة بذلك «الكل المعقّد الذي يشمل المعرفة، المعتقدات، الفنون، الأخلاق، والقوانين والعادات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه.
أما المدنيّة فهي جميع المنجزات -أو مجموعة الإنجازات- التي تميّز طابع الحياة في المدينة المنظّمة أو الدولة المنظّمة»[10].
كما حاول الدكتور ألفريد فيبر Alfred Weber التمييز بين الحضارة والمدنيّة، فقال: «من الضروري التمييز بين ثلاث عمليات، وهي: عملية المجتمع، عملية المدنية، وعملية الحضارة.
فالعملية الاجتماعية لها نتائج تنعكس في إنتاج أنواع مختلفة من البنيات الاجتماعية التي لها أصل واحد وطريقة واحدة في التغير من شكل لآخر.. فالعائلة -مثلاً- تتحوّل في جميع المجتمعات الإنسانية من عائلة ممتدة إلى عائلة نووية[11].
بعملية المدنية يعني الدكتور فيبر نمو فروع المعرفة، وتقدّم سبل السيطرة الفنية على القوى الطبيعية، ذلك التقدّم المتماسك الذي له نظام منتظم ينتقل من شعب لآخر.
أما عملية الحضارة فإنها لا تسير في خط واضح المعالم، كما تسير عملية المجتمع وعملية المدنية.
فالحضارة لا يمكن أن تفهم إلاّ إذا درست دراسة تاريخية تقتفي تطوّر أجزاء الحضارة وعلاقتها الواحدة بالأخرى»[12].
وقد نستطيع أن نقول -بعد أن عرفنا أنّ كلاًّ من الحضارة والمدنيّة مرحلة متقدّمة في تطوّر المجتمع البشري- إن التقدّم الإنساني يقوم على دعامتين، هما:
1- التقدّم في الجانب الثقافي: الفلسفة والأدب والفن.
2- التقدّم في الجانب التقني: الآلة والعمران واستثمار الطبيعة.
ولنا أن نسمي الأول الجانب الحضاري، ونسمي الثاني الجانب المدني، فنعرّف ونميّز بين الحضارة والمدنيّة.
وإذا أردنا الاختصار بالعبارة نقول:
- الحضارة هي الجانب المعنوي للحياة.
- والمدنيّة هي الجانب المادي للحياة.
في ضوء هذه التّفرقة نستطيع أن نتعرّف الفرق بين واقع حضارتنا الإسلامية المعاصرة، وواقع الحضارة الغربية المعاصرة، وبيسر ووضوح.
وسيأتي هذا فيما بعد، على أن أسمح لنفسي بأن أستعمل كلمة (الحضارة) قبل الوصول إلى مفترق الطريقين بين الحضارتين بمعناها العام، والشامل لمعناها الخاص ومعنى المدنيّة الخاص.
كما ينبغي أن نضع في عرفاننا وحسباننا أن الحضارات تتفاوت فيما بينها، فلكل حضارة:
- نطاقها Aired
- وطبقاتها Couches
- ولغاتها Languages
وفي هدي هذا التفاوت نستطيع أن نتميّز الحضارة الإسلامية من سواها.
ومن المعلوم أن الحضارة الإسلامية نشأت في بداياتها الأولى في المدينة المنورة، وتمثّلت في التالي:
1- العقيدة الإسلامية، التي هي -في واقعها- نظرة عقلانية عن الكون والحياة والإنسان.
2- التشريع الإسلامي، الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم فردًا ومجتمعًا ودولةً.
3- النظام الأخلاقي الإسلامي، الذي يرتفع بسلوك الإنسان المسلم إلى مستوى الفضيلة، وربطه بمبدأ الخير الأسمى، وهو رضا الله تعالى.
4- الدولة الإسلامية، التي هي تطبيق لما تقدّم في واقع حياة المسلمين.
وقرأنا -تاريخيًّا في أمثال سيرة ابن هشام- أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بإبرام أكثر من معاهدة، وبعث السفراء السياسيين والآخرين الثقافيين، وأشاد المساجد، وجعلها مواضع تعبّد وتهجّد، ومراكز تعليم وتعلّم.
إلى أعمال أخرى كثيرة ذكرها مؤرخو السيرة النبويّة.
وكانت هذه هي التجربة الأولى والرائدة للحضارة الإسلامية، وقد بدأت من نقطة الصفر، وفي مجتمع غير مؤهّل التأهيل الكافي للنهوض بها، ولولا قدرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفائقة على التربية الخلاّقة والمبدعة لما استطاعت هذه التجربة أن تخرج من الامتحان في تحدياته الصعبة والمرّة بنجاح ونصر أنموذجيين في مستواها من حيث تحقيق الغاية المنشودة.
وفي العصر العبّاسي -حيث ازدهرت الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات الفكرية والعملية- كانت التجربة الثانية.
ففي مجال الفكر، كانت الفلسفة الإسلامية إلى جانب الفلسفات الأخرى التي استقبلها المسلمون عن طريق الترجمة، وأقبلوا على دراستها للإفادة منها، وعلى نقدها لتصويب ما يفتقر منها إلى تصويب.
وكان في مقدّمة الفلاسفة المسلمين الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، وحفيده الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وحفيده علي بن محمد الهادي (عليه السلام)، وأبو يوسف الكندي وأبو نصر الفارابي وابن سينا والغزالي والخواجة الطوسي وغيرهم.
ومن غير شكّ أن الفلسفة من أبرز معالم الرقي الفكري.
وكان إلى جانب هذا نشوء وتطوّر العلوم الإسلامية كالقراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام وأصول الفقه وسواها.
وكذلك نشوء وتطوّر علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والبلاغة والعروض وأصول اللغة وخلافها.
وبلغ الأدب العربي -في هذا العصر- بشعره ونثره قمّة مستواه الفني.
ومثله الفن وفي كل مجالاته.
وأيضًا نضجت في هذا العصر علوم الطب والصيدلة والفلك والرياضيات وغيرها.
وفي العمران وما يعبّر عنه من تصميمات هندسية رائعة يكفينا شاهدًا آثار العباسيين في بغداد والفاطميين في القاهرة والأمويين في الأندلس.
وفي إطار التقييم لهذه التجربة الثانية للحضارة الإسلامية تعدّ من أروع التجارب الحضارية المتفوِّقة.
وإلى هنا، ومن الآن سأستعمل كلمتي حضارة ومدنيّة بمفهوميها الخاصين، وسأستعمل بدل كلمة حضارة بمعناها العامّ كلمة تقدّم.
بعد سقوط الدولة العبّاسية مُنيَ التقدّم الإسلامي بشيء من الركود في الجانب الحضاري، وبشيء غير قليل من الجمود في الجانب المدني.
واستمرّ الوضع هكذا بين مدٍّ خفيف وجزرٍ عنيف، حتّى بدايات القرن العشرين الميلادي حيث سقطت الدولة العثمانيّة، وسيطر الغربيون على معظم البلاد الإسلامية، وجاء دور غزو الحضارة الغربية، وقد استفاد الغربيون كثيرًا من الوضع الإسلامي الحضاري والمدني في ضعفه الذي آل إليه، فازداد المدّ ضعفًا والجزر عنفًا، وأصبح المسلمون يعيشون ضغوط الغزو الغربي، ويعيشون أفاعيله في التغيير من واقع حضارتنا لصالح حضارته، وفي محاولاته الصريحة والجريئة لطمس معالم الحضارة الإسلامية.
وحتّى النصف الثاني من هذا القرن العشرين حيث بدأ المسلمون يكافحون هذا الغزو الحضاري الغربي بتحريك ذلك الركود الذي أشرت إليه في أعلاه، وذلك بإنشاء المؤسسات الثقافية، ومحاولة الاستفادة من الوسائل والأساليب الغربية في إعادة بناء الحضارة الإسلامية وفق متطلّبات المعاصرة.
وفي الربع الثاني من هذا النصف الثاني نشط المسلمون في محاولة اختراق الحضارة الغربية في مواقعها الممنعة ومراكز انطلاقاتها القوية وهي البلدان الغربية، فأنشؤوا فيها المؤسسات الثقافية.
ومنذ سنوات قليلة، وبخاصّة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، احتدم الصراع فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
وهنا يأتي دور المقارنة لنعرف واقع كل من الحضارتين الآن ومن بعد ذلك نتعرّف مدى إمكانية الحضارة الإسلامية في الصمود والتقدّم.
في الواقع الراهن لكل من الحضارتين شيء من التوازن، وهذا -بدوره- يُعطي الحضارة الإسلامية القدرة على الصمود، والقدرة على التقدّم، ومن ثم القدرة على التحدّي الفاعل.
من غير شكّ أن الغربيين يتفوّقون مدنيًّا سواءً في التكنولوجيا في مجالَيْها التقني والصناعي أم في اقتصادياتها في عالمي الشركات الكبرى في الصناعة والزراعة والتجارة والعمران، وعالم البنوك ومؤسسات النقد العالمية.
ومن غير شكّ أنهم أصيبوا بشيء غير قليل من الوهن في الجانب الحضاري، فحقوق الإنسان لم تعد هي حقوق الإنسان المعروفة في كل بلدانها ومناطق نفوذها، والسمات الخلقية الفاضلة بدأت تتلاشى، وما انتشار تجارة المخدرات، وارتفاع نسب الطلاق، ونسب الإجهاض، وشيوع الأمراض الناشئة عن التحلل الجنسي كالإيدز، وكثرة سرقات السطو المسلّح، وأمثالها، إلاّ بعض شواهد لهذا.
وفي الجانب الإسلامي، كذلك، ومن غير شكّ، يعاني المسلمون من نقص في التكنولوجيا، فالصناعات الثقيلة لا تزال قليلة، إلاّ أن التحرّك إليها سريع، والشركات العالمية الكبرى تكاد تكون مفقودة، والتحرّك إليها بطيء.
ولكن إلى جانب هذا يملك المسلمون من ثروات الطبيعة الخام المعدّة للتصنيع الشيء الذي يتجاوز حدود الوفاء بتموين احتياجات التصنيع، أمثال: النفط واحتياطياته ومشتقّاته، والمياه والتربة الخصبة الصالحة للزراعة، والمعادن الأخرى كالحديد والذهب والفضّة والماس والنحاس والرصاص والفحم والفوسفات واليورانيوم والرمل الزجاجي... وإلخ.
وكذلك لديهم المراعي والمواشي الثروة الموفرة.
وبالنسبة إلى استراتيجيات العالم الإسلامي فإنه يحتلّ موقعًا ممتازًا بين مناطق العالم:
- فأكثر الدول الإسلامية تطل على أهم طرق المواصلات البحرية في العالم بعضها على المحيط الأطلسي، وبعضها على البحر الأبيض المتوسط، وبعضها عليهما معًا، وبعضها على البحر الأحمر، وبعضها على الخليج الأخضر.
- ويتحكّم العالم الإسلامي بأهم الممرات المائية، أمثال: مضيق جبل طارق، ومضيق هرمز ومضيق باب المندب، مضيق البوسفور، مضيق الدردنيل، وممر ملقا، وممر بنتلاريا (قوصرة)، وقناة السويس.
- ويتمتّع العالم الإسلامي بموقع ذي أهمّيّة كبيرة بالنسبة لخطوط الطيران الدولية، حيث يمرّ معظمها بسماء الدول الإسلامية.
- كما أن مساحة دول العالم الإسلامي تبلغ -مجتمعة- 32 مليون كيلومتر مربع، أي بما يزيد على مساحة الولايات المتحدّة الأمريكية ودول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي.
وباختصار، إن الموازنة بين واقعي الحضارتين تنتج:
1- أن الغربيين يتفوقون مدنيًّا لأنهم يملكون الصناعات الثقيلة والشركات العالمية الكبرى والمؤسسات الثقافية المنتشرة، للبحث والإنتاج الفكري، أكثر مما هو لدى المسلمين.
2- إلاّ أنهم -أعني الغربيين- يتأخرون حضاريًّا لأنهم لا يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتعطيه رواء الروح واستقرار النفس، كذلك لا يملكون الإلزامات الأخلاقية.
يضاف إليه: أن الأحداث السياسية والعسكرية أبعدتهم عن المحافظة على حقوق الإنسان التي نادوا بها ودعوا إليها.
وأن الحيرة في مستقبل ما ينبغي أن يكون عليه النظام تلفّهم لفًّا فكريًّا قلقًا.
3- أمّا المسلمون فيتفوّقون حضاريًّا لأنّهم يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتمنحه غذاء الروح وهدوء النفس والأمل الثابت بالانتصار ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
كذلك لديهم النظام الأخلاقي الإلزامي الذي يضبط سلوك الإنسان فيعطيه التوازن في تصرّفاته بما يحفظ له حقوقه ويلزمه بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين.
كذلك عندهم التشريع العادل.
4- غير أنهم يفتقدون القدر الكافي من المدنيّة.
إلاّ أنهم بدؤوا يتحركون في استكمال متطلّبات المدنيّة لاستكمال جميع وسائل وأساليب التقدّم.
بعد هذا: إن الرصيد الذي يمتلكه المسلمون -اليوم- والمتمثّل في:
- فهمهم لواقعهم وواقع غيرهم.
- إدراكهم بأن لديهم الثروة الطبيعية التي يمكنهم اعتمادها في تحقيق التقدّم والتفوّق على من سواهم.
- علمهم بالتجربة الرائدة الناجحة لحضارتهم الإسلامية.
- وعيهم بفروق التشريع بين الإسلام وغيره في مجال تحقيق العدالة الإنسانية.
- إيمانهم بأن من ينتصر لله ينتصر الله له.
إن هذا الرصيد الضخم هو الذي وضع المسلمين الآن موضع الصمود أمام مختلف التحديات الغربية والتصدّي لها، وهو الذي دفع المسلمين الآن إلى أن يخطوا هذه الخطوات المسرعة في استكمال كل متطلبات التقدّم.
ففي حساب المعادلات السياسية: إن المسلمين -الآن- يتحرّكون للارتفاع إلى مستوى القدرة الفاعلة ومستوى الإرادة المصممة إلى تحقيق التفوّق في الجانب المدني أيضًا.
بينما لا نجد عند الغربيين أي تحرّك نحو انتشال الواقع الحضاري مما تردّى إليه، لأن الإفراز الفكري لديهم لا يزال ينحو نحو السير على رقبة الإنسان الضعيف.
[1] عضو الهيئة الاستشارية للمجلة.
[2] انظر: محيط المحيط والمعجم الوسيط والهادي إلى لغة العرب وغيرها، مادة: حضر.
[3] الهادي، مادة: بدا.
[4] م. ن.
[5] انظر: المعجم الوسيط والمعجم العربي الحديث لاروس، مادة: حضر.
[6] مادة: حضر.
[7] مادة: حضر.
[8] معجم علم الاجتماع 247.
[9] م. س. 247 - 248.
[10] معجم علم الاجتماع 46.
[11] العائلة الممتدة: هي العائلة المنفردة التي لا تشكّل لبنة أو نواة في بناء المجتمع، وبخلافها العائلة النووية التي هي لبنة أو نواة في تكوين البنية الاجتماعية.
[12] معجم علم الاجتماع 46.