شعار الموقع

الفلسفة في الفكر الإسلامي: قراءة منهجية ومعرفية

محمد دكير 2009-03-17
عدد القراءات « 1950 »

مؤتمر علمي دولي بعنوان: «الفلسفة في الفكر الإسلامي: قراءة منهجية ومعرفية»

عمان - الأردن بين 29 - 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2008م

 

«لا استقلال في الفكر الفلسفي بغير تحصيل شرطين: أحدهما أن ينتج هذا الفكر عن مبادرة فلسفية ولو توسل بعناصر سابقة، والشرط الثاني أن يتَّسم بخصوصية تداولية ولو تغيَّا تحقيق الكونية..»

د. طه عبد الرحمن

 

منذ أن بدأ الكشف عنه، بإخراجهِ إلى النور عن طريق الطباعة والنشر والتحقيق والتداول والقراءة، أصبح الموروث الفلسفي والكلامي العربي الإسلامي، مدار جدل ونقاش لا ينتهي، كشف عن مواقف متباينة ومتناقضة، فالمستشرقون الذين شاركوا في عملية التحقيق والنشر، لم يروا في معظم هذا الإنتاج الفلسفي للعرب وللمسلمين سوى ترجمة ونقل للموروث اليوناني إلى العربية، وأن ما أضافه العقل المسلم لايتعدى هذه الترجمة مع بعض الشروح والتعليقات والإضافات البسيطة، وبناءً على ذلك حكموا على العقل العربي بالعجز وعدم القدرة على التفلسف أو إنتاج الأنساق الفلسفية على غرار مثيلاتها لدى الإغريق.

من جهة أخرى انقسم المفكرون العرب والمسلمون في مواقفهم من هذا التراث، فمنهم من دافع عن الخصوصية الإبداعية الموجودة داخل هذا الموروث الفلسفي والكلامي، وقدّم الأدلة على ذلك، ودعا إلى مواصلة طريق الإبداع ووصل ما انقطع ولحم شرايين الماضي بالحاضر، وإعادة دفق دم الحياة فيها، ومنهم من اتبع قول الاستشراق وأيَّده بحجج وأدلة جديدة، ودعا إلى تجاوزه، وعدم الاتكال عليه، بل مقاطعته والالتحاق بركب الفكر المعاصر، والحضارة المنتجة له.

وبينهما وُجدت مواقف أخرى، منها ما يدعو لعدم التخلي المطلق عن هذا التراث، ولكن لا بأس من الاستفادة المحدودة من العناصر الحية فيه، وتركيز البحث على كيفية استئناف العطاء الفلسفي والكلامي، مع مراعاة الشروط الموضوعية والذاتية للإبداع، للمساهمة في جهود الإصلاح والنهوض التي تحتاجها الأمة في العصر الراهن.

هذه التساؤلات وما فجرته من إشكاليات، شغلت العقل العربي والإسلامي طويلاً وما زالت تشغله، وقد شكَّلت مادة للنقاش والمعالجة في أكثر من ندوة ومؤتمر، نُظِّم خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن، ولم تُسفر هذه النقاشات إلا عن تعميق الفجوة بين المواقف المتباينة بين الباحثين والمهتمين بالتراث، وهذا ما تكشف عنه مجدداً أوراق ودراسات هذا المؤتمر، الذي نُظِّم في عاصمة الأردن عمان، بالتعاون بين المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة والجامعة الأردنية، بين 29 - 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2008م.

* الجلسة الأولى

الجلسة الأولى التي رئسها د. فتحي ملكاوي (المدير الإقليمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي) تحدَّث فيها في البداية، د. حسن حنفي (أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة سابقاً) عن: «الفلسفة الإسلامية من النقل إلى الإبداع» ناقش فيها قضيةً أثارها عدد من المستشرقين، كما تبنَّاها بعض المثقفين والمفكرين العرب، وتتعلق بالأحكام الخاطئة عن علوم الحكمة أو الفلسفة الإسلامية، والادِّعاء بأن أقصى إبداع للحضارة الاسلامية تمثل في شروحها على أرسطو، ونقل ذلك إلى الغرب الذي استفاد منه أولاً لتأييد الدين، ثم لفظه ثانياً عندما اكتشف عورته وهو بصدد نشأة العلم الحديث إبان الفصل بين الفلسفة والدين، والعلم والإيمان. وقد ردَّ حنفي على هذا الزعم مؤكِّداً أن الحضارات كائنات حية، فلا توجد حضارة ناقلة عن الأخرى، فلكل منها استقلالها الذاتي وشخصيتها المتميزة، وتصورها للعالم وقيمها ودورها في تاريخ الحضارات البشرية، وعلاقة كل حضارة بما يجاورها من حضارات تحكمها قوانين التقاء الحضارات ومنطقها الذي حاول الغرب صياغته في علم «أنثروبولوجيا الثقافة».

كما ردَّ على من يرى أن الفلاسفة المسلمين كانوا مجرد دوائر منعزلة عن قلب الحضارة الإسلامية وامتداداً للمشائية اليونانية.

أما مظاهر الإبداع في الحضارة الإسلامية فقد أشار د. حنفي إلى نوعين من الإبداع، الأول داخل علوم الحكمة ذاتها، فالنقل إبداع للمصطلحات وقراءة للنص المنقول وإعادة كتابة له، والشرح إبداع.. والتلخيص إبداع عن طريق إعادة تركيب النص.. والتعليق إبداع لأنه نقل للوافد داخل الموروث، ومضغ الوافد لقمة لقمة حتى يسهل ابتلاعها قبل هضمها وتمثلها.. والتأليف إبداع لأنه يتجاوز النقل ويتوجه إلى الأشياء ذاتها.

ومن ثم كان الحكم بالنقل والتأثير والخلط والتوفيق من جانب الاستشراق أو بالتبعية لليونان وامتداد للمشائية عند المسلمين من جانب الأصوليين المعاصرين، حكم يكشف عن عقلية الحاكم وثقافته ودوافعه وأهدافه، ولا يقوم على تحليل موضوعي لظاهرة الالتقاء بين الثقافات، وتفاعل الحضارات، ومحاولة إخضاعها لمنطق علمي دقيق.

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدَّمها د. عزمي طه السيد أحمد، تحت عنوان: «وظيفة الفلسفة في العالم العربي الإسلامي المعاصر» في البداية أشار الباحث إلى أن وظيفة الفلسفة في حياة الإنسان اختلفت من عصر لآخر ومن مذهب فلسفي لآخر، بل إنها كانت تختلف من فيلسوف لآخر في العصر الواحد والمجتمع الواحد. وهذا ما كشف عنه الباحث عبر تتبُّعه لوظيفة الفلسفة عبر العصور، عند اليونان والفلاسفة المسلمين، وفي العصور الوسطى الأوروبية، وفي عصر النهضة، وصولاً إلى وظيفة الفلسفة في العصر الحديث والفترة المعاصرة لدى الغرب. وأهم ما يميز هذه الوظيفة عبر العصور هو تطورها من الوظيفة النظرية أي البحث عن حقائق الموجودات والعبور من ذلك إلى دلالتها على الصانع، ودراسة الإنسان والبحث عن مبدئه ومصيره والغاية من وجوده، إلى الانتقال لتصبح للفلسفة وظيفة عملية اجتماعية، وهي العمل والمساهمة في تحقيق الخير والرفاهية والسعادة للناس وإصلاح المجتمعات.

أما بخصوص وظيفة الفلسفة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، فقد أشار الباحث إلى أن الفلسفة في بعض مراحل التاريخ كانت تقوم بدور الهداية وتقديم الإرشاد للإنسان، عندما يكون الدين ضعيفاً أو غير قادر على الهداية أو الإجابة عن أسئلة الإنسان الكبرى، أو في حالة أخرى عندما يكون الدين فيها يعاني من النقص فيعمد الإنسان إلى التوفيق بين الفلسفة والدين لمعالجة هذا النقص من جهة أو لإثبات اتفاق الدين والفلسفة، كما عند عدد من علماء الأديان، لكن عندما يوجد دين قوي يقوم بوظيفته في الهداية والإرشاد، ولديه أجوبة محكمة في جميع المجالات التي تهم الإنسان، فإن الفلسفة هنا لا يمكنها أن تنافس الدين في هذا المجال، أو أن تدَّعي القدرة على هداية الإنسان بعيداً عن الدين، أو أن تُناصبه العداء، ولكن عليها أن تقوم -كما يقول الباحث- بوظيفتها النظرية بنقد الأفكار والواقع وطرح التساؤلات الممهدة لإجابات تُعين الإنسان العربي في إصلاح أوضاعه وتحقيق مصالحه في التقدم، وأن تتعاون مع الدين بما ورد فيه من إجابات عن الأسئلة الإنسانية الكبرى ودون التنكر لحقائق الوحي أو معارضتها. أما بالنسبة للوظيفة العملية للفلسفة في العالم الإسلامي، فالباحث يرى أنها تستطيع تقديم الكثير والنافع، بأن تنظر في الدين وفي جانبه العملي على وجه الخصوص وتستخلص منه المبادئ العامة للسلوك على مستوى الفرد والجماعة، وكذلك استخلاص فلسفة الدين من وجهة نظر الإسلام، بطريقة عقلانية تظهر فيها حقيقة الدين ودوره ووظيفته في حياة الإنسان.

* الجلسة الثانية

الجلسة الثانية رئسها د. خالد الجبر (أستاذ الأدب العربي في جامعة البترا)، وتحدَّثت فيها في البداية د. يمنى طريف الخولي (رئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة) عن: «نشأة الفلسفة الإسلامية كتطور لعلم الكلام: قراءة في الفكر العربي الحديث»، ترى الباحثة أن علم الكلام نشأ في التربة الإسلامية، استجابة لحاجة ملحة في الواقع الحضاري العربي، إثر الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها نزول الوحي، ومحاولة التعبير عن النصوص الدينية وفهمها فهماً عقليًّا خالصاً وتحويلها إلى معانٍ. وبذلك فقد أصبح علم الكلام -حسب الباحثة- التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، لأنه لم يكن مجرد كلام في العقائد والدفاع عنها وسط خليط من الملل والنحل، بل كان ممارسة للسياسة في الدين، واستجابة للمتغيرات الحضارية والصراعات السياسية آنذاك.

أما بخصوص الرؤية الفلسفية الكلامية: الإبستيمولوجيا، فقد أكدت الباحثة أن علم الكلام والفلسفة، وإن كان لكل منهما طريق مستقل نسبيًّا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما، فقد استفاد علم الكلام من المنطق، ولم تكن الفلسفة في نهاية المطاف إلا تطويراً لعلم الكلام بعد أن استوفى نضجه. فهي تمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي. والخلاصة، أن علم الكلام والفلسفة الإسلامية لا يُفهم أحدهما من دون الآخر، فهما معاً أصل وامتداد. أما بالنسبة للفكر العربي الحديث فإن قسوة الصراعات الحضارية، مع القهر والتخلف والاستبداد في الداخل والاستعمار والإمبريالية والصهيونية من الخارج، كل ذلك جعل هذا الفكر ينغمس في المهام الأيديولوجية، وينطبع بمجمله بطابع أيديولوجي صريح، ويغيب عنه برمته التأسيس النظري وإبداع المفاهيم الضرورية لإنشاء فلسفة إسلامية معاصرة.

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت بعنوان: «التشكلات الفلسفية لعلم الكلام» وقدَّمها الأستاذ حسن أبو هنية (الباحث في شؤون الفكر الإسلامي)، في البداية أشار الباحث إلى الإشكالية التي استحوذت على الفكر النهضوي والإصلاحي العربي والإسلامي على مختلف توجهاته المعرفية والأيديولوجية، وتتعلق بإشكالية المنهج لفهم التراث وعلاقته بالحداثة. ثم شرع الباحث في تعريف علم الكلام والظروف التاريخية لنشوئه، والمواقف المتعددة من وظيفته وخصوصاً الحملة ضد الاشتغال بعلم الكلام من طرف عدد من علماء الحديث، كما تحدث عن علاقة علم الكلام بالفلسفة، والجهود المعاصرة لتجديد علمِ كلامٍ، يقوم على المنطق الحديث واللسانيات المعاصرة، إلا أن هذه المحاولات -في نظر الباحث- لم تجدْ صدى وقبولاً في العالم الاسلامي بسبب الرفض، وضعف هذه المحاولات التي لا ترقى إلى مستوى العلماء المؤسسين لهذا العلم.

وفي الأخير أكد الباحث أن علم الكلام لم ينل حظه من الدرس والبحث، كما أن الانفصال وقطع الصلة بالتراث غير ممكن عمليًّا، كما لا يمكن إنكار ما جاء به علم الكلام من مناهج جدلية وحوارية متميزة، والمستوى الرفيع الذي بذله المتكلمون في الأخذ بمسالك عقلية ومنطقية ومنهجية رفيعة في الرد على خصوم الإسلام، فقد استوعبوا المناهج العلمية والتاريخية التي كانت سائدة في عصرهم، في حين لا نجد في عصرنا سوى القصور والضعف والادِّعاء...

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة كانت للمهندس والباحث في قضايا الفكر الإسلامي الأستاذ سعيد فودة تحت عنوان: «مظاهر الفكر الإسلامي واستقلاليته في الإجابة عن الأسئلة الفلسفية التقليدية»، بعد أن تحدَّث الباحث عن الفرق بين التفكير الاسلامي والتفكير الفلسفي، والفرق بين الفلاسفة والمتكلمين، بدأ الباحث في استعراض عدد من المعالجات الإسلامية لمشاكل فلسفية في مجال المعرفة وفي مجال الوجود المحسوس وما وراء المحسوس، وأثر ذلك في القيم، وكذلك في معالجة قضية اللغة والوضع والدلالات. ومن خلال هذه المعالجات تبيَّن للباحث أن الفكر الإسلامي كان ملتزماً بالضوابط العلمية والمناهج الراسخة من عقل ونقل، وقد اتَّصف بالواقعية والعلمية، كما تميَّز في النتائج التي توصل إليها، والتي عبَّرت عن أصالة لا يمكن إنكارها، لكن مع الاستفادة من التراث الإنساني السابق دون تبعية أو تقليد.

وفي الأخير استعرض الباحث بعض القضايا التي يراها مهمة وتحتاج إلى بذل جهود ودراسات لاكتشاف ما لم يُكتشف. ففي باب الإلهيات: هناك قضية وجود الله تعالى، وعلاقة الإله بهذا العالم، وآثار تلك العلاقة، ومباحث النبوة، ودراسة الأديان الموجودة (الوضعية والسماوية) ومحاكمتها بالمعايير العلمية الدقيقة، وآثار وجود الأديان على حياة الإنسان، وكذلك لابد من استكمال البحوث المعرفية المتعلقة بنظرية المعرفة ومناهج النظر. وفي مجال اللغات فالبحث ما يزال يحتمل المزيد من الاكتشافات في أصول اللغات، وحقيقة تأليفها، وطريقة دلالتها، وإشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، واستقلالية الفكر عن اللغة.

* الجلسة الثالثة

في هذه الجلسة التي ترأسها د. حسن حنفي (أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية) تحدَّث في البداية د. هادي نهر (عميد كلية الدراسات الأدبية واللغوية - جامعة جدارا) عن: «برهانية العقل العربي من خلال فقه اللغة» حيث انطلق مما يروج في الفكر الغربي من أن العقلانية والنقد والتحررية الليبرالية، تأسست جميعها في اليوم الذي وُلد فيه فقه اللغة، واستناداً إلى ذلك عمل أكثر من مفكر أوروبي على اختصار العقل الإنساني وجَعْل فقه اللغة حكماً على البشرية، وتوزيع التاريخ والحضارة والحضور الإنساني للأمم في ميادين الفعل المعرفي والعلمي إلى بشر ذوي عروق متفوقة وأفكار متفوقة ولغات متفوقة، وبشر ذوي عروق وأفكار ولغات متدنية، والقول بأن العرب والمسلمين أقوام بلا فلسفة، وما قاموا به لم يكن سوى شرح للنصوص الإغريقية، من هنا انطلق الباحث من الشعر العربي باعتباره من مكونات فقه اللغة، حيث توصل، وانطلاقاً من عدد من الشواهد الشعرية، إلى أن بعض الشعر العربي تميَّز بمواقف فلسفية ومضامين عقلية وقيم معرفية على غرار ما نجده في أشعار شعراء مثل: المتنبي والبحتري وابن الرومي والمعري.. وهذا الأخير اشتهر بوصفه شاعراً مدافعاً عن العقل والعقلانية، بل رفع من شأن العقل إلى درجة النبوة عندما قال:

أيها الغر إن خُصصت بعقل

 

فاسألنه فكل عقل نبي

 

 

ولم يكتف الشعر بالدفاع عن العقل بل تعرض لعدد من أسئلة الفكر التي ناقشها الفلاسفة المسلمون وغيرهم، مثل: السؤال عن المعرفة وأنواعها، والعلة الغائية، وقضية الموت والبعث، والمشكلة الطبيعية، ومشكلة الإرادة الإنسانية بين الجبر والاختيار، وغيرها من القضايا المعرفية والفلسفية، التي تؤكد برهانية العقل العربي من خلال الشعر ناهيك عن الإبداع الفلسفي والكلامي...

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت بعنوان: «هل الشريعة تدعو إلى التفلسف؟» وقدَّمها الأستاذ معتز قاسم (باحث في الدراسات الفلسفية والحضارية)، السؤال الذي طرحه الباحث في هذه الورقة هو: هل دعت الشريعة الاسلامية إلى استخدام فعل الفلسفة؟ وقد أجاب عنه بأن السؤال الفلسفي رافق الإسلام منذ بدايته وهو سائر معه لا يفارقه، وذلك لأن الخطاب الديني مؤسَّس على ما يحتاجه العقل في سيرته وعلاقته بما حوله، في مستوياته: الجدلي، والخطابي، والبرهاني، كما أن الشرع لا يمنع البحث فيما تبحث فيه الفلسفة وإن اختلفت نتائج كل منهما، أما المنهج فالخلاف فيه قائم.

وقد استدل الباحث على دعوة الشريعة للتفكير والتفلسف بالحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم، والتي تهدف إلى البعث والحث على النظر والبحث عن علوم القرآن، لئلا تهمل الأدلة العقلية كما يقول النيسابوري في وضح البرهان.

أما بخصوص العلاقة بين الشريعة والفلسفة، فقد أكد الباحث على كون الشريعة عقل داخلي والعقل شريعة خارجية، لأن الوجود العقلي للنص المقدس في حياة الأفراد متحقق من خلال وجود العقل، فالعقل شرط لفعل الوحي، والوحي شرط لفعل العقل المسدد، ومن هنا -يقول الباحث:- يتبين أن العقل المجرد بآلياته ومناهجه ومنطقه أصبح مصدراً في التشريع ولكن ليس مصدراً منفكاً بقدر ما هو معلول لعلة الوحي، والدليل على ذلك توظيف كثير من علماء الأمة لمنطق أرسطو في البحث والاستدلال والقياسات.

* الجلسة الرابعة

بعد ذلك عُقدت جلسة خاصة ترأسها د. أنور الزعبي، وتحدَّث فيها ضيف المؤتمر د. طه عبد الرحمن (المفكر المغربي المعروف) الذي قدَّم ورقة بعنوان: «الفلسفة التداولية والاستقلال الفلسفي»، أجاب فيها عن سؤالين طرحهما، وهما: هل تتجاوز الفلسفة بوجه عام حدود المأصول أو كل ما هو خاص بالمجال التداولي، متحققة بالكونية الفلسفية؟ وهل تجاوزت الفلسفة الإسلامية بوجه خاص حدود المنقول الفلسفي اليوناني، متحققة بالإبداع؟ بالنسبة للسؤال الأول، ناقش د. طه الاعتراضات على الدليل الذي يقيم كونية الفلسفة وهو توسلها بالنظر العقلي، حيث أشار إلى أن النظر العقلي ليس رتبة واحدة لا ثاني لها، وإنما مراتب متفاوتة فيما بينها، حتى يكاد أدناها ينكر أعلاها. والاعتراض الثاني على إقامة كونية الفلسفة على النظر العقلي، هو أن المفهومات والتعريفات والاستدلالات في المجال الفلسفي، لا تصفو أبداً، بل تكون دائماً مشوبة بأضدادها. أما الاعتراض الثالث فهو أن المقاربة الخالصة للوجود اختزال شنيع لحقيقته الجامعة. فإذا ثبتت هذه الاعتراضات ظهر -كما يقول د. طه- أن سعي الفلسفة إلى تجاوز حدود المأصول التداولي لا يمكن أن يصل إلى مبتغاه في تحصيل الكونية الخالصة أو: الكونية المجردة؛ ولهذا فلابد من أن نستبدل بهذه الكونية المجردة كونية أخرى تجعل النظر العقلي يتكثر ويتنوع في كونيته ويزدوج بغيره من ملكات الإنسان الأخرى في تكامل بينها.

ونطلق على هذه الكونية اسم «الكونية المشخصة» فإذن الفلسفة التداولية إنما هي الفلسفة التي تجعل كونيتها كونية مشخصة.

أما بالنسبة للجواب عن السؤال الثاني، وهو هل تجاوزت الفلسفة الإسلامية حدود المنقول الفلسفي اليوناني، متحققة بالإبداع؟

فقد عرض د. طه الدليل الذي يُقام على تجاوز الفلسفة الإسلامية لحدود المنقول اليوناني، وهو استئناف عطاء الفكر الفلسفي. لكن هناك ثلاثة اعتراضات على هذا الدليل، الأول الافتراض أن الفلسفة الإسلامية وحدة متجانسة، بحيث يكون تعاملها مع مجموع المنقول اليوناني واحداً، وهذا غير صحيح. والثاني أن هذا الدليل يقرر أن الفلسفة لا توجد إلا على النمط اليوناني، بحيث ينبغي لكل فلسفة أن تتوسل بالاستدلالات نفسها التي توسَّل بها اليونان. وهذا أيضاً غير صحيح. أما الاعتراض الثالث فإن استئناف العطاء، ولو أنه شرط ضروري في الإبداع الفلسفي، فليس شرطاً كافياً في إضفاء الصفة الإسلامية عليه. ومن خلال الحالات الثلاث: المجانسة والمواءمة والمحافظة، يتضح أن استئناف العطاء الفلسفي الذي اتَّصفت به الفلسفة الإسلامية، كان من جنس الإبداع المفصول، وهذا الإبداع لا يسمى إبداعاً إلا من باب التجوُّز، وإلا فهو تقليد صريح، ولابد -كما يقول د. طه:- أن نستبدل بهذه الإبداعية المجازية إبداعية تتجاوز حدود المنقول الفلسفي اليوناني، وتجعل منطلقها ما ينطوي في المأصول الأسلامي من أسئلة وأدلة خاصة. وهذه الإبداعية الحقيقية يطلق عليها الإبداعية الموصولة.

وفي الأخير تحدَّث د. طه عن كيف تكون الفلسفة الإسلامية موصولة الإبداعية ومشخصة الكونية ومقومات الاستقلال.

* الجلسة الخامسة

في اليوم الثاني من أعمال المؤتمر عقدت الجلسة الأولى برئاسة الأستاذ عبد الله أبو رمان (مدير المركز الثقافي الملكي)، وتحدَّث فيها في البداية د. أديب نايف ذياب عن: «تأملات في تسعة نماذج من الحكمة الصوفية المبكرة»، بعد أن عرّف الباحث المقصود بالحكمة الصوفية، استعرض مجموعة من الحكم المنسوبة لعدد من أوائل المتصوفة والعرفاء مثل: معروف الكرخي وسهيل التستري وبشر الحافي والداراني ويحيى بن معاذ الرازي، ومن خلال تفسير هذه الحكم والبحث في مضامينها وخصائصها، تبيَّن للباحث أنها تستمد تلميحاتها مما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وأنها تهدف إلى تنبيه الإنسان وتوجيهه إلى الحق والهداية وعدم الاغترار بالدنيا الفانية.

من هذه الحكم نذكر قول معروف الكرخي يعاتب نفسه: «يا مسكين، كم تبكي وتندب؟ أخلص تخلص»، وقول سهل التستري «الناس نيام، فإذا انتبهوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم»، وقول يحيى بن معاذ الرازي: «جميع الدنيا من أولها إلى آخرها لا يساوي غمَّ ساعة، فكيف تغمّ عمرك فيها مع قليل يصيبك منها».

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدَّمها د. مروة محمود خرمة، وجاءت بعنوان «وحدة الوجود ودلالاتها عند الصوفية» بعد تعريفه المختصر للتصوف والمنتسبين إليه، استعرض الباحث المواقف المتعددة من وحدة الوجود، كما شرح المقصود بوحدة الوجود ومتعلقاتها ودلالتها عند الصوفية.

ليخلص إلى أن التصوف في حقيقته ما هو إلا الافتقار إلى الله، وأن المتصوفة أقسام: ملتزم بالكتاب والسنة، وسالك في طريق الالتزام (مريد)، ومدَّعي كذَّاب. أما حقيقة نظرية وحدة الوجود لدى صوفية المسلمين، فهي -حسب الباحث- عقيدة كل موحِّد، لأنها تعني الاعتقاد الجازم بأن الوجود الحقيقي القائم بذاته هو وجود واحد للباري عز وجل، أما وجود غيره فهو به أي بإيجاده، ولولاه لما وجد. كما أن وحدة الوجود عند الصوفية تتعلق بالفناء والحب الإلهي، وتؤيد صحتها نظرية الجوهر الفرد الكلامية، وهي عقيدة أصيلة مستمدة من الكتاب والسنة..؟؟

لذلك لايجوز تكفير من يعتقد أو يقول بهذه النظرية من الصوفية.

فقد تُنكر العين ضوء الشمس من رمد

 

وينكر الفم طعم الماء من سقم

 

 

الورقة الثالثة في هذه الجلسة قدَّمها الأستاذ زكي الميلاد (رئيس تحرير مجلة الكلمة) وجاءت بعنوان «الفلسفة الذاتية في الفكر الإسلامي المعاصر»، يرى الباحث أن الفلسفة الذاتية تعتبر واحدة من أبرز الفلسفات التي شهدها الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وقد تأكدت قيمتها من كونها -حسب الباحث- جاءت بعد زمن طويل من التراجع والجمود الذي أصاب الفكر الفلسفي الإسلامي.

والفلسفة الذاتية الذي تحدثت عنها ورقة الأستاذ الميلاد تتعلق بالفلسفة التي عُرف بها الدكتور محمد إقبال اللاهوري، وهو واحد من أبرز الفلاسفة المسلمين في العصر الحديث، وقد عكست فلسفته ثلاثة أنماط من التجارب التي عايشها وهي: التجربة الدينية، والشعرية والتجربة الفلسفية، وهذه الأنماط من التجارب لم تكن لديه على درجة واحدة من التراتب، فقد كان يُعطي الدين والتجربة الدينية درجة أسمى من الشعر والتجربة الشعرية، ومن الفلسفة والتجربة الفلسفية.

أما لماذا فضَّل إقبال التعبير عن فلسفته عن طريق الشعر، فإن الباحث الميلاد يُرجع ذلك إلى ثلاثة عوامل: فالحق إذا مسَّته نار القلب كان شعراً، لهذا آثر إقبال أن يخرج فلسفته في صور شعرية ليتصل الحق بالقلب فيعمل في تسيير الإنسان وتقويته. كما عمل إقبال على الابتعاد عن تعقيد الأدلة الفلسفية، لأن نظرية الذاتية تعتمد في استيعابها على التجارب الروحية الذاتية أكثر منها على الاستدلال المنطقي.

أما بخصوص ثمار هذه الفلسفة ومصيرها ومآلها، فقد أشار الباحث أن من أولى ثمارها إقبال نفسه، فقد كان تجلياً حقيقيًّا لفلسفته، وكذلك يمكن اعتبار مشروع استقلال باكستان عن الهند والدفاع عن هوية المسلمين، ومواجهة الأفكار الغربية من ثمارها، كما أن تأثير إقبال كان عميقاً في الجيل الجديد من المثقفين المسلمين في كل من الهند وباكستان...

* الجلسة السادسة

ترأس هذه الجلسة د. عبد الناصر أبو البصل (رئيس الجامعة الإسلامية العالمية - الأردن)، وتحدَّث فيها أولاً د. رضوان زيادة (باحث وأستاذ زائر في جامعة هارفرد) عن «فلسفة ما بعد الحداثة في ميزان الفكر الإسلامي المعاصرة: نقد ما بعد الحداثة في الفكر الغربي المعاصر»، يرى الباحث أن الحداثة تعرّضت غربياً إلى نقد طال الأسس التي قامت عليها، من هنا انطلقت الكتابات ما بعد الحداثية لتعلن أن عصراً جديداً قد بدأ، وأنه لن يكون غربيًّا بامتياز، كما يصرّ رواد الحداثة، وإنما ستتوحد التواريخ لتصنع تاريخاً واحداً تشترك فيه الحضارات جميعها بما تقدمه وتنتجه.

أما النقد الغربي لما بعد الحداثة فقد انحصر في التأكيد على ما سيؤول إليه الوضع العالمي على جميع المستويات عندما تسود النسبية والاستهلاكية والعدمية، ولذلك -يقول الباحث- فما بعد الحداثة ترتكب أخطاء جسيمة في المنهج الذي توصي باتباعه فضلاً عن مثالبها العرضية الأخرى الإبهام والادعاء والاستعراض المسرحي وادِّعاء المعرفة الثقافية، ولن يطول بها الأمر قبل أن تسقط في غياهب النسيان، تماماً مثلما يحدث لغيرها من البدع، لكنها عيِّنة نموذجية للنسبية وهي مسألة مهمة إذا تركزت في الجانب الأخلاقي، لكن يجب الاعتراض عليها إذا تعدّت ذلك إلى العدمية المعرفية، إذ تصبح عندها تحريفاً وتشويهاً للثقافات وإنكاراً للأخلاقيات الموجودة بينها.

أما مجتمع ما بعد الحداثة فهو مجتمع أقل إنسانية وأكثر بعداً عنها، إنه كما يصفه بالأندييه (مجتمع نهاية القيم) وكذلك الثقافة التي ستصبح في نظرية ما بعد الحداثة ثقافة الأقلية المنشقة.

بعد استعراض نماذج من النقد ما بعد الحداثي للفلسفة الغربية، انتقل الباحث للحديث عن الرؤية السياسية لما بعد الحداثة: 11 أيلول والإرهاب والعولمة. فمن خلال المواقف التحليلية لعدد من المفكرين الغربيين، تبين أن ما يطلق الغرب عليه إرهاب ما هو إلا ردّ فعل ضد نظام شمولي مهيمن، إن العولمة المنتصرة تخوض صراعاً مع ذاتها. إن الإرهاب هو الوجه الآخر للعولمة.

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت بعنوان «جدل أو أثر المفاهيم الفلسفية الغربية في الفكر الإسلامي: العلمانية وتداعياتها نموذجاً»، وقدمتها د. نعيمة إدريس (أستاذة محاضرة بالمدرسة العليا للأساتذة بقسنطينة - الجزائر).

في البداية أشارت الباحثة إلى أن الأفكار والمفاهيم التي وُلدت في الغرب ونُقلت إلى العالم الإسلامي، كانت سبباً مباشراً في إثارة الجدل والنزاع والفتنة بين أبناء المجتمع الإسلامي بسبب تباين المواقف من هذه الأفكار الوافدة، من ذلك العلمانية كمفهوم ظهر في الغرب المسيحي ونجم عنه ظهور مذاهب إلحادية كالوضعية والماركسية والوجودية.

كما أكدت الباحثة أن الإسلام استُهدف من قبل قوى العلمانية والحداثة، لأن ما حدث في الغرب المسيحي سينسحب ويطبق على المجتمعات الإسلامية وأطرها الفكرية. وكانت هذه المفاهيم الغربية قد انتقلت إلى البيئة الإسلامية عن طريق ما سُمِّي بحركات النهضة العربية التي انطلقت مع حملة نابليون على مصر سنة 1798م، كما أن أغلب البعثات العلمية إلى أوروبا رجع أصحابها محملين بأفكار رافضة للدين والإسلام، بمنطلق وحجج من رفضوا المسيحية نفسها، وكأن الإسلام هو المسيحية، وكأنه سار في سياقها التاريخي نفسه، من تسلّط وتحكّم الكنيسة ومحاكم التفتيش وصكوك الغفران وقهر وقتل العلماء. وكأحسن نموذج على التحولات التي عرفتها الشعوب الإسلامية باتجاه التغريب والعلمانية؛ ما حدث في تركيا وما قام به أتاتورك. أما العامل الثالث لانتشار الفكر الغربي فكان الاستعمار المباشر الذي سيطر على معظم مناطق العالم الإسلامي.

بعدها انتقلت الباحثة لمناقشة ما تفجر من صراع بين الإسلام والمفاهيم العلمانية من قضايا، وأهمها موقف الإسلام من العلم، فأكدت أن الإسلام لم يواجه أو يحارب العلم كما حدث مع المسيحية، بل تميَّز العلم في الحضارة الإسلامية بإيمانه بالغيب إلى جانب اعترافه بالقوانين الطبيعية. وإشكالية التعارض بين العلم والدين لم تكن مطروحة في العالم الاسلامي؛ لأن عدداً من كبار العلماء في الطب والفلك والرياضيات كانوا على اطِّلاع واسع على العلوم الدينية كذلك. لذلك فالفصام المطلق الذي رامه غلاة الوضعية بين الدين والعلم قد حوَّل العلم المجرد عن التقوى والإيمان والمسؤولية الأخلاقية إلى سلاح هدمي خطير، صارت البشرية جمعاء تتجرع من أوضاره وأضراره ومفاسده ونتائجه المخيفة إلى حدود قصوى.

* الجلسة السابعة

عقدت هذه الجلسة برئاسة د. يمنى طريف الخولي (رئيس قسم الفلسفة - جامعة القاهرة)، وتحدّث فيها في البداية د. وائل خليل الكردي (أستاذ الفلسفة في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا) عن: «إدارة وتوجيه الوعي المعاصر وفق فلسفة إسلامية المعرفة»، حيث انطلق لمناقشة عدد من النقاط المتعلقة بالعلاقة الجدلية بين أهم الاتجاهات الفلسفية والفكرية المعاصرة، وما يمكن تصوره من مشروع فلسفي إسلامي معاصر من فرضيتين، الأولى سالبة وهي عدم وجود فلسفة إسلامية على وجه الحقيقة، والثانية أن فكرة الفلسفة الإسلامية لم تتحقق إلا في عصرنا الراهن فيما عرف بمشروع أو فكرة إسلامية المعرفة. وبعد أن تحدّث عن النمط العام والاتجاهات المنهجية للفلسفة الأوروبية المعاصرة وتأثرها بالتحولات العلمية الحاسمة في القرن العشرين، واستعراض شروط الإدارة التحكمية لمشروع إسلامية المعرفة على الفكر والفلسفة المعاصرة باعتباره الفلسفة الإسلامية الحقة. خلص الباحث إلى أن الفلسفات الغربية المعاصرة في أوروبا تحمل من أوجه الحق الكثير، ولكن المشكلة أنها مفككة وذات مواقف متغايرة ما جعلها مناهج لتوليد الأزمات بصورة مستمرة، كما لم تستطع أن يكون لها المقومات اللازمة للقيام بدور القيادة للفكر الغربي.

لذلك يرى الباحث أن مشروع إسلامية المعرفة هو الوحيد الذي يحمل شرط توحيد مناهج الفلسفة الأوروبية المعاصرة في سياق واحد يكمل بعضها بعضاً؛ لأن فلسفة إسلامية المعرفة تقوم على مبدأ تفاعلية رباعية تستوعب في طيها عناصر الثلاثية الأوروبية:

1- الوعي الإنساني.

2- الأنساق الصورية.

3- الكون الطبيعي.

وتتجاوزها بعنصر الوحي (القرآن والسنة)، وهذا العنصر يمثل الضابط التحكمي للعملية المعرفية بما له من حقل دلالي كلي. وبالتالي فهذا المشروع يحمل الشروط التي تُظهر أن الوحي هو الضامن الوحيد للمعالجة الأمثل لمقتضيات المسألة الأساسية في الفلسفة، أي العلاقة بين الوجود والوعي.

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدم الأستاذ محمد زاهد جول (باحث في قضايا الفكر الإسلامي) ورقة عن: «فلسفة الأنوار والفكر الإصلاحي العربي»، يرى الباحث أن فلسفة الأنوار الأوروبية في القرن الثامن عشر شكَّلت منعطفاً تاريخيًّا تحكَّم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي والعالمي، وقد تبلورت هذه الفلسفة في إطار مفهوم التقدم التاريخي عن ثلاث قطائع أساسية، الأولى: تقطع مع الاشتغال بالإله وتُؤلِّه الإنسان، الثانية: تقطع مع الاشتغال بالدين وتُقدِّس الدنيا، الثالثة: تقطع مع الاشتغال بالغيب والوحي وتخضع للوضع والعلم. وقد شكَّلت فلسفة الأنوار الأوروبية نموذجاً إرشاديًّا للفكر الإصلاحي العربي والإسلامي إبان عصر النهضة، حيث تأثر معظم المفكرين العرب بهذه الفلسفة بطرق مختلفة، وعملوا على توظيفها في قضايا النهضة والإصلاح.

لكن معرفة هؤلاء بهذ الفلسفة كانت -حسب الباحث- سطحية، كما تم توظيفها بشكل تلفيقي بسبب طبيعة الأيديولوجية الإصلاحية التوفيقية، التي انشغلت بواقع التخلف والاستبداد الداخلي والهيمنة الاستعمارية الطاغية الخارجية.

كما أشار الباحث إلى أن سؤال عصر النهضة والفكر الإصلاحي حول الهوية والإصلاح والتقدم لا يزال حاضراً بقوة في الفكر العربي الإصلاحي المعاصر. وعلى الرغم من مرور عقود من الزمن، فإن العالم العربي والإسلامي لم يتخلص من إشكالياته، ولم يتمكن من تحقيق النهضة المنشودة، بل ترسَّخت لديه التبعية المعرفية والسياسية والاقتصادية... إلخ.

وفي سياق الفكر الإصلاحي الإسلامي المعاصر أشار الباحث إلى بعض الأطروحات التي تحاول الاستفادة من فلسفة الأنوار وتوظيفها في المجال الإسلامي، مثل أطروحة مدرسة أسلمة العلوم...، لكن ما يلاحظه الباحث، هو أن الفكر الإصلاحي الإسلامي المعاصر، يعتبر أقلَّ وعياً من الفكر الإصلاحي في عصر النهضة في بعض جوانبه، فقد انحدر في مجالات عديدة إلى العنف والقطيعة من خلال تصاعد حركات الإسلام السياسي، التي تنظر إلى الفكر الإصلاحي بوصفه مقدمةً للتغريب وليس التحديث. وهذه إشكالية تحتاج بدورها للنقاش والمراجعة؟.

* الجلسة الأخيرة

ترأس هذه الجلسة د. سحبان خليفات (أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية)، وتحدَّث فيها د. أنور الزعبي عن «المعرفة الفطرية في ضوء إسهامات الفكر العربي الإسلامي»، يرى الباحث أن الفطرة تمثل أساس كل معرفة في العرف العربي والإسلامي، ومنطلق عملية التعقل بأسرها، فيما لم تحظَ في الفكر الفلسفي بالأهمية الموازية، وأكثر ما التفت إليه بما يوازي الفطرة هو ما يعرف بالبديهيات أو الأوَّليَّات، في حين لا تُشكِّل هذه سوى جانباً ضئيلاً من الفطرة.

لذلك قام الباحث بالكشف عن مفهوم الفطرة والتحديد الشرعي لها، وموقف عدد من المفكرين المسلمين منها، لا سيما علماء الأصول كابن حزم والغزالي وابن خلدون، كما قام الباحث بمناقشة ما يحيل إليه من مسائل وقضايا تتعلق بالبعد الإنساني للفطرة، وعلاقتها بالمعرفة والعقل والقلب والشك، وعلاقة الفطرة بالحدس والذوق، وعلاقة الفطرة بالفلسفة. وتعقُّب هذه القضايا وكشفها وبلورتها يوفر -حسب الكاتب- مرجعية معرفية أسلامية خصبة، موازية ومتقاطعة مع الفكر الفلسفي جملة في مسألتي المعرفة والمنهج، وهي جديرة أن يُعوَّل عليها في تحديد العقل والعقلانية، وإنتاج المعرفة الحق وتداولها...

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدَّمها د. مصطفى غنيمات (أستاذ الفلسفة في جامعة الإسراء الخاصة - الأردن) تحت عنوان: «نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي وخصوصية العلوم الإسلامية المبكرة»، حيث تحدّث عن طبيعة التفكير الإسلامي في الإجابة عن الأسئلة الفلسفية التقليدية، والنشأة المستقلة المبكرة للعلوم الإسلامية وخصوصيتها، حيث أكد أن ظهور العلوم الإسلامية ارتبط بالقرآن والسنة والنشاط الفكري الذي واكب فهمهما وشرحهما، كما طالب الباحث بالاهتمام بالتراث العلمي العربي الإسلامي، وضرورة التدبر والدراسة المعمقة لنصوص القرآن والسنة، والتأريخ للفكر العلمي عند علماء العرب والمسلمين ونشأة المنهج العلمي عندهم، والاهتمام الجدي بالتراث العلمي المخطوط...