شعار الموقع

الأمة الإسلامية بين تحدي الأمن الفكري والأمن الروحي

د. محمد بشاري 2009-04-10
عدد القراءات « 678 »

 

 

* الأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوروبي، ورئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا ونائب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

[1]

تمهيد

يوماً عن يوم تتضح ملامح الأزمات العميقة التي تواجهها الأمة الإسلامية، سواء على الصعيد السياسي أو الفكري أو الديني، وليست الأحداث التي نعاينها ونصطدم بها خلال السنين الأخيرة، وخاصة بعد تاريخ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، سوى النقطة التي عرّت هذا الواقع المقلق.

على أن هناك نقطة هامة يجب التوقف عندها، ونحن نتحدث عن تحدي الأمن الفكري الذي نحن بصدد تقييمه.

فعندما نتحدث عن منعطفات واستحقاقات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فليس معنى ذلك أن الأمور كانت سوية وسليمة قبل هذا التاريخ. بمعنى أن تحديد المسؤوليات يجب أن يشمل السياسات التي تم اتِّباعها في الدول العربية والإسلامية قبل هذا التاريخ، وخاصة على الصعيدين الديني أو الفكري.

أسئلة الأمن الفكري

لا بد لنا من تحديد مجموعة من الأسئلة المؤطرة لاستحقاقات الأمن الفكري المتوخى اليوم.

وبداية، فنحن نتساءل:

ـ من هم المؤهلون لتحديد المهام الكفيلة بضمان «الأمن الفكري» للأمة الإسلامية.

ـ وما هي علاقة ظواهر العنف والإرهاب والتشدد والتطرف بسياسة الأمن الفكري والأمن الروحي على الخصوص؟

ـ وكيف نوفِّق بين تباين وجهات النظر القائمة بخصوص تحقيق الأمن الفكري والروحي المرجوان؟

الأمن الفكري وسؤال التأهيل

ردًّا على السؤال الخاص بتحديد أهلية المؤسسات أو الأفراد المعنيين والمسؤولين عن ضمان «الأمن الفكري» للأمة الإسلامية، نرى أن الجواب لن يخرج عن أهل الاختصاص، ونجد في مقدمتهم المفكرين المسؤولين الذين يجتهدون انطلاقاً من ثوابت الأمة، وأيضاً العلماء المسؤولين الذين، إلى جانب اشتغالهم على القضايا الأصولية والفقهية، يشتغلون أيضاً على القضايا الفكرية، وعلى الرغم من قلة عدد هذا الصنف من العلماء اليوم في الوطن العربي والعالم الإسلامي، إلا أن المرجعية الفقهية التي تميزهم تجعلنا في حاجة إلى اجتهاداتهم الفكرية للمساهمة في تحديد الخطوط العريضة لمهام الأمن الفكري الذي نتحدث عنه.

ولكن، على صعيد آخر، فإن حديثنا عن مسؤولية المفكر يتطلب كذلك التوقف عند طبيعة هذا المفكر وطبيعة هذه المسؤوليات، أو كما تحدّثت عن ذلك إحدى الباحثات، يجب أن نتساءل: «من هو المفكر؟»، و«هل للمفكر عنوان؟»، و«ما هي مجالات عمل المفكر؟»، و«هل المفكر العربي يفكر، وإذا كان لا يفكر، فما هي الموانع التي تقف وراء هذا المأزق؟»[2].

وردًّا على هذه الأسئلة، ترى الباحثة نفسها أن المفكر هو الشخص الذي وصل إلى الفكر التركيبي وليس التجزيئي، ولا يصل إلى هذه الدرجة إلا عبر المرور عبر مراحل عدة، منها التخصص في مجال معين ثم الانفتاح على علوم أخرى بما يؤهله فكريًّا وعقليًّا ومنهجيًّا لأن يتعامل مع الظواهر، وذلك انطلاقاً من القاعدة الشهيرة «الإفراد قاتل في الفكر».

ويبدو أن السبب وراء التشديد على شروط تحقيق التفكير التركيبي مردُّها أولاً إلى تشابك القضايا والملفات والظواهر، والمطلوب في الفكر الاشتغال بشكل جماعي حتى نصل إلى مرتبة التفكير الجماعي. ويرتبط ثانياً بنوع من الانفلات والتسيب الحاصل في إبداء الرأي، حيث يصبح البعض مفتياً أو يصدر أحكاماً عادة ما تشوش على الرأي العام.

وتكمن أهمية وثقل هذا المفكر في ظل الظروف الراهنة التي نعيشها اليوم، وخاصة بفعل تضافر عوامل خارجية تؤثر بشكل مباشر على صنع القرار السياسي، ومعه القرار الفكري والديني على الواقع العربي والإسلامي، يجب التوقف عند دور المفكر على مستوى التفاعل بين الدول، وخاصة عن دور المفكر المسلم على مستوى مواجهة الاختراق الأجنبي، حيث أصبح منحصراً في إعادة إنتاج ما ينتج في الدول الأخرى. ومادامت الدول العربية والمسلمة تستورد الخطاب أو تُرغم على ذلك، ولأن المفكر لا ينتج نظريات محلية تجيب على نظريات خاصة، أصبح المفكر يعيد إنتاج النظريات الأجنبية إما إرضاء للسلطة وبالتالي عدم غضبها، أو إسهاماً في الحفاظ على علاقة الود بين الدول الغربية والدول النامية التابعة. ومن أهم النتائج الخطيرة لهذه العلاقة المختلة، نصل إلى نتيجة مصيرية وهي أن المفكر في الغرب يفكر لنفسه ولمصالحه ويفكر لنا أيضاً ويفرض علينا ما فكّر فيه وما أنتجه من أفكار. ونحن كمنتجين فكريين، نجبر على إعادة إنتاج نفس الأفكار والنظريات التي صرفت في الغرب. والحال أن هذه الأفكار أنتجت في بيئة خاصة وتجيب عن حاجات مخصوصة، وتوفر لها بنى تحتية ووسائل التطبيق، وحينما تستورد بشكل محدود، تبقى أفكاراً مبتورة.

الأمن الروحي وسؤال أسباب العنف

تكمن أهمية التوقف عند تحدي الأمن الفكري والأمن الروحي في أهم الأزمات وأكبر التحديات الميدانية التي تعيشها الأمة الإسلامية في العصر الراهن مع أعمال العنف والتطرف والتشدد والإرهاب الذي يمتد إلى العديد من الدول العربية والإسلامية ويصل إلى خارج العالم الإسلامي.

وإذا كانت التفجيرات الدموية التي تمّت في دول عربية، تعرف حضور عوامل خارجية تُعقِّد مواجهة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه التفجيرات، فإنه في المقابل، هناك العديد من التفجيرات التي وقعت في دول عربية وإسلامية، بل وقعت حتى في المملكة العربية السعودية التي تضم قبلة المسلمين المقدسة، مكة المكرمة والمدينة المنورة، إضافة إلى التفجيرات التي وقعت في إندونيسيا والمغرب وتونس وتركيا وغيرها من الدول العربية والمسلمة، وهذا يتطلب منا التوقف مع أسباب هذه التفجيرات وسبل مواجهتها.

إننا لا ندَّعي أننا نملك مفاتيح سحرية تجعلنا نعلن عن نهاية هذه التفجيرات، ولا أننا أدرى المسؤولين أو الباحثين بتحديد هذه الأسباب والسياسات التي تجعلنا نتصدى بشكل نهائي وقطعي لهذه الظواهر. ولكننا نزعم أننا نمثل قوة اقتراحية، تملك وجهات نظر نعتقد أنها قد تساهم في توضيح مجموعة من النقاط الخاصة ببعض أسباب هذه الظواهر.

وبالعودة إلى السؤال الخاص بعلاقة ظواهر العنف والإرهاب والتشدد والتطرف بسياسة الأمن الفكري وسياسة الأمن الروحي، يجب التذكير أولاً بقصور التفاسير التي تعزو ظهور العنف والتشدد إلى أسباب اقتصادية أو مادية، وهذا هو الخيط الناظم للتفاسير المادية وخاصة الماركسية، وتكمن أزمة هذه التفاسير في أنها تغفل عن أبعاد فكرية وفقهية ومذهبية، لنقل أنها تسقط من حساباتها أسباب غير مادية تتعلق بالدين والغيب، مما يجعلها تفاسير قاصرة عن التوصل إلى مكمن الداء، وأولوية الدواء.

وسوف نتوقف مع مثال بسيط يعكس قصور التفاسير المادية في تحليل ظاهرة العنف والتشدد والتطرف، ويتعلق بخبر تسلم كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة ما سُمي بالبيان الدولي ضد الإرهاب، ذلك الذي أعده وزير التخطيط العراقي السابق جواد هاشم والمفكر التونسي العفيف الأخضر والمفكر الأردني شاكر النابلسي، ووقّع عليه أكثر من أربعة آلاف شخصية فكرية وثقافية وفنية، كما وقع عليه صحافيون وشعراء وكتّاب وأكاديميون ورجال أعمال ومستشارون سياسيون واقتصاديون وأطباء وصيدلانيون وطلّاب وعمال وربّات بيوت وزعماء عشائر... إلخ، يجمع بينهم الانتماء أو التعاطف مع تيار «الليبراليين العرب الجدد». ولا شك أنكم تتبعتم آخر الأخبار عن ردّ كوفي عنان، ومفادها أن الإدانة أو المحاكمة لا يمكن إلا أن تتم عبر مجلس الأمن.

وكما تعلمون، فإن هذا البيان يدعو مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى إقامة محكمة دولية لمن أطلق عليهم «فقهاء سفك الدماء» من علماء وفقهاء يصدرون «فتاوى الإرهاب والقتل بحق المدنيين من النساء والأطفال الأبرياء». وخصّ البيان بالذكر كلًّا من الشيخ الجليل يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة» التونسية. ومعلوم كذلك أن دروس الشيخ القرضاوي تحظى بشعبية كبرى لدى المتفرج العربي والمسلم، ولو كان هذا الشيخ الجليل ينتمي إلى حركات متشددة أو حركات متطرفة، لما سمح له أساساً أن يقدم برامج تلفزيونية مباشرة، ومع ذلك، أبى الموقعون على البيان إلا أن يجتهدوا في إقناع صناع القرار الأممي بالطابع الفقهي ـ «الإرهابي» من وجهة نظرهم ـ والذي يميز إصدارات وتصريحات الشيخ القرضاوي، وباقي المشايخ.

إن هذا المثال المبسط يحمل الكثير من الدلالات، ويمثل تواضعاً كبيراً في تفسير هذه الظواهر الاجتماعية المعقدة والمركبة، التي، مع حالة أسباب العنف والتطرف، لم يجد الموقعون على البيان الحل الجذري لهذه الأسباب، سوى محاكمة الشيخ يوسف القرضاوي ومجموعة من الفقهاء والعلماء، الذين قد نتفق أو نختلف مع اجتهاداتهم، ولكن، ليس إلى درجة تقديم أسمائهم على رأس لائحة ومطالبة مجلس الأمن بمحاكمتهم.

إنها أكبر أزمة يعاني منها التفسير المادي. فهذا النمط من التفسير البسيط يرى أن الأمور تحسم ماديًّا فقط عبر محاكمة هؤلاء الشيوخ والعلماء، حتى تنتهي ظاهرة العنف والتشدد.

الأمن الفكري وسؤال المرجعيات

نختتم هذه الورقة بالتوقف عند إشكالية التوفيق بين تباين وجهات النظر القائمة بخصوص تحقيق الأمن الفكري والروحي المرجوين، وتحيلنا هذه الإشكالية على إشكالية أكبر وأعمق، وتتعلق بموضوع المرجعية.

إن تأملنا طبيعة الخطاب السائد حول أهم قضايا الساعة، من صنف الإصلاح والديموقراطية وحقوق الإنسان والتجديد الديني... إلخ، نجد شيئاً واحداً يفصل بين طبيعة ما يمكن أن يصدر عن محرري هذا الخطاب، سواء كانوا مؤمنين (مسلمين أو مسيحيين أو يهود)، أو مؤمنين ولكن علمانيين، أو حداثيين أو ملحدين... إلخ، ما يجمع ويفرّق بين ثنايا هذه الخطابات هو المرجعية. إنها أهم القضايا الغائبة في ثنايا هذا الخطاب. لهذا السبب، يحتم علينا سؤال المرجعية أن نحدد أي مرجعية ننطلق منها، مرجعية الله عز وجل أم مرجعية أخرى، لن تخرج غالباً عن مرجعية الإنسان. إن قصة العجز عن رعاية الإنسان لحقوق العدالة الإنسانية الشاملة، عندما يستأثر هو بحق التشريع ورعاية حقوق الإنسان، ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الإنسان الذي ركّبت فيه نوازع الأنانية وحب الذات.

نحن نرى أنه لا بد من الاتفاق على أرضية متفق عليها سلفاً حتى نساهم عمليًّا في تقريب وجهات نظر وقطع الطريق على ذرائع التدخل الأجنبي الذي لم يعد له سوى أن يتدخل في الآيات القرآنية المفروض أن تدرس في المناهج الدراسية[3].

ومرة أخرى، سوف نتوقف عند مثال عملي يبرز أهمية المرجعية في تحديد أهم معالم الأمن الفكري والروحي اللذين نتحدث عنهما.

ففي قراءة للكاتب السوري هاشم صالح في كتاب حول الحركة الإسلامية حرره الباحث الفرنسي جيل كيبل، وهو باحث ومحلل غالباً ما يرتكز على التحليل المادي الماركسي، يتفق هاشم صالح مع المحلل الفرنسي على طبيعة المعركة الدائرة في أوروبا حاليًّا، «بين إسلام التنوير والحداثة من جهة، وإسلام الأصوليين من جهة أخرى، والتي ستكون لها انعكاسات كبرى على البلدان العربية والإسلامية ذاتها، وليس فقط على الجاليات الإسلامية في أوروبا»، كما طالب الكاتب العربي جيل كيبل بعدم إهمال «دور التيارات التحديثية والتنويرية داخل العالم العربي والإسلامي نفسه، فهي أيضاً موجودة، وإن يكن صوتها أقل جعجعة وصراخاً من صوت الأصوليين، وليس مستبعداً أن يأتي الإنقاذ -أو الخلاص- من الخارج: أي من باريس، وبرلين، ولندن، ومدريد، وبروكسل، وأمستردام، وجنيف، وحتى نيويورك... إلخ، فالدياسبورا العربية أصبحت منتشرة في شتى أنحاء العالم، ويقع على كاهلها مهمة تنوير مليار ونصف المليار شخص»[4].

نحن نلاحظ تركيزاً بيِّناً على تمرير خطاب إسلامي «جديد» نرى أنه ينسف المرجعية المميزة لهوية الأمة المسلمة، ويدعو هذا الخطاب تارة إلى «تطبيق النقد التاريخي على النصوص الإسلامية من قِبَل بعض الباحثين العرب الجريئين المتمركزين في أوروبا» مستنتجاً أن «التنوير سوف يشعّ على العالم الإسلامي في أوروبا، ويدعو تارة أخرى إلى اعتبار أن القرآن الكريم لم يعد منتجاً للحقيقة اليوم» كما تحدّث عن ذلك الباحث التونسي المنصف بن عبد الجليل المقيم في بريطانيا، في ندوة أقيمت بالدار البيضاء حول موضوع «القراءات الحديثة للقرآن».

خاتمة

نحن أمام ثلاثة أسئلة نعتبرها تأسيسية فيما يتعلق بتحديد معالم الأمن الفكري والروحي الذي نصبو إليه، وتتعلق أولاً بتحديد أهلية المعنيين بضمان الأمن الفكري للأمة الإسلامية، وتتعلق ثانياً بعلاقة ظواهر العنف والتطرف بسياسة الأمن الفكري والأمن الروحي على الخصوص، وتتعلق أخيراً بإشكالية التوفيق بين تباين وجهات النظر القائمة بخصوص تحقيق الأمن الفكري والروحي المرجوين، أي بإشكالية المرجعية التي تعتبر بحق أكبر سؤال مؤسس وجوهري يجب أن نفصل فيه ونحسم معه حتى نأمل الاتفاق على سياسات الأمن الفكري والروحي للأمة الإسلامية. وهذا هو التحدي الأهم.

 



[1] الأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوروبي، ورئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا ونائب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

[2] مداخلة للباحثة المغربية رجاء ناجي مكاوي ضمن أشغال الندوة التي نظمها «منتدى الحكمة للباحثين والمفكرين» بالتعاون مع جامعة محمد الأول بوجدة، وذلك يومي الأربعاء والخميس 16 ـ 17/ 3/ 2005، تحت شعار «إشكالية العلاقة بين الفكري والسياسي: مقاربات متعددة». مجلة منتدى الحوار المغربية. العدد 18. 4/ 2005.

[3] التناول المفاهيمي لواقع المرأة: بين المنظور الإسلامي والمنظور المادي. محمد بشاري. ورقة قدمت إلى أشغال ندوة واقع المرأة مؤتمر القاهرة 2005.

[4] قراءة في كتاب «الفتنة» للباحث الفرنسي جيل كيبل. أنجزها هاشم صالح. جريدة الشرق الأوسط. 26/ 9/ 2004.