الكتاب: المنهج والاستدلال في الفكر الاسلامي
الكاتب: محمد همام
الناشر: دار الهادي ـ بيروت
الطبعة: الأولى, 2003م
يمثل هذا الكتاب محاولة نقدية جريئة للإجابة عن سؤال المنهج والاستدلال في الفكر الإسلامي، يروم المؤلف من خلالها التنبيه على حالة الانسداد التي وصل إليها العقل المسلم المعاصر، بضغط الثقافة التاريخية الموروثة، ودهشة التحديات الحضارية المعاصرة. كما يروم التعريف بكتابات دقيقة نادرة في الساحة الفكرية، حجبتها يد الرقيب التنظيمي، وهاجس الخوف من الجديد. وسعت إلى تقديم قراءة جديدة، بآليات خطابية، لنص قديم، إشارة إلى أهمية أدوات تحليل النصوص، ومناهج القراءة، ودراسة الخطابات، في التعامل مع التراث، وإغناء تعامل العقل المسلم المعاصر مع النصوص عموما.
قبل الخوض في تقييم أدبيات "خطاب التأصيل" كما يصفه المؤلف، يعرج على أهم الاتجاهات التي تميز طبيعة التعاطي العربي والإسلامي مع التراث.
§ خطاب الفكرانية (الإيديولوجيا)
ظهرت دراسات حديثة انتبهت إلى جمود الخطاب الفكري الإسلامي المعاصر، وضمور سؤال المنهج، ورمقت تلك الفجوات، فبادرت إلى طرح سؤال المنهج، واستثمرت آليات النقد الحديث وأدواته، لنقد الفكر الإسلامي، والتهوين من قيمته وكسبه، وسعت إلى التشكيك في قدرات العقل المسلم على الإبداع. وإذا كانت مجهودات محمد عابد الجابري، قد اتجهت إلى نقد العقل، أي الأداة المنتجة للأفكار، ومن ثمة الوقوف على العمليات الذهنية والمنهجية التي يقوم بها العقل العربي أثناء اشتغاله في الصناعة الفكرية، فإن هذا المجهود لم يستطع الصمود أمام النقد الصارم، حيث انكشفت تناقضاته، وانزلاقاته الإيديولوجية، بل والتوظيف غير العلمي للمفاهيم، من غير نقد أو اختبار. ويبقى هذا العمل رغم ذلك محفزا ومستفزا لكثير من العقول والمسلمات، وكان محطة منهجية وفكرية أساسية في تاريخ النقد العربي الحديث.
كما ظهرت دراسات منهجية أخرى حاولت نقل مفاهيم فلسفة العلوم والدراسات الغربية الحديثة، ساهم فيها أيضا الجابري بكتابه حول "مدخل إلى فلسفة العلوم"، والباحث محمد وقيدي في "ما هي الإبستيمولوجيا"، وعبد السلام بن عبد العالي وسالم يفوت في "درس الإبستيمولوجيا"، حاولت تلقيح العقل العربي بمستجدات العتاد المنهجي والمفاهيمي الغربيين، إلا أن هذه الدراسات ليست إنتاجا لمعرفة جديدة، بقدر ما هي مداخل أولية لمعارف ومناهج ومفاهيم، أنتجت خارج الأفق الفكري والمعرفي الإسلاميين، كما غاب عنها النقد والتقويم بله الإبداع والإنتاج، إذ بقيت سجينة الإبستيمولوجيا الباشلارية التي تحولت بذاتها إلى عائق إبستيمولوجي أمام الإبداع العقلي العربي، فزادت تلك الدراسات في تكريس الفقر الإبستيمولوجي داخل المجال التداولي العربي.
§ خطاب الحداثة المقلدة
في مقابل هذه الدراسات التي أفصحت بوضوح عن أدواتها ومفاهيمها التي يشكل الحقل الغربي مرجعها الأول، ظهر في الآونة الأخيرة خطاب يطرح سؤال المنهج في الفكر الإسلامي، ويختلف عن الأول، في كونه أثبت قدرة كبيرة على الإنصات إلى التراث.
من ضمن هذه الدراسات نجد على الخصوص أعمال نصر حامد أبو زيد الذي شكك في نزاهة الشافعي في وضعه وترتيبه لمصادر التشريع، الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. كما حاول ما أمكن في أعماله تجاوز أخطاء تيزيني ومروة وغيرهم من الماركسيين الأورتوذكسيين، منتقدا التحليل الميكانيكي الانعكاسي، وداعيا إلى ضرورة التحرر من سلطة النصوص، أو أي سلطة تعوق مسيرة الإنسان، وفي هذا الإطار تندرج كتابات نصر حامد أبي زيد مبشرة بالخلاص العلماني للعقل المسلم، وهو في جوهره التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين. وهذا ما حاول تفصيله في كتابه "الخطاب الديني" من خلال الوقوف على آليات الخطاب الديني ومنطلقاته الفكرية، واعتباره نتاجا طبيعيا لمجمل الظروف التاريخية والحقائق الاجتماعية لعصره.
من جهته، رفض أحميدة النيفر مقولة "النص القرآني المقدس" وعوضها ب"النص المؤسس"، ومعناه أن التجديد لا يكون إلا انطلاقا من النص القرآني والمحافظة عليه، وهي محافظة لا تتم إلا بإغنائه عبر اغتناء الجماعة بالوعي العلمي والفكر التاريخي. من هنا يصبح "النص المؤسس" بمثابة الرأس المال الرمزي الذي يستمد قدسيته ليس من مصدره ومن إغنائه التجربة الإنسانية والثقافية للشعوب المسلمة في الأيام الأولى فحسب، بل من قدرة الأمة في تطورها أن تبدعه حاضرا ومستقبلا، وهذا يحفظ للنص راهنيته. كما دعا النيفر إلى إعادة النظر في مفهوم الوحي وشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفك الحجر على النص القرآني وإنهاء عزلته التي ضربها حوله "النصوص الثانية". وللحقيقة، فالباحث المنصف لا يملك إلا أن يقر النيفر على ملاحظاته الموضوعية في حق بعض التفاسير التي أوردها، تراثية كانت أم حديثة، لما تضر به من أسيجة على النص القرآني، حتى ضاع بينها، ولما تكرسه من مفاهيم غامضة، ولما تبثه من أخبار غير موثقة عن الدين ومسيرته. كما لا ينبغي إغفال دور مثل هذه الدراسات من الوجهة النفسية والمنهجية، في تشجيع العقل المسلم على النقد، والجرأة على السؤال، واليقظة المنهجية اللازمة، وهو ما تفتقده في خطاب الإسلاميين تجاه التراث ومعارفه. حيث الخجل والتلعثم والاجترار والافتخار إلى حدود الغرور بهذا الإنتاج التراثي.وقدم الباحث التونسي عبد المجيد الشرفي، مجهودا، قريبا مما قدمه نصر حامد أبو زيد واحميدة النيفر، في كتابه "حديث الفكر الإسلامي"، حيث دعا هو الآخر إلى ضرورة الاستفادة من الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، والأنتربولوجيا، وعلماء اللسانيات. كما انتقد الشرفي صفات الحفظ والاجترار التي طبعت الثقافة التراثية، وانتقد أيضا إطلاقية العلماء التقليديين وادعاءهم احتكار الحقيقة. وكان جريئا في كثير من آرائه، ربما أكثر من أبي زيد والنيفر، إذ هو أولا يماثل، من الناحية المنهجية بين النص الإسلامي واليهودي والمسيحي. كما رفض مفهوم النص والاحتجاج به مما اعتمده القدماء في تفكيرهم، ودعا إلى تجاوز السنة وإلزاميتها للمسلمين، ودعا إلى تحطيم القواعد الأصولية ومباحث علوم القرآن كأدوات ضرورية لتأويل النص المقدس. وحاول أن يقدم مبررات اجتماعية وتاريخية لتدوين الفقه، وتحوله إلى منظومة مغلقة ومتماسكة داخليا، ابتعدت عن الحياة وهمومها. فالمنظومة الأصولية، بنظره، شوهت الخطاب القرآني وحرفته عن مقصوده الأساسي الذي هو مخاطبة المسلمين دون تمييز، بل ذهب إلى حد اعتبار بعض العبادات طقوسا تطورت مع التاريخ كالصلاة، وقال بأن الصوم حكمه التخيير وليس الفرض من خلال قراءة غربية لآياته.
لقد فقدت المنظومة الفقهية والأصولية، بنظر الشرفي، مصداقيتها، وأصبحت تشكل معوقا أمام الدين نفسه في اتجاه التطور والتجدد، فيلزم إذا الإطاحة بها وتجاوزها، وهذا ما يلزم التسلح بالإيمان القلق، في إطار مفهوم جديد للاعتقاد يسميه "الفضيلة الذاتية والمسؤولية الفردية وتربية الضمير المستقيم". ولا يخفي الشرفي استثماره لأدوات التحليل الماركسي، من خلال دعوته إلى تحديث المجتمع وتحديث أنماط الإنتاج مع تحديث السياسة وتحديث الفكر، وتحديث الشعور الديني.
تقييم المؤلف لخطاب الحداثة المقلدة في تعاملها مع النص التراثي، تقييم موضوعي وصارم، حيث يقر بأن أهم إيجابية في هذه البحوث، تبقى في القدرة على التساؤل إلى حدود الاتهام والشك، في كثير من المسلمات والمفاهيم. بل إنه يدعو إلى ضرورة الإطلاع عليها وحسن الاستماع إلى أصحابها، ثم رصد ثغراتها وتجاوزاتها المنهجية والمعرفية، وفي المقابل إنتاج خطاب منهجي أصيل، حر وناقد، مزود بأحدث أدوات العتاد المنهجي المأصول والمنقول، في إطار رؤية معرفية متكاملة ومتماسكة، وهذا هو ما حاولت بعض الاجتهادات الإسلامية المعاصرة ملامسته من خلال مشاريع ما زالت للأسف غريبة داخل المجال الإسلامي، ومتهمة في خارجه. وكانت إشارته المركزة في هذا المدخل المنهجي العام إلى بعض كتابات أربعة من المفكرين الإسلاميين المرموقين ممن اتسمت كتاباتهم بالدقة والإحكام، والقدرة على إبداع الجديد، وطرح سؤال المنهج على أكثر من مستوى، وهم: طه عبد الرحمن، وطه جابر العلواني، وأبو القاسم حاج حمد، ومصطفى بوهندي.
§ خطاب التأصيل: طه عبد الرحمن نموذجا
يقف الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن على رأس رموز "خطاب التأصيل"، ولا يسعنا إلا المصادقة على تقييم المؤلف لما حفل به كتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" للدكتور طه عندما يصفه بأخطر الكتب التي تقدم تصورا متكاملا لقراءة التراث وفق منهجية علمية أصيلة، تجاوزت أشكال القراءات الإيديولوجية الغربية والمنبهرة بالآلة النقدية الغربية، والمنبتة عن أصولها والعاجزة عن إبداع أدوات بحث من داخل الحقل التداولي الأصيل، من مثل نماذج العروي، والجابري، وحسين مروة، وطيب تيزيني.. فقد قدم طه عبد الرحمن في كتابه ممارسة منهجية عميقة، بكل ما تعنيه من وضع للمفاهيم، وإنشاء للتعاريف، وصوغ للدعاوى، وتقرير للقواعد، وتحرير للأدلة، وإيراد للاعتراضات.
وقبل أن يبسط طه عبد الرحمن نظرية التكاملية في إطار استدلالي محكم ومتدرج، عمل على نقض أحد أبرز المشاريع التي ميزت عقد الثمانينات في الفكر العربي، وهو مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، الذي أخذ بنظرة انتقائية تجزئ التراث تجزيئا، معتمدا في نقضه ونقده لمشروع الجابري على منهجية خاصة تعتمد مسلكا حواريان مما عرف بطريق أهل المناظرة، إذ كشف تورط الجابري في تقويم تجزيئي للتراث، يعتمد المفاضلة والانتقاء، ويغلب عليه الأشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين. بل اعتمد الجابري على آليات يسميها طه ب"الآليات الاستهلاكية" أو "الآليات الفرعية" أو "الآليات الفوقية"، وحصرها في صنفين: صنف "الآليات العقلانية"، وصنف "الآليات الإيديولوجية". ووقف طه عبد الرحمن عند حدود استعمال الآليات العقلانية المجردة في نقد التراث، مثبتا افتراق "العقلانيين" أنفسهم في تحديد الشرائح التراثية الممثلة للنموذج العقلاني، بين النصوص الفلسفية، أو الفقهية، أو اللغوية، أو الكلامية. ثم إن "العقلانيين"، بنظر طه عبد الرحمن، لم يبرهنوا على تحصيل الدربة في استخدام الآليات البرهانية المنقولة، ولم يبرهنوا كذلك على الإحاطة بتمام تقنياتها، وبكمال وجوه إجرائيتها. ثم إنهم لم يخضعوها لنقد كاف وشامل لتبين مدى كفايتها الوصفية، وقدرتها التحليلية، وقوتها الاستنتاجية. كما أن "العقلانيين" لم يخضعوا هذه "العقلانية" نفسها للنقد من حيث هي اختيار منهجي مخصوص، في وقت أصبحت تخضع لنقد ومراجعة في تربتها وعند أهلها، كما أن حدودها أخذت تفقد دقتها ووضوحها في موطنها الأصلي عند من وضعوا أصولها ورتبوا مسائلها.
لقد أثبتت المقاربة المنهجية لطه عبد الرحمن أن التشبث الظاهري التقليدي بالعقلانية المنقولة فوت على نقاد التراث، من الصنف المذكور، إدراك خصوصية المعرفة التراثية، التي لا تعلق راسخ بالحقيقة العملية، عكس العقلانية النظرية المجردة المفتقدة للتسديد بواسطة العمل الشرعي الذي تقوم عليه نصوص التراث.
كما وقف طه عبد الرحمن عند حدود استعمال آليات "الفكرانية" أو "الإيديولوجيا" المسيسة في نقد التراث، ويقصد ب"التسييس" إفراد الجانب السياسي بالقدرة على الوفاء بشروط النهضة الثقافية والحضارية؛ فتكون قيمة النص التراثي المقروء بواسطة هذا المبدأ منحصرة فيما يحمله هذا النص في سياقه الاجتماعي من دلالات على التدافع من أجل الحصول على مراكز القوة. ولا يخفى على الملاحظ الحصيف ما جنته هذه القراءة "التسييسية" على تراث الأمة؛ من اعتداد على الحقيقة، وتشويه للتراث، ودس لأفكار ومفاهيم غريبة عن عقيدة الأمة وفطرتها وكسبها التاريخي، من مثل ما نجده في كتابات العروي، ومروة، وتيزيني، وكذا في القراءات المتحيزة والمضطربة كما رأينا عند نصر حامد أبي زيد، واحميدة النيفر، وعبد المجيد الشرفي، تشوهات وانحرافات منهجية ومعرفية، يسكنها الإسقاط الفكراني للمفاهيم المادية والماركسية على الخصوص، التي تعتبر نفسها نقيضا موضوعيا للدين وقيمه.
وقد كشف طه عبد الرحمن أن استعمال هذه الآليات الإيديولوجية من غير نقد ولا تمحيص أوقع أصحابها في جهل فاحش، فوت عليهم إدراك أن النص عموما، والنص التراثي على الخصوص، هو أقرب إلى "التأنيس" منه إلى "التسييس". ومن منطلق عقدي عميق، وخبرة منهجية ومعرفية راسخة، يعرف طه "التأنيس" بأنه إيلاء الجانب الأخلاقي والمعنوي والروحي وظيفة رئيسية في النهوض بالفكر، فتكون قيمة النص المقروء من جهة التأنيس كامنة في الفوائد العملية والآثار المعنوية التي يولدها عند القارئ أكثر مما تكمن في الجوانب التسييسية والمادية. ولما تغافل الفكرانيون (أو المؤدلجون، والفكرانية هي المصطلح الذي أبدعه طه عبد الرحمن ترجمة لمصطلح الإيديولوجيا) عن إدراك الوظيفة التأنيسية للنص التراثي، قصدا أو جهلا، سقطوا في نظرة إيديولوجية تجزيئية، حجبت عنهم إدراك الأسباب التي تجمع بين أجزاء التراث، وتفتح نصوصه على آفاق التأليف والتوحيد.
§ منهج طه جابر العلواني
تميزت كتابات طه جابر العلواني بالتأكيد على الأزمة الفكرية للأمة، وتقديم الأسباب التاريخية والموضوعية لهذه الأزمة من خلال قراءات التاريخ الإسلامي الحديث، ورصد محاولات الإصلاح بدءا بتجربة الدولة العثمانية والتجارب الأخرى المستقلة عنها، ثم دراسة فشل هذه المحاولات، التي قدمت الإسلام عنصر أزمة وتأخر أكثر مما هو أداة حل ودفع بالأمة إلى التقدم. وعرض العلواني في كتاباته الأولى الصراع بين التيارات الاجتماعية والسياسية والثقافية في الوطن الإسلامي، وقوم أساليبها وانتقدها. كما قلل من أهمية حركات النقد والمراجعة التي ظهرت، ذلك أنها لم تقترن بالشروط الموضوعية اللازمة لإنجاح عمليات المراجعة والنقد الذاتي، أو بطرح البديل الموضوعي الصالح من ناحية أخرى، ومن هنا فقد بدأت عمليات المراجعة ذاتها في إفراز الكثير من الآثار السلبية.
هذه المفاهيم المؤسسة لمرجعية مشروع إسلامية المعرفة، التي يكررها كثيرا طه جابر العلواني في منتديات وكتابات عدة، بقيت بحسب المؤلف، تعبر عن طموح، وطرح أفكار عامة، أصيب بسببها المشروع بالتخمة النظرية، ولما تلامس قضايا حيوية في المعرفة والمجتمع والتاريخ. بل لم تستطع التخلص من إشكالات التاريخ، وسلطة السلف التي ظلت جاثمة على المشروع وما زالت، مما يجعله مشروعا فكريا مجددا في إطار بنية سلفية عامة. وهذا ما يبرر عدم الجرأة في تبني كتابات متقدمة في الفكر الإسلامي المعاصر، لشجاعتها وصراحتها، مثل ما طرحه محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه "السنة البنيوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، والمفكر السوداني محمد أبو قاسم حاج حمد، في "عالميته" و"مداخله" و"منهجيته"، والاكتفاء بالتداول المتخفي والمحدود لهذه الدراسات.
وهاجس إرضاء التيار السلفي الغالب في الفكر الإسلامي ليس صعبا ملاحظته في المشروع كله منذ بدايته، وبقي المشروع منحصرا بل ومهووسا بطرح الإجابات عن القضايا اليومية التي يطرحها العالم الإسلامي من الوجهة الفكرية. فطه جابر العلواني قدم ورقة عمل عن إصلاح الفكر الإسلامي لم تخرج عما تم تسطيره في أوراق عمل قدمت لمؤتمرات عالمية سابقة منذ ندوة 1977 بسويسرا، إذ طغى على ورقة العلواني العمومية، ومسها شيء من التكرار، والتبسيط. وهذا يدل على أن منظري المعهد، وفي مقدمتهم، طه جابر العلواني، يعلمون، أن المتلقي الإسلامي، لم يستوعب بعد فكرة المشروع، فكانت الحاجة إلى إعادة الشرح، والتوضيح. وإن كان هذا مبررا مقبولا وموضوعيا، فإنه بنظر محمد همام أفقد المشروع فئة من الباحثين الجادين الراغبين في تجاوز الإطار العام، وإشكالاته الكبرى، إلى البحث النظري الصرف، أو التطبيقي العميق.
كما دعا الإسلاميين إلى ضرورة نقد التراث وتقويمه، ولكنها دعوة إلى نقد محتشم، أو هو أقرب إلى توفيقية، ولا نقول تلفيقية، متخفية. ولا مست ورقة عمل طه جابر قضية المناهج والمفاهيم والتاريخ، وحدود استمراريتها ونجاعتها، لكن الإغراق في الجزئيات والتفاصيل، فوت على الورقة استحضار التاريخ بعمق في نقد المعرفة التراثية الإسلامية التي كرست التقليد والتكرار والتكديس والاجترار، فجاءتها رياح التغيير والاقتلاع من خارج أسوارها، كما يقر بذلك طه نفسه.
وبعد سنة 1995م، سنلحظ أن الخطاب المنهجي والنظري لطه جابر العلواني سيزداد قوة، وسيطرح إشكالات عميقة وجديدة في مشروع إسلامية المعرفة، فمن خلال الحوار الذي أجرته مجلة "قضايا إسلامية"، معه تحت عنوان: "إسلامية المعرفة فكرة ومشروعا"، سنلمس العمق المنهجي والنظري في المشروع، وسيقع تجاوز الخطاب العام إلى التدقيق في المفاهيم والمعارف، وستظهر مفاهيم جديدة: منهجية القرآن المعرفية، الجمع بين القراءتين، الفلسفة، وإن كانت رائجة في كتابات سابقة، إلا أنها في الدراسات الجديدة ستكون ذات حمولة اصطلاحية مكثفة.
واتسم الخطاب الجديد لطه جابر بالحدة في النقد، والجرأة في التعبير، إذ لم يتوان في اتهام الفقه الفروعي بفرض الإصر والأغلال على الناس، ضدا على شريعة التخفيف والرحمة ورفع الحرج. وانتقد فكرة تفقيه حياة الناس تحت غطاء ولاية أو ما يشبهها عند السنة. ورفض تحويل حياة الأمم إلى قوائم من أحكام تكليفية ووضعية، وتجاوز في نظرته إلى أصول الفقه، المنحى التاريخي العرضي، إلى الكشف عن النظرية المعرفية التي تأسس عليها علم أصول الفقه، وهي الإيمان بالوحي الإلهي مصدرا هاما للمعرفة، إلى جانب الكون، في إطار الجمع بين القراءتين.
§ منهج محمد أبو القاسم حاج حمد
كتاب "العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة" ألفه المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، كتاب "مغر وجريء". يجد فيه الباحث حقيقة، بتعبير مؤلفه في مقدمته "أسلوبا جديدا" في تحليل القرآن وفي نهجه، ضمن معطيات عقلية جديدة. لم يحاول العصرنة وإنما حاول الاكتشاف بوعي مفهومي تاريخي مغاير. فقد اعتمد الكاتب في كتابه الفريد التحليل عوضا عن التفسير، والتبيين المنهجي في إطار الوحدة القرآنية بطرح الجزء في إطار الكل، عوضا عن الفهم التقليدي المجزئ لآيات الكتاب وسوره. وقد استثمر الحاج حمد في تحليله المنهجي انفتاحه على عدة علوم تخصصية في مجالات التاريخ واللغة والطبيعيات والفلسفة، إضافة إلى علوم الثقافات العميقة والأديان المقاربة.
والغريب في الأمر أن الكتاب على خطورته وعمق أفكاره لم يتقبل بقبول حسن لا عند الإسلاميين ولا عند العلمانيين، فالإسلاميون تجاهلوه على اقتناع بعضهم بأهميته وجديته، واكتفوا بتداوله داخل منتديات نخبوية مغلقة، أو عبر تبن لبعض مفاهيمه ومصطلحاته منزوعة من سياقها العام، من دون إحالة في الغالب الأعم على صاحبها.
أما بالنسبة للعلمانيين، فإنهم يؤاخذون على حاج أبو القاسم حمد انخراطه في خطاب إيديولوجي مغلق النسق، يرفض بموجبه اعتماد منهجية تاريخية في دراسة التراث التفسيري الذي يراه قد حرف الفهم الأمثل لجيل الصحابة، داعيا إلى إعادة اكتشاف الحقيقة الكاملة المتضمنة بكل تفاصيلها في النص القرآني.
أدرج المؤلف هذا مبحث حاج أبو القاسم، لأنه يجسد التطور النوعي في الفكر الإسلامي المعاصر. كما أنه ينقل الخطاب الإسلامي من الموعظة الباردة، والسردية المملة، إلى التحريضية المقلقة، والمنهجية المكثفة، ويمكن أن نلمس هذا الذي يدعيه المؤلف في فصول الكتاب الأربعة، ففي نقد الخصائص الفكرية للحضارة العالمية الراهنة، رصد الحاج حمد دور الفكر الماركسي في تطور الفكر الأوروبي، وإقامة بنائه النظري المتكامل الذي يسميه حاج حمد "لاهوت الأرض"، ونفي لاهوت السماء، والاستقلال عن كل أثر غيبي في الحركة وفي الوجود. وفي هذا الإطار يرى حاج حمد أن الماركسية ليست كما كان يفهمها البعض في الشرق، صراعا يعزز العقل العلمي في مواجهة العقل الطبيعي، وقوة نافية لموروثات العقل، بل صارت تأطيرا جديدا للعقل العلمي نفسه ضمن كفاح متصل في كل ميادين العلوم لتأكيد لاهوت الأرض.
ولكن مهما كانت النتائج الأخلاقية المترتبة على سياق التطور الأوروبي في اتجاه ترسيخ لاهوت الأرض، فلا يجب أن ننسى، بنظر حاج حمد، إيجابياتها، مثل تأكيد شخصية الإنسان، وتوجيه الحرية والمسؤولية بالعقل، والقطع مع الخضوع لإرادة التقليد، فقد أخذ البحث الفكري الجريء المعبر عن الخصائص الفردية يحتل بالتدريج مكان الاعتقادات، وازدادت القيمة الذاتية للإنسان.
ولم يقف مجهود الحاد حمد عند حدود التقاط عناصر الانسداد الفلسفي والوجودي الذي تعيشه الحضارة الغربية، بل حاول تقديم بديل حضاري، يتجاوز التأويل الفلسفي للعلم الذي كرسته الماركسية، وجنة الجحيم التي اندحر إليها الوجود الشخصي للإنسان الأوروبي، هذا البديل الذي يقدمه الحاج حمد يتخذ منذ البداية قيمة عالمية: عالمية الإطار والمحتوى، مستوعبا بالوعي مقومات العالمية المعاصرة، وقادرا على النفاذ فيها والتفاعل معها. هذا البديل يشكل القرآن الكريم جوهره ومنطلقه، بعد التخلص من الوعي المفهومي التاريخي الذي أسقط نفسه على نصوص الكتاب، واستلبها لظرفه الخاص، وقيدها به. ومن منطلق منهجي متماسك يدعو الحاج حمد لتحقيق الجدل المتجدد والدائم بين لاهوت الغيب ولاهوت الطبيعة.
لقد أبدع الحاج حمد في توضيح أفكار طالما تاه بسببها العقل المسلم، واستغرقت مساحة كبيرة في الفكر الإسلامي، وتحولت إلى مقولات شاذة وغريبة ومعيقة لهذا الفكر. وقد أوضح في مشروعه حضور الله عز وجل في وجود الإنسان وتطوره ضمن فعل كوني حضاري متطور دون أن يلغي ذلك المعنى الموضوعي لوجود الإنسان وفعله الذاتي. وفي الجزء الرابع والأخير من الكتاب طرح الحاج حمد إشكالية المنهج، من منطلق أن معركة المنهج أصبحت هي الطاغية على تصنيفات البحوث نفسها ليعتبر المنهج عنوانا ومقدمة لطبيعة البحث نفسه. وقد لخص الحاج حمد منهجه في أنه يعتمد على نوع من الحكمة التأملية التي تربط بين قدرات العقل الذاتية باعتبار جملة وعي حساس، وبين مكنونات القرآن باعتباره الوعي المعادل للحركة الكونية في صدوره عن الله، وهذا ما يسميه "جوهر الدمج بين القراءتين في قراءة كونية واحدة".
إن النموذج المنهجي الذي يطرحه الحاج حمد، لا يغفل عن اللحظة التاريخية التي يمر بها الإنسان العربي، ولكنه واثق من أن المرحلة هي مرحلة العالمية الثانية التي سيكشف فيها القرآن عن مكنونات المنهج الإلهي الكلي في الحركة والطبيعة والتاريخ البشري. وهي العملية التي ستحمل للإنسان كله البديل الحضاري الذي يرسي دعائم السلام كما هي حقائقه الكونية الإلهية والفلسفية، بديلا عن فلسفة الصراع التي يغرق فيها العالم اليوم، وذلك انطلاقا من أرضية تكاد تكون مسلمة عند الحاج حمد: نحن نتعامل مع القرآن في إطار وحدته العضوية وصياغته الكونية، وإطلاقية معانيه المكافئة والمجادلة لإطلاقية الكون، وإطلاقية الإنسان نفسه في هذا الكون، وبتفاعل مع إله أزلي هو فوق المطلق، وفوق الزمان والمكان (ليس كمثله شيء).
§ منهج مصطفى بوهندي
يشكل علم مقارنة الأديان مجال اشتغال الباحث مصطفى بوهندي، ويشتغل المؤلف في هذا الصدد على مبحث/أطروحة دكتوراه لبوهندي قدمت تحت عنوان: "العقائد النصرانية وعلم التفسير الإسلامي: دراسة تحليلة مقارنة"، ويتجلى الطابع المنهجي لبحث الأستاذ بوهندي في قدرته على تنظيم البحث في مقولات علوم القرآن، وعرضها أمام النقد والتمحيص، كمصطلح التفسير ذاته وعلاقته بالقرآن الكريم، ودراسة مفاهيمه وآلياته ومناهجه وأصوله، إذ ينطلق الباحث من سؤال محرج ومحير هو: إلى أي حد استطاع علم التفسير أن يعين القارئ على التعامل الجيد مع النص القرآني؟ ثم ما هو الدور الذي لعبه هذا العلم في تمرير معان غير قرآنية إلى ذهن الإنسان المسلم، مأخوذة عن اليهود والنصارى؟
وتميزت دراسة مصطفى بوهندي في تحقيق حدود معينة من الاستقلال المنهجي والمعرفي عن المناهج الموروثة، بل ومساءلتها بجرأة، مما يخرج هذا البحث عن المألوف، ويدخله في خانة البحوث المنهجية "المشاغبة" على التيار العام للدراسات القرآنية. فقد حملت الدراسة بصراحة على علماء القرآن الذين وضعوا مفاهيم هي في الحقيقة أسيجة الثقافة القائمة من التجاوز، والمناهج القديمة من التجديد، وتصادر كل محاولة تخرج عن هذا الإطار، تارة باعتبارها رأيا من غير علم، وتارة أخرى بدعوى أنها ابتداع وخروج عن المألوف وما أجمعت عليه الأمة. كما دعا الباحث إلى الحذر من وساطة العلماء، وما قد تضفيه عليهم من قداسة وتبجيل مما يرفعهم عن المحاسبة والنقد، وتحول علمهم إلى دين لا يقبل المساءلة: إن تفسير القرآن بكلام الناس، في الأخير، لا يسمى تفسيرا إلا على سبيل التجاوز، لأن القرآن غير محتاج إلى بيان خارجي، وإنما هي تأملات وخواطر.
ومن المباحث المثيرة للجدل من الوجهة المنهجية والمعرفية، في أطروحة بوهندي مناقشة لقضية النسخ، أحد المفاهيم المحورية في علوم القرآن التقليدية. وبعد دراسته دراسة مستفيضة واستدلال متعدد الأوجه، خلص الباحث إلى أن "الأدلة السمعية" التي أوردها القائلون بالنسخ أدلة متهافتة ومتأثرة بخلافات اليهود والنصارى، ويقودها الهاجس الفقهي، وهو ما أدى إلى تحريف معاني أكثر هذه الأدلة وتحويلها من معناها العام المنسجم مع سياقه الوارد فيه إلى سياق خاص مرتبط بالمشاكل الفقهية التي تؤرق هؤلاء العلماء، وموجه بركام هائل من المأثورات والمقولات لا يسمح – بسبب كثرتها وما اكتسبته من هالة التوقير والتقديس – بنقدها ومراجعتها وتمحيصها.
وانتقل بوهندي إلى دراسة مجموعة من النماذج التي يتجسد فيها اختراق المفاهيم النصرانية للعقل المسلم، ومدى التشويش الذي أحدثته في استيعاب النظرة القرآنية، من مثل الألوهية والنبوة، إذ ناقش الكلمة والروح وولادة المسيح بين القرآن والإنجيل، ومعنى النذر والاستعاذة والبشارة والعقاب والكفالة والقنوت والحصر وخلق الطير والوفاة. وبدراسة تحليلية مقارنة بين ما ورد في كتب التفسير وما جاء في الأناجيل، خلص الباحث إلى أن أكبر منفذ نفذت منه الأخبار المسيحية والإسرائيلية هي قولهم: إن أخبار أهل الأمم السالفة لا تضر روايتها عن أهل الكتاب، لكونها لا تترتب عليها أحكام عملية. ويصرح بوهندي بعد هذا بأن التفسيرات الإسلامية قد تأثرت بما عند أهل الكتاب في قصة مريم العذراء، والمسيح، حتى فسرت نصوص القرآن المتحدثة عن هذا الموضوع، بآراء أهل الكتاب، فتجد في هذه التفاسير أن عيسى هو كلمة الله المجسدة في المسيح، وأن الأنبياء يسجدون له في بطون أمهاتهم، كما تجد "يوسف الخطيب"، و"الكافل المرغم على الكفالة"، و"خدمة الكنيسة"، و"تعذيب الجسد في العبادة"، و"ارتباط الزواج بالذنوب"، و"نخس الشيطان في كل مولود إلا مريم وابنها"، وغيرها من المفاهيم والعقائد النصرانية التي بينت الأطروحة بطلانها.
كان هذا المدخل، على طوله، ضروريا، إذ رصد المؤلف من خلاله سؤال المنهج في الفكر الإسلامي، قديما وحديثا. ووقف على عملية التضييع التي تعرض لها تراثيا المنهجي القديم، فطغت المضامين والفتاوي والأفكار، وغابت المناهج والمفاهيم والقوانين، مما سبب اضطرابا فادحا في الفكر الإسلامي برمته، أدى به إلى أزمة فكرية ومنهجية حادة، برع بعض منظري إسلامية المعرفة في تشخيصها وإبراز تجلياتها المتعددة، كالدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه "أزمة العقل المسلم"، والدكتور عماد الدين خليل في كتابه "حول إعادة تشكيل العقل المسلم"، وكتب ودراسات طه جابر العلواني المختلفة. وعملية التشخيص هذه لم تنتبه إليها الكتابات التغريبية، على أهميتها وجرأتها، بل اكتفت بتحقير المنجزات الفكرية القديمة، وإدانة فكر الأسلاف برمته، في تغييب ساذج للظروف الموضوعية والتاريخية والمعرفية التي أنتج فيها، وهي بحوث تدعي استثمار المادية الجدلية في قراءة الفكر والتاريخ.
ويبقى إبداع الدكتور طه عبد الرحمن أعمق ما قدم، حسب المؤلف، في مجال المناهج والمفاهيم، بناء على أرضية فلسفية عميقة. وهذا المجهود يتكامل بشكل ملفت مع الخصائص التصورية والمنهجية والمعرفية لمشروع إسلامية المعرفة، خصوصا ما قدمه أبو القاسم حاج حمد، والكتابات الأخيرة لطه جابر العلواني، والتي تعتبر المشروع برمته مشروعا في المنهج.
§ علم أصول الفقه المتلاعب به
اكتسى علم أصول الفقه صبغة خاصة من بين المعارف الإسلامية، لقيامه على قواعد وقوانين صارمة، مما حوله إلى علم منهجي دقيق. وجاءت أهميته أيضا لما قام به علماء أصول الفقه من مجهود كبير في حماية المعرفة الإسلامية من الغارات الأجنبية، وخاصة اليونانية، فقد كان علماء الأصول، كالشافعي، وابن حزم، والباقلاني، وابن تيمية، من أول المتصدين للهجمة اليونانية، وكانوا من أكثر المتمثلين للروح الإسلامية، ولجوهر الرؤية المعرفية والمنهجية الإسلامية، فقد كانوا يتطابقون أكثر من غيرهم مع رؤية الإسلام. وقد أثبتوا أن المنطق اليوناني يستند إلى خصائص اللغة اليونانية، وهو فهم عميق لما بين اللغة والمنطق اليونانيين من صلات دقيقة، لم يفطن لها الفلاسفة من شراح التراث اليوناني الذين استلبتهم الميتافيزيقا الأرسطية، فدخل عليهم من خلالها كل أجزاء الفكر الأرسطي، فضعفت مرجعياتهم، وقل إبداعهم، وأصيبت عباراتهم بالقلق، وأفكارهم بالاستغلاق، فقد خرجوا لغتهم على مقتضى القواعد النحوية اليونانية وأصول البيان اليوناني التي جاءت متخللة البحث المنطقي. كما أنهم أخلوا بقاعدة الإنجاز التي تضبط الأصل اللغوي لمجال التداول العربي، والتي توجب أن يكون التعبير موافقا لأساليب العربية، صرفا وتركيبا وبيانا، فهم إذا لم يستطيعوا استثمار، أو على الأقل استحضار شروط مجالهم التداولي العربي الإسلامي ويمكن ملاحظة هذا بوضوح من خلال المقارنة بين مفكرين طارت شهرتهما في تاريخ المعرفة الإسلامية إلى اليوم، أحدهما فيلسوف هو ابن رشد، والآخر أصولي وفقيه هو ابن تيمية.
فقد كشف طه عبد الرحمن حقيقة علمية تصر أقلام الحداثة المقلدة على طمسها، وهي أن اهتمام بعض المثقفين العرب بابن رشد اليوم هو برغبة بث روح "العلمانية" في نفوس المسلمين والعرب، لأن الرشدية "اللاتينية" عرفت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة في القرن الثالث عشر، وهذه الفلسفة تقوم على ضربين من المبادئ: مادية تخالف المعتقد المسيحي السائد؛ إذ تقول بوحدة العقل وقدم العالم، وتنكر العناية الإلهية، والحرية وخلود النفس والمعجزات، ومبادئ منهجية تقول بتكافؤ الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، ولذلك سمي ابن رشد "الفيلسوف ذو الحقيقتين" وهو مبدأ يؤدي إلى الاستغناء عن إحدى الحقيقتين ومن ثمة التخلي عن اللاهوت المسيحي لفائدة الفلسفة الأرسطية. كما أن هذه الروح الرشدية "اللاتينية" ستصور لتصبح فصلا تاما بين الدين والفلسفة، مما انتشر بين أصحاب عصر التنوير وانتقل إلى المحدثين. فلا عجب أن ينصب ابن رشد إماما للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وتكون بذلك إرادة الانتساب إلى ابن رشد إرادة الانتساب إلى العلمانية في أطوارها المعروفة، كما أشار إلى ذلك طه عبد الرحمن، الذي يجزم بأن ابن رشد كان مقلدا في الفلسفة، وتقليده لأرسطو لا ينحصر في شروحه وتفاسيره وجوامعه، بل يتعداه إلى كتبه التي تعتبر من التآليف الإبداعية ك"تهافت الفلاسفة" و"الكشف عن مناهج الأدلة" و"فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، فالكتاب الأول دفاع عن التقليد في وجه المعترضين عليه ممثلين في شخص الغزالي، والكتاب الثاني دفاع عن التقليد في وجه المتكلمين ممثلين في الأشاعرة، والكتاب الثالث دفاع عن التقليد في وجه رجال الدين ممثلين في الفقهاء. فكان بذلك واضع أصول التقليد وآلياته في الفلسفة بامتياز، وهذا أمر أوضحه ابن سبعين في كتابه "بد العارف" لما اتهم ابن رشد باتباع أرسطو إتباعا أعمى.
لقد لعب علماء أصول الفقه دورا أساسيا في تقريب العلوم الأجنبية، وقدموا إبداعا متميزا في وضع أسس التفكير الإسلامي المنظم. ومن هنا اكتسب علم أصول الفقه أهميته القصوى داخل المنظومة المعرفية الإسلامية. وهذا ما انتبه له المستشرقون كشاخت وبرانشفيك، إذ لما أدركوا القيمة الكبرى التي يتمتع بها علم الأصول، من بين علوم الإسلام، دعوا بحرارة إلى دراسته من وجهة نظر تاريخية، والمدهش أن نجد محمد أركون يكرر آراء المستشرقين بأسلوب استفزازي، مدعيا أن علم أصول الفقه قد عرف نهايته وشهد عقمه منذ لحظته التأسيسية مع الإمام الشافعي!!
§ التجليات المنهجية في علم أصول الفقه
فالإمام الشاطبي مثلا ـ وهو موضوع مبحث "المنهج والاستدلال في الفكر الإسلامي" ـ كان يسكنه الهم المنهجي في مشروعه المقاصدي، وانطلق من مقدمات علمية، وهي في الحقيقة مداخل منهجية تلخص الأطروحة الكبرى التي ينهض عليها فكره لإحداث تغيير حقيقي في المعرفة الإسلامية، ومجال علم الأصول، بالخصوص، ويمكن أن يلمس الباحث البرهنة على هذا الوعي من خلال "الموافقات" و"الاعتصام". فمنذ المقدمات المنهجية الأولى، تصادفنا مجموعة من المفاهيم الإجرائية ذات صلة بطرق الفهم والمعرفة وبمشكلة المنهج، كالفهم والشك، والعقل والوهم، والموافقات، واليقين والدليل.. بل إن الشاطبي يسير في اتجاه تعميق الوعي بمفاهيم محورية في الخطاب الشرعي والأصولي، كالتكليف والمصالح والمفاسد والمقاصد وهي التي يدور حولها مشروعه بكامله. وسيتجاوز في أطروحته ما وقف عنده الشافعي في أبحاثه من الكشف عن صور الأوامر التكليفية ومراتب البيان إلى البحث المتعمق عن أسرار التكليف، ورصد مقاصد الشريعة الكبرى.
إن تقويم الإنتاج الأصولي، منهجا أو معرفة، لا يصح ما لم يقع التسليم بأن العلوم الإسلامية متعاونة بينها، وأن العلم الأصلي المتداخل مع علم الأصول تداخلا مفيدا للفقه في جميع فروعه، وغير مانع من قيام نسبة شاملة بينه وبين علم الأصول، هو أقرب العلوم إلى مجال التداول الإسلامي العربي. لقد انصب اهتمام الأصوليين إذا على مناهج التفكير وأساليب البرهان والتدليل، لأن القضية في جوهرها مرتبطة بالتعامل مع الوحي من خلال طرف الفهم وآليات الاستنباط، وسد الطريق أمام أية نزعة فوضوية أو متسيبة ذاتية احتكارية لحقيقة دلالة النصوص، وضبط مستويات توظيفها على صعيد السلوك والواقع. وعليه يكون مجال أصول الفقه المجال الذي تجلت فيه مجهودات التأسيس لنظرية العلم، وتبديد العلماء المعرفي، وترسيخ الرؤية المنهجية المناسبة، في الحقل المعرفي الإسلامي. وهذا ما جعل بعض الدارسين ينتبه إلى أن أصول الفقه بقراءة إسلامية واعية مستلهمة توجهات "منهجية القرآن المعرفية" يستطيع أن يقدم مؤشرات هامة على طريق معالجة "إشكالية المنهج" في الفكر الإسلامي المعاصر.
§ الفوائد المنهجية لعلم أصول الفقه
من أبرز الفوائد المنهجية لعلم أصول الفقه، هي وضعه للقواعد التنظيمية للتفكير الإسلامي، التي عصمته في كثير من المراحل التاريخية من الذوبان داخل أنساق منهجية مفارقة، وأهلته للتعامل الدقيق مع الوحي. فبفضل يقظة علماء أصول الفقه تحطمت "أسطورة أرسطو" العقل الواحد، التي تلبس بها المتفلسفة، وكانوا على وشك أن يوقعوا الأمة في اندحار علمي مروع، فبفضل مجهودات الأصوليين تأسس المنهج الإسلامي الاسقرائي، القائم على التجربة والذي تنظمه قوانين بسيطة ومحددة، وكان إلى حد كبير تعبيرا عن روح الإسلام التي تجمع بين معطيات النظر، وممارسات العمل. في حين كان المنهج اليوناني يتأسس على القياس المشبع بالنظر الفلسفي والفكري، والذي يستبعد التجربة، التي هي إحدى الركائز الكبرى في المنهج الإسلامي. فقد نجح إذا علماء الأصول في بث روح جديدة في البحث العلمي تتجاوز الأحكام اليونانية، وتقوم على جمع المعرفة وتركيزها، ووضع المناهج الدقيقة، واستثمار فوائد الملاحظة والاستقراء، وتطبيق آليات البحث التجريبي، مما كان غريبا عن المنهج اليوناني.
وبفضل المنهج العلمي الأصولي خفتت أصوات التقليد في المعرفة والمنهج، ولقد أحيى الأصوليون المصطلح القرآني، وأكسبوه مناعة منهجية ومعرفية. ولم يعد العقل العلمي الإسلامي تائها بين المعاني المجردة والغامضة لمفاهيم منقولة بطرق رديئة، كالجوهر والصورة، والهيولي، والجزء الذي لا يتجزأ، وإنما أصبح يتداول مصطلحات مرتبطة بالطبيعة الحية الواقعية كالهباء، والذرة، والدخان، والماء، والماء، والشجر، والجبال، والطير، والنحل، والظلام، والسحاب.. فتأسست بذلك العقلية الإسلامية العملية والواقعية مفارقة للعقلية اليونانية التجريدية والخيالية.
والفائدة العظيمة الأخرى التي تحسب لعلماء أصول الفقه، هي وضع القواعد والمبادئ الأساسية للتعامل مع الوحي، فقد وضعوا المنهج لفهم الدين، وتبيين أحكامه ومقاصده، ذلك أن علم أصول الفقه وفر للفقيه، بل للمسلم بعامة، الأدوات العقلية والتجريبية، التي تؤهل الناظر العاقل للتعامل مع النص القرآني.
§ نقد ظاهرة العجز في فقه التقليد
اجتهد المؤلف في توجيه النقد الصارم لما يصفه بفقه التقليد، بعيدا عن اجترار منهج ونموذج من المشاريع النقدية الاستشراقية المتحيزة، وبعيدا أيضا عن المشاريع التي تتشدق بانفصالها عن الأطروحات الاستشراقية المعهودة، والتي لا تلبث أن تعود لتنطلق من الرؤية نفسها، وتروج لها بصيغ جديدة، كما نجد مثلا في كتابات محمد أركون، المبشرة، بشكل مبالغ فيه بجملة علوم إنسانية، كاللسانيات، والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم النفس التاريخي، والتحليل النفسي وعلم مقارنة الأديان، في غياب أية رؤية متماسكة للتنسيق بين هذه التخصصات المتباينة، وانعدام النقد التقويمي للمفاهيم والآليات، والاكتفاء باعتبارها، بسذاجة، "اكتشافات" معاصرة في العلوم الإنسانية. وكلها مقدمات تقف ـ حسب المؤلف ـ وراء إصابة مشروع أركون بالفقر في النتائج، وامتلاءه بالعنف والاستفزاز والجدال السجالي والتجريح المبالغ فيه للثقافة الإسلامية، وهو ما يغلب على مجمل أطروحاته العلمية التي تتكرر وتتشابه في جل أعماله النقدية حول الفكر الإسلامي. فهو يعتبر مثلا مذاهب الفقهاء ومدارس المتكلمين مجرد حركات، من جهة تساند تناحر الجماعات السياسية للهيمنة في مجال السلطة، ومن جهة أخرى تساهم في التنكر لمقتضيات التاريخ، سواء ما تعلق منه بتعاقب الأحداث أو ما ارتبط بتجدد أحوال الإنسان، ثم إنكاره على الفكر الإسلامي التوجيه الديني لتصوراته وآرائه وأنساقه النظرية.
يصبح مبررا التعرض لفقه التقليد، وكشف تناقضاته، ورصد عجزه، ليكون مدخلا مشروعا لطرح قضية بتجديد أصول الفقه، ومن ثمة تجديد آليات الاشتغال العقلي الإسلامي. ونبقى تحديدا مع فقه التقليد، ويقصد به المؤلف ذلك الركام من العلوم الشرعية المسيطر على عقولنا، والذي اكسبه التاريخ مناعة وقدسية. وأصبح الإسلام لا يفهم إلا من داخل بنية هذه العلوم الموروثة، مع أن الجميع يقر بأنها علوم أصابها من عوائد الزمان ما حولها إلى مجرد أثر تاريخي، وتراث عاجز عن تأطير عقل المسلم، وتسديد حياته. بل أصبح هذا العلم الشرعي الموروث أداة لاستبعاد عقل المسلم من صراع عالم الشهادة إلى جدال عالم الغيب. وإذلاله بمقولات المحنط، وأصبح مكرها على الإطلاع عليه بحسب مناهج التلقين والتكرار، ولا يسمح له بالنقد أبدا، وإذا ما حاول، فسدنة التراث الفقهي، من خريجي الجامعات والمعاهد الشرعية سيكونون له بالمرصاد. هؤلاء السدنة الذين تحولوا إلى رجال دين، بالمعنى "المسيحي"، وشكلوا كهنوتا، وسلطة ردع، ضد من يحاول إعمال عقله، وتناول تلك العلوم بالمراجعة والتقويم، أو حتى عن سولت له نفسه مجرد ذلك، بدعوى أن ليس في الإمكان إبداع أكثر مما كان. فإنكار المحافظين المتزمتين ظاهرة تتحرك في وجه كل اجتهاد جديد وتنشط بقدر هجمة حملات التجديد. إلا أن القيام بتكاليف الاجتهاد، وزرع بذور التجديد في مثل ظروفنا، يتطلب جرأة في الرأي، وقوة في الصبر على ضغوط المحافظين لاسيما وأن التجديد سيكون شاملا، وسيعمل على إحداث ثورة تصلح الأصول مع الفروع.
لقد عرف منهج التربية في التاريخ الإسلامي انحرافا حادا، وكان له الأثر السلبي المباشر على تطور المناهج العلمية، ثم على صياغة الشخصية المسلمة، إذ في ظل تحولات تاريخية وسياسية، سعت الأجهزة الحاكمة المستفيدة مما آلت إليه التدافعات السياسية، إلى بث روح المسكنة والذل والخضوع، واعتزال الناس، والاهتمام بخويصة النفس عند المسلم. ودعمت هذا التوجه تربية متورعة خجولة وغير مقدامة، ما فتئت تذكر بالخوف من الله، واتقاء الشبهات والمحارم. وحرفت هذه التربية مشروع الإسلام، معرفيا ومنهجيا، إلى خلاص أخروي وأناني، يعيش على الوهم، ويقفز على قيم الاستخلاف، والتوكل، والتسخير. لقد أصبح التقليد في العلوم الإسلامية، وعلم أصول الفقه على الخصوص، يشكلان سرطانا في جسم الأمة، ذلك النوع السرطاني الذي استطاع التكيف مع الجسم، وخلق علاقات حميمية مع بقية الأعضاء، حتى أصبح يطمأن إليه، بل وأصبح جزءا لا يتجزأ من التركيبة العضوية للجسم، يصعب الاستغناء عنه، وإلا كيف نفسر هذا التشبث المتين بهذا الفقه التقليدي، وعدم السماح لأي كان بنقده!
إن هذا الوضع في حاجة إلى دراسات نفسية واجتماعية، تكشف عن المركبات المتحكمة في الالتحام بالتقليد، والاحتماء بأمجاده وأيامه السعيدة، وطمس عثاته، والمبالغة في تضخيم حسناته. والتحليل النفسي يذهب إلى أن أكثر العناصر استلابا وقهرا في المجتمع المتخلف، هي أشدها عدوانية وعنفا على من حاول التمرد على التقاليد وتحدي المعايير وخرقها. ويمكن ملاحظة هذه المعطيات النفسية عند الممتلئين بالعلوم الشرعية، ممن يتصدون اليوم للإفتاء والوعظ والإرشاد، إذ تلحظ في خطاباتهم، مركبات البؤس، وفقر المعرفة، وهزال المنهج، وضمور الإبداع والنقد، لصالح الاستشهاد واستحضار النصوص والأقوال والإحالة على الخلف، والإفتاء وفق منهج احتياطي حال دون اتساع دائرة الفقه، فحاصرها وتجاوزها، بل تجده من تلقاء نفسه يراعي التحفظات اللازمة.
§ مسك الختام النقدي
من بين أهم خلاصات المبحث القيم، التركيز على أن العقل المسلم يبقى في حاجة ماسة إلى يقظة منهجية حقيقية، تكون بدايتها بتفكيك بنية الخطاب القديم، وفرز قطاعاته، وتصنيف مفاهيمه، وكشف تناقضاته، وتوسيع آفاقه. وإذا كان التراث المنهجي القديم قد تعرض لعملية تضييع مروعة، مما أفقد العقل المسلم المعاصر توازنه ورؤيته الموضوعية إلى الماضين فإن الكتابات المنهجية الحديثة التي أشار المؤلف إلى بعض ممثليها (طه عبد الرحمن، طه جابر العلواني، محمد أبو القاسم حاج حمد ومصطفى بوهندي) يمكن أن تكون منطلقا توجيهيا لبداية تلمس طريق الوضوح المنهجي، والرؤية المعرفية. فهذه النماذج الأربعة، وغيرها مما لم يشير إليها المؤلف، دشنت عهدا جديدا في الخطاب المعرفي الإسلامي، الذي يحاول إخراج العقل المسلم من سجون الحزبية، وفضاءات المذهبية. هذا الخطاب الذي أصبح يعرف إقبالا كبيرا من الشباب الإسلامي الذين كادوا يختنقون داخل التنظيمات، تحت وطأة تيار سلفي مهيمن، أحكم إغلاق كل منافذ التجديد والسؤال.
تبقى الفكرة الرئيسية التي يسعى البحث لتوصيلها، الدعوة لتأسيس المداخل المنهجية المناسبة لصياغة المنظومة المعرفية الأصيلة. وهذا لن يتم إلا بعقل مسلم حي وفعال، وما زلت تنقصه هذه المقدمات المنهجية التي تساعده على مساءلة المفاهيم والقواعد والمسلمات والمصطلحات، وأنماط التحليل، ومن أجل البناء وإعادة البناء، في ضوء العمليات البحثية الدقيقة، وإجراءاتها المتناسقة. فبدون وضوح منهجي، وتأصيل منهجين وتفكير في المفاهيم، لن تتطور القدرة الفكرية، ولن تصاغ المنظومة المعرفية.
نترك مسك الختام لمؤلف غيور استفزته التلاعب بالتراث من قبل التقليديين، وبخسه من قبل أقلام الحداثة المقلدة، ملحا على حتمية التفكير بصوت مرتفع، والاجتهاد، وتجاوز سلطة الأقدمين، وتحطيم كل الحواجز المعيقة لانطلاقة العقل، وفتح الباب أمام المفكر المنفعل بالدين.