المعرفة المقاومة وامتلاك فلسفة التاريخ
يتعين أحياناً كثيرةً ألاّ نمنح الأفكار معناها الكامل أو على الأقل وجب وضع القضايا المتلقاة في ظرف من التكثيف الدلالي غير الحقيقي. نتحدث عن أشكال هجينة من الأفكار وجب النظر إليها في سياق غلب الميتافورا المهيمنة على الفكر الشقي. فحينما استيقظ العالم على تغريدة نهاية التاريخ، كان الأمر يتعلق بواحدة من مجازات زماننا الحضاري المتحير في فوضاه العارمة. بينما الحقيقة خلف هذيان الميتافورا المشبعة بسكر اللاّمعنى هو أن بدايات حقيقية كانت تنحت معناها بصعوبة لكن أيضاً بإمعان. إن ما حدث بالفعل يومها أن العالم فقد اليقين بسلامة الأنساق وجبروت حراسها. كسر الحصار وهدم الجدران لتنساب الأفكار انسياب الماء بحثاً عن جداول جديدة تعرف أن تسلك إليها بحراكها وتداعيها الحر، لتعانق نماذج مختلفة تحتلها وتعيد اكتشاف جدواها في مركّبات جديدة أكثر غنى وأكثر بساطة. وهكذا بات واضحاً أننا نتّجه إلى ضرب من الاقتصاد في الأيديولوجيا، لصالح مصالحات وتوفيقات تجتمع في باحاتها كل أجناس الأفكار وتراكماتها لتنتمي هذه المرة بصفتها أفكاراً وليس أنساقاً في تركّبات جديدة وافتراضية وحدها ما يمنح التاريخ بدايات جديدة وتحولات كبرى.
لقد بات واضحاً أننا نواجه تحديات معرفية جديدة على خلفية آثار وتداعيات الفعل المقاوم بعد أن فتح الحياة على عصر الانتصار. والانتصار كما يجب ألَّا يخفى يفرض تحدياته المثقلة التي تفوق في خطورتها تحديات الهزيمة. فمن جهة يكون من واجب المنتصر أن يحمي مكتسبات انتصاره جدًّا. ومن جهة أخرى يكون من واجبه أن يطور مستوى انتصاره أكثر. يجب على المنتصر أن يحقق انتصاراته على مستوى الفكر والوعي بالقدر نفسه الذي يحقق فيه انتصاراته في الميدان. وقد بات واضحاً أنه عبر تجارب الأفكار، أن لا قيام لثورة من دون نظرية ثورية. كما لا قيام لنهضة من دون وجود فكر نهضوي. ووجب القول: أن لا مقاومة من دون نظرية مقاومة وعقل مقاوم. فالعقل المقاوم هو عقل مفتوح على كل إمكانات المعرفة المفتوحة على كل هذه السيولة من تجارب البشر منذ إعلان نهاية تاريخ الأيديولوجيات، أي مع بداية تحرر الأفكار وتركباتها الجديدة. وروح المقاومة هي من العمق بحيث تمنح فرصة تمثل أنجح ما فكرت به العقول وما أنتجه الفكر. وفي هذا السياق كان من الضروري تطوير رؤية عن روح المقاومة وفلسفتها بما يحقق شكلاً من التكييفانية الخلاّقة للفعل المقاوم مع إلحاحات الفكر المعاصر ونماذج المعرفة المعاصرة والروح العلمي والفلسفي الحديث. إن روح المقاومة تعلن عن ميلادها الجديد من ركام نهاية التاريخ بالمعنى المجازي الذي شكل انعطافة لتولدات فكرية جديدة ومتينة التركيب خارج أنساقها التقليدية المعطلة. بتعبير آخر، إننا نجد أنفسنا لسنا في وارد الصياغة المعرفية المتقدمة للفعل المقاوم فحسب، بل إننا لن نظفر بفكر مقاوم دون أن نخوض ضرباً من المقاومة المعرفية ضد سلطة الأفكار وهيمنة الأنساق واستبداد المفاهيم. إن مقاومة أخرى على صعيد القول الفلسفي تقتضي منا صموداً حادًّا وبناء استراتيجيات دقيقة ومناورات من داخل هذه الأنساق سعياً إلى تحقيق انتصارات جديدة في مربعات متقدمة في صراع المعرفة وتوظيفها لصالح المطالب العادلة للإنسان. من هنا لا مقاومة من دون معرفة مقاومة. وحد المعرفة المقاومة أن تستجيب لشروط المعرفة المعاصرة والانخراط في استشكالاتها الإبستيمولوجية والفلسفية بالنقد والاستدماج والاستنهاج والاستفهام. فلسنا نطلب حظًّا من الاستشكالات المعرفية قديماً. وهذا ما يستدعي الخوض في أفق ما نسميه بالتبني الحضاري والتجديد الجذري بأوالياته ومبادئه ومنهجيته التي نلخصها في الآتي:
* الدين تعاليم وليس نظيمة أيديولوجية
يكفي لفهم هذه الحقيقة أن الدين يوفر من التعاليم ما تتفاوت حوله العقول في الجيل الواحد وداخل الثقافة الواحدة بل داخل النظيمة الواحدة. هناك معايير لتحقق المعرفة الدينية وعدم الشطط في الفهم وفي استعمال سلطة الدين أيضاً. وهذا معناه أننا أمام مصدر خام من المعرفة يتيح للعقل أن يتعاطى معه بمستويات من التقدم والتطور لا تحد ولا تحصى، حيث بمقدار تفوق الوجود يتحقق نوع من تفوق المعرفة. إن المطلوب بموجب التبني الحضاري والتجديد الجذري أن التعاليم يعاد بناؤها وفق تطور المعرفة ليس بتسليط هذه الاستشكالات عليها بل بإقحام السؤال الديني فيها. لأن قيمته في امتلاكه جدارة الانخراط في القضايا المعاصرة بحيوية وقدرة على مقاومة الاضمحلال. إن تعاليمنا الدينية نفسها تسعى دوماً إلى تحقيق قدر عالٍ من التكييفانية الخلّاقة ومقاومة عناصر الإعاقة. أي كيف تجعل التعاليم تعيد تنسيق نفسها وتصبح منتجة بحيث لا مجال لتجاوزها. وهذا لا يتم فقط بالتكييفانية السلبية بل بالتكييفانية الخلّاقة التي تجعل فلسفة الدين نفسها تنخرط في إحراجات العصر عبر محاصرة الفكر الحديث بجملة من الاستشكالات لوضعه في مربع التحدي إزاء القضية الدينية. وتركيزي على التعاليم الدينية نابع من أنها وحدها من بين هذا التراث، تقدم نفسها خارج منطق الزمان. وعليه، فكل ما تلابس بها من خارج الدين هو واقع في منطق التغيير والتجديد. لأنه لا يلزمنا بالضرورة إلا بمقدار ما يثبت نجاعته. والدين وحده كفيل بأن يحررنا من باقي التراث. لأن الدين وحده يجعلنا أقدر على مقاومة أبوية التراث بوصفه متقدماً علينا في الزمان. وكان لا بد أن ندرك أن التقدم والتّأخر في الزمان في مسارات التاريخ ليس بالضرورة معتبراً. فالمعول عليه هو التقدم والتأخر في الرتبة وشرف الوجود. من هنا يمكن أن يتقدم الحاضر روحيًّا ورمزيًّا على الماضي بل يغدو شاهداً عليه. وحيث إن التعاليم تعيد إنتاج نفسها مع كل مرتبة من مراتب وجودنا العقلي، فإن مبدأ التطور والحركة والانتظار تظل شرطاً ضروريًّا لتحقيق التفوّق والتكييفانية الخلّاقة. وهنا لا بد من اعتبار أن لا وجود للثابت فيما يتصل بالعقل إلا ماهيته المنحفظة التي تنشد كمالها. وهي من حيث هي كذلك تتحرك دونما انقلاب في ماهيتها. من هنا تحدثنا عن فكرة (الثابت المتحول) دون واو العطف. فما يبدو ثابتاً هو متحول نحو تحول. لذا رفضنا ثنائية (الثابت والمتحول)، لأنها لا تؤدي الغرض وفيها قصور فلسفي. لأن كل شيء متحرك حتى الجواهر. أما الخوف من أن يطال هذا المبدأ ذاته تعالى فبعيد وخارج تخصُّصاً لجهة أنه منزّه نحو تنزيه عن الثبات والحركة معاً. لأن ذاته غير معروفة. لأننا إذا ثبتناه حيّزناه وإذا حركناه حيّزناه وفي كليهما نقّصناه وهو الكمال حتى دون قيد المطلق. وحتى التنزيه في حقه يصبح حجاباً نوريًّا يحجب ذاته المتعالية. التنزيه برسم مداركنا العقلية لا حقيقته تعالى، حيث حقيقته كونه بسيط الأشياء الذي هو كل الأشياء. فالتنزيه مطلقاً هاهنا يصبح مشكلاً في حق المعتقد بالله تعالى: فالتقييد بالإطلاق شرك ولو بالله كما يقول بعض العارفين. فأطلق الحركة لما دونه تفهم العالم.
وواحدة من مقومات التبني الحضاري والتجديد الجذري، أن الحل المستقبلي يجد تصميمه في مشروع مستقبلي يجعل الحاضر حاكم على الماضي. فهو مشروع مستقبلي يؤمن بسنة التراكم والتوالد المعرفي والتخارجات التاريخية للبنى المنفعلة جوانيًّا نحو انفعال مهما حاولنا فهمه تفصيلاً لن نوفق، لأن منطق تفاعل البنى هو من التعقيد والاحتمالية ما لا يتمكن الوعي من استيعابه جميعه. فالعلم هنا مجمل غير مفصل. والتفاعل في أعمه الأغلب يتم خارج نطاق الوعي. فالانتظار ضرورة مع تكثيف الفعل الإيجابي في ضوء الرؤية المجملة للمصير. لأن لا أحد حتى النقيض سيدرك من مصيره أمراً تفصيليًّا يقينيًّا. وإنما اليقين هنا له بُعد آخر يوجد عرفاناً لا معرفة. البنية تكشف عن تخارجها الافتراضي لحظة اشتداد الفعل. وهذا ما يعني حدوث التحولات التاريخية الكبرى. فهي تحولات لسنا نحن من يحدد زمانها. لكننا نملك الفعل فيها. وبما أن الفعل هنا يتغيّا إحداث التحول في صلب واقع تاريخي وجب في حقه التحول، كان لا بد من تكثيف الفعل ومضاعفته. أي أن الفعل التحويلي التاريخي يبدأ أول ما يبدأ بالفعل المقاوم. فالمقاومة هي الدرجة الصفر للتغيير التاريخي. ومع وجود المقاومة حتماً تنطلق ماكينة التغيير التاريخي. كما أن مع وجود المقاومة يصبح عبثاً الحديث عن نهاية التاريخ.
إن أهم ركيزة من ركائز التبني الحضاري والتجديد الجذري، أن التعاطي مع التعاليم برسم النجاة الفردية من شأنه أن يحقق التحول الفرداني والنجاة الشخصية. لكن المقصود من التبني الحضاري ها هنا هو الارتقاء بالتبني من مطالب الشخص إلى مطالب الأمة.. من التمثل الفردي السلبي إلى التمثل الجماعي النسقي الإيجابي.. أي كيف تصبح الأمة راشدة متقدمة فاعلة. وهذا ما يجعل الأمر يتوقف على مقاومة بحجم المطلب التاريخي للأمة.
وعليه، إذا تبين ما المقصود من التبني الحضاري والتجديد الجذري وركائزه المشروعة، تأكد أن المعرفة المقاومة هي معرفة متطورة تقاوم التلبد والحصر والضعف. وهي معرفة تُنشئ باستمرار علاقات حيوية مع تعاليمها. إنها بتعبير أكثر مجازاً لا تستحم في نهر تعاليمها مرتين. ففي كل طور تنشئ أشرف علاقة مع قيمها. إنها إذن معرفة تسلك مسلك التكييفانية الخلّاقة مع منتجات عصرها في كل مديات النشاط المعاصر بدءاً من البنى الفوقية حتى البنى التحتية. وهي لا ترى ما يوجب ثباتها في المرتبة الواحدة بل هي متقدمة في وعيها وأدائها بما يتيحه لها بدل الوسع الحقيقي في تحديث نفسها. إن الظلامية لا تشرفها لأنها تؤمن بحكمة الإشراق[2]. والرجعية لا تشرفها لأنها تتشوق إلى الكمال المنتظر. والتداني لا يشرفها لأنها متسامية إلى الحكمة المتعالية. لا أقصد هنا خصوص التمذهب الفلسفي بل عموم التوصيف المفهومي واللغوي. فالإشراق خاصية القول الإسلامي ومن شذّ عنه افتضح. والتعالي سر فلسفته من رام غيره هلك. إنها بتعبير آخر خاصية الإشراق والتعالي والانتظار: ثلاث مميزات للفكر الإسلامي عموماً وللفكر المقاوم خصوصاً.
ثمة محاولات لوصف المقاومة بأنها النقيض لهذه المقومات الثلاثة. أي أنهم يصفونها بالرجعية والظلامية ليضعوها موضع النقيض الأيديولوجي للتنوير وفكرة التقدم.. وأيضاً يصفونها بأنها انحطاط يناقض الموقف العقلاني.. كما يصفونها بأنها يأس واسترخاص للحياة والتقدم واستهتار بالبنى التحتية... أي نقيض للأمل والبناء. وهنا وجب عدم التسليم بهذا التوصيف المفتعل الذي انطلقت ماكينته التنميطية بشكل واضح خلال معارك تموز وحرب غزة حد السّعار.
خاصية الإشراق - التنوير
بين أشكال التّمثلات الممكنة، تكون النجاعة والقدرة على الفعل والفاعلية علامات التمثل التنويري. وهو خاصية مميزة سواء أتعلقت بالفكر الديني أو سواه. فالذي يضفي هذه الصفة هو الحامل الشخصي لهذا التمثل ومدى استعداده للفعل الإيجابي. وقد وصف الدين نفسه بأنه رسالة ذات وظيفة تنويرية: إخراج الناس من الظلمات إلى النور. ووصف الله -وله المثل الأعلى- نفسه بالنور ورسالته بالنور، وجعل السير في هذا الممشى النوراني تحصيلاً للنور، ونوراً على نور. فلا يعقل أن يصبح الحامل الفردي أو الجماعي لمحتوى ومضمون التعاليم على طرف نقيض من النور. فالظلامية لا يمكن أن تجري على من تحولت التعاليم في خبرته مع نفسه وتجاه العالم إلى نور. إن الظلامية هي النقيض للمقاومة. لأن هذه الأخيرة تسعى لتحرير النوع وإطلاق طاقاتهم الإبداعية واستعادة الكرامة واستيساع الرحمة. فمتى رأينا مظاهر الظلامية وجب التشكيك في كفاءة الحامل. لأن الرسالة جعلت مقاصدها في التنوير لا في الظلامية. وهذا يتحقق أكثر مع التثقيف المستدام للمقاومة أيضاً. ما يعني أن المقاومة ليست فعلاً ممانعاً فقط وليست فعلاً عسكريًّا فقط، بل هي فعل إيجابي لا تحتل منه الممانعة سوى شرطاً من شروطه الأولية. فيما هي من جهة أخرى فعل جامع: سياسي ومعرفي وثقافي وحضاري. ويبدو أن حظّ المقاومة في العالمين العربي والإسلامي هي في ازدياد من حيث تطور أدائها التقني وخطابها العقلاني. فهي تتطور بحاملها في اتجاه التمثل الأرقى للتعاليم. وهي تفيد من أخطاء الحامل التاريخية لصالح مستقبل أفضل. حظ المقاومة أنها في طليعة المطالب الكبرى للجماهير العربية والمسلمة، وفي أولويتها مطلب التحرر من آخر أشكال الاحتلالات خطورة في المنطقة. وقد أجادت المقاومة حتى في ثقافتها الطليعية اليوم حيث تنهل من تراثها وثقافتها المحلية مانحة الدين عنوان لاهوت التحرير، فيما كان من شأنها أن تقلب المنظار التقليدي الذي تذرعت به القوى المناهضة للدين من حيث كان ووجب أن يظل خارج تطلع الأمة في التحرير والنهضة والتقدم. وذلك قبل أن يصبح الدين هو الملهم الأكبر -رغم ما يصلنا هنا وهناك من تصرفات وسلوكات حمقاء لبعض الحامل لهذا الدين- لحركة التحرر والتقدم، ما يفرض تعديلاً في الرؤية التقليدية تلك وإحداث قطيعة مع الرؤى التقليدية للدين التي حاربته بالأنوار وفكرة التقدم وأيديولوجيا التحرر قبل أن تجده في صلبها يمنحها من السحر والباعثية ما لم تعد تقدمه أي أيديولوجيا أخرى. ما يعني أن المقاومة كان لها الفضل في فرض إعادة السؤال على مجمل أحكام القيمة التي كانت تسعى لاستبعاد أهم مقومات القوة في روح التحرر عند المحلّي. وهي إذ تفرض ذلك وجب أن تكون في مستوى هذا التحول، بمزيد من تطوير أدائها وتنوير فكرها.
خاصية الانتظار - أمل الشعوب
الذي جعل العالم يقبل بخطاب العدمية منذ أن لم يعد للأيديولوجيا الشيوعية ظهراً يحمي تطلعاتها مع انهيار الاتحاد السوفيتي، هو بلوغه حافة اليأس. إن البشرية لن تقبل أن تحلم بمستقبل لا يحمل ضمانات حقيقية لتحققه على النحو الأفضل. وقد لا توجد اليوم أيديولوجيا تستطيع أن تمنح العالم ضمانات على مدى قدرتها على تحقيق حلم البشرية في الرفاهية والعدالة والتحرر. حتى الليبرالية التي لا زالت تستقوي على باقي نظائرها باتصالها المباشر بغرائز النوع ورغباتهم ونزعتهم الاستهلاكية الآنية لم تعد في ظل الانهيار الذي تواجهه سوق العملات العالمية وهشاشة النظام الاقتصادي الرأسمالي اليوم في كبرى مراكزه، لم تعد قادرة أن تمنح ضمانات حقيقية تعيد للناس الثقة في نجاعة النظام الرأسمالي. إنها مرحلة جديدة في دوّامة اليأس من كافة الأيديولوجيات، ليس في مدى واقعيتها المشكوك فيها، بل أيضاً في أن المعرفة الدينية تتطور من خلال انفتاح حاملها على علوم الإنسان نفسها في صياغة الفهم الديني الأنجع وبناء فلسفة للدين تملك تقديم تفسير لما لم تملك باقي الأنساق تفسيره، بخلاف غيرها من الأيديولوجيات التي لم تعد تملك أن تطور في مفاهيمها وتصوراتها. وهنا أتحدث عن الأيديولوجيات لا عن المعرفة. فالمعرفة تتطور في عالمنا بشكل أكثر إيجابية من الأيديولوجيات. فهذه الأخيرة لا زالت تحتفظ بمقدماتها وقواعد تفكيرها وأحكامها في عالم تتغير معارفه وتتحول أنساقه. اليوم بتنا أمام حتمية الفاعل الديني والروحي الذي أظهر أنه ليس فقط قادراً على منح حامله بعضاً من الدفع الروحي، بل إنه نجح في منح الطمأنينة لحامله وللمجتمع بصورة لا تُضاهى. فالمستقبل في المنظور الديني أكثر استقراراً وحيوية من كل المنظورات الأخرى. وحينما تستدخل المعرفة الدينية مفاهيم جديدة في فهم المستقبل وتندمج معها، تحدث حيوية أكثر وطمأنينة أكبر. إن القوة التي يمنحها مبدأ الانتظار والأمل في المستقبل لا تعادلها قوة. وحتماً إن القوة الأكثر اطمئناناً للمستقبل والأكثر إيماناً بانفتاح التاريخ على الإمكان هي وحدها من تمنح حاملها قوة أكبر على الممانعة وروحاً لا ينضب لمقاومة المحتل.
خاصية التعالي: الشعور بالنصر ورفض الهزيمة والاستسلام
حظّ لاهوت التحرير بالجملة من هذا الشعور ليس غايته معاقرة التعالي بخصوص النخب إلى مراتب الميتا-بشرية. بل حظّه بعث الناس إلى هذه المراقي التي يتفوقون فيها وينتصرون بها على ضعفهم وقصورهم. فرصة الإحساس بالتعالي يوزع بالسوية على الناس متى تعلقوا بحقائق هذه التعاليم. وهم وحدهم من يملك الارتقاء فيها وبها. وهذه الخاصية وحدها تمنع أصحابها من القبول بالهزيمة والاستسلام والتخلّي عن الكرامة. لأن كل هذا مرهون بوجودهم من حيث هو وجود متعالٍ تصل مطالب الحق والعدل والكرامة فيها حدّ «نكون أو لا نكون». إنها ليست مطالبهم في الوجود بل هي مطالبهم مع الوجود وبه.
وحيث باتت كل هذه الخصائص عنوان نحوٍ ما من أنحاء هذا الوجود المقاوم، كان لا بد أن تنفتح المعرفة المقاومة على حقائق الوجود وفلسفته وصلته بالرتب والزمان وغيرها من المفاهيم الضرورية في بناء فلسفة مقاومة تعي دورها التاريخي كما تعي مرتبتها في الوجود.
في قيمة الزمان وأهميته المفهومية
ليس الزمان مجرد قيمة مضافة، بل هو القيمة نفسها مذ غدا وعاءً للفعل ومساراً للوجود. بل هو تعبير عن مخاضات الوجود. ببساطة إنه الوجود في حالاته المختلفة وأنحائه المتعددة. فلو اعتبرنا بجدية ما رامه هيدغر من أن اللغة مأوى الوجود -وهي كذلك مذ كان الوجود لا يقوى على التعبير عن نفسه إلاّ من خلال اللغة- فإن الزمان هو كيفية تحقق الوجود ومعيار حضوره. السبب واضح: إننا نفقد الزمان مع فقد الوجود، حتى لو أمكننا تخييلاً تصورهما على نحو من الوجود المستقل غير المحايث: تصوراً لا يبرح صقع الذهن المحض. وحيث وجب التذكير بأن سقف حديثنا هنا يتحدد بالمتعين على سبيل الإمكان لا على سبيل المطلق. أي أن مقصودنا بالوجود الزماني بهذا المعنى هو ما يقع في صقع الإمكان والفقر الوجودي. فالزمانية هي عنوان هذا الفقر. ومن هنا أمكننا القول أيضاً: إن التاريخ عنوان فقر وجودنا الجماعي. على أن هذا الفقر هو ما يمنح لحركة التقدم معنى في الزمان ويجعلها مطلباً دائماً في الوجود. فلأن وجودنا الفقير أي الزماني في حالة شعور بالنقيصة وجب الارتقاء به إلى أرقى كمالاته. وحينما يواجه الوجود ما يعيق انطلاقه في مراقي الكمالات، ويحس بأن زمانيته باتت مستوقفة بعناصر الحصر والإكراه، أي أحس بالعدم، وجب أن يثبت جدارته في الوجود أولاً وفي التقدم بالوجود ثانياً عبر الفعل المقاوم. فتكون المقاومة في مثل هذه الحالة عنوان الإصرار على الوجود ورفضاً للعدم.
لقد كان إدخال الزمن في الفيزياء الجديدة باعتباره البعد الرابع فتحاً عظيماً نقل الفيزياء من طور إلى آخر جعلنا نعيد النظر في أصول المادية التقليدية بما فيها امتدادها الحديث في الميكانيكا النيوتونية، إلى حدّ باتت الفيزياء الجديدة أقرب إلى منطق الغيب منها إلى منطق المادة، لكثرة خضوعها للنسبي وعدم التوقع واللّادقّة. وقد ازدادت أهمية الزمان حينما تعدّى الأبعاد الأخرى حتى بات هو البعد الأساسي الذي يحدد مصير العالم، ما جعلنا ندخل نموذجاً جديداً يهمل كل شيء ولا يكاد يبقي إلاّ على مفهوم الزمان بوصفه المعامل الأقوى والمتغير الأهم في معادلة تكوّن الظواهر الفيزيائية. وهو الزمن الذي لم يعد يجد معناه في الملاء فحسب، حتى لو تعلق الأمر بالمجال الفيزيائي، بل أحياناً يجد معناه في الفراغ منذ بدأنا نتحدث عن الدرجة الصفر للزمان: (T0)، التي لعبت في الفيزياء الجديدة ما لعبه الـ(الصفر) في الرياضيات الحديثة.
كما كان للزمن مدخلية في تحديد قيمة السلع إيذاناً بدخول أكثر المراحل جدية في مسارات الاقتصاد السياسي -مع ظهور الكلاسيك- ما كان لماركس أن يغير منها سوى بافتعال الزمن الضروري اجتماعيًّا لإنتاج السلع. والزمان الجماعي أو الاجتماعي هنا تعود قيمته إلى عوارض الزمان لا إلى حقيقته، باعتباره زماناً مكثفاً ومعقداً وليس زماناً بسيطاً كما هو الزمان الفردي. والإضافة الماركسية هنا تكمن في أنها أضافت للزمان ما هو من صميم ما به الاشتراك؛ أي الزمان نفسه بوصفه تكثيفاً بفعل عارض الاجتماع الذي يمنح القيمة للسلع والخدمات: الزمان الاجتماعي. وهي بذلك لم تغير من حقيقة دور الزمان في خلق القيمة، بقدر ما عزّزت من دوره ذاك ومنحته التكثيف اللازم الذي أغضى عنه جمهور الكلاسيك منذ آدام سميت ومروراً بريكاردوا وجون ستيوارت ميل. وعلى أساس هذا الدخول الملكي للزمان في اعتبار صناعة الثروة وخلق القيمة، حدثت الثورة الكبرى في الاقتصاد وإنتاج الثروة وكل مظاهر التحولات الاقتصادية العالمية المشهودة.
ولا يزال التحليل النفسي يعير الاهتمام للزمان ليجعل أعراض الحاضر شاهداً على خطأ في السلوك الماضي، وهو الأمر الذي سيدفع مؤسسه سيغموند فرويد لوضع عمل كامل للحديث عن زمن الحرب دفعاً بالتحليل النفسي إلى اكتساب الكثير من المعنى والفهم للظواهر النفسية. أي انتصار الحاضر على الماضي بمحاكمته والكشف عن التباساته وتدارك أخطائه.
وكان التاريخ أيضاً علماً خطيراً بتعبير فاليري لوقوعه في الزمان. باختصار شديد إن الزمان دخل عالم المعرفة بامتياز. وما كان للمعرفة مذّاك إلا أن تأخذ بعدها في الزمن -نسبية الحقيقة- وما كان للزمن إلاّ أن يجد معناه في جدل المعرفة -الزمان النسبي-. ففي هذا الجدل بدا واضحاً أننا أمام تاريخانية المعرفة بقدر ما نحن أمام الزمان بوصفه النتاج الأخير لسلطة المعرفة. فالمنتصرون هم من يمتلك سلطة الزمان وتوظيف المعرفة في الزمان. فالغالب والمنتصر هو من يكتب التاريخ. كما أن الغالب والمنتصر هو من يحدد كيفية نشوء الأفكار وهيمنة نماذجها وتشكل سلطانها في شتى الحقول وعلى الضمير العلمي والأخلاقي. لقد ولّى عصر الحقيقة المطلقة كما ولّى عهد الزمان المطلق. وليس أمامنا ولا وراءنا سوى منسوب من المعرفة والزمان في جدلهما المتكافئ وغير المتكافئ أحياناً كثيرة. وفيهما نعلن انتصاراتنا كما فيهما فقط نعلن هزائمنا. وعليه، كان لا بد أن يقال: إن الهزيمة التي يراد لها اليوم أن تصبح الحقيقة المطلقة المساوقة للوجود العربي، كما النصر هو الحقيقة المطلقة المساوقة للوجود الصهيوني، ليست كذلك. فالنصر نسبي والهزيمة كذلك. ومن يجعلها مطلقة هو إرادة النصر وإرادة الحقيقة من جانب أو إرادة الهزيمة وإرادة الباطل من جهة أخرى. نعم، كان لا بد أن يقال: إن الهزيمة هي الأخرى خيار وليست أمراً مرفوضاً إلى الأبد. ثمة في مواجهة ما تنهض به المقاومة ويضمنه رَوحها المتدفق، إرادة الهزيمة. ومن هنا علينا قراءة الحدث المقاوم وفلسفته في ضوء أهمية الزمان وتخارجاته، باعتباره مفتاح فهم العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل. ذلك من منطلق أن سؤال المقاومة هو سؤال الزمان. فالمقاومة تحاكم الماضي وتغيّر الحاضر وتصنع المستقبل.
كان من الضروري إذن في ضوء المعطيات السابقة الذكر، مقاربة المقاومة انطلاقاً من فلسفة الزمان المعاصرة ليس من حيث ضرورة تعميم الباراديغم الفلسفي الحديث على باقي حقول المعرفة المعاصرة وتأويل حوادث العصر -حيث لسنا ها هنا بصدد مقاربة إبستيمولوجية- بل لأن المقاومة هي هذا المركّب الذي يحتوي على كل أبعاد الظاهرة الزمانية سواء تجلت في بعدها الفيزيقي أو الميتافيزيقي. فالمقاومة هي فعل مركب تتجلى فيه كل قوانين الكون كما تتجلى فيه كل قواعد المعقول الفلسفي. أي لنجرب أن نطبع العلاقة بين المقاومة والمعرفة في اتجاه يمنحها القدرة على إنجاز ثورتها الكونية وإحداث التحولات الكبرى في صميم مفهوماتها وممارساتها. ويبدو أن ذلك يتوقف على طريقة مقاربتنا للزمانية المقاومة ومدى نجاحنا في استدخال متغير الزمان في معادلة المقاومة والصمود على صعيد علم الحرب. وهذا في تصورنا يتطلب أن يستمر الفعل المقاوم ويراكم من إنجازاته ليتمكن من إحداث الطفرة في صميم منظوراته وفلسفته وقيمته في مجمل المعرفة والحقائق المعاصرة. فالتعاطي مع الحدث المقاوم كما لو كان حدثاً تاريخيًّا وقع في الماضي فيما روحه تراجعت وآن لها أن تتراجع أمام وهم الأمر الواقع الذي تحدثه قوة البارود والسياسات القائمة على التزييف والدعاية السمراء وفرض المعنى الخاطئ لتاريخ الصراع، هذا من شأنه أن يجعل المقاومة خارج منطق المعرفة الحديثة وتاريخها، ويجعلنا لا نقيم لها وزناً في حسابات الحاضر أو المستقبل إلاّ بالمستوى الذي نتفاعل فيها مع أفلام شارلي شابلان بالأبيض والأسود وتضخم سرعة العرض. فكل الظواهر الإنسانية لا تتطور إلا بأن يصبح الزمان عنصراً في معادلة صيرورتها النظرية والعملية. أي حتى نقبض على المعنى الجديد والمتحول للمقاومة عليها أن توجد دائماً وتستمر في الزمان. فإذا ما أصبحت جزءاً من تراثنا، فإن عوامل التعرية كفيلة بجعلها من أحجيات الماضي. وهذا في تقديرنا ما يسعى إليه دعاة التسوية على أرضية غير مقاومة.
* التشارك في الكون الفيزيقي
أقصد بذلك أن المقاومة هي مثال أكبر لما تتقوم به الحركة الكونية في علم الأرض أو الفضاء. فهو مجال للفعل ورد الفعل. الحقيقة التي كرستها الميكانيكا بالتعبير النيوتوني الشهير: لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار معاكس له في الاتجاه. وهي الحقيقة التي لم تدرج ضمن الحقائق التي قطعت معها الفيزياء الحديثة. فلا زالت الفيزياء الحديثة تُعنى بردود فعل الأشياء، مع فارق جديد هو أن الفيزياء الحديثة والكوانتا لا تقف عند هذا الحد من الدقة واليقين في رصد ردود الفعل. إننا متى تعمقنا في الفيزياء الميكروسكوبية تعذر علينا التنبؤ والسيطرة على مقاييس الأشياء. ومن هنا لا أحد يتنبأ بمدى ردود الفعل ومداراته إن حدث. وهذا يعني أن الفيزياء الحديثة هي أكثر تواضعاً من الميكانيكا الكلاسيكية في رصد وقياس مدى ردود الأفعال. فضلاً عن أن مجال دراسة ردود الأفعال في الفيزياء الذرية يجعلنا ننظر إلى ردود الأفعال وانعكاساتها بما يفوق مستوى الفعل. فلا ينبغي أن يقال: إن انعكاسات وردود فعل الذرة حين تفجيرها يساوي تقنية تفجيرها التي قد تكون تقنية دقيقة ولكنها ليست في حمولة حجم الدمار الذي يحدثه الانفجار. ومهما كان الأمر فثمة ما يوحي بأن المقاومة كلما احتضنها المجال الصغير كانت ردود فعلها وانعكاساتها أقوى كمًّا ونوعاً. وهذا ما حصل في جنوب لبنان وغزة. فهما مجالان بمقاييس الجغرافيا صغيران. لكن يبدو أن ما لا يجزّأ من الأقاليم قابل لأكبر انفجار وصمود وانعكاس من تلك البلاد الكبيرة العاجزة عن ردود الأفعال. فليس اتفاقاً أن من هذه الأحياز الميكروسكوبية بالمقاييس الجغرافية تنطلق أقوى مقاومة. ويتعين أن نضيف أننا نتحدث هنا بالمقاييس المادية. لكن ماذا لو استدخلنا عناصر أخرى تتعلق بحجم الذكاء البشري وقوة الإيمان التي تجعل الشخص يعادل بالعدد الغفير من خصومه في مواقع الصمود. إذا برحنا عالم الميكروفيزياء وقواعد الميكانيكا، سنجد أن باقي الكائنات الحية من شتى الأجناس يتوقف استمرارها على أساس الصمود والمقاومة. فالبقاء من دون صمود هو تخريف لا يوجد إلا في الإنشاء الاستسلامي لبني البشر. يعلمنا التاريخ أننا اليوم قادرون على أن نكون شهوداً على ما مضى من حياة النوع. لقد منحنا التقدم العلمي ناظوراً صلباً ودقيقاً يكفي لفهم ما جرى وتقييم ما حدث. لقد عاش الإنسان يجهل الكثير من الظواهر من حوله. وبعض من تلك الظواهر كانت تتهدد وجوده في كل حين. وهي لا تتوقف في نشاطها بحراً وجواً وأرضاً حيث لا يعلم عن نشاطها شيئاً. لا سيما ما يتصل بعالم الميكروبات الذي جهله عصر ما قبل باستور جهلاً تامًّا. اليوم فقط ندرك ذلك. ونحصن أنفسنا بوسائل وقائية ومضادات حيوية مختلفة. لكننا لم نتساءل كيف هزم الإنسان بمقاومته الطبيعية كل هذا التحدي الميكروبي وكل الأوبئة طيلة آلاف السنين وهو لا يعرف عن عدوه شيئاً. أقول: حينما يكون هناك إصرار على الوجود وإرادة للبقاء، فلا شيء يمكن أن يهزم الإنسان مهما تفوّق عليه العدو ومهما اختفت خططه الهدامة ومؤامراته القذرة. إن المقاومة لازمة الوجود الحي، وحتمية طبيعية حتى لو اقتضى الأمر أن تصبح مقاومة لا واعية. إن كل ما جعلنا نصمد حتى اليوم أمام كيان منظم جدًّا في شروط عربية مزرية محكومة بالفوضى والارتجالية والغفلة، هو أننا حتى اليوم استطعنا أن نقاوم إسرائيل بوعينا وبلا وعينا.. بالتخطيط وبالطبيعة.. وهذا هو ما يجعل المقاومة ضرورة والنصر حتمية.
ووجب القول: إننا إزاء إسرائيل وجب أن نتعلم من خصومنا. فإسرائيل ظلت في المنطقة طيلة 60 سنة بسبب الدعم اللاّنهائي من المعسكر الغربي وأيضاً نتيجة صمودها. إن أخوف شعب في العالم استطاع عبر صمود ستة ساعات أن يهزم أشجع شعب في العالم ويفرض عليه رهاب الهزيمة لمدة 60 سنة من الزمان. من هنا فإن إسرائيل هي أكثر فهماً لمنطق المقاومة من غيرها، لأنها تدرك أن لا بقاء من دون مقاومة وأن المقاومة تستعمل بجدية، منطقها ذاته في البقاء. فإذا انضافت الشروط الموضوعية المحيطة والمتوفرة للمقاوم الفلسطيني أو اللبناني -عمق عربي وإسلامي على الأقل شعبي، عامل التاريخ والجغرافيا...- فإن هذه المتغيرات في معادلة الصراع ستكون حتماً في صالح المقاومة العربية والإسلامية وليست في صالح إسرائيل مهما ازداد الدعم الغربي لها وبالغ.
* التشارك في الكون الميتافيزيقي
أقصد بالميتافيزيقي هنا التطور الحاصل في المنظورات الفلسفية. ولا أعني به العالم الآخر الذي يشكل لوحده متغيراً أساسيًّا في معادلة الصراع. وعلى ذكر العامل الروحي المتكون على أسس العقائد الإيمانية فإننا نجد أن كل التعاليم الدينية تحث على الصمود والصبر وعدم الاكتراث لما يصيب الذات وعدم طلب غير ذات الشوكة في طلب الكرامة والتحرر والاستقلال. لكن ما نعنيه هنا بالكون الميتافيزيقي هو جملة الأفكار والنظريات التي تراكمت في مجال التفكير الفلسفي بخصوص الزمان، جعل من الزمان نفسه متغلباً على الجغرافيا. ومنها ما له صلة بفلسفة الزمان:
تاريخانية المقاومة أم المقاومة كحدث بنيوي؟
قد يحار الباحث في أي حقل من حقول الاشتغال ووفق أي النماذج المعرفية يتعين معالجة الحدث المقاوم. ويبدو لي أن الأمر هيّن جدًّا ما دمتُ لا أرى خصومة حقيقية بين النزعتين التاريخية والبنيوية، متى نظرنا إليهما خارج الاستحقاقات الأيديولوجية التي تفرض على كل اتجاه وتيّار أن يحتفظ بأحكامه الكلاسيكية وخصومته التاريخية للفكر الذي جاء على أنقاضه. ولكن عدم التقيد بأعراض الخصومة تلك رهين بمستوى تعاطينا مع المفاهيم خارج إكراهات الأيديولوجيا أو على الأقل خارج سلطتها المطلقة. ولا نحتاج أن نطنب أكثر حول أي التعاريف أنجع لتحقيق المصالحة بين التاريخ والبنية لصالح فهم أعمق للمقاومة. لأن مشروعية هذا الترجيح لا تقوم على العبث، بل على مقتضى ما فرضه الحدث المقاوم نفسه من أنه بات حتى اليوم عصيًّا على المقاربة الخالصة لكلا المنظورين. بل لا مجال لفهمه إلاّ بتوافق بين المنظورين دفعاً للمفارقة. فالتاريخ وحده لا يفسر كل أسرار نجاح المقاومة كما أن البنية لا تضعنا أمام كامل الفهم. وحيث أشرنا مراراً إلى هذا النوع من إعلان المصالحة إلى حد التكامل في المنهجية والرؤية بينهما، لمّا اعتبرنا أن البنية لا تفعل إلاّ في التاريخ. وأن لحظات تخارجها هي لحظات تاريخية بامتياز. أمكننا القول إذن: إن المقاومة بقدر ما ما تبني عناصرها تصنع تاريخها. فهي تتفوق بنيويًّا وتاريخيًّا. إن تاريخ المقاومة هو تاريخ تفاعل بنيتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. بل هو تاريخ بنية وبنية تاريخ. فالتاريخ مجال تفاعل البنى بقدر ما أن البنية تحتوي تاريخها الخاص وتسمه بميسمها. ومبلغ علمي في هذا الجدل أنه ليس معرفيًّا خالصاً. ولا يوجد في عرف المعارف ما هو خالص مطلقاً. وإذا كان الأمر كذلك فلنختر من المعرفة الأكثر تفلتاً من السلطة العارية والأكثر نجاعة وقدرة على تحقيق منجزات واقعية. أجل، لم تكن المعرفة يوماً مجردة. أي مجردة عن سلطان يتربص بها ويتحكم بسياستها ويؤثر في وجهتها. بل هي في مظهر من مظاهرها، وظيفة وسلطة. ليس التاريخ وحده ذلك العلم الذي أفرزته الحروب والانتصارات والانهزامات، حتى يقال: إن التاريخ يكتبه الغالب. بل كل حقول المعرفة -نظراً لتداخلها ونظراً لانشدادها إلى إرادة القوة- هي ناتجة عن القوة كما أنها عنصر من عناصر صراع القوى. وحيث ظل التاريخ وفيًّا لهذا الدور ولوظيفته، وجدنا أن المجالات التي تعدم تاريخاً انتعشت فيها الدراسات الأنثربولوجية الحديثة. أي تلك التي نازعت التاريخ سلطته. لقد وجدنا الأنثربولوجيا الكلاسيكية المتضامنة مع التاريخ وقعت في الإشكال نفسه. لكنها مع أمثال شتراوس وكالستر، تجنح إلى البنائية وتتشددّ فيها بل وتدير ظهرها كاملاً للتاريخ، لأنها لم تجد في التاريخ ما يمكن أن ينصف تلك المجموعات التي منحها المحتل الأوروبي يومها شرف البقاء محميات متوحشة على هامش مدنيته.
بالتاريخ حدثت كل هذه الفظاعات، فوجب بالبنائية رفع هذا الظلم. وهذا ما حاوله الاستعمار في المنطقة العربية وما فعلته الحركة الصهيونية التي حاولت عبثاً الاستقواء بالتاريخ -ليس من حيث السردية الصهيونية وحفرياتها التي باءت بالفشل في إسناد مشروعية وجودها- بل أعني الاستقواء بتاريخانية تفوق الأكثر تقدماً وارتباطاً بالمدنية الغربية على المحلّي، وإسناد مشروعيته على حق المتحضرين في التسلط على البدائيين. كان الكيان الصهيوني منذ نشأته يكرس هذه النزعة ويعتبرها سنده في البيت الغربي. بتعبير يوسي ميلمان: «لقد عاش معظم قادة الصهيونية تحت وهم أن العرب الذين يشكلون غالبية سكان فلسطين سيهللون بعودة اليهود ثانية وأن الغبطة ستملأ قلوبهم بـ(إحياء الصحراء) ونمط الحياة الغربية المتقدم الذي وعدهم به المهاجرون اليهود. وهنا وقف الصهاينة قاصرين في إدراكهم أن للعرب طموحهم القومي وأنها لخيبة ظن أن نعلم أن الصهاينة الذين وضعوا هذا الوعد في إطار قوة الأفكار لإحداث تغيير إنساني وتاريخي تجاهلوا هذا الطموح العربي الموازي لطموحهم»[3].
التاريخ إذن لم ينصفهم. وحتى الأنثربولوجيا الكلاسيكية لم تنصفهم. فكان لا بد من إدارة الظهر للتاريخ والبحث عن المعنى الرمزي في تعبيرات المعاش وأساطير القوم واختراق المعنى في تاريخ من لا تاريخ له. وكان ذلك خطيئة أخرى لا تقل عن الأولى. فإذا كان الغالب حاول أن يكرس مغالطاته بالتاريخ، فإن المغلوب حاول تكريس مغالطاته بالأنثربولوجيا. ويبقى الأخطر من ذلك، أننا لمّا نرفض التاريخ بوصفه قيمة معرفية متغلّبة ذات وظيفة سياسية، نكون قد أمضينا على أن هناك تاريخاً خاصًّا لأمة من الأمم وجب أن يعاين خارج منطق التاريخ الكوني. الدعوة قائمة إذن بأن يخترق الخاص الكوني نفسه، لصالح قراءة تاريخية - أنثربولوجية تجعل الخاص شاهداً على الكوني. المقاومة هنا لم تعد حدثاً خاصًّا يتصل بتاريخ منطقة لها سنن تاريخية تلزمها، بل أصبحت حدثاً يمتد إلى باقي حقائق التاريخ. ليجعل المقاومة ليست حدثاً خاصًّا بظروف ثقافة وتاريخ يمتح من ذاكرة خاصة، بل هو حدث يشهد على التاريخ الكوني كله بوصف المقاومة لحظة عارمة من لحظات انتصار الكوني على الخاص.. والطبيعي على الشاذ. فالاستعمار هو حدث شاذ والمقاومة ردّ فعل طبيعي.
تستطيع المقاومة بإنجازاتها إحراز تقدم في جدل البنية والتاريخ، لأنها هنا تخترق بإنجازاتها التاريخ ولا تكتفي بقدرها. بل إننا لسنا اليوم في حاجة إلى تأويل الخطاب المقاوم كما كنا بصدد تأويل أساطير جماعات وحشية في أدغال القارة الأمريكية أو الأفريقية أو في أستراليا. بل علينا أن نقرأها داخل الحدث التاريخي ومن بابه الواسع، لأنها هي نفسها تحولت إلى فاعل تاريخي وغيرت معادلات تاريخية إقليمية ودولية. إن الفعل المقاوم ليس أمراً متروكاً للوصف وللمعالجة الهامشية كما لو كنا أمام حدث غير تاريخي. لذا لا يضير أن يتصالح التاريخ مع البنية في تجربة المقاومة، لأنها ظلت الحدث الذي يلتقي عنده ما هو واعٍ من التاريخ وما هو غير واعٍ من جدل البنية. إن المقاومة تستند إلى التاريخ بقدر ما تستند إلى جدلها البنيوي اللاّزمني المحاط بأسرار تفاعلها الخاص.
* المقاومة حينما تصنع تاريخها
لكي تستكمل المقاومة مهمتها وجب أن تدرك حدودها المعرفية. وهذا من آثار المقاومة حينما تكون مقاومة في حدود العقل. تتمرد المقاومة على حقائق التاريخ، فترفض أن تمارس عليها شهادة التاريخ الغالب. وليس أمامها لتمارس شهودها على الحاضر أو المستقبل إلاّ بأن تتمكن من أن تمارسها على الماضي أيضاً. فترفض تاريخاً وتشرع في كتابة آخر. ونجاحها في هذه المهمة رهين بتفوقها في الميدان وقدرتها على ترجمة ذلك على مستوى الوعي، ترجمة في حدود العقل لا تنهزم بانهزام الواقع ولا تتعالى على شروط الواقع. فكما صنع الغزاة تاريخهم وجب على المقاومة أن تصنع تاريخها.. وكما صنع المهزومون تاريخ استسلامهم وجب أن تصنع المقاومة تاريخ انتصارها. وطبيعي أن المقاومة ستضطر أن تصنع تاريخها الحديث جدًّا انطلاقاً من النصر الذي حققته على أرض هي ليست تختلف عن الأرض التي شهدت الهزيمة نفسها. فكما أمكن العدو أن يدخل في تاريخ هزائمنا قيمة الهزيمة وشعوراً مكرساً لها وجب على المقاومة أن تتحرر من هذا التاريخ وتدخل الإحساس بالانتصار في تاريخنا كقيمة وحقيقة وأمل. إن التاريخ يبدأ في العادة مع نهاية المعركة، لأن الحرب تظل مستمرة ولو بمعنى آخر. أي ستستمر في شكل سياسات واتفاقات وقوانين. إن التاريخ هو صناعة تكسب قيمتها وأبعادها في نتائج الحروب. كما أن الحرب يجب وفق ما يرى البعض أن تمارس انطلاقاً من توظيفها للمعرفة التاريخية. إن المعركة التي تخاض اليوم، هي في الحؤول دون امتلاك المقاومة لتاريخها. أي يريدونها ألَّا تخوض حرباً من خلال استعمالها للتاريخ. بمعنى أوضح لا تملك القدرة على خوض الحرب.
علاقة التاريخ بالحرب كما في قراءة فوكو لبولانفيلييه تعكس إلى حدّ ما هذا الهاجس. فالتاريخ والحرب يكادان يشكلان جدلاً قائماً. لقد «جاءنا التاريخ بفكرة أننا في حرب، وأننا نقوم بالحرب من خلال التاريخ»[4]. رفضت العلوم الإنسانية التي اكتسب الكثير منها برفضها للتاريخانية، ربما أيضاً بسبب ذلك الاختزال نفسه الذي عرّف به فوكو التاريخانية من حيث ليس في نهاية المطاف إلاّ تلك العلاقة التي تردّ الحرب إلى التاريخ وتردّ التاريخ إلى الحرب. «التاريخ لا يروي إلاّ الحرب، ولكن هذه الحرب لا يستطيع أبداً التاريخ أن يرويها بشكل كامل»[5]. الحرب تسند هذه المعرفة كما أن المعرفة نفسها تسند تلك الحرب. «تخاض الحرب من خلال التاريخ، ومن خلال التاريخ الذي يرويها. ومن جانبه، فإن التاريخ لا يستطيع إلاّ تحليل الحرب التي يكتبها عبر التاريخ»[6].
وانطلاقاً من هذه الرؤية لبولانفيلييه التي وقف عندها مليًّا ميشيل فوكو، نرى أن الحرب أيضاً هي هنا في هذا المربع من امتلاك صناعة التاريخ؛ أي امتلاك المعرفة الضرورية لخوض الحرب وتحقيق الانتصار. إنهم يريدون عبر خطاب البروباغوندا والتشويه أن يحولوا دون تمكن المقاومة من بناء تاريخها ونقله للأجيال بوصفه انتصاراً فاضحاً لخرافة القهر الصهيوني وهزيمة السياسات العربية -على الرغم من أن المقاومة أهدت انتصارها للأمة جميعها- والأهم من ذلك أن تحول دون امتلاكها القدرة على توظيفه في المعركة. لأنهم يدركون أن المقاومة إذا ما فشلت في صناعة تاريخها، فإنها ستخسر حتماً المعركة. فمن هنا إذن يبدأ الرهان. «هذا ما جعل التاريخ يغطي الطبيعة كلّية. لا تستطيع الطبيعة أن تتكلم عندما يبدأ التاريخ في الكلام. لأنه في الحرب، التاريخ هو المنتصر دائماً»[7]. إذا كان لبولانفيلييه قد ميّز بين الوحشي والبربري، فقد اعتبر الثاني هو الأخطر على الحضارة. ويظهر أنه حتى لو قيل: إن إسرائيل اليوم هي صورة متقدمة للحضارة الغربية في الشرق الأوسط، فإن التعريف الذي منح إلى البربري بوصفه «لا يدخل التاريخ بتأسيس مجتمع، ولكن بحرق وهدم حضارة» يكذب هذه الحقيقة.. لكل بربري تاريخ هو نفسه تاريخ حرقه لحضارة أخرى[8]..هذا يجعل إسرائيل مثالاً للبربري الذي يحمل خراباً للأمم القائمة والثقافات الآمنة، فهو صنيعة التاريخ وليس الطبيعة. وجب ألَّا نُخدع بأن لإسرائيل امتداداً طبيعيًّا، بل هي كانت وستظل تاريخاً؛ ما يعني بتعبير آخر مشروع تدمير وحرق ولا إنسانية. ذلك حال البربري الذي لا يحسن إلا أن يكون متعجرفاً ولا إنسانيًّا مهما بدا منه من الأفكار ما يدعو للانخداع بعدم السوء.. «البربري ينبثق من التاريخ»[9].. فمهما بدت إسرائيل للعالم أنها دولة الديمقراطية والسلام وما شابه، فهي دولة غير طبيعية تؤدي دور الدولة البربرية الباعثة على الرعب والمحو والتدمير.
* زمان المحتل وزمان المقاومة
إن الزمان المقاوم ليس زمان الدول والسياسات والمصالح.. إنه زمان كثيف الحضور، لأنه الزمان التاريخي والزمان الحضاري والزمان الاجتماعي الضروري لتحقيق حرية الجماعات الإنسانية. إنه زمان غالب بالضرورة لأنه زمان أقوى. لذلك فإن الزمان الصهيوني هو زمان فارغ، لأنه ليس زماناً تاريخيًّا ولا زماناً حضاريًّا، بل إن كثافته هي كثافة البارود منتهي المفعول والرعب المتخيل الذي يفرض على صاحبه الإبقاء على عدم سواء الصحة النفسية الجماعية للضحية، فإسرائيل ليست فقط أنها تصنع رعباً مزيفاً تمنحه من فرقعات البارود ما يكسبه معنى واقعيًّا، بل هي مضطرة أن تفسد سيكولوجيا العالم والمعرفة والثقافة للإبقاء على أحجيتها المفرغة من الزمان. وحيث لا يوجد ما يسندها من الزمان التاريخي فإذن لا مستقبل لها. لأن المستقبل يتطلب فعلاً في الزمان المكثف لا الزمان الفارغ. فإسرائيل تحرس أحجيتها بـ«الميزاجور» وفي كل مرة يتطلب وضعها لجوءاً إلى «الفورماتاج». وهذا عنوان ضعفها وعدم رسوخها في التاريخ والجغرافيا معاً.
إننا نتحدث هنا عن مفهوم خاص للزمن يرتقي به إلى جنس الفاعل في الزمن ويكتسي سنخيته حيث به يكتسب ماهيته في نهاية المطاف. فماهية الزمان من ماهية الفاعل في الزمان. وقد بات واضحاً انطلاقاً من هيغل نفسه أن ليس كل فعل في الزمان هو تاريخي. الفعل التاريخي هو هنا محدد لفاعلية الإنسان. فليس كل ما يقع في المساحة الكرونولوجية هو فعل تاريخي. على هذا الأساس وجب تحرير مفهوم الزمن المقاوم باعتباره زماناً يكسب ماهيته من طبيعة الفاعل وغايته.
وحيث بات واضحاً أن العدو بما أنه وجد نفسه يفتقر إلى الزمانية المكثفة بفعل التاريخ والجغرافيا، لجأ إلى لعبة الخديعة التاريخية الكبرى: أن يحقق أهدافه ضمن مساحات كرونولوجية ضيقة -يسعى لتعويضها بالمساحة الجغرافية (بالمعنى الجيو-سياسي الدولي) الواسعة هي مدى نشاطاته القذرة-. إن العدو يواجه حتمية الفقر الوجودي الذي هو انعكاس للفقر الزماني. فهو لا يملك استعمال الزمن المكثف -من حيث كون زمانه فارغاً من المضمون التاريخي- كما لا يستطيع الفعل في المساحة الكرونولوجية الواسعة. إن الزمان التاريخي للشعوب فضلاً عن أنه يكسب الحراك الثوري والمقاوم تضخماً في المضمون الإنساني، فهو يتيح له الفعل الأول والأخير، أي الفعل في المدى الكرونولوجي الواسع. من هنا وبحساب اقتصاد تاريخ الحرب، فإن المساحة التي تتحرك فيها فاعلية المقاومة لا حدود لها في الزمان في حين هناك انحسار وضيق في المدى الكرونولوجي لفعالية العدو. ومن ثمة فإن العدو يسعى لاختصار الزمن الكرونولوجي لتحقيق أهدافه. بينما يبدو المدى أمام حركة الشعوب ممتداً ولا يحتاج إلى اختصار الزمن، لأنها هي من يمنح الزمن معنى. ولهذا تحديداً نجد أن خسارات الشعوب تظل مهملة مهما طال عليها الزمان، في حين أن خسائر الزمن بالنسبة للعدو تكلفه كل شيء. وواضح أن انعكاسات خسارة الزمن بالنسبة للشعوب تستدرك في لحظات ثورية ما. بينما لا مجال لتدارك خسارة الزمان بالنسبة لعدو يدرك أن الفرصة الكرونولوجية المتاحة لبناء مشروعه غير محتملة التكرار بخلاف الفرص المتاحة لحركة الشعوب. لأنه فقط في مثال تجربة الشعوب تندك هيروقليطية عدم التكرار، لصالح حقيقة أننا نستطيع أن نستحم في النهر مرّات عديدة كما يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه بصورة أكثر نضجاً وكثافة. إن صراع المقاومة والمحتل هو صراع بين زمانين: أحدهما كرونولوجي أجوف عديم المدى، بينما الثاني هو تاريخي ومكثف وبعيد المدى. ومن هنا فإن اغتصابه للجغرافيا لم يمكنه من اغتصاب التاريخ. فوجب أن نقاومه من موقع عجزه الزماني لربح الجغرافيا. إن العدو لا يستطيع احتلال زمن الحروب أكثر من أيام. وحيث ملكت المقاومة الزمان كله وافتقر العدو إلى الحد الأدنى منه، وجب الاستناد إلى التاريخ في تحرير الأرض. وذلك حظ المقاومة وفلسفتها في جدل التاريخي والجغرافي. وتصعيد الوعي بهذا الجدل ضروري ومثمر وله انعكاسات على الممارسة والقدرة على الإنجاز.
لقد أصبح بإمكاننا القول: إن صلاح مستقبل الأمة ممكن بنموذجها الحاضر. كما أصبح ممكناً القول: إن صلاح النموذج الحاضر يكشف عن فساد النموذج القديم. فإلى أي حد بات مفروضاً أن نؤسس لفلسفة تاريخ المقاومة.. وإلى أي حد بات مفروضاً أن نثق في إنجازات شبابنا الحي في محاكمة حيزبونات تاريخنا الهزائمي غير المأسوف على رحيله.. وإلى أي حد بات ضروريًّا أن نبني فلسفتنا كما نبني مستقبلنا في ضوء إنجاز ما، حتى إن رآه البعض مؤقتاً عابراً فلنجعله دائماً.. وحتى إن رآه البعض صغيراً فلنجعله كبيراً.. وحتى إن رآه البعض محصوراً فلنجعله موسعاً؟
[1] * hani_dayman@yahoo.fr
[2] لا أقصد هنا المعنى المذهبي لفلسفة الإشراق، بل المقصود مجمل الفلسفة النورية التي ألهمتها التعاليم ويستطيع كل امرئ أن يدرك منها قدراً.
[3] يوسي ميلمان: الإسرائيليون الجدد، ص 69، تـ: فاضل مالك البديري، الأهلية للنشر، الأردن 1993.
[4] ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، ص 178، تـ: د. الزواوي بغوره، ط 1 - 2003، دار الطليعة، بيروت.
[5] المصدر نفسه، ص 179.
[6] المصدر نفسه، ص 179.
[7] المصدر نفسه، ص 165.
[8] انظر المصدر نفسه، ص197.
[9] المصدر نفسه، ص198.