تمهيد
الأمير عبد القادر حالة استثنائية نادرة
ظاهرة الأمير عبد القادر حالة استثنائية في التاريخ الجزائري الحديث، تجلّت أعمالها في إحداث قطيعة تاريخية فصلت بين فترتين متمايزتين، فترة عثمانية ميزها نظام إقطاعي جائر، وفترة جزائرية ميزتها المساواة والحداثة في ظل فكر تقدمي مستنير. ومن الضروري التأكيد على أن الأمير عبد القادر حالة استثنائية بالنظر إلى الفترة الزمنية التي ظهر فيها، والسياق التاريخي الخاص الذي تندرج فيه هذه الحادثة.
من مميزات هذه الاستثنائية هو أن عبد القادر ظهر كالأمر الخارق الذي غير مجرى الأحداث، وخالف ببطولته النواميس المألوفة لمسار الحركة التاريخية، لما أحدث تغييراً جذريًّا بثلاثة أعمال كبرى كرّست نجاحاته على ساحة الأحداث.
العمل الأول: إحياء الشعب الجزائري وإسماع كلمته أمام الملأ بعد أزيد من ثلاثة قرون من الركون تحت السيطرة العثمانية. ونقول: أحيا الشعب الجزائري؛ لأن الشعب الجزائري خلال الفترة العثمانية لم يكن له سيادة سياسية، أي لم تكن له سلطة تمثله وتعبر عن إرادته وتتحدث باسمه في تسيير شؤونه وحماية حقوقه. يقول الدكتور سعد الله «.. كان المفروض أن يطبق الحكّام العثمانيون تعاليم الإسلام وأحكامه.... ولكنهم في الواقع أساؤوا التصرف، كمعظم الحكام عندئذ، فحكموا كفئة متميزة واحتكروا الحكم في أيديهم طيلة الفترة العثمانية، واستبدوا بالسلطة، واستذلوا السكان، واستعلوا عليهم، وعاملوهم معاملة المنتصر للمهزوم..» .
إن الدولة في الحكم العثماني يُسيّرها نظام الإقطاع، ومن مظاهرها التمايز الطبقي. طبقة الحكام وهم الأتراك. وطبقة المخزن وهي القبائل العربية الموالية للأتراك والمكلفة بإقرار الأمن وجمع الضرائب ومتابعة المتمردين ومعاقبتهم. ثم طبقة الرعية، وهم السواد الأعظم من العرب البدو سواء الرُّحّل منهم أو المستقرين على أراضيهم، وهم الذين تقع عليهم كل أشكال الظلم والتعسف. فالحاكم التركي، سواء كان باشا أو باي، هو الذي يقرر الأمر ويطبقه على الرعية دون اعتراض أحد. يقول أحد الكتاب لذلك العهد: إن للباي «... التصرف المطلق في الرعية بالقتل للعرب والضرب والسجن والعقوبة بكل وجه والخطيئة للعرب وغيرهم دون تعرض أحد لهم في ذلك، غير أن الباي لا يقدر أن يقتل أحداً من الأتراك إلا بمشاورة الباشا بالجزائر..» .
لم يكن النظام التركي نظاماً عادلاً، فكل ما يهم الحاكم هو جباية الأموال المسلطة على العرب الذين يجدون أنفسهم مرغمين على دفعها، وأن صاحب السلطة هو الذي يقررها ويقرر القانون الذي ينفذه على حسب الانتماء العرقي والطبقي. كما أن للأتراك نزعة قومية متشبثة بفكرة الأصل والمركز الاجتماعي. فالأتراك وحتى الكراغلة يدَّعون التحضر والتمدن ويعتبرون العرب بدواً يكرهونهم ويتسلطون عليهم بكل أنواع المظالم. الأمر الذي جعل العرب في المقابل، يكنون للأتراك حقداً مريراً ويتحينون الفرص للتمرد عليهم. ولما سقطت الجزائر في يد الفرنسيين وزحف الغزاة نحو مدينة وهران خشي الباي حسن على نفسه وطلب من الشيخ محيي الدين اللجوء والحماية. تشاور الأعيان والشيوخ في الأمر وكادوا أن يجمعوا على استقبال الباي، لكن اعتراض عبد القادر على الطلب كان وجيهاً وسديداً، إذ اعتبره غير مقبول لثلاثة أسباب:
الأول: أن استقبال شخص جائر مثل الباي ليس عملاً مُشرِّفاً، فقد يُعدُّ قبوله مسحة لما ارتكبه من جرائم ومظالم في حق العرب.
ثانيا: أن القبائل العربية الأخرى من شدة مقتها لحاكم تركي، سوف لن تقبل بوجوده بينها، وتحاول دوماً الانتقام منه بكل الوسائل، الشيء الذي يطرح مشكلة حمايته من الاعتداء.
ثالثاً: أن الحماية لصالح طاغية تسيء لا محالة إلى سمعة من يحميه، وعلى العرب الموازنة بين صيانة سمعتهم وحماية شخص يكرهه السواد الأعظم من الناس.
هكذا، صرّح عبد القادر بموقفه أمام المشايخ والأعيان، وتوّج رأيه بالقبول والإجماع. ولا ريب في القول: إن موقفه هذا كان صريحاً وواقعيًّا.
أما ما يمكن أن نستنتجه من هذا الموقف، شيئان:
1ــ أنه أسمع كلمة الشعب في رفض الطغاة وكل أنواع الحكم الجائر.
2ــ أنه عبّر بكل صدق عن إرادة الجزائريين في إقرار نظام حكم عادل.
وليس من باب المبالغة إذا قلنا: إن هذا الموقف قد خدم لا محالة مستقبله السياسي؛ إذ كرس شخصيته السياسية وأهَّله ليكون فيما بعد الأمير والقائد العسكري الجدير.
العمل الثاني: لما اختير عبد القادر أميراً ما فتئ أن أسس الدولة الجزائرية الحديثة بمختلف مؤسساتها وهيئاتها. والدولة الحديثة تنبثق عن اختيار الشعب وتتجلى في المؤسسات التي تمثله وتعمل على تجسيد إرادته. وحرص الأمير على إنشاء المؤسسات إنما هو نابع من قناعته أن الإرادة الشعبية لا تتحقق في الواقع إلا بإسنادها إلى هيئات معنوية تحكمها قوانين، وتشرف على تطبيقها جماعة من الشرفاء الأتقياء المعروفين بورعهم وإخلاصهم لله. يقول الكولونيل تشرتشيل في هذا الموضوع: «.. ملأ عبد القادر كل المناصب الهامة برجال نبلاء بالميلاد تقديراً منه للنتائج المثمرة التي تعطيها النظرة الصحيحة للتكوين الطبيعي للمجتمع... ولكن أولئك الرجال الذين وقع عليهم الاختيار كانوا في نفس الوقت يمتازون بالشخصية القوية والسمعة النظيفة، أي أنهم كانوا أمثلة تحتذى وحكّاماً يطاعون. وبذلك شاع بين كل الطبقات، من قمة المجتمع إلى قاعدته، شعور عالٍ بالواجب والاحترام الذاتي، كما بعث العمل بالدين والفضيلة والشرف والأخلاق التي كانت قد أصيبت أثناء السيطرة التركية الغازية..» .
وقوام الدولة الراشدة إنما هو العدل والإنصاف وجدوى صيانته والسهر على تطبيقه. وقد شعر عبد القادر بصعوبة المهمة في وسط بدوي يتميز بالجهل والخشونة، وخشي ألَّا يكون لمفهوم العدل صدى لو لم ينزل إلى مستوى العامة. وكانت فكرة تنصيب منادي ينادي في الأسواق، أنجع طريق لتوصيل فكرة العدل في الأوساط الشعبية وإشراك الجميع في تجسيدها على أرض الواقع. ومن بين المظاهر الدالة على حرص الأمير عبد القادر على إقرار العدل هو أنه يترأس المحاكمة ويشرف على تنفيذ القرارات بنفسه. كما أنه انتبه إلى أمر آخر خشي مخلفاته السيئة على أبناء الشعب، وهي المظالم والتعديات التي تحصل من جرّاء العمليات العسكرية. فقد كلّف قضاة يتنقلون مع أفراد الجيش ويشرفون على تطبيق العدل وإنصاف المظلومين في حالة حصول بعض التعديات. إن العدل هو أنجع وسيلة لتحبيب نظام الحكم لدى الناس. ولما كان عبد القادر يعرف أن رهانات الحكم الناجح إنما هو الحكم العادل، فقد أعطى للعدل صورة تتجاوب وذهنية السواد الأعظم من الناس، بحيث قرّبه منهم وجعلهم أعضاء فاعلين حتى يشهدوا على أن العدل لا يكون حقيقية فعلية إلا إذا أسهم في بنائه الجميع. وهنا تكمن عبقرية عبد القادر في ضم الجماهير إليه وحملهم على مجابهة الصعوبات الجمة التي وقفت أمامه.
العمل الثالث: إن جدارة عبد القادر السياسية ظهرت في مدى تمكنه في ظرف زمني قصير من تحويل قبائل بدوية لا تعرف شيئاً عن النظام والانضباط، وينتابها دوماً التنازع والتفريق، إلى قبائل موحدة تحت لواء الجهاد وعازمة على مواجهة قوة استعمارية في غاية القوة والنظام. ويرجع هذا التحدي العسكري إلى شخصية عبدالقادر وحدها، التي أبدت مهارة فائقة في قيادة الرجال، وتسخير قوتها العسكرية النحيلة إلى قوة فاعلة يعتد بوجودها على ساحة القتال. إن الشيء الذي أدهش الجنرال الفرنسي دي ميتشال هو براعة عبد القادر وحنكته العسكرية. ولعله الجنرال الفرنسي الوحيد الذي فهمه على حقيقته وأولى له منذئذ احتراماً وتقديراً. وبدأت قصة التعارف لما منع عبد القادر كل القبائل العربية من المتاجرة مع الفرنسيين. وما فتئ هذا القرار أن انعكست نتائجه السلبية على المحتلين. وحتى يتمكن الجنرال الفرنسي من فك الحصار المفروض عليه، قرر احتلال مدينة مستغانم، فرد عليه عبدالقادر بحصار شامل لهذه المدينة. اغتنم الجنرال فرصة وجود عبد القادر في مستغانم، وقفل راجعاً إلى وهران لينفذ خطته العسكرية ضد قبائل الدوائر والزمالة المتمركزة بسهل مسرغين والتي طبقت قرار الحظر وتسببت في إحداث أضرار جسيمة في تمويل الجيش الفرنسي.
إن دي ميتشال أراد تنفيذ خطته أثناء انشغال عبد القادر بحصار مستغانم، حتى يكون له الوقت الكافي في الهجوم على هذه القبائل والاستيلاء على ممتلكاتها. بالفعل كاد الجنرال أن يحقق أهدافه عندما باغتها وتمكن من النيل منها، وما إن بدأت قواته في جمع الغنائم، حتى شهدت مندهشة، قوات عربية هائلة تتدفق عليها من كل الجهات وتفقدها أدنى فرصة للمقاومة. إن خطة دي ميتشال فشلت فشلاً ذريعاً، ففي حساباته ظن هذا الجنرال أن عبد القادر لم يتطلع إلى خطته، كما أنه اعتقد خطأ بأنه مادام مهتماً بحصار مستغانم لا يمكن في الآن نفسه اللحاق بمسرغين. إلا أن عبد القادر أثبت له العكس وأبطل حساباته لما ألحق به الهزيمة. ومما لا شك فيه أن عبد القادر تطلع إلى تحركات الجنرال وسارع إلى إفشالها على أرض الواقع حتى يثبت تواجده في كل مكان. كما لا يستبعد أن تكون فكرة التواجد في كل مكان والضربات الأليمة التي تتسبب فيها قد أذهلت الجنرال الفرنسي، ولقّنته قناعة أنه أمام خصم كبير يجب التعامل معه بطريقة أخرى غير طريقة السلاح. ومهما يكن فإن تكتيك الحرب الذي اعتمده عبد القادر قد أرغم الجنرال الفرنسي على طلب لقاء معه في رسالة جاء فيها ما يلي: «.. إنك لن تجدني أصم لأي عاطفة من السماحة، وإذا كان يناسبك أن تمنحني مقابلة معك فإني على استعداد لذلك، آمل أن يكون في استطاعتنا أن نوقف إراقة الدماء بواسطة معاهدة مباركة بين شعبينا اللذين حكم عليهما القدر أن يعيشا تحت نفس السلطة..» .
امتنع عبد القادر عن الإجابة، فألحَّ الجنرال في رسالة ثانية على طلب السلم واقتراح إبرام معاهدة، وجاءت الرسالة محررة كما يلي: «.. إذا كنت تود الاحتفاظ بالمكانة البارزة التي وضعتك الظروف فيها، فإنك لا تستطيع في نظري أن تفعل أفضل من أن تقبل دعوتي لكي تكرّس القبائل وقتها لحراثة الأرض، وتتمتع بثمار وبركات السلام في ظل معاهدة تربطنا معاً رباطاً وثيقاً..» .
إن محتوى الرسالة يقرّ صراحةً بالاعتراف بقوة عبد القادر لما يترجاه أن يقبل بالسلم. ومن جراء هذا الإلحاح الشديد قبل عبد القادر وهو في موقع القوة. أبرمت معاهدة دي ميتشال في شهر فبراير من سنة 1834. ونظراً لما كان يُحاط بها من السرية من الطرف الفرنسي، ما برحت هذه المعاهدة أن خرقها خليفة الجنرال دي ميتشال، وهو الجنرال تريزال، الذي تعدّى وخرق بنود الاتفاقية، فأضرمت نيران الحرب ثانية. وطبق عبد القادر تكتيكه الحربي في التواجد في كل مكان، وسلّط على الفرنسيين بالمدن الساحلية حظراً تجاريًّا شاملاً، ولما تحرّك الجنرال الفرنسي لملاقاته مُنِيَ بهزيمة نكراء في جوان 1835 في معركة المقطع الشهيرة.
تعاقبت الأحداث والمعارك الضارية بين عبد القادر والجيش الفرنسي، وتعاقبت الجنرالات الفرنسية لمواجهته: الجنرال كلوزيل ديسمبر 1835، الجنرال دارلانج أفريل 1836، الجنرال بوجو جوان 1836. وقد فشل هؤلاء كلهم في فك الحصار وفي محاولة القضاء عليه. وتزايدت قوة عبد القادر لما شدّد عليهم الحصار وضيّق الخناق وأغلق كل منافذ النجدة، حتى كادت القوات الفرنسية أن تعيش كارثة إنسانية. يقول تشرتشيل: «.. وبنشاط عبد القادر الذي لا يعرف الكلل في جميع الجهات، وبيقظته الدائمة لتنفيذ نظام حصاره، ضيّق مرة أخرى الخناق الشديد على الفرنسيين، فقد كانوا أقاموا مراكز في المناطق الداخلية، ولكنهم لم يكونوا قادرين لا على الوصول إليها ولا على الاتصال معها، وكانت رسائلهم تُحجز وتقطع رؤوس حامليها بدون تمييز..» .
وكان هذا العمل التكتيكي الدؤوب، المتبوع بهجمات شرسة على الجيش الفرنسي، قد شلَّ كل التحركات خارج المدن، حتى قيل: إن قائد مدينة تلمسان كافينياك كان يشتري القطط لتزويد مائدة عشائه، بأربعين فرنكا للوحدة .
ولا شك في أن نشاط عبد القادر العسكري وحنكته السياسية في ضم الخصوم إليه، كانت وراء انصياع الفرنسيين على طلب السلم. وسواء نظرنا إلى المسألة سياسيًّا أو عسكريًّا، فإننا نجد في هذه الظروف بالضبط، شخصية عبد القادر وراء كل قرار أخذته القيادة الفرنسية، من بينها قرار السلم الذي كرّسته معاهدة التافنة في ماي 1837 بين الأمير عبد القادر والجنرال بوجو.
إن معاهدة التافنة هي انتصار ثانٍ لعبد القادر على أعدائه؛ فقد أبرم الفرنسيون المعاهدة مكرهين وليسوا مختارين. بدليل أنهم لما عزموا على احتلال الجزائر، لم يخطر ببالهم لحظة وجود مقاومة. فالجزائر بالنسبة إليهم كانت خالية من السكان، وفي حالة ما إذا وجد البعض منهم فإنما هم أفراد قلائل مشتتين لا استقرار لهم ولا مكان. ولما ظهرت المقاومة الأميرية وطبقت خطة حرب جديدة، لم تجد فرنسا في البداية نفسها معبأة لخوض حرب مثل هذه، فاضطرت إلى طلب السلم.
أما الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من هذا، هو أن حركة التاريخ المتمثلة في الزحف الاستعماري الكاسح، قد أوقفها عبد القادر وأعطاها اتجاهاً آخر غير الاتجاه الذي خطّط له المستعمر. فالأمير عبد القادر أثبت وجود الشعب الجزائري، وبإثبات وجوده غيّر من وجهة التاريخ الذي أراد المستعمر أن يعطيه إياها.
أما إذا تأملنا ما أعده هذا الرجل من المشاريع الحضارية الأخرى خلال معاهدة التافنة، وقدرنا الزمن القصير الذي أتيح له، والظروف العسيرة التي كانت تناوئه، فإن مشاريعه تبدو تحدياً صارخاً للزمن من حيث الضخامة ومن حيث التغيرات الجذرية التي كانت ترمي إدخالها على الذات العربية الإسلامية ببعث حركة علمية ناهضة، تستثمر الماضي الثقافي وتبلوره في قالب حضاري غربي يستبعد كل أنواع الخرافة والتخلف الفكري.
كما تجلى التحدي في الانتقال المباغت من حالة سياسية واجتماعية راكدة، إلى حالة ترقوية فاعلة ما فتئت أن اندثرت معها الأنماط التقليدية وحلَّت محلها أنماط تأسيسية جديدة تبشّر كلها بالحداثة وبقابلية الأمة للتحضر والتمدن. هذا التحول النهضوي الطموح الذي سعى إلى بعثه الأمير عبد القادر في لحظة زمنية عسيرة هو الذي يمكن اعتباره تحدياً للزمن والتاريخ؟ فإذا كان التاريخ سلسلة من الأحداث المتعاقبة التي تخضع لنظام من التصورات والأفكار، فإن عبد القادر قد غيّر وجهة الأحداث بإدخال تغيير جذري على التصورات والأفكار. فمن هو هذا الرجل الوارد الذي غيّر مجرى الأحداث وأسس لتاريخ جزائري جديد؟
شخصية ذات بعدين
إن عبد القادر واحد في ذاته، متعدد بشخصياته. إنه الشخصية السياسية والعسكرية، والفكرية. إنه الوحدة والتعدد، الذات والصفات، استعدادات فطرية متخفية إذا ما تحققت في الواقع بدا عليها التفوق والإتقان. فمن أين استمد عبدالقادر هذه العبقرية التي أهَّلته لتولي القيادة في كل أمر تكلفه؟
إن هذه الشخصية تبقى غامضة إذا نظرنا إليها من الزاوية الحسية الفيزيائية. فمن وراء المظاهر البسيطة التي تكسو شخصيته الخارجية تختفي قوّة نفسية خارقة. قوّة كرّست كل نجاحاته وقلّدته براعة نادرة في الاستراتيجية الحربية واللباقة السياسية والحكمة الفلسفية والمواهب الفنية العالية. إن هذا الخرق للمألوف، والخروج عن النواميس العادية هو الذي حملنا على الاعتقاد أن شخصية عبد القادر ذات بعدين. بعد جسماني، يتجلى في المظاهر العرضية التي تنتاب شخصية الإنسان العادية من حركة وأفعال ونشاطات تدخل كلها في سياق الحياة اليومية التي تضفي على شخص عبد القادر صفة الإنسان العادي البسيط.
لكن، من وراء البعد الجسماني الماثل في المظاهر العرضية يتستر البعد الروحاني الماثل في الخوارق البطولية. خوارق ليست بتاتاً من تدبير العقل أو التجربة، إنما هي أعمال وثيقة الصلة بما في جَنانه من قوة الإيمان بالله والاتصال به في كل لحظة. اتصال قوامه الذكر والتلاوة والشكر.
إن إيمان عبد القادر يقوم على اعتقاد جازم بأن الله حاضر معه في كل أوقاته، استناداً إلى المأثور «وأنا مع عبدي إذا ذكرني»، والمعية تقتضي كما يقول في الموقف الثالث «.. ملازمة التسبيح والتنزيه والسجود والعبادة..»، وهي دلالة على خشوع العبد وورعه في الإقبال على الله والتوكل عليه في كل أمر.
إن قوة عبد القادر تكمن في التكثيف من الذكر لله في القول والعمل، إلى درجة أن حركاته وسكناته تكون -كما يقول- لله وفي الله وبالله. وليس من شك في أن الحضور المكثف لله هو عين القوة والنجاح فيما يقرره أو يباشره من الأعمال. كما أن المهارة والسداد في الأداء إنما هو بفعل ما يناله من الرعاية والعون من الله. ودليلنا على ذلك، قوله في الموقف 128 لما يتحدث عن المعية: «وإذا كان الحق تعالى مع عبده الذاكر بحسب شهوده فهو تعالى يفعل معه ما يفعله المصاحب مع صاحبه من الرفق واللطف والرعاية. فلو انتفت المعية في شهود الذاكر، وثبتت في شهوده العينية الثابتة في نفس الأمر، علمت أو جهلت، لفعل تعالى له ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..» .
والمعية يؤكدها الإلقاء الروحاني الذي يحظى به عبد القادر، إذ يقول في الموقف 1 عن الآية القرآنية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أنه تلقاها تلقياً روحانيًّا. «.. هذه الآية الكريمة تلقيتها تلقياً غيبيًّا روحانيًّا، فإن الله تعالى قد عودني أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشرني أو يحذرني أو يعلمني علماً أو يفتيني في أمر استفتيته فيه إلا ويأخذني مني مع بقاء الرسم ثم يلقي إليَّ ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن..» .
إن اللحظة التي يخلو فيها عبد القادر إلى خالقه هي لحظة التلقي الروحاني. إنها اللحظة الحاسمة التي تُلهمه بقوة خارقة، خاصة لما يقول «وأتلقى الآية من غير حرف ولا صوت ولا جهة»، لحظة روحانية ربانية هائلة لا تبرح أن تحوله إلى شخص فوق العادي يعلو عن الأعراض المادية وعن الزمن الآني ليتطلع إلى المستقبل الغامض ويرى فيه ما ظهر وما بطن. كما يستلهم من معيته تعالى ما يجب أن يفعل أو لا يفعل مثل الطلب الذي ينوه به في الموقف 20 «.. طلبت من الحق تعالى يجعل لي نوراً أكشف به، حتى أعرف ما آتي وما أذر، فقال لي في الحين: ها هو ذا في الكتاب والسنة، فانتبهت حينئذ لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} .
وقد حظي عبد القادر بفطرة نفسية هيأته ليكون الشخص المعرض في أحواله عن الدنيا الفانية، المقبل في خلوته على التماس طريق الآخرة، الساعي في طلبه إلى نيل الحياة الباقية التي توفر له الهدوء والطمأنينة. إن عبد القادر خُلق ليكون الشخص المجبول بفطرته على تقصي أسرار الغيب، وإلا كيف يمكن تفسير ميله إلى التصوف منذ الصبا؟ يقول في الموقف 13: «كنت مغرماً بمطالعة كتب القوم (رضي الله عنهم) منذ الصبا غير سالك طريقهم، فكنت في أثناء المطالعة أعثر على كلمات تصدر من سادات القوم وأكابرهم، يقف منها شعري وتنقبض منها نفسي» .
وكيف بالشعر أن يقف وبالنفس أن تنقبض لولا التجاوب بين ما تحمله الفطرة وما تبتغيه الذات من الميل إلى الغيبيات. وطبيعي أن تتفاعل العوامل الفطرية بالعوامل التربوية لبلورة الطاقات التي تهيئ المرء ليكون في مستوى ما تطمح إليه نفسه.
إن عبد القادر كان على يقين من أن الله يستجيب لطلبه وذلك لكون طبيعته الفطرية تؤهله لذلك. فقد جاء في الموقف 32 قوله: «اعلم أن الحق تعالى لا يُعطي أحداً ما يطلبه بلسان مقاله، إلا إذا وافق طلب لسانه طلب استعداده» . ومعنى هذا أن دعاء المرء لا يُستجاب إلا إذا كانت طباعه وأخلاقه تؤهله لتحقيق ذلك المطلب. إن طلب القرب من الله، ليس كالأمر الاعتيادي الذي يقتضي إشباع رغبة عابرة، أو مباشرة عمل من الأعمال، إنما هو أمر يقتضي الإعراض عن زينة الدنيا وجمالها والإقبال بالكلية على طلب الآخرة وما فيها. زد على أنه فعل يقتضي التجرد التام عن المساعي الآنية الضيقة والتفرغ الدائم للمساعي الباقية الصالحة. وبمعنى أدق، تجريد النفس البشرية عن علائقها الجسمانية بقطع جماح الشهوة الجاثمة عليها والكف عما يخامرها من الأهواء والرغبات وتسخير كل همها للعبادة والذكر والتلاوة حتى تخلص إلى الله وحده وتتجرد عما سواه من المخلوقات.
وتحملنا هذه الاعتبارات على تأمل حالات القبض العديدة التي يغرق فيها عبد القادر لما يدعو ربه الاستجابة لمطلبه مثلما هو الحال في نهاية الموقف 18 لما يقول: «دعوت في بعض الصلوات وقلت: اللهم حققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي مسلك أهل الجذب، فسمعت في سري: وقد فعلت» .
بهذا القدر من العمل يستجيب الله لعبده مثلما استجاب لعبد القادر الذي يعترف في الموقف نفسه أنه نال رحمة من الله لما يقول: «كنت مما رحمه الله تعالى وعرفه بنفسه وبحقيقة العالم على طريقة الجذبة لا على طريق السلوك».
والجذبة في لغة العارفين، إنما هي دعوة إلهية يحظى بها العبد لما يقربه الله من حضرته. إنها أسلوب من المعرفة الكشفية التي تحصل لمن رفع الله عنه ستار الجهل وأكرمه بنور المعرفة التي تتجلى بها الحقائق الكونية.
بطولة عبد القادر تزكية سماوية
تمكن عبد القادر في فترة زمنية قصيرة، وفي ظرف سياسي واجتماعي ليس باليسير من أن يحيي شعباً، ويؤسس دولة، ويواجه في الآن نفسه أكبر حملة استعمارية عرفها التاريخ. إن المهمة الصعبة التي تكفّل بها هذا الرجل لم ينفك لحظة عن أدائها بجدارة وإحكام على الرغم مما كان يداخلها من المشاكل والصعوبات. وقد تكفينا الإشارة إلى الروح القبلية المتأصلة التي حالت دون تحقيق الوحدة، بل وعملت على إرساء دواعي التفريق والتشتيت. إلا أن لباقة عبد القادر السياسية وحنكته الحربية مكّنته من تجاوز هذه المشكلة الخطيرة بالدعوة إلى ضرورة وحدة الشعب الجزائري لحماية الدين الإسلامي من خطر التمسيح الذي يبثّه الزحف الاستعماري.
وإذا بحثنا في أصل النجاح الذي حققه عبد القادر ليس فقط على ساحة القتال، بل وحتى في حرصه الشديد على إكمال مشروعه الحضاري؛ فقد نجد أصوله ماثلة في سيادة المسعى الروحاني على المسعى الجسماني. وبمعنى آخر فإن المشروع الحضاري الذي خطّط له عبد القادر وسهر شخصيًّا على تنفيذ خطاه إنما يظهر في سيادة المقاصد الأخروية على المقاصد الدنيوية في كل التطبيقات العملية. أي أن كل قرار من شأنه تحسين شؤون الشعب والدولة إنما تغلب عليه الصبغة الصوفية على حساب الصبغة الحسية الآنية.
ومن علامات هذه السيادة هو النزوع إلى تقوى الله والفقر إليه بالإكثار من الذكر والتسبيح في كل وقت والتوكل عليه في القول والعمل. إن المواظبة على العبادات تحصّن صاحبها من أعراض الدنيا الآنية وترفعه إلى المقام الأعلى الذي هو مقام المخلصين لله تعالى من الأنبياء والأولياء والصالحين. يقول عبد القادر معبراً عن صدق إيمانه: «.. فإذا عمل العبد على أمر الحق له، وواظب على أنواع النوافل، أحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه وبصره ولسانه ويده وجميع قواه...» .
والفوز بهذا المقام إنما يتم بالأعمال وصدق الإيمان، بحيث إن قلب المرء لا يخلو لحظة من حضوره تعالى، فمصاحبته ومرافقته تكون بذكره دوماً. مثله مثل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي روت عنه السيدة عائشة أنه كان «يذكر الله تعالى على كل أحيانه». إن الذكر والتلاوة هما عين الحضور، أي الحضور الدائم الذي لا يخيب رجاء العبد.
وقد اكترث عبد القادر بشخص محمد عليه الصلاة والسلام في سره وعلانيته حتى حظي بتلقي الآية القرآنية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} التي دلّت على حسن إذعانه وامتثاله لأوامره. ومما يؤكد حصول هذا الأمر، هو حالة القبض التي يرويها لنا في نهاية الموقف 18 لما يقول: «وقد خطر لي في بعض الأيام لو أن الله تعالى كشف لي عن عالم الخيال المطلق، ودام على هذا الخاطر يومين، وحصل لي قبض، فكنت أذكر الله، فأخذني الحق تعالى عن نفسي ثم ألقى عليَّ قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}» .
إن إقرار عبد القادر بأن الله يُلقي إليه ويُدبر أمره في كل شؤون الحياة، إنما هو أمر يُحيلنا إلى الحديث عن علاقة الإلقاء الروحاني بالفعل الدنيوي. هل كل أفعال وأعمال عبد القادر تمت بفعل الإلقاء؟ فإذا كان الأمر كذلك، فقد يُلقي هذا الأمر كثيراً من الضوء على حياته الدنيوية المليئة بالأحداث الخارقة. فإذا اعتبرنا هذه الحالة -أي الإلقاء- أمراً واقعاً وعادةً ساريةً لديه، فإن كل أمر عظيم سجّل فيه عبد القادر عبقرية نادرة يمكن إسناده إلى هذه الحالة، كما أن كل موقف مصيري حاسم وقفه لحل مشكلة طارئة، أو بادر به من أجل تصريف أمر من الأمور العظيمة، يكون قد استوحاه من هذه الحالة الخاصة أو بالأحرى الطريقة الخاصة التي يسميها الإلقاء. وربما هذا ما يقصده لما يقول في الموقف 83: «من بعض نعم الله عليَّ أنني منذ رحمني الله تعالى بمعرفة نفسي، ما كان الخطاب لي والإلقاء عليَّ، إلا بالقرآن الكريم العظيم» .
إن تصريح عبد القادر بما يُخالجه في السر من أحوال القبض والكشف والإلقاء، إنما هي إلهامات روحانية تدل على تزكية سماوية لما فطرت عليه نفسه من الإخلاص والوفاء إلى الله. كما هو فضل ورضوان منه تعالى لما أبداه هذا الرجل من الطاعة والفقر إليه في كل لحظة. رسول من أنفسكم يقتضي المماثلة بشخص الرسول في الأخلاق وعلو الهمة. فالرسول الكريم يرمز إلى النفس الزكية المفطورة على مكارم الأخلاق، المداومة على العبادة لنيل الرضوان. كذلك نفس عبد القادر، فلما تحققت فيها الصفات الحميدة الدالة على الطهارة والخلق الكريم كان من حقه أن ينال درجة القرب.
وقد ابتلى الله عبد القادر وهو أمير، فأعطاه النصر تارة وابتلاه بالهزيمة تارة، وسلّط عليه الأعداء والمتاعب والمحن. كما ابتلاه بمعاملة الناس له، تارة بالقسوة، وتارة بالمكر والخبث والخديعة. فشهروا السلاح في وجهه، وأنكروا عليه لقب الأمير، بل ودسوا عليه، وتآمروا مع العدو لمحاربته، وحبكوا المؤامرات ضده. وعلى الرغم من ذلك، بقي عبد القادر صبوراً على بلائه، راضياً بقضائه، متعبداً لله متوكلاً عليه في كل أموره. فكان كريماً رحيماً يعفو عن المذنب ويرفق بالضعيف، يرد السيئة بالحسنة والخشونة بالرقة، والعداء بالصداقة والكذب بالأمانة. فكان إخلاصه لله وإعراضه عن زخرف الدنيا هو مصدر انتصاره وفلاحه.
إن إصرار عبد القادر على إرضاء الله تعالى في القول والعمل والمواظبة على ذكره في كل لحظة، إنما هي أحوال رفعته إلى حظوة التحديث بالقرآن، ومن ثم إلى إحراز مرتبة روحانية أهلته بكل امتياز ليكون صاحب السيادة الزمنية.
من الروحانية إلى الإنسانية
وإذا كان عبد القادر قد تولى زمام الأمر وأدى مهامه بحكمة وجدارة وإحكام، فهذا يعني سيادة الإلهامات الروحانية في تقرير وتنشيط الأعمال الدنيوية، أو شمولية الأمر الروحاني في تدبير وتفعيل الأمر الدنيوي. وكم هي عظيمة الأعمال التي هَمَّ عبد القادر لأدائها بحكمة وصبر وأناة، الأمر الذي أضفى عليها صفة العفة والنزاهة والإخلاص. قيم أخلاقية نبيلة مستوحاة كلها من فيض الروحانية.
لقد شارك عبد القادر بكل قوة في معركة الحياة ولم يفتر لحظة عن سلوكه الفاضل. والتاريخ الحافل بالأحداث، يشهد على أنه الرجل الذي ظل نزيهاً في إيمانه المطلق بالخير. فعلى الرغم مما كان يدس عليه من التآمر والخيانة، وعلى الرغم مما كان يحاك ضده من الغدر والمكيدة، فقد كان يعلو بعفته وسمو مقامه، فقابل الظلم بالعفو، والحرمان بالعطاء، والجهل بالحكمة، والسيئة بالحسنة، «تخلقاً -كما يقول- بالأخلاق الإلهية، وتحققاً بالأسماء الربانية».
ولا يمكن أن يتحقق سلوك مثل هذا، إلا إذا كان صاحبه مخلصاً لله تعالى غير مبالٍ بمفاتن الحياة الدنيا، معرضاً بالتمام عن جمالها وبهائها، فهو كما يقول في الموقف الأول: «محفوظ الوارد، في المصادر والموارد، ليس للشيطان عليَّ سلطان» .
بالفعل ليس للشيطان عليه سلطان، إذ هو الرجل الذي شارك في قلب ما تعرضه الحياة الدنيا من الإغراءات، وهي السلطة والإمارة وما يتبعهما من غوى المجد والجاه والملك. فهل هناك ما يفوق هاتين المرتبتين إغراء وفتنة؟
إن عبد القادر لم ينظر إلى السلطة على أنها وسيلة لتحقيق المآرب، لكن نظر إليها على أنها غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل الحكم الأمثل الذي يجسد الحق. ولما تولى زمام السلطة فإنه ما فتيء أن جرَّد السلطان من عبث الظلم والتسلط. ويعبر عن ذلك التجرد في كتاب المقراض الحاد لما يقول: «لا بد أن يكون صاحب الرسالة قليل الالتفات إلى الجسمانيات، قوي التصرف فيها، شديد الانجذاب إلى عالم الروحانيات، فتكون قوته النظرية مكتملة بأنواع الجلائل القدسية والمعارف الإلهية..» .
ولما كان عبد القادر الشخص النزيه، فلم يبالِ بما يحيط السلطة من العوارض. وعلى الرغم مما فرضته عليه هذه الأخيرة من القسر، فقد استجاب لها بالتفاني والإخلاص، لا من أجل التظاهر بما هو عليه من الملك والسلطان، ولكن من أجل الإيفاء بمطالب الدين والوطن. إن فوز عبد القادر الكبير حدث في اللحظة التي مارس فيها الحكم، لما وقف حيال نفسه موقف الردع، فجردها عن احتمال عدولها عن الحق، وارتكانها للسلطان. وهكذا وقى عبد القادر نفسه من مغبة التباهي بالكبرياء، والظلم والتعسف على حساب العدل والإنصاف والتواضع.
إن روحانية عبد القادر الحقيقية تكمن في مدى سيادته على ذاته. إنها الصوت الأعلى المنبعث من الداخل الذي طالما دله على عمل أو كشف له عن حقيقة. إنها الصوت الذي أتى من الحق، وحدثه كما يقول في الموقف 13 -على صيغة الأمر-: «... وقد أمرني الحق تعالى بالتحدث بالنعم بالأمر العام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}».
والتحدث بالنعم إنما هي الخيرات الكثيرة التي يمكن أن ينعم بها على الإنسان في الدنيا إذا تاب إلى ربه بالطاعة والعبادة. وطبيعي أن نعمة الله لا تتحقق إلا إذا أحسن العبد الدعوة إليها على منوال رسول الإسلام الذي أمره تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وهي دعوة كلها خير ورأفة وسلامة. وإذا تأملنا حياة عبد القادر نجدها كلها جهد وتضحية من أجل إقرار الخير والسلام في حق العباد والبلاد.
ومثلما مارس عبد القادر الحكم في ذاته، فإنه قدّم الخير في ذاته، أي الخير الخالص الذي يخدم الإنسان بغض النظر عن أصله أو جنسه أو دينه. ويكفينا أن ننظر إلى حياته العامة، أي حياته كأمير، حتى تتجلى لنا هذه الإنسانية. لم يميز عبد القادر في معاملته وهو يمارس الحكم بين مرتبته كسلطان ومرتبة العامة من الناس.
لقد كان يحمل لباساً بسيطاً بحيث لا يمكن التمييز بينه وبين البسطاء من العامة. وفي هذا السلوك فيض من الحكمة والبصيرة. فالشيء الذي كان يهم الأمير عبد القادر كحاكم ليس التظاهر بالملابس الفاخرة، إنما المهم التظاهر بالحق وجدوى المداومة عليه وإعطائه لمستحقيه. فالحق لا لون له ولا رائحة.
وكم تكون عسيرة المهمة الإنسانية إذا كان صاحبها يقود حرباً ضد الأعداء والخصوم. فالحرب بحكم طبيعتها تتنافى مبدئيًّا مع الإنسانية. فالحرب رمز للعنف والتدمير والبطش والتقتيل، والإنسانية رمز للحب والعطف والأخوة والتعاون. مبدئيًّا، الحالتان تبدوان متعارضتين، يُقصى أن توجد بينهما مواطن التداخل والتوافق. وكأن التاريخ أراد من خلال هذا التعارض أن يمتحن إنسانية عبد القادر إن كانت شعوراً في ذاته أم شعوراً مرتبطاً بالظروف الراهنة؟ وبصيغة أخرى، هل داوم عبدالقادر على إنسانيته أم اضطر للتنازل عنها نظراً لمتطلبات الحرب وما تقتضيه من العنف؟
في الموقف 73 يكشف عبد القادر عن مفهومه للقتال والجهاد ضد الكفار فيقول: «.. ليس المقصود من الجهاد إهلاك مخلوقات الله وإعدامهم وهدم بنيان الرب تعالى وتخريب بلاده، فإنه ضد الحكمة الإلهية... وإنما مقصود الشارع دفع شر الكفار وقطع أذاهم عن المسلمين؛ لأن شوكة الكفار إذا قويت أضرت بالمسلمين في دينهم ودنياهم» .
ما يجب التأكيد عليه في هذا الموقف، هو أن إنسانية عبد القار جوهر قائم بذاته وليس عرضاً من الأعراض الآنية. إنها شعور مستقل عن الذات، متعالٍ في روحه عن الأحوال والتقلبات. ولذلك، فهي لم تتأثر بالظروف الخارجية، بل بقيت هي هي لم تتغير على الرغم مما كان يصادفها من الصدمات. والأجمل من ذلك، هو أن الحرب صارت بفعل إنسانية عبد القادر أسلوباً فنيًّا يخلو من الوحشية والعبث والتنكيل. والتاريخ بما يحمل من الحقائق يشهد على ذلك. لقد سعى عبد القادر جاهداً في إقرار نظام من المعاملة الحربية النادرة في التاريخ، فالجندي الأميري مطالب بأن يحترم خصمه في ثلاث حالات: إذا ألقى بسلاحه، أو استسلم للأمر، أو اعترف بهزيمته.
فالقاعدة الأولى تدعو إلى القول: إن العدو مهما كانت شدته، لما يجرد من السلاح يصير إنساناً يتوجب احترامه. قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ}.
والقاعدة الثانية هو أن الحياة أغلى ما يمتلكه الإنسان في الوجود، ولما يتاح للمرء أن يعفو فالعفو من الرحمن. يقول تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
تلك هي الأخلاقيات الحربية التي لقّنها عبد القادر لجنوده. وما برح يحثهم على جدوى تطبيقها في ساحة القتال سعياً منه وراء ترسيخ وتفعيل الشعور الإنساني لديهم إلى حد المكافأة بالمال لمن يحافظ على أسير. ثماني دولارات هي المكافأة لمن يكترث بالأمر، و25 ضربة على الأقدام لمن يقسو على أسير أو يعبث بجثة قتيل. ولم تنتهِ قصة عبد القادر مع الأسرى عند هذا الحد، بل أخذت منحى إنسانيًّا واسعاً لما طلب منه أسقف الجزائر دوبوتش سنة 1841 إطلاق سراح أحد الأسرى، أجابه عبد القادر وهو في أوج القوة والسلطان: «.. اسمح لي بأن أقول لك: إنه بحكم كونك خادماً لله وصديقاً للرجال الذين هم أيضاً إخوتك، إنه كان عليك أن تطلب مني إطلاق سراح ليس واحداً فقط، ولكن كل المسيحيين الذين وقعوا في الأسر منذ استئناف الحرب..» .
وإذا كانت الحرب وما تحمله من القسوة والشراسة لم تثنِ عزيمة عبد القادر عن رفع شعار الإنسانية إلى أعلى مقام، فكذلك الحياة المدنية وما تحمله من الطمأنينة والهدوء لم تصد عبد القادر عن مبدئه. لقد كان هذا الرجل الكريم يزاول حياة العلم والزهد لما نادته صارخة الإنسانية، فهب من خلوته الهادئة ووقف ضد أكبر مجزرة كادت أن تعصف بالمسيحيين في دمشق. ولم يكن وراء هذا الموقف الإنساني غرض دنيوي آخر سوى تقديم خدمة إنسانية جليلة تعلو بقيمة الإنسان كإنسان لا كنسبة دينية أو عرقية أو ما شابه ذلك.
إن عبد القادر كان على يقين من أن الإنسان يحظى بقيمة عليا عند الله. ثلاث آيات قرآنية دلّت على إيمانه القاطع بجدوى الدفاع عن هذه القيمة.
الأولى: قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، ومعنى هذا أن ترشيح الإنسان للخلافة دليل على أنه في غاية الكمال والطاعة.
الثانية: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، والعلم دليل على إمكان ترقية الإنسان وتقربه من ربه على الرغم مما يعترض سبيله من الأمور المضلات.
الثالثة: لما قال {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ}، والسجود دلالة على التفضيل والمقام الذي يحظى به الإنسان عند الله. والسجود -على حسب ما يشرحه عبد القادر في الموقف 144- إنما مرده إلى أن الله «كشف لآدم عن إنسانيته التي هي حقيقته، فوجدها مجموع الأسماء الإلهية والكونية» .
وإذا كان عبد القادر يقول: إن الله قد أمره «بالتحدث بالنعم» فمن أولى النعم بالنسبة إليه، أن يرفع من قيمة الإنسان وأن يحسن إليه مثلما أحسن الله إليه بنعمة العلم وفضّله على الملائكة. كذلك فضّل عبد القادر ما يرفع من كرامة الإنسان وقيمته فنجده فضّل السلم على الحرب، والحرية على القيد، والأمانة على الخيانة، والصدق على الكذب، والكلمة قبل الوثيقة، وبكلمة واحدة إن الإيمان بقيمة الإنسان لا يتمثل في كونه أشرف المخلوقات ولكن يتمثل فيما يصدر عنه من الخيرات.
كما أن أسلوب عبد القادر الكلامي هو الآخر علامة من علامات الإنسانية. ففي كل مراسلاته الرسمية، ومهما كان المبعوث إليه صديقاً حميماً أو عدواً لدوداً فإن أسلوب الكتابة لا يخلو من العذوبة والرقة والثناء. ففي مراسلة إلى وزير الحرب الفرنسي بعد خرق فرنسا لمعاهدة التافنة يقول فيها: «إنني سعدت لما علمت أن جلالة ملك فرنسا عينكم وزيراً للحرب... لقد خطر ببالي أن رجلاً يحسن معرفة الحرب مثلكم، قد يكون أدرى بمعرفة السلم وما ينجم عنه من الخير» .
وفي العديد من المناسبات أظهر عبد القادر ما في باطنه من الإخلاص وجمال الأخلاق والتفاني في خدمة الغير. يقول الجنرال دوماس في مراسلة له إلى القس دوبوتش متحدثاً عن عبد القادر: «إنكم مقبلون على زيارة السجين الشهير بقصر بو، أكيد أنكم لا تندمون على رحلتكم. لقد عرفتم عبد القادر أيام عزه عندما كانت الجزائر كلها تعترف بسلطته. اليوم أيضاً في وقت الشدة ستجدونه أعظم من وقت النعمة. إنه ما يزال دائماً، يعلو بشهامته عن يأس وضعيته. ستجدونه لطيفاً بسيطاً رؤوفاً متواضعاً صابراً لا يشكو أبداً، متسامحاً حيال أعدائه حتى أولئك الذين مازالوا حتى الآن يؤلمونه لا يسمح أبداً بأن نسبهم بحضرته، مسلمين كانوا أو نصارى، ومهما كانت شكواه ضدهم، فإنهم وجدوا عنده غفرانا» .
ولا شك أن في شهادة هذا الجنرال عبرة، يعلمنا من خلالها عبد القادر كيف ننتصر على خصومنا لما نبادلهم السيئة بالحسنة، والخشونة بالرأفة. إن المعاملة الكلامية أنجع وسيلة في تجريد الخصم من العداوة الكلامية. إن قيمة الإنسان عند عبد القادر مستوحاة من إيمانه الجازم بأن الإنسان هو أفضل المخلوقات على الأرض لكون نشأة آدم وبنيه تقتضي كما يقول تعلق الأسماء كلها بها، لخلقها باليدين، وجمعها للصورتين، الصورة الإلهية من حيث الباطن، والصورة الكونية من حيث الظاهر.
الأمير عبد القادر شخصية نادرة
إن الأمير عبد القادر ظاهرة نادرة من حيث إنه المتصوف الذي لم يلتزم العزلة والخلوة. بل المتصوف النشيط الذي جاهد من أجل إقرار القيم الإنسانية العليا. والتاريخ البشري قلما يحدثنا عن متصوف من هذا الصنف. رجل يقود حركة مقاومة ويؤسس دولة حديثة ولم يترك فرصة واحدة وهو يزاول أعباء الحرب والقيادة ليخلو إلى نفسه ويعلو في المقامات الروحانية، ملتمساً الإلهام عند الإقدام، والبصيرة عند الإحجام.
إن اختيار عبد القادر أميراً لم يكن بفعل الانتساب العائلي أو الانتماء المذهبي فحسب، وإنما تم بفعل ما أثارته هذه الشخصية من السحرية والإعجاب. يقول صاحب التحفة: «واستكملت فيه شروطها، أي شروط الإمارة، من الهدى وعلو الهمة وقوة الحواس، وكمال الخلق، وجمال الصورة، وشرف النسب، وعزة القوم، والقوة والفتوة، والعلم والحلم، والحماسة والسماحة، والعزم والحزم، والتحفظ والتيقظ، والاتقاء والارتقاء... إلى غير ذلك من أفراد الفواضل ومكارم الأخلاق ومحاسنها» .
ويبدو أن في شخص عبد القادر نوعاً من السحر الجذاب المتدفق من هيئته. فلما يتحدث إليه متحدث فإنه يستمع إليه بجد وعناية واهتمام ولو كان شخصاً بسيطاً. إن الاعتبار الذي يوليه للإنسان، والتقدير الذي يُعيره للمشاعر، والاحترام الكبير الذي يُبادل به غيره يرتب عبد القادر في صنف الفضلاء من البشر. فكل من اقترب منه أحس بذلك الشعور الجزيل الذي تنبعث منه شرارة سحرية تلقي نوعاً من الجاذبية على من دنا منه أو استمع إليه.
والقصة المروعة التي حدثت ذات ليلة تكشف عما ينبعث من شخصه من الهيبة والتأثير. لقد كان عبد القادر منهمكاً في العبادة والذكر، حتى دخل عليه فجأة رجل أسود اللون، ضخم القامة، في يده خنجر حاد. فلما نظر إليه عبد القادر، انهار الرجل بكاء وشفاعة، ثم قال بنبرة متأثرة: جئت لأطعنك بالخنجر، ولما نظرت إليك بدا على وجهك هالة من النور وكأنك رسول الله.
والشعور نفسه راود ليون روش، ذلك الفرنسي المغامر الذي اصطنع الإسلام وتزوج مسلمة ومكث بالزمالة ما يقارب سنتين حيث شاهد الأمير وهو يصلي فكتب قائلاً:.. «كانت عيناه متطلعتين إلى السماء، وشفتاه مفتوحتان كأنه مازال يتلو الآيات، وبلغ حالة من الذهول والتشوف إلى الله توحي لمن ينظر إليه، بأنه فارق العالم الدنيوي وتسامى إلى العالم العلوي، هكذا يجب أن يعبد قساوستنا» .
أما الجنرال بيجو الذي كان ألدَّ أعدائه لم يحجم عن التدليل بمشاعر الإعجاب لما التقى به لأول مرة بمناسبة معاهدة التافنة، فقد أبدا برأيه، وكان رأيه يوحي ببعض التطلعات القدسية، إذ قال: إن ملامحه توحي لنا بالصورة التي نراها عادة عن المسيح، إنه رجاء كل العرب.
إن سر نجاح عبد القادر سواء كان إعجاباً بشخصه، أو أداء خارقاً لبعض أعماله أو صدًّا لبعض المصائب المحدقة عليه. إنما يرجع إلى قوة إيمانه بالله والإقبال عليه بالذكر والتلاوة. لم ينقطع لحظة عن واجباته الدينية على الرغم مما كان يتهدده من المخاطر مثل مطاردة العدو له والدس عليه من قبل الخصوم، وخطر القبض عليه في كل لحظة. وفي النهاية انتصر عبد القادر على كل الصعوبات، وانتصاره يرجع إلى تعاليه عن الأحداث الآنية التي لا شك أنه تجاوزها بروحانيته العالية.