شعار الموقع

حوار الحضارات وإشكالية الأنا والآخر في الفكر العربي والإسلامي المعاصر

الزهراء عاشور 2010-11-12
عدد القراءات « 949 »

 
* مقدمــــة
تعتبر فكرة «حوار الحضارات» من الأفكار والمفاهيم الأساسية التي انتهى بها القرن العشرون الميلادي، حيث أصبحت تحتل مكان الصدارة في قائمة الاهتمامات لدى العلماء والنخب الفكرية والسياسية، ومراكز البحوث المختلفة والمؤسسات الدولية.
كما أصبح هذا الموضوع مطروحاً بقوة على جدول أعمال الكثير من اللقاءات الدولية الثقافية والسياسية وأيضاً الاقتصادية. لاسيما بعدما أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001م، عاماً للحوار بين الحضارات. وكرّس منتدى دافوس الاقتصادي العالمي قبلها جلسة خاصة في جانفي 2000م، لتناول موضوع حوار الحضارات.
وإذا كانت هذه الفكرة، قد اتخذت شكلاً معيّناً بعد الحرب العالمية الثانية تحت رعاية اليونيسكو، وبعض المنظمات الدولية والإقليمية؛ فإنها في نهاية القرن العشرين الميلادي، تغيرت تطبيقاتها بصورة جذرية، لاسيما مع تطور العلاقات الدولية.
تشير نظريات علم اجتماع المعرفة أن ظهور مفهوم معيّن أو سقوطه، لا يتم بمحض الصدفة، بل نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الثقافية والسياسية وحتى الاقتصادية، ومن هنا فإن ظهور مفهوم حوار الحضارات كان محصلة لعوامل كثيرة منها:
- انتهاء الصراع الأيديولوجي مع سقوط المعسكر الشرقي.
- صعود دور الأديان.
- الثورة المعلوماتية، وتطور وسائل الإعلام والاتصال.
ولعل أهمها، ظهور مقولة «صدام الحضارات» التي أطلقها صموئيل هنتنغتون. فتحولت من شعار إلى استراتيجية، وسلّطت الأضواء على مجموعة من الثوابت الجيوسياسية والتطورات العالمية.
جاءت مقولة الصدام بوصفها رؤية فكرية وفلسفية جديدة ذات أبعاد سياسية، حاولت ملء الفراغ الذي استشرى في الدوائر الفكرية الغربية، وصياغة خطاب استراتيجي جديد للغرب. لاسيما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بما يمكّنها من تكريس هيمنتها على العالم، وتحقيق مصالحها في ظل الأحادية القطبية، لاسيما في العالم العربي والإسلامي الذي جعلته مقولة الصدام في موضع مصدر التهديد للغرب ومصالحه، ثم في موضع المتهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
أمام خطاب النفي المُؤسَّس على الصراع، سعى الفكر العربي والإسلامي في البحث عن المنهجية الشاملة التي تمكّنه من امتلاك آليات الصمود ومنه الإمكان الحضاري. حيث تغيرت نظرة العرب والمسلمين إلى مسألة الحوار الحضاري، كانعكاس حتمي للتغيرات والتحولات الكبيرة التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة. فشهدت الساحة الفكرية العربية والإسلامية، تصاعد وتيرة الاهتمام بالحوار تنظيراً وتأسيساً من خلال جهود فردية أو مؤسسات أخذت على عاتقها دعم مشروع حوار الحضارات. فأصبح بذلك الحوار مطلباً عربيًّا وإسلاميًّا، ولم يبق مجرد مطلب غربي كما كان في العقود الماضية. خاصة أن الحوار لا يتنافى مع مفهوم الإسلام للتعارف بين الناس والتدافع بينهم.
تعتبر الدعوة إلى «حوار الحضارات» في الوقت الراهن إحدى أكبر الإشكاليات  المطروحة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، المثيرة للجدل. والتي أثارت بدورها الكثير من الإشكاليات الجديدة، وجددت طرح أخرى قديمة، لعل أهمها: العلاقة بين الخصوصية والكونية، ومفاهيم الهوية، وقضية النقد الذاتي، والعلاقة مع الآخر (الغرب) بفكره وحضارته وغيرها. فأصبح الحوار في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، يحمل في طياته الكثير من التساؤلات. لاسيما في ظل العولمة التي تسعى إلى إعادة تشكيل الآخر وفق ثقافة منمّطة وموحّدة يفرضها الطرف المهيمن.
فهل اتفق الخطاب العربي والإسلامي في النظر إلى الحوار بين الحضارات؟
وكيف حاول هذا الخطاب تقديم ذاته (الأنا) في الحوار؟
وكيف نظر إلى الآخر (الغرب) بفكره وحضارته؟
* أولاً: إشكالية «الأنا»
لعل أهم تساؤل يطرح في خضم الحوار بين الحضارات والثقافات في الدائرة العربية والإسلامية، من سيعبّر عن الهوية العربية الإسلامية؟
فمع تعدد الخطابات داخل هذه الدائرة بين خطاب ليبرالي وماركسي وإسلامي وغيره، تباينت وجهات النظر حول من يحاور «الآخر»، وحول منطلقات الحوار ومرجعيته. فالتيار الليبرالي، يرى أن التيارين الإسلامي والماركسي غير مستعدين للقيام بحوار مع الحضارة الغربية، فالأول متطرف والثاني جامد. والتيار الوحيد المستعد للحوار مع التيار الغربي هو التيار الليبرالي، كما يؤكد على ذلك أحد أبرز رموز هذا التيار في حوار الحضارات وهو السيد ياسين .
وينفي علي أومليل أحقية التيار الإسلامي في الحوار، «فلا مجال لهذا الفكر الأصولي المتشدد لأي حوار بين الحضارات. فالإسلام عنده ينبغي أن يسود ليس بالدعوة وحسب، وإنما بالجهاد أيضاً، والذي يعني فرض فكره الديني بالعنف والإرهاب. ولذلك فإن صراع الحضارات لا يقول به كتّاب غربيون وحدهم، بل يقول به حملة الفكر الديني المتطرف» .
والتساؤل الذي يطرح:
هل الحوار من منظور الحداثيّين يجب أن يقوم على علمنة الإسلام وتحديثه؟
أما التيار الإسلامي، فيركز على المدلول الرسالي للحوار، فهو يعبّر عن قيمة حضارية، إذ هو أسلوب الأنبياء والرسل في التبليغ والدعوة. وبالتالي أحقية هذا التيار في تقديم الإسلام والحضارة الإسلامية للطرف «الآخر». فعلى الغرب، كما يرى محمد خاتمي، أن يحاول خوض الحوار مع أولئك الذين يمثلون بجدارة الفكر والثقافة الإسلاميين. أما المتغربون الذين هم في حقيقة الأمر تمثيل ناقص ومشوّه للغرب نفسه، فإن حوار الغرب معهم لا يشكّل ديالوغاً و(حواراً ثنائيًّا)، ليس ذلك وحسب. بل إنه لا يشكّل مونولوغاً و(مناجاة أحادية)، أيضاً، كما يؤكد على ذلك خاتمي وهو أحد أبرز رموز هذا التيار في حوار الحضارات .
والتساؤل الذي يطرح:
هل وصل هذا التيار إلى درجة النضج التي تمكّنه من عرض الإسلام والحضارة الإسلامية بأسلوب علمي راقٍ بعيداٍ عن التمجيد والدفاع والتبرير، خاصة مع تعدد روافد هذا التيار وتباين طروحاتها؟
فبين منظومة الحداثة ومنظومة الأصالة والتراث، ومع أسلوب النفي المتبادل. تجري محاولات تأصيل الحوار بين الحضارات في الدائرة العربية والإسلامية، وبلورته. فأما الحداثيّون، فيجعلون الحداثة إطاراً مرجعيًّا للحوار. فمنطق الحداثة هو منطق التغيير، كما يرى ذلك علي أومليل . ويحاول سمير أمين في حديثه عن صراع الحضارات أن يضع برنامجاً تحرريًّا إنسانيًّا قائماً على الحداثة، فالحداثة من وجهة نظره لم تصل بعد إلى نهاية مسيرتها على الرغم من ظهور مفهوم ما بعد الحداثة، ولن تكون نهاية لهذه المسيرة. الحداثة هي انقلاب أيديولوجي وفكري وجوهري، حدث عندما اعتبر المجتمع نفسه مسؤولاً عن مصيره عندما أعلن الإنسان أنه هو صانع تاريخه... من الواضح إذن -كما يرى سمير أمين- أن الحداثة بهذا المعنى لا نهاية لها. وبالتالي، فإن نبذ الحداثة معناه التنازل عن العمل المسؤول في سبيل صنع التاريخ. كما أن الدعوة بالأصالة لا تعني في هذه الظروف عدا محاولة إيقاف سير التاريخ عند مرحلته السابقة على الرأسمالية ونشأة الحداثة، وهو هدف طوباوي يتعذر تحقيقه. فليس هناك معنى للخيار بين الحداثة والأصالة الذي يؤدي بالضرورة إلى خلط المفهومين على أساس قبول الحداثة كما هي، أي حداثة رأسمالية من جانب وتلوينها بألوان الأصالة من الجانب الآخر. وهو بالنتيجة قبول الوضع الراهن أي التبعية في المنظومة الرأسمالية وفي مواجهة هذا الطرح المزوّر العقيم الذي لا بد أن يؤدي إلى مأزق تاريخي، ليس ثمة بديل صحيح عدا العمل في سبيل تطوير الحداثة، لا إنكارها وتلوينها. فالشعوب التي لا تشارك في تطوير الحداثة، تتخلف بالضرورة حتى تهمّش. فمن يختار أن يخرج عن التاريخ لن يصنع الآخرين من التقدم في مسيرته .
أما عبد الملك منصور، فيصوغ تصوراً يعتبره التأصيل الذي ينطلق منه رأيه في الحوار. حيث يميز بين نوعين من الوعي الثقافي، وعي ماضوي تقليدي ووعي مستقبلي استشرافي. الأول وعي نقلي يحاول أن يشد حياتنا إلى الوراء وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالاً غائباً في حياتنا، وليس عنصراً تكوينيًّا من عناصرها الحيوية. وأما الوعي الثاني نقيض الوعي الأول، وعي يفتح أفق التجريب والمغامرة ويقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا يُشغل بالماضي إلا بوصفه عنصراً من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة. ولذلك فهو وعي حداثي بالضرورة وتجريبيته هي الوجه الآخر من نسبية اجتهاده، فهو وعي لا يعرف الحلول الجاهزة أو الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية التي تشل الحركة أو الدوائر المغلقة للفكر. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من وِهَاد التأخر إلى ذرى التقدم .
والفكر الحداثي عند الحداثيّين هو تفكير بالزمان والمكان، على عكس الفكر الأصولي فهو فكر لا زماني ولا تاريخي. لأنه كما يرى علي أومليل، تفكير في نص مقدس تفكيراً خارج الزمان، لا ينال منه الزمان مهما حدث في تاريخ البشر من تغيرات وأحوال. في حين أن النص لا ينفصل عن قراءته، والقراءة زمانية تختلف وتتغير حسب تحول الأحوال واختلاف المصالح وتطور الفكر والتدافع من أجل إثبات النفوذ والذات . والأصولي يجمّد النص، هذا النص لا يمكن لمعناه -عنده- أن يتغير. مادام الأصولي لا يعترف بتعدد القراءة، أي بتعدد المعنى. ومادامت الحداثة من سماتها الارتكاز على حاضر يستقطبه المستقبل، فإن النص عند الأصولي لا يحدث له شيء، فهو مجمّد خارج الزمان وعلى الرغم منه. ومهما حدث على أحوال البشر من حوادث فلا اعتبار لها في ذاتها، ولا يمكن الاستناد إلى منطقها لتجديد قراءة النص، فالمعنى عنده لا يتغير ولا يتعدد، لأن النص ثابت المعنى، فمادام النص واحداً وثابتاً. فالمعنى أيضاً واحد وثابت فلا مجال للحق في الاختلاف ولا للتعددية في المجتمع المدني والسياسي . وهذا الثبوت في قراءة النصوص الدينية، يعتبر في رأي الباحث من عوائق حوار الثقافات.
أما السيد ياسين، فيرى أن الحداثة عالمية، ومنه، فعبور المجتمعات المعاصرة إليها ضرورة حتمية، لا فرق في ذلك بين مجتمعات متقدمة ومجتمعات نامية. وقد يبدو عبء العبور بكل تكاليفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيسر بالنسبة للمجتمعات المتقدمة التي خاضت اختبارات الحداثة منذ قرون، إذا ما قورنت بالمجتمعات النامية. ومع ذلك يمكن القول: إن معركتها في سبيل تطوير مؤسساتها وتحديث قيمها لا تقل ضراوة عن المعركة التي قُدِّر للمجتمعات النامية أن تخوضها، ومع هذا لا بد من تأكيد أن معركة المجتمعات النامية مزدوجة. فهي أولاً: سعيٌّ حثيث لاستكمال الحداثة على الطريقة الغربية، وهي ثانية: محاولةٌ للعبور إلى العالمية في عصر العولمة بكل ما تفرضه من شروط سياسية وقيود اقتصادية .
والهدف من ذلك -كما يرى السيد ياسين- هو التوصل في النهاية إلى الاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ في اعتبارها التنوع الإنساني الخلّاق، في الوقت الذي تسعى فيه إلى التركيز على القواسم المشتركة بين حضارات العالم .
وكمحصلة لكل ذلك، خَلْق حضارة عالمية تقوم بدورها في تقليل المسافات بين البشر وتعمل على تعميق التفاعل الإنساني. لاسيما في ظل الثورة الاتصالية الكبرى التي تمثل في الواقع البنية التحتية التي تساعد على إيجادها على أنقاض حضارة عالمية منهارة، كانت لها رموزها وقيمها التي سقطت تحت وطأة ممارسات القرن العشرين الميلادي .
وقريب من هذا الرأي، ما يراه محمود أمين العالم، أن عصرنا الراهن تسوده حضارة عالمية واحدة، تمتد لأول مرة في التاريخ من أدنى الأرض إلى أقصاها، وإن اختلفت وتفاوتت هذه الحضارة الواحدة بين هذا المجتمع أو ذاك. فيرتفع المستوى الحضاري عند من أسهموا ومازالوا يسهمون في إنتاج وإعادة إنتاج وتطوير هذه الحضارة عن مستوى من يسهمون في ذلك إسهاماً هامشيًّا طفيليًّا، أو من يغلب عليهم طابع التبعية لها .
ومنه، تغدو الخصوصية الثقافية عند محمود أمين العالم جنوحاً دينيًّا ماضويًّا، يفتقد الرؤية الموضوعية للصراع ضد الهيمنة الحضارية السائدة .
فالخصوصية عند هذا الاتجاه، ماضوية معادية للتاريخ والسوسيولوجيا. يقول عزيز العظمة: «إن الخصوصية المدعوة «خصوصية ثقافية»، تؤخذ اليوم علماً على تسوير أوروباً وعلى نزع إمكانية العمل التاريخي عنا، وعلى القضاء علينا بالانحصار في خصوصيات ماضوية تقينا من الرقي ومن تهجين الأصول. أي أنها تقينا من إمكانية إدراك الواقع وسبل الترقي، وتستثير فينا الحمية إلى ما انقرض وإرادة إعادة إنتاج المتخلف والنكوص إلى ما انقضى وولى وتقادم» . وذلك بعد أن أكد على ضرورة الاستناد إلى العلمانية التي يرى أنها تستند إلى النظرة العلمية، بدل النظرة الدينية الخرافية إلى شؤون الكون والطبيعة على العموم .
كما يؤيد محمد أركون هذا الرأي، فعلى الرغم من كون التعددية الثقافية للبشر شيء جيد رائع -كما يرى- لكن يشترط أن يتم ذلك ضمن السير نحو الكونية أو نحو وحدة الجنس البشري. فهناك قيم كونية، لكن يعطي أركون الحق لكل ثقافة أن تتبناها بلغتها الخاصة وهذا ما يقرب الشعوب والأمم ويخلق طابعاً إنسانيًّا على الحداثة .
الحوار ممكن وضروري عند هذا التيار للخروج من منطق حماية الهوية الخالصة إلى منطق صياغة هويات متعددة قابلة للاغتناء كل يوم بما يوفره الإنسان من انتصارات يومية باهرة على المسافات والحدود .
على أساس ما سبق، فإن خصائص الطرح الحداثي في الحوار هي على النحو الأتي:
1) الإطار المرجعي الرئيس للحوار هي: الحداثة.
2) تجديد الفهم القرآني وقراءته في ضوء الراهن الحضاري.
3) الاستناد إلى العلمانية باعتبارها من مقومات الحداثة.
4) الانطلاق في مناقشة مختلف القضايا وفق هذا المنظور مثل قضايا: المرأة، وحقوق الإنسان، علاقة الدين بالدولة وغيرها.
5) تجاوز تداعيات التراث وتجاوزاته.
6) اعتبار الحضارة القائمة حضارة عالمية.
7) تجاوز بعض الخصوصيات الثقافية للوصول إلى القيم العالمية المشتركة.
وأما الاتجاه الإسلامي، فيركز على الإسلام بوصفه مرجعية أساسية للحوار. فالحوار أساس من الأسس الإسلامية، وهو أصل من الأصول الثابتة للحضارة العربية الإسلامية ينبع من رسالة الإسلام وهديه ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته، كما يؤكد على ذلك عبدالعزيز بن عثمان التويجري .
«فالقرآن الكريم هو كتاب الحوار، بما أثار من مفردات شملت عقائد أهل الكتاب. وكذا حوارات النبي (صلى الله عليه وسلم) مع هؤلاء والمشركين، ثم ردود الفعل التي واجهتها رسالة الإسلام. كل هذا يعنى أن مسألة الحوار هي من المسائل التي تعيش في عمق وحركية التفكير الإسلامي» .
وقد انتقد هذا التيار الحداثة، ومقوماتها. بل يذهب محمد خاتمي إلى كون مبدأ حوار الحضارات ذاته، يتقاطع مع أحكام الاتجاه الوصفي الجزمية ومسلمات الحداثة. لكنها في الوقت نفسه، ليست بذات صلة بنزعة الشك المطلق لدى اتجاه ما بعد الحداثة. يقول خاتمي: «لو قدر للحوار أن يتحول إلى مرحلة جديدة في تاريخ الإنسان فلا بد له أن ينتقل من مستوى دعوى الحداثة السلبية تلك، ويتعالى إلى مستوى التعاون والتكافل المشتركين. ولا نكاد نجد مسلماً يفقه القرآن ولا يتداعى ذهنه حين يسمع مفردة التعاون إلى النداء القرآني {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} » .
ومنه، يستقى هذا التيار أسلوب الحوار ومنهجه ومنطلقاته من القرآن الكريم.
أما «أسلوب الحوار فالحكمة والموعظة الحسنة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. وأما مرجعيته فالعقلانية {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}. وأما منطلقه فوسطية هذه الأمة التي أهّلتها للشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}» .
كما يتميز النسق الحضاري الإسلامي في إنسانيته، كما يشير إلى ذلك طه جابر العلواني، فهو نسق نقيض النسق الهيليني والروماني، إذ يطرح التوحيد في مقابل الوضعية الملحدة أو المشركة. ويطرح النسق الحضاري الإسلامي القائم على منظومة القيم الإلهية مقابل للنسق القهري الاستعبادي، ويربط العباد بخالقهم ولا يسخّرهم لحاكم أو سلطان .
وبالتالي، فالحوار عند هذا التيار لا ينبغي أن يستخدم مدخلاً لإذابة الفوارق والخصوصيات الذاتية. وتضيف نادية محمود مصطفى، ولا لعولمة ثقافة ما أو تعديل الأنساق القيمية للآخرين مما يتفق ومعايير أنساق هذه الثقافة. فهو ليس إدماج الثقافات، ولكن تعويد الشعوب والمؤسسات على احترام الاختلاف وكيفية التعايش رغم الاختلاف .
فالطرح الإسلامي لموضوع حوار الحضارات، كما يؤكد على ذلك محمد خليفة، مرتبط في الأصل بالموقف الذي حدده الإسلام من الأديان الأخرى ومن الشعوب الأخرى. فالإسلام اعترف بالتعددية الدينية واعترف أيضاً بالتعددية الثقافية، واعتبر أن اختلاف الأمم من الأديان والحضارات هو بمثابة قاعدة للتعارف والتعامل والتثاقف بين الشعوب المختلفة .
وبما أن النسق الحضاري الإسلامي متميز، فإن حوار الحضارات من وجهة نظر طه جابر العلواني، يعنى الاعتراف بأن هناك حضارات متعددة وليست حضارة عالمية واحدة، نسخت الحضارات السابقة عليها. ومن ثم فلابد من إعادة النظر في المناهج والنظريات والعلوم الناتجة عن حضارات عالمنا المعاصر، وليس فقط ما ينتج عن الحضارة العالمية المركزية التي يزعم البعض أنها خلاصة التطور البشري ونهايته ونهاية التاريخ .
ليس الحوار هدفاً في حد ذاته عند هذا التيار، بل وسيلة لتحقيق أهداف شتى. لعل أهمها على مستوى العلاقات الدولية، هو بناء نسق جديد للعلاقات الدولية يتأسس على القناعة بالترابط والمصير الإنساني المشترك . فالحوار كما يرى محمد خاتمي، هو سعي إلى تغيير أسس العلاقة وإطارها في العالم الحالي أو نموذج العلاقة الراهن على حد التعبير الحديث. وإذا تحقق ذلك وتخطّى مستوى الشعار ففي وسعنا -كما يأمل خاتمي- أن نتوقع عالماً جديداً .
على أساس ما سبق، فإن خصائص الطرح الإسلامي للحوار هي على النحو الآتي:
1) الإطار المرجعي الرئيس للحوار هو: الإسلام.
2) الحوار أساس من الأسس الإسلامية، ومنه أصالة الطرح الإسلامي للحوار.
3) نقد الحداثة التي قام عليها الفكر الغربي، أساساً للمدخل الإسلامي للحوار.
4) استنباط منهج الحوار وأهدافه من القرآن الكريم.
أما منهجه، فيقوم على مجموعة من الضوابط أهمها:
- الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
- احترام الآخر واحترام خصوصيته.
- الحكمة ضالة المؤمن والحقيقة لا يملكها طرف واحد.
وأما أهدافه، فهي:
- التعارف على الآخر.
- نشر الدعوة الإسلامية.
- الدفاع عن المرجعية الإسلامية التي أصبحت تتعرض لهجوم داخلي وخارجي.
- تحقيق إمكانية تقديم الثقافة الإسلامية إلى الثقافات الأخرى.
5) الحضارات متعددة وليست حضارة عالمية واحدة.
6) تميز النسق الحضاري الإسلامي، ومنه ضرورة المحافظة على الهوية والخصوصية.
7) الحوار وسيلة لإيجاد قواعد جديدة في التعامل الدولي.
يتميز المجتمع العربي والإسلامي بتعدد هيئات أفراده ومستوياتهم، فبين السياسي والمفكر وعالم الدين والأكاديمي، وبين المثقف والعامي أو الشعبي. فلهذا نجد البعض يصنف أطراف الحوار إلى أصناف عديدة.
فتصنف نادية محمود مصطفى أطراف الحوار في الدائرة العربية والإسلامية إلى عدة أصناف، وهي:
1) أهل السياسة وتسميه بالحوار الرسمي (السياسي والدبلوماسي).
2) أهل الفكر والثقافة.
3) الأكاديميون والباحثون.
4) الشعوب، وتسميه بالحوار الشعبي .
ونجد البعض يلجأ إلى وضع معايير لتصنيف الأطراف المشاركة في الحوار في عمومه، فيصنف علي فهد الزميع الأطراف المشاركة في الحوار بأكثر من معيار، أهمها:
المعيارالثقافي: أي أهل الثقافة، وهو المعيار الذي يتعامل مع مختلف الحضارات. والتي يجب أن يشارك ممثلون لها جميعاً كأطراف متساوية في الحوار الحضاري.
المعيار المؤسسي: من الضروري لإنجاح الحوار الحضاري العالمي أن تساهم فيه جميع الدوائر والمؤسسات التي تنظم انتماءات البشر على وجه الأرض. ولذلك فإن المؤسسات التي يمكن اعتبارها أطرافاً في هذا الحوار يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
- التنظيمات الدولية، وهي هيئة الأمم المتحدة والتنظيمات التابعة لها، وفي مقدمتها منظمة اليونسكو التي تتمتع بما يؤهلها لدور مميز في تنظيم الحوار الحضاري والدعوة إليه.
- التجمعات الإقليمية، ومنها منظمة الدول الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومنظمة دول جنوب شرق آسيا، ومنظمة الوحدة الأفريقية، والمنظمات الإقليمية والمؤسسات المتخصصة التابعة لها.
- المنظمات والمؤسسات التطوعية القطرية والدولية.
- الجامعات ومراكز البحوث والدراسات.
- الأحزاب والتجمعات السياسية والفكرية.
- المؤسسات الاقتصادية، ودورها يتميز من خلال المساندة والتمويل اللذين يمكن أن توفرهما لفاعليات الحوار الحضاري العالمي.
المعيار التخصصي: الأفراد والشخصيات ذات الإسهام الخاص في عملية الحوار الحضاري العالمي وتتسع دائرة هؤلاء بحسب تخصصهم، تشمل الفئات المؤثرة، مثل: رجال الدين والمفكرين، والسياسيين، ورجال الثقافة والفنون، ورجال الاقتصاد والمال، والعلماء والباحثين، ورجال الإعلام والصحافة، والقيادات والرموز المجتمعية، وقيادات الحركات النسائية .
وإن كان البعض يلقي عبء الحوار في الدائرة العربية والإسلامية على عاتق المثقف العربي والمسلم. علماء وفلاسفة ومفكرين وفنانين دون رجال السياسية، فهؤلاء دون أهل السياسية -كما يرى فهمي هويدي- وحدهم هم المؤهلون لإجراء هذا الحوار. إذ يفتحون قنواته الأكثر صدقية وفائدة على المدى البعيد .
أما من ينتظر أن يقود أهل السياسة حوار الحضارات، فيجب ألَّا يتوقع نتائج كبيرة. إذ في الغالب يتم تنظيم اللقاءات من أجل أهداف قصيرة ومرتبطة بالمصالح. فرجال السياسة كما يرى محمد خاتمي، ليسوا أبطال الحوار بل ذلك الدور يقوم به العلماء والفلاسفة والمفكرون والفنانون . وهذا الرأي يشترك فيه الكثير من المفكرين والباحثين على اختلاف توجههم الفكري.
وإذا كان هؤلاء المثقفون لهم الدور البارز في حوار الحضارات، فإن البعض يحصرهم في المثقفين المسلمين المقيمين في الغرب. حيث يرى أحمد بسام الساعي، أن هؤلاء يُسهمون أكثر في دعم حوار الحضارات. لاسيما في تحقيق تفاهم حضاري مع الغرب، لأنهم الأكثر خبرة ومعرفة بنقاط اللقاء ومواقع التصادم بين الإسلام والغرب. ومن ثمّ يدركون المنطلقات التي يجب أن يبدأ منها أي حوار بين العالمين، وهم وحدهم الذين يملكون بأنفسهم قياد ألسنتهم وأقلامهم فلا يحسبون لهذا أو لذلك ألف حساب. لقد ظل العرب يعزفون مئات السنين على عود ذي أربعة أوتار، وما إن وطئت أقدام زرياب أرض الأندلس قادماً من قصر الخليفة العباسي في بغداد، وتعرَّضت عبقريته الفنية لرياح الغرب حتى أبدع لنا الوتر الخامس للعدد. إن هذا الوتر الجديد في لقاء الحضارات، بيننا نحن المثقفين المسلمين في الغرب. نحن لا نريد أن نقطع الأوتار ونحطم العود، ونتحول إلى غربيين. لكن بإمكاننا أن نقدم لهم الكثير مما عندنا، ويقدموا لنا الكثير مما عندهم لنعزف معاً على آلة واحدة مشتركة من التفاهم والتعاون والعمل من أجل البناء والتقدم والسلام . ويؤيده في ذلك وليد محمود عبد الناصر الذي يركز على الدور المنوط بالعرب والمسلمين المقيمين في بلاد الغرب في حوار الحضارات .
ويحصرهم طه جابر العلواني في المفكرين المسلمين من أصل غربي، إذ يرى أنهم هم المؤهلون أكثر للدخول في حوار الحضارات خاصة مع الحضارة الغربية. إذ يملكون آليات الفكر الغربي ومعطياته، يقول العلواني: «نفتح الحوار الثقافي خاصة مع الغرب على أن يتصدى له من جانبنا المفكرون المسلمون من أصل غربي، أمثال: غارودي وبوكاي وهوفمان وبلانكنشب وأمثالهم. ونكون لهم بمثابة مستشارين نعينهم باطلاعهم على ما يطلعون عليه من جوانب مضيئة في كتاب الله المصدر المنشئ والأساس لثقافتنا، وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم) المصدر المبيّن منهجيًّا للكتاب. وميثاق أشبيلية ، يمكن أن يكون قاعدة حوار ثقافي جيد بيننا وبين الغرب خاصة، وبيننا وبين أصحاب الثقافات والحضارات الأخرى عامة» .
ما لا شك فيه، أن العرب والمسلمين المقيمين في الغرب والمسلمين من أصل غربي تُلقى على عاتقهم مسؤولية كبيرة في دعم حوار الحضارات. إذ لم تعد الثنائية تطرح بصيغة: الإسلام والغرب فحسب، بل أيضاً الإسلام في الغرب. خاصة أن هؤلاء أصبحوا جزءاً مكوِّناً له، فهم همزة وصل بين حضارتين لديانتين لهما وزنهما في التاريخ الإنساني. خاصة أن الطرف المسلم الأوروبي -كما يرى محمد صفار- هو من جنس الغرب وثقافته وحضارته. بيد أنه لا ينتمي إليه عقيدةً وولاءً وفكرةً وحركةً، إنه في الغرب وليس منه. ومن ثمّ لن يتمكن الطرف الغربي الغالب من ممارسة نمطه السلوكي المعتاد بعرض نفسه ونماذجه في إطار عمليات صناعة الصورة وتسويقها وبثها في كل مكان أمام طرف مولع لاهث وراء تقليد الغالب .
والإسلام في أوروبا، يعتبر من الإشكاليات التي تطرح في الفكر الإسلامي المعاصر. خاصة الطرح الإسلامي الأوروبي الذي يحاول «أن يقدم الإسلام كبديل فكري - سياسي -اجتماعي - اقتصادي لواقع العالم الغربي والإسلامي على حد سواء، ونقد الأوضاع السياسية والاجتماعية في بلاد المسلمين النابعة من الحداثة والعقلانية والمادية. أو في إبراز مشكلات وقضايا الأقليات المسلمة في البلدان الأوروبية. وما تتعرض له من خلال اضطهاد وتمييز عنصري وديني واقتصادي وسياسي واجتماعي» .
وبما أن الثقافة الشعبية هي التعبير الحقيقي عن الواقع المعيش للجماهير العريضة الكادحة في العالم العربي والإسلامي، والتي تُحفظ في الذاكرة الجماعية التاريخية للشعب كله. نجد في الطرحين الحداثي والإسلامي تركيزاً على الحوار الشعبي، أي الشعوب ومنتجاتها الثقافية بوصفها طرفاً من أطراف الحوار. حيث يرى السيد ياسين، أنه لا ينبغي أن يقتصر الحوار بين الحضارات على المثقفين. بل لابد أن يشارك فيه ممثلون للثقافات الشعبية بمختلف تياراتها، ذلك أننا نعرف جميعاً أنه في عدد من المجتمعات المعاصرة تسود ظاهرة الانفصام الثقافي. ونعني بها الفجوة المعرفية والفكرية بين النخبة والجماهير، ناهيك عن الاختلافات العميقة في الحساسية الفنية والأذواق والاتجاهات الجمالية. ومن هنا لن يكتمل الحوار بين الحضارات في رأينا دون تضمينه الثقافة الشعبية .
ويطرح حسن وجيه الحوار الشعبي ضمن تساؤله عن كيفية إعداد فرقنا للحوار، وكيفية الوصول إلى رجل الشارع في الغرب وفي الثقافات الأخرى .
وتؤيدهما نادية محمود مصطفى، حيث ترى أن تفعيل حوار الشعوب قد يكون سبيلاً للالتفاف حول ما يمارسه اختلال توازن القوى من تأثيرات سلبية على الحوارات الرسمية بين الحكومات. ومن هنا أهمية التمييز بين الحوار بوصفه قضية دولية أو أداة من أدوات السياسة الخارجية، وبين كونه نشاطاً إنسانيًّا متواصلاً وقديماً قدم خلق الإنسان .
وبتتبعنا لطروحات التيارات المختلفة في الدائرة العربية والإسلامية حول قضايا الحوار، نجد ما يلي:
أما التيار الليبرالي، فيركز على القضايا المرتبطة بالفكر الليبرالي، مثل: العلمانية، والدين والدولة، والحداثة، وما بعد الحداثة، قضايا المرأة، حقوق الإنسان، الديمقراطية وغيرها. حيث يجعل السيد ياسين الديمقراطية أحد الموضوعات المهمة الداخلة في صميم حوار الحضارات بسبب نمو وتصاعد الجهود الفكرية في مختلف القارات في مجال تأصيل نظرية الديمقراطية، وإبراز أنماطها المحددة وتحليل إشكالاتها والتصدي بإيجابية لتذليل العقبات أمام تطورها .
أما التيار اليساري، فيركز على القضايا المرتبطة بالفكر اليساري، مثل: قضايا التحرر، والعدالة الاجتماعية، والتهميش العالمي وغيرها. حيث يتساءل حسن حنفي، لماذا لا تطرح قضايا العدالة الاجتماعية، وحركات التحرر الوطني، وقضايا إيجاد مفاهيم بديلة للعولمة، مثل: التعاون المتبادل؟ ويتساءل أيضا: «إذا كنا في ظل الحوار لا نستطيع أن نفرض جدول أعمالنا على الحوار، والغرب هو الذي يفرض ذلك. فهذه أزمة حقيقية ؟» .
وأما التيار الإسلامي، فيركز على إدخال المفاهيم الدينية، والأبعاد الثقافية والحضارية في طرح القضايا. قضايا من قبيل أزمة الأسرة، والأزمة في علاقة الإنسان بالطبيعة، وأزمة الأخلاق. فيما يتصل ببعض الأبحاث العلمية إلى جانب مسائل كثيرة مشابهة، كما يرى محمد خاتمي . ويركز سيد كمال الخرازي على الأركان الخمسة كما يسميها، وهي الأخلاق، والحرية، والعدالة، والأمن، والسلام والتي تنبثق عنها الكثير من القضايا التي تحتاج للمعالجة، مثل: الانحلال الخلقي في شتى صوره، وقضايا الحريات العامة، والعدل، وحماية الأفراد وأمنهم، والسلم العالمي. يقول الخرازي: «إن هذه المفاهيم الإسلامية والعامة المرتبطة مباشرة بالحياة الفردية والاجتماعية للإنسان. وهي تشمل كافة المجتمعات البشرية بغض النظر عن القومية واللون والدين والتقاليد والجنس والنظام الاجتماعي والسياسي، فإذا ما اعتبر مشروع حوار الحضارات أنموذجاً أمثل للقرن الواحد والعشرين، وإذا ما اهتمت الأطراف العالمية المعنية بالحوار حول الأسس الخمسة المذكورة آنفاً، فإن الأهمية الحيوية لهذا المشروع ستتضح بصورة أكثر» .
والتساؤل الذي يطرح:
بأي منظور نتحاور مع الآخر، أبمنظور ليبرالي؟ أم ماركسي؟ أم إسلامي؟ أم يتوجب توحيد الرؤية؟
ما لا شك فيه، أن تعدد المرجعيات داخل الدائرة العربية والإسلامية. يؤثر في مناقشة الكثير من القضايا موضوع الحوار، لاسيما المرتبط منها بالهوية. الأمر الذي يجعل الباحثين غير المسلمين يلقون صعوبات في تتبع هذه الاختلافات، لاسيما إذا كانت جوهرية وفي المنابر الدولية. فالشعور السائد لدى معظم الغربيين هو تعدد «الإسلامات» كما تشير إلى ذلك باكينام الشرقاوي .
وهذا ما يشير إليه أيضاً السفير نبيل بدر، فعدم وجود مرجعية واحدة داخل العالم الإسلامي، لا من الناحية العلمية ولا الفقهية. جعل البرلمان الأوروبي يطرح سؤالاً مع من نتحاور من المسلمين؟
فالخطاب العربي والإسلامي المعاصر يتسم بالثنائية والانشطار إلى معسكرين يتبادلان الإسقاطات: معسكر حداثي ومعسكر إسلامي، وهذا لا يتناسب مع تعقيدات الواقع الراهن. هذا الخطاب لا يزال إما تائهاً في الآخر، أو غائراً في تاريخ الذات، ولغة الحوار هي اللغة النافية. «فالطبيعة الاستقطابية لهذا الخطاب، فرضت عليه تلك الثنائيات الجامدة التي أضاعت الحقيقة بين طرفيها، وفتتت جهود الباحثين والمثقفين في محاولة الانحياز لأي من الطرفين والانتصار له. وتحوّل العمل الفكري إلى نوع من التعصب الكروي الذي يقوم على مسلّمة المنتصر والمهزوم، وإن كانت طبيعة العمل الفكري تأبى أن يتم التعامل معها بهذه الجدية الجامدة» .
فتعدد المرجعيات والخلط بين الرؤية الإسلامية والخبرة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي، أو تأويل الرؤية الإسلامية وقراءتها بأبجديات أيديولوجية، أو تاريخية . ولّد تضارباً في المفاهيم في الدائرة العربية والإسلامية. وبالتالي، تعددت الرؤى حول القضية الواحدة داخل المنظومة الحضارية الواحدة.
ومثال ذلك: مسألة حقوق الإنسان بوصفها قضيةً من قضايا الحوار. حيث يرى السفير بدر، مثلاً: أن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بجميع مواده ليس فيه تعارض مع الإسلام. بما فيها المادة 18 تحديداً التي تنص على أن من حق كل فرد أن يختار دينه وعقيدته وأن يمارس الشعائر والملابس التي تتصل بهذا، بما في ذلك الحق في تغيير دينه. فهو يرى أن تغيير الدين يساوي قضية الهوية أو المواطنة، على أساس عدم وجود نص على شيء من هذا في القرآن. وهو يرى أن هذا الرأي قد يكون رأي البعض أيضاً. وبالتالي تغيير الدين يستوجب العقوبة إذا تحول إلى إساءة أو عمل ضار للإسلام والمسلمين، على نحو ما تعامل قضية الخيانة العظمى. هناك إذن مساحة كبيرة للحديث والاجتهاد في هذا الموضوع، كما يرى السفير بدر .
ويرى محمد دراك، أن ثقافة حقوق الإنسان لم تتبلور بعد في الثقافة العربية. لأننا نؤمن بالإلهي ثم الإنساني، على عكس الحضارة الغربية التي تبدأ من الإنساني لتنتقل إلى الإلهي، بمعنى أن الحركة عندنا مشروطة بالإلهي. وبالتالي القيم مفروضة من خارج هذا الكون، بينما الثقافات الغربية تنطلق من الإنساني حتى قد تختار قيماً دينية إسلامية. ولكن بحرية، وبالتالي إذا أردنا أن نؤسس لثقافة حقوق الإنسان في الوطن العربي لابد من نقد الخطاب الديني والنص الديني في أمهاته. لكي نفتت المسكوت عنه في هذا الخطاب، ولكي نؤسس لثقافة حقوق الإنسان. وبالتالي إعادة الإنسان لفرض شروطه على المدخل الإلهي .
وبالنسبة لحقوق المرأة، حقها في التوريث يقول محمد السيد سعيد: «نحن في حاجة إلى اجتهاد شجاع. أنا من القائلين بأنه حتى فيما فيه نص، المرأة متساوية مع الرجل وأنها جديرة بهذه المساواة. وأن هذا هو الأصل في الشرع الديني. ومن حيث المقصد من الشريعة ومن وجهة نظر المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، فأنا رأيي أن المرأة لابد أن تكون مساوية للرجل، وأن كل شعب مساو للآخر، وأن كل إنسان مساو للآخر. وأنه لا يستطيع شخص أن يزعم التفوق لمجرد أنه أقوى جسمانيًّا أو أبيض أو أي شيء على الإطلاق» .
ما لا شك فيه، أن هذه النظرة لهذا التيار تختلف جوهريًّا مع رأي تيار آخر حول القضية نفسها. إذن قبل أن نتحاور مع الآخر، لابد أن نؤصل لمثل هذه المواضيع في أعمالنا الفكرية، أن نقدم تأصيلات تعبّر عن القواسم المشتركة بين التيارات المختلفة. بناءُ تصور معرفي مشترك قائم على القواسم المشتركة، وليس بناءً معرفيًّا متفقاً عليه، لأن إيجاد مرجعية فكرية واحدة لدى المسلمين من الاستحالة بمكان. نُبقي على التعددية، لكن التعددية التي تحكمها أرضية مشتركة. فالخطاب العربي والإسلامي، انشغل لعقود طويلة بقضايا الاختلاف، ففي ظل العولمة الثقافية يتحتم عليه أن ينشغل بقضايا الائتلاف.
أما التيار الحداثي، فيتوجب عليه مراجعة الحداثة التي تجاوزها أهلها، ودخلوا في مرحلة ما بعد الحداثة. وأيضاً مراجعة مقومها الرئيس «العلمانية» وعلاقتها بالدين، خاصة أنها لم تكن وليدة المجتمع العربي والإسلامي. كما أن العلمانية ذاتها تعيش اليوم أزمة، فالانتقال من المركزية الأوروبية إلى المركزية الأمريكية، طرح موضوع إعادة النظر في العلمانية. فالموقف المؤيد من العلمانية في الغرب يختلف ما بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث في الأولى نشأت العلمانية لحماية الدولة من الدين وهيمنة الكنيسة. في حين أنه في الحالة الأمريكية، العلمانية جاءت من أجل حماية الدين وحرية التعبير الديني من تدخل الدولة ومنع التأثير السلبي عليه لحماية الأقليات الدينية من الأغلبية الدينية. وحتى إعادة النظر في العلمانية امتد إلى داخل القارة الأوروبية في كثير من دولها التي كانت في السابق معقلاً حصينا للأسس العلمانية للحضارة الغربية .
أما التيار الإسلامي، فيتوجب عليه تجديد الخطاب الإسلامي من حيث الشكل والآليات والأساليب وأيضاً في بعض المضامين، والتركيز على الجوانب التي تجعل من التواصل مع الآخر ممكناً. فمطلب الهوية، لا يعني الركون إلى الماضي والتقوقع فيه. «فالتفكير في الهم الحضاري أولوية الأولويات، وهذا يفرض العيش بالفكرة الإسلامية بمدلولها الحضاري غير المقيد بالمنتج الثقافي الإسلامي المقيد بفعل الزمان والمكان، فنعيشها من حيث كونه منهجاً في الفهم والتمثل، لا من حيث كونه فهماً ونسقاً جامداً لا يمكن تجاوزه. وبهذا الصدد، يحسن بالمسلمين الاستفادة من عناصر البعث الحضاري للحوار المبثوثة في دينهم بشكل جلي، والتركيز عليها بوصفها عناصر جمع ووحدة» .
والنخب الأصولية -كما يرى أحميدة النيفر- تميزت باحتجاجها على استباحة التراث وبعثرة المخزون الثقافي الديني، لكن لم تهتم من ناحيتها بتجسيد الأصالة في الإجابة عن مطالب العصر بكفاءة تتجاوز ما كان للسلف من قدرات .
وهكذا، بالنقد الذاتي والحوارات الداخلية لن تعجز الأطراف الفاعلة في الحوار في الدائرة العربية والإسلامية من إيجاد نقاط الالتقاء حول القضايا الهامة، ومن إيجاد أرضية مشتركة ينطلقون منها في حوارهم مع الآخر. أرضية قائمة على عدم إنكار حق الآخر في إبداء الرأي، وعلى التفاعل الإيجابي على قاعدة تعظيم نقاط الاتفاق وتقزيم نقاط الاختلاف. ولعل أول خطوة، تكمن في ضبط مفاهيم المصطلحات. كما أكد على ذلك العلامة السيد محمد حسين فضل الله في كلمته أمام المؤتمر القومي-الإسلامي الأول الذي جمع التيار القومي والتيار الإسلامي للبحث عن صيغة للتوافق، «لابد لنا عندما نحكم بالإيجاب أو السلب أن نحدد المصطلحات لأننا نخشى أن ينفي أحدنا أمراً لا ينفيه الآخر أو أن يثبت أحدنا ما ينفيه الآخر» .

وتبقى الأسئلة مطروحة:
- هل نستطيع أن نكون ذاتاً فاعلة في الحضارة ونبقى أنفسنا؟
- كيف نصوغ إشكالية الهوية والحداثة (وما بعد الحداثة) في فكرنا؟
* ثانياً: إشكالية «الآخر»
لقد طرحت ثنائية الإسلام والغرب منذ وقت مبكر، غير أن عقد التسعينات من القرن العشرين الميلادي -أي بعد نهاية الحرب الباردة- قد صعّد أكثر من حدة هذا الطرح. فأصبحت العلاقة بين الطرفين تشغل مركزاً محوريًّا في الجدل الدائر، ليس فقط بين الأوساط السياسية والفكرية الغربية. بل أيضاً العربية والإسلامية على اختلاف اتجاهاتها الفكرية.
وقد تعددت وجهات النظر في الدائرة العربية والإسلامية في الوقت الراهن حول الغرب، والتعامل معه. ولعل ذلك راجع إلى:
أولاً: موروثات قديمة، فبين الانبهار به، وبالتالي تقليده، وبين التمنع عنه، وبالتالي معاداته. وبين التحفظ ومحاولات التوفيق.
ثانياً: أن الغرب في حد ذاته، يخلق بتعدده وتناقضاته الفوضى في إدراكه والحكم عليه. فالغرب -كما يرى كمال عبد اللطيف- يرتبط بالحداثة والتطور الاقتصادي المنتج لنمط الإنتاج الرأسمالي ورديفه الأيديولوجيا الليبرالية، ويتوج بالمنزع الإمبريالي ومشاريع الهيمنة المتعددة. كما يقترن بالنزعة الإنسانية ومبادئ فلسفة الأنوار، وفي العقلانية والحرية والتعاقد. مما يركّب مزيجاً غريباً متناقضاً، فلا نكاد نلمح ملامح الغرب إلا لتزداد غموضاً، وما تكاد تتسق وتنسجم حتى تزداد تناقضاً .
وتَعَقُّدُ الحضارة الغربية، كما يرى محمد نور الدين أفاية، وصلف إرادة القوة التي ما انفكت تبديها؛ يثيران لدى النخب العربية -عبر وسائلهم الإعلامية- صوراً مشوّهة، فعندما يحضر الغرب المخترع يكون الاندهاش والانتماء الخجول لإنسانية مثالية. ولكنه عندما يحضر كغاصب متعطش لتحقيق الأرباح والمصالح، فإنه يكون بالنسبة للعرب والمسلمين ذلك الصليبي الذي يعود بقوة ليأخذ ثأره التاريخي ضد الإسلام. خاصة عندما يتحالف بشكل مطلق مع إسرائيل. وعندما يتعلق الأمر بالغرب الليبرالي الديمقراطي والبراغماتي، فإنه يكون بالنسبة للبعض نموذجاً لتدمير الذات والأسرة ونفاق التمثيل الديمقراطي ولانهيار الأخلاق. إن التعقد يحيّر العقل ولا شك، ويشوش الخيال. ولكن الحضارة الغربية هي بذاتها حاملة للتناقضات وعمليات الخلط، ويضاف إلى ذلك نظرة مشوّهة معتدة بمركزيتها الإسلامية، شاعرة بالهوان والذل بسبب أوضاعها المنحطة، معقدة بما ينتابها من إحساس بالدونية. فالخطابات العربية حول الحضارة الغربية هي تعبيرات متنوعة عن الهزة التي ألحقتها بالهوية العربية صدمة الحداثة .
ولعل أول ما يثير الاختلاف هو مصطلح «الإسلام والغرب». هذه الصيغة الثنائية التي يراها كمال عبد اللطيف، صيغة ملتبسة ملغومة وغير محايدة. فالتقابل فيهـا يتم بين مفهومين غير متكافئين، ويصعب التفكير فيهما بعدة نظرية متكافئة .
ويخالفه زكي الميلاد الرأي، حيث يرى أننا عندما نتناول الإسلام والغرب كثنائية، فإن التوصيف يميل إلى الدقة مع أن التضاد المتوهم بينهما ليس تضادًّا شاملاً. وكذلك فإن كون المصطلح الأول دينيًّا والثاني جغرافيًّا لا يمنع اتخاذهما مدخلاً لقراءة العلاقة بين العالمين، لكل منهما تنوعه الهائل . خاصة أن الغرب -كما يرى عبد العزيز بن عثمان التويجري- هو تلك المنظومة المتكاملة من القيم والمبادئ التي تشكّل الفلسفة العميقة لمجموعة الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحكم البلدان العربية بالمفهوم السياسي للعالم وليس فقط بالمدلول الجغرافي المحدود .
وإن كان البعض ينتقد الفلسفة القائمة على كلية ووحدة الغرب، فالغرب ليس كياناً واحداً كما يرى شروس ، فهذه النظرية لا تترك مساحة لحوار بنّاء أو تبادل مكاسب. كما يرفض استخدام المصطلحات الكبرى المطلقة، مثل الفلسفة الغربية والثقافة الغربية وروح الغرب، فالغرب عنده لا يعبّر عن شمولية متناسقة بحدود فكرية وثقافية معرفة جيداً .
ويفرّق أحمد مجدي حجازي بين مفهوم الآخر (الغرب) في معناه الثقافي، وبين مصطلح الآخر في إطار المعنى السياسي. ففي المعنى الأول لابد من الاعتراف بعالمية الفكر ودولية الثقافة، فالثقافة لا تعرف الحدود والجمارك. بينما «الآخر» في معناه السياسي هو ما يمكن أن نختلف عليه، حيث يعني التسلطية والهيمنة... ومنه نرفض هيمنة السياسي على الثقافي هيمنة الآخر على الأنا .
لقد اتسمت العلاقة بين الطرفين الإسلامي والغربي بالجهل والمواقف المتعارضة، فالعرب والمسلمون يحملون تصورات مخيالية جاءت عن الغرب تقوم على القوالب الجاهزة، كما يرى محمد أركون. فالغرب بلا أخلاق ومدنيته مادية، وهكذا يتأسس الجهل بالآخر. والغرب يشكّل تصوراته عن الإسلام ومجتمعاته من خلال الرجوع إلى القرون الوسطى أو إلى العهد الاستعماري . فأصبحت النظرة الغربية الطاغية عن الإسلام عدوانية وعنصرية في أحيان كثيرة، وهي النظرة التي تبثها وسائل الإعلام وتوظفها دواليب السياسة. فأثر ذلك سلباً في النظرة إليه.
كما يصف محمد أركون، موقف الخطاب الإسلامي من الغرب، بالحداثة المعطوّبة. لأن المسلمين يقبلون بالجانب المادي للحضارة الغربية ويسعون لامتلاك أحدث الوسائل والأدوات، في حين يرفضون رفضاً مطلقاً الحداثة العقلية. مما يشكّل نمطاً للحداثة المعاقة أو المعطوّبة، المواكبة للعصر من ناحية الشكل والتقليدية من ناحية المضمون .
ويصف أيضاً أحمد مجدي حجازي التيار الأصولي بالعاطفة والحماس، حين يدافع عن تراثه المنفصل في رأيه في الزمان والمكان. ويرفض «الآخر» كلية دون إتاحة الفرصة أمامه للتفرقة بين التواصل والتسلط، ودون أن يدخل هذا التيار في حوار علمي معه. فهو يرفض ثقافة «الغرب» بما تحمله من علوم ومعارف، إذن فهو يعارض بنية العقل وآلياته بدلاً من تحليل مضامين الفكر وأيديولوجياته .
إذا كان الخطاب العربي والإسلامي، قد اتخذ في الغالب موقفاً عدائيًّا من الغرب. فلعل ذلك راجع إلى الممارسات الوحشية للحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي، وأيضاً إلى الهيمنة الغربية المعاصرة في ظل العولمة. فكان من الصعب أن يُقرأ الغرب من زاوية معرفية وحضارية كما يرى زكي الميلاد، إضافة إلى غياب تقاليد ثقافية عريقة تجعل من الآخر موضوعاً للتفكير والاكتشاف. فالغرب يرى في الإسلام الجهل والتخلف واضطهاد المرأة والإرهاب، وهو هرطقة من هرطقات المسيحية المنشقة عنها. وفي الوقت ذاته، ينظر المسلمون إلى الغرب من زاوية العلمانية المعادية للدين وفي الفساد الأخلاقي والاجتماعي وهكذا. فإذا كان الغرب يجهل الإسلام، فإن المسلمين لا يعرفون الجوانب المضيئة في الغرب .
والتساؤل الذي يطرح بهذا الصدد:
هل يمكن إقامة حوار بين الإسلام والغرب في الوقت الراهن، في ظل العولمة والجهل المتبادل والمواقف المتعارضة بين الطرفين؟
وكيف يمكن أن نصبغ إشكالية العلاقة مع الغرب؟
لقد تعددت وجهات النظر حول معالجة هذه القضية، وبالتالي الإجابة عن إشكالياتها. حيث يرى عبد الخالق عبد الله، أنه حان الوقت لطرح جدلية الغرب المتآمر، والغرب المخيف للنقاش. كما حان الوقت لطرح سؤال، هل خوف العرب من الغرب مشروع وإلى أي حد يعد مثل هذا الخوف مبرَّراً ؟
ويضيف عبد المجيد عمراني، ضرورة الابتعاد والتخلي عن الأفكار المسبقة عن الإمبريالية الغربية وعن الاستعمار الاقتصادي والثقافي الجديد، وعن فكرة التدخل الأجنبي الذي أصبح عند الشعوب السائرة في طريق النمو. لأن الالتزام بفكرة «حوار الحضارات» وعالميتها يتطلب ذلك .
وعلى الرغم من أن الغرب يحاول إخضاعنا لقوانينه وقيمه، كما يرى المهدي المنجرة، إلا أنه يتوجب علينا الانفتاح عليه، حتى ولو لم ينفتح علينا. وذلك حتى ندرك الثقة في أنفسنا، ونحترم أنفسنا. وشرط الاحترام الذاتي هو الالتزام بمبدأ الحرية في التواصل، وتبادل الآراء بمساحات فكر واسعة وتركيب عقلاني واسع، يمكن أن يشكّل قاعدة للتقدم .
بين الطرحين الحداثي والإسلامي، نجد تقابلاً بين وجهات النظر حول الغرب وكيفية التعامل معه. ولعل ذلك راجع إلى الموقف من الغرب وحداثته، وحالة الانبهار به التي عاشتها فئة معيّنة. لهذا يدعو محمد خاتمي إلى إنهاء هذه الحالة، حالة الانبهار بالغرب لكونها عائقاً أمام الحوار وليست عاملاً مساعداً .
يتم التواصل بين الطرفين عند محمد أركون، إذا مـا تخلى كل طرف عن أحكامه القطعية. فإن الأوروبيين بحاجة في رأيه إلى التخفيف من علمانويتهم المتطرفة، والمسلمين بحاجة إلى التخفيف من دغمائيتهم المتطرفة .
ويدعو محمد عابد الجابري إلى الدخول مع ثقافة الغرب في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها، وأيضاً التعرف على أسس تقدم الغرب والعمل على غرسها أو ما يماثلها داخل ثقافتنا وفكرنا .
أما رضوان جودت زيادة، فيدعو إلى قراءة جديدة للفكر الغربي وفق مراحله التاريخية لنزع الهالة الأسطورية والتقديسية التي قرأ فيها البعض هذا الفكر مغفلين كل ملكات النقد والمراجعة. كما أنه يحثنا على التساؤل عن القدرة الذاتية التي يمتلكها هذا الفكر للتجدد الدائم، بحيث يتسع لتيارات وأفكار من تلوينات مختلفة بل ومتخالفة .
وأما الطرح الإسلامي، فيركز على النقد الذاتي للفكر الإسلامي في تعامله مع الغرب. حيث يرى طه جابر العلواني، أن المدخل إلى الغرب يجب أن يكون معرفيًّا ومنهجيًّا. ونحن نحاول أن نشق طريقنا إلى العقل الغربي -كما يقول- لابد أن نتلاقى ونتخلص من هيمنة الخطاب الإسلامي الأيديولوجي ونرتقي إلى مستوى صياغة الخطاب الإسلامي المعرفي .
ويؤيده في ذلك زكي الميلاد، حيث يرى أننا بحاجة إلى منظور حضاري في رؤيتنا للغرب وحضارته. وأن القضية الرئيسة في علاقتنا مع الغرب، هي كيف ندرسه ونحن نريد بناء حضارتنا؟ ويشير إلى أن أهم ما ينقصنا في هذا الجانب هو المنظور الذي نؤسس عليه رؤيتنا وتفكيرنا وتخطيطنا وسعينا في بناء حضارتنا .
أما عبد الوهاب المسيري، فيرى ضرورة قراءة الغرب في محليته وخصوصيته. أي أن الغرب يجب أن يصبح (غربيًّا) مرة أخرى لا (عالميًّا) وهذا لا يتم إلا باستعادة المنظور العالمي المقارن، بحيث يصبح التشكيل الحضاري الغربي تشكيلاً حضاريًّا واحداً له خصوصيته وسماته تماماً مثلما لكل التشكيلات الأخرى خصوصيتها وسماتها .
ما لا شك فيه، أن وضع إطار عام يقوم على منظور حضاري في رؤيتنا للغرب وفكره وحضارته يُعدّ من المسلمات الأساسية. وذلك حتى لا يبقى الفرد العربي والمسلم مضطرباً في علاقته مع الغرب بين ثنائية متناقضة، فإما تجريح الذات وبالتالي تقديس الآخر(الغرب)، أو تمجيدها وبالتالي إنكاره. خاصة أن الحضارة الغربية، تعتبر إحدى أكبر الحلقات في سلسلة الحضارات العالمية والتي تقوم على نظريات وفلسفات ضخمة. فليس لنا أن نذوب فيها مطلقاً، ولا أن نرفضها مطلقاً.
ولعل ما يشجع على التحاور مع الغرب تلك الأصوات العاقلة الغربية، كما يسميها سعيد بن سعيد العلوي التي تتسم بالحياد أو التعاطف مع القضايا العربية والإسلامية . فباستثناء بعض الجماعات ذات الغرض، كما يقول أنتوني سوليفان، فإن قليلين هم أولئك الذين يأخذون مأخذ الجد شن حروب صليبية تستهدف المسلمين والإسلام، وأقل منهم من يساند مثل هذا الاتجاه. إن هذه الحقيقة يجب أن يعرفها معرفة جيدة كل مسلم من الدار البيضاء إلى جاكرتا .
ويواصل سوليفان قوله: «إن الرأي العام الغربي ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس بذلك القدر من العداء للإسلام الذي يصوره الاعتقاد السائد في العالم الإسلامي. لقد كشف استطلاع الرأي حديثاً قامت به مجموعة جون زيني الدولية لصالح المجلس الإسلامي الأمريكي أنه بعد سنوات من الإساءة والتشويه لصورة المسلم في الإعلام الأمريكي، أصبح الأمريكيون اليوم يحملون إما فكرة إيجابية عن الإسلام، أو يتحرجون من إصدار حكم مسيء عن المسلمين بسبب قلة ما يعرفون عنهم. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يجد المرء رجالاً بارزين مثل: المنظر السياسي شارلس بتروث، والمستشار الاقتصادي العالمي جيمس نوفاك، وصحفيين، مثل: جون ب. أنلي وجوزيف سوبران، ومؤرخين، أمثال: رالف ريكو ولينوراد ليفو والمرشح الرئاسي باتريك حي لوكنان، هؤلاء جميعهم يمثلون نماذج لمثقفين محافظين يتمتعون بشهرة واسعة يستطيع إسلاميون أن يدخلوا معهم في حوار مثمر وبنّاء. وهناك مطبوعات ذات رصانة علمية وفكرية، مثل: (العصر الحديث) و(الكتاب الجامعي)، وكلتاهما مؤسستان ثقافيتان يمكن الانتفاع بهما في هذا الحوار» .
كما أن ثقافة الاحتجاج في الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً في اتساع، إذ تنبئ بقلق روحي وأزمة وجود ومعنى. مما يستدعي توجيهها وترشيدها، وليس ضعفنا مبرراً لننكمش وتنقطع صلاتنا بأجيال غربية حائرة كما يرى برهان غليون، فالضعف المادي ليس مقياساً. بل يجب أن نستثمر الرصيد الروحي لحضارتنا من أجل تقديم أجوبة للغربيين الحيارى من خلال تفعيل حوار الحضارات مع الغرب على وجه الخصوص، الذي يعتبر الحوار معه من الحوارات راهنيةً واستعجالاً بسبب ما يُحيط بالعلاقة بينهما من حساسيات وسوء فهم وعدوانية كامنة ومعلنة أحياناً .
إن الفجوة بين المسلمين والغرب، ليست سحيقة إلى الدرجة التي يستحيل معها الحوار. بشرط أن يتوافر أمران أساسيان، وهما:
1) أن يعترف الغرب بأثر الحضارة الإسلامية في النهضة الأوروبية.
2) أن يتغلب التيار الداعي إلى الحوار في العالم العربي والإسلامي على التيار الرافض له، والذي يخطئ في فهم مدلول الرسالة الإسلامية الداعية إلى الحوار.
لقد شهدت بعض الخطابات الغربية في الآونة الأخيرة مراجعةً ونقداً وتطوراً في النظر إلى الإسلام وعطاءات حضارته في تاريخ الاجتماع الإنساني، مما أسهم في تشكيل نظرة إيجابية جزئيًّا حوله. يمكن أن تُستغل لترقية الحوار مع الغرب والانفتاح عليه، الانفتاح البنّاء الذي لا تُطمس فيه الهوية العربية الإسلامية. ولعل أهم هذه الخطابات، ما جاء على لسان ولي عهد العرش البريطاني الأمير تشارلز في محاضرته التي ألقاها في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد في أكتوبر 1933م أشاد بعطاء الحضارة الإسلامية وأثرها في نهضة أوروبا .
ولعل أولى الخطوات في الحوار مع الغرب أن نرسم الخريطة المعرفية عن «الآخر»، مثلما دعا إلى ذلك تقرير اجتماع خبراء عرب لصياغة موقف عربي وإسلامي من الحوار، أعدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. هدفها معرفة التيارات الأيديولوجية الفاعلة التي ترغب في الحوار في المجتمعات الأوروبية والأمريكية لصياغة استراتيجية حوارية تناسب كل تيار أيديولوجي مع الحفاظ في الوقت ذاته على ثوابتنا . عندئذ تتحدد الأبعاد الثلاثية للعلاقة مع الغرب، وهي: الموضوع، الإشكالية، المنهج. بعد أن نكون قد وصلنا إلى أرضية ذات قواسم مشتركة في فهم «الأنا» و في فهم «الآخر» ومعرفته بين جميع الفئات في الدائرة العربية والإسلامية.
* خاتمـــــة
على الرغم من أهمية فكرة «الحوار»، لاسيما أنها جاءت لرد مقولة «الصدام»، إلَّا أنها أثارت الكثير من الإشكاليات الجديدة في الوسط الفكري العربي والإسلامي، وجددت طرح أخرى. الأمر الذي أدَّى إلى انقسام الخطاب العربي والإسلامي حولها، وتصاعد مقولات النفي المتبادل. حيث اصطبغت الآراء حول الموضوع صبغة أيديولوجية حتى فيما بين المؤسسات التي تدعم مشروع «حوار الحضارات»، يظهر ذلك من خلال اتجاهات المشاركين في اللقاءات التي تنظمها هذه المؤسسات.
وقد انعكس انقسام الخطاب العربي والإسلامي حول الإشكاليات المختلفة التي جاءت في سياق الحوار -وهي تتمحور في مجملها حول «الأنا» و«الآخر» مثل: النقد الذاتي، ومفاهيم:الهوية والخصوصية والحداثة والعلمانية والدين والتراث وغيرها، والعلاقة مع الغرب بفكره وحضارته، ومرجعيات قضايا، مثل: المرأة وحقوق الإنسان وغيرها- بصورة سلبية في كيفية تقديم الذات «الأنا» إلى «الآخر» الغربي.
وعلى الرغم من اتفاق الخطاب العربي والإسلامي حول رفض الهيمنة الغربية على العالم، ورفض تعالي الغرب ومركزيته. وكذا رفض تشويه الإسلام ونعت الأنا -العرب والمسلمين- بشتى النعوت خاصة بالتطرف والإرهاب. فإن هذا الخطاب لا يزال مضطرباً في فهم الآخر (الغرب) وفي صياغة الأسلوب الأنجع في التعامل معه، وبالتالي التواصل معه.
ويبقى أمام «حوار الحضارات» في الوقت الراهن كفكرة وخبرة وممارسة في الدائرة العربية والإسلامية، الكثير من العقبات لتخطيها. وذلك للوصول إلى بلورة إطار للحوار من الوجهة العربية والإسلامية، إطار يقوم على القواسم المشتركة الكبرى بين الاتجاهات المختلفة. فتسهم بصورة إيجابية بوصفها منظومة حضارية واحدة في الحوار الحضاري العالمي الذي يدور حول مستقبل العالم، خاصة أن قضية الحوار مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمرجعيتنا الإسلامية وبمدلول الرسالة الإسلامية، وأيضاً مرتبطة برؤيتنا وتفكيرنا لمسألتنا الحضارية ولمستقبلنا وعلاقتنا بالآخر، وبمقتضيات عصرنا.
ولكي يكون الحوار حواراً إنسانيًّا بعيداً عن خلفيات الهيمنة والاحتواء ويحقق الأهداف المرجوة منه، ينبغي أن يؤسس على منظومة مفاهيمية حضارية إنسانية تُدار من خلالها منهجيته. ويُلقى على الطرف العربي والإسلامي العبء الأكبر في ذلك حتى نتمكن من مسايرة الحركة التاريخية على مستوى العالم ومتطلبات العصر. وفي الوقت ذاته نتمكن من المحافظة على الذاتية العربية والإسلامية في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية.