*
مقدمةعندما ذكر الفيثاغوريون الأضداد العشرة فإن أول ما ذكروه هو الضد بين الخير والشر، الذي يدخل ضمن الاهتمامات الأولى للإنسان في تشكيل علم الأخلاق، وهو علم فلسفي ينتمي إلى مجال العلوم الإنسانية. وعندما نظر الرواقيون إلى الفلسفة اعتبروها حديقة المنطق فيها هو الجدار، أما الفيزياء فهي أشجارها، والأخلاق فهي ثمارها. وإذا أمعنا النظر فإننا نلاحظ أن الفيثاغوريين ذكروا الأخلاق في المرتبة الأولى أما الرواقيون فإن حديقتهم تنتهي بالأخلاق. إذن الفلسفات القديمة اعتمدت في بناء نظريتها للمعرفة على الإنسان، ومنذ ذلك الحين بدأت الفلسفات تهتم بالإنسان، ومع ظهور الأديان انتشرت أفكار المساواة والحرية والعدالة. إن إشكالية البحث في العلوم الإنسانية بدت منذ الوهلة الأولى قديمة جدًّا نتيجة لعصور علوم قديمة اهتمت بالإنسان وبما يحيط به من معارف متنوعة، غير أن الاهتمام الفعلي والعلمي الدقيقين بدراسته الإنسان كظاهرة ومادة للبحث تعاظم بصورة خاصة بعد نجاح العلوم التجريبية في تطبيق مناهجها على جميع المواد والمعارف مثل الفيزياء والكيمياء وعلوم البيولوجيا. هذه التجربة الناجحة بصورة نسبية حاول نقلها إلى عالم الظواهر الإنسانية بعض الباحثين في علوم الإنسان والمجتمع مثل أوكست كونت الذي حاول وضع منهج علمي لدراسة تطور المجتمعات من خلال اهتمامه بثقافة وسلوك الإنسان ومراحل تطور الإنسان. ويمكن من الناحية العملية اعتبار هذه الخطوة بداية لتأسيس علوم تهتم بالإنسان.
- 1 -
تعريف العلوم الإنسانية
لتحديد معالم الإشكالية العامة لهذا البحث وجب علينا تعريف مصطلح ومفهوم العلوم الإنسانية. إن ظهور العلوم الإنسانية ارتبط علميًّا ومنهجيًّا بعصر الأنوار الأوروبية ومع النزعة الإنسانية التي واكبت هذا العصر، والتي بدأت تهتم بموضوع الإنسان كظاهرة تدرس مثل بقية الظواهر المادية التي تدرس داخل العلوم التجريبية. وكثير من الفلاسفة والعلماء حاولوا تعريف العلوم الإنسانية، فمنهم من قال بأن العلوم الإنسانية هي مجموعة من النشاطات المعرفية التي تهتم بموضوع الذات الإنسانية من خلال اهتماماتها وانشغالاتها، وأيضاً من خلال لغتها وتاريخها ووجودها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والذي يمثله على التوالي علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والأنثربولوجيا وعلم النفس وعلم التاريخ.
ويرى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أن العلوم الإنسانية لم تتوارث تراثاً واضح المعالم لأنها كانت منطوية تحت الفلسفة، ومع بداية القرن الثامن عشر بدأت هذه العلوم تفترض فكرة وجود الإنسان كذات قابلة للدراسة والبحث.
أما «كلود ليفي ستراوس» فيرى أن العلوم الإنسانية تأخرت كثيراً عن العلوم التجريبية ولكن في القرن الماضي –يقصد القرن التاسع عشر– فإن الوضع تغير كثيراً نتيجة تطور العلوم التجريبية في مناهجها، وهذا الوضع الجديد استغلته العلوم الإنسانية لتجعل من ذاتها منفعة ومصلحة كبرى تحاول بذلك حل مشاكل الإنسان.
أما جان بياجي فقد اعتبر أن تطور العلوم الإنسانية جاء نتيجة حتمية لانفصالها عن الفلسفة، وبذلك حاولت حل مجموعة من الإشكاليات بمناهج تصدر من طبيعة موضوعاتها ووظفتها من العلوم التجريبية.
وحاول «بياجي» تتبع مسار تطور العلوم الإنسانية في جميع إبستيمياتها الكبرى قائلاً: إن العامل الأساسي للتطور العلمي للعلوم الإنسانية وبالخصوص علم النفس وعلم الاجتماع هو انفصال هذه العلوم عن الجذع المشترك للفلسفة، خاصة في فترة تطور الفلسفة الغربية الحديثة التي أعادت تشكيل النظام المعرفي لكل العلوم.
- 2 -
مـقــولة المـنـهــج
إن محاولة الكتابة حول المنهج ظهرت مع «راموس» (1578 – 1515)
Ramus في عصر النهضة حيث قسم المنطق إلى أربعة أقسام: التصور والحكم والبرهان والمنهج، غير أن «راموس» لم يتمكن من تحديد منهج دقيق للعلوم من زاوية علم المنطق، بل اهتم بصورة خاصة بوضع منهج في البلاغة والأدب، ولم يهتم بالملاحظة والتجربة إلا بصورة ضئيلة، ويرجع له الفضل في شد انتباه الباحثين إلى أهمية المنهج حيث قام من بعده مناطقة «بور روايال» «Port Royal» بوضع أدوات عملية لبناء منهج من خلال علم المنطق، وظهر ذلك جليًّا في كتابهم «المنطق أو فن التفكير الصحيح».أما «ديكارت» فقد قام باكتشاف المنهج المؤدي إلى توجيه العقل توجيهاً صحيحاً، والبحث عن الحقيقة في العلوم، وظهر ذلك بصورة جلية في كتابه «مقال في المنهج» حيث وضع ثلاث عشرة قاعدة يسير بمقتضاها العقل في بحثه عن حقيقة الأشياء، ويكون بذلك قد خالف «أرسطو طاليس» الذي وضع ثلاث قواعد أساسية للعقل. وهي مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الوسط الممتنع، وقد ظهر ذلك في ثنايا مؤلفه الأورغانون.
أما فرنسيس بيكون فقد وضع كتابه الأورغانون الجديد سنة «
Nouum organum» 1620 حيث وضع فيه قواعد المنهج التجريبي بكل وضوح.لقد ارتبط تطور المنهج في العلوم الإنسانية بالمستوى النظري الفلسفي المجرد الذي أدركته المفاهيم العلمية المتداولة في مجالات العلوم الإنسانية المتنوعة، إن هذه النتيجة تجعل إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية إشكالية فلسفية بالدرجة الأولى، إن أهم التجديدات عند الفلاسفة تقع في مستوى المنهاج ومن هنا جاءت أهمية ديكارت ولوك وكانط وهيجل وهوسرل. كما اعتقد أحد الفلاسفة بأن الفلسفة تكاد ألَّا تكون سوى منهاج. ويرى «كارل بوبر» أنه يوجد من المناهج التي يمكن أن يستعملها الفيلسوف بقدر ما يريد، فالمهم هنا هو أن تكون لديه مشكلة تستحق النظر، وأن يحاول حلها.
- 3 -
دور المثقف في تطوير العلوم الإنسانية في الجامعات الأوروبية
لقد ارتبط تطور العلوم الإنسانية في الغرب بالدور الذي قام به المثقف، والذي يمثل في تمثُّل الاهتمام بوضع المناهج التعليمية والتربوية داخل الجامعات لدراسة العلوم المرتبطة بالإنسان، وهذا الارتباط جاء نتيجة للعزلة والتهميش الذي عرفته العلوم الإنسانية في الغرب، وتزامن هذا التهميش مع تطور العلوم التكنولوجية التي كانت بمثابة الحل لكثير من الأزمات التي عاشها المجتمع الغربي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد نهاية هذه الحرب بمدة ليست بالطويلة بدأ المجتمع الغربي بصفة عامة، والمجتمع الأوروبي بصورة خاصة يعيش مجموعة من الأزمات أفرزها تطور العلوم التكنولوجية، وهذه الأزمات أخذت بُعدين: الأول إبستمولوجي داخل المنظومة المعرفية، والثاني أخلاقي على مستوى الأفراد. وما يهمنا في هذه الدراسة هو الجانب الثاني الذي أدخل الإنسان الغربي في أزمة نفسية حادة وأخرى اجتماعية، نتيجة لعوامل متعددة و متنوعة. إن هذه الوضعية جعلت المثقف في المجتمع الغربي يتحرك على مستوى الجامعات مطالباً بإرجاع المكانة الأساسية للإنسان داخل المنظومة المعرفية، ومن هذه النقطة بدأ الاهتمام بدراسة كل العلوم الإنسانية التي تتعلق بالإنسان. وسنحاول تتبع أنموذج واحد من المثقفين داخل المجتمع الفرنسي والذي وضع مناهج جديدة لدراسة العلوم الإنسانية، واهتم بتأطيرها داخل الجامعة الفرنسية، وبعد ذلك امتد ذلك الاهتمام إلى باقي الجامعات الأوروبية. إنه عالم الاجتماع «بورديو» الذي اهتم بتأطير علم الاجتماع، حيث بدأ أولاً بتحديد مهمة عالم الاجتماع كباحث مستقل عن كل أجهزة الأنظمة المختلفة الموجودة داخل المجتمع.
وفي هذا المجال قام «بورديو» بصياغة وممارسة تصوره الخاص لمهمة المثقف العالم السوسيولوجي، مبتعداً عن الصيغة المعدة له اجتماعيًّا، أي أن يكون مجرد مرآة عاكسة لما هو اجتماعي بكل مظاهره بما فيها المظاهر الأقل قبولاً وباستعمال مفاهيم محايدة.
وثانياً قام «بورديو» بتأطير علم الاجتماع، حيث اعتقد في هذا المجال بأن الاجتماع كموضوع علمي يدرك عبر استخدام مناهج وطرق أبعد ما تكون عن الفوري والطبيعي الأغفل – مناهج – هي ثمرة نماذج تفسيرية يضعها العقل، كمفهوم التطبع ووراثة الرأسمال الثقافي الرمزي وإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية عبر الأنظمة المدرسية التي لا يحذق لغتها إلا أبناء الطبقات المحظوظة اجتماعيًّا وثقافيًّا.
والملاحظ على فلسفة «بورديو» أنه بإرادته القوية المبنية على المفاهيم العلمية جعل علم الاجتماع علماً قائماً بذاته وأرجع له مكانته بتحديد مناهجه من داخل نظريته في المعرفة، وامتد تأثير نظرية «بورديو» في علم الاجتماع إلى مدارس كثيرة في أوروبا و أيضاً في المغرب العربي. حاولنا أن نبين من خلال هذه النموذج أن المثقف له دور أساسي في إعادة تشكيل وبناء العلوم الإنسانية.
والسؤال الذي نطرحه في هذا المقام: هل نحن امتلكنا المثقف القادر على تأسيس منهج العلوم الإنسانية داخل الجامعات الموجودة عبر كامل الوطن العربي.
في واقع الأمر إن المجتمعات الغربية، وعلى رأسها المثقفين، لم تهتم بوضع مناهج للعلوم الإنسانية إلا بعد أن وضعت الأسس الفلسفية لتأسيس العلوم الإنسانية. فعصر الأنوار لم يظهر إلا بعد أن انتشر الوعي الفلسفي داخل الطبقة المثقفة في أوروبا، ونتيجة لذلك انتشر الوعي بالاهتمام بدراسة علوم الإنسان انطلاقاً من النزعة الإنسانية التي ظهرت في عصر الأنوار.
إن مثل هذه الوضعية لم يعرفها المجتمع العربي إلا بعد أن تحرر من قيد الاستعمار، فحاول المثقف العربي، وهو تابع للمجتمع الغربي، أن يؤسس لنهضة علمية وفلسفية متأثراً بما يجري في الجامعات الأوروبية، وأثناء ذلك بدأ بتشكيل نوع من الوعي الحضاري داخل الفكر العربي المعاصر. إن التقويم الحضاري يرتكز على رؤية فلسفية تربط بين الوقائع والتطورات بمنظار نقدي وتحليل مترابط.
والفلسفة في هذا المجال تسهم إسهاماً بارزاً في توفير مناهج مناسبة لمراجعة تجارب المجتمعات الإنسانية بما فيها من مؤسسات فكرية وروحية واجتماعية مراجعة شاملة؛ لذلك فإن المجتمعات التي لا تملك استعداداً حقيقيًّا لمثل هذه المراجعة لا تنتج فكراً فلسفيًّا يحمل سماتها ويعبر عن مواقفها، إن هذا الأمر ينطبق على المجتمعات العربية التي لم تستطع إنتاج فكر فلسفي نقدي.
ومن هنا، يمكننا أن نستنتج أن مجتمعاتنا لا يمكنها في الوقت الراهن النهوض بالعلوم الإنسانية إلا بعد مراجعة تجارب المجتمعات الإنسانية الأخرى، وذلك من خلال دراسة بعض وقائع علوم الإنسان داخل المجتمعات الغربية، وذلك أمر يسير بالنظر إلى أن الظواهر الإنسانية متشابهة ومتماثلة بين المجتمعات.
إذن، التأسيس الفلسفي لنهضة العلوم الإنسانية شرط أساسي لبناء مناهج تعالج مختلف الظواهر الإنسانية. إن هذا التأسيس مرتبط أساساً بدور المثقف داخل الجامعات العربية، وذلك بالعمل على تحسيس الطلبة بأهمية العلوم الإنسانية ودورها في تنمية المجتمع. إن دور المثقف في الوقت الراهن مازال يراوح مكانه بين التدريس والتعليم فقط.
- 4 -
كانط وعصر الأنوار
في نهاية القرن الثامن عشر عرَّف «إيمانويل كانط» «
Emmanuel Kant» عصر الأنوار بقوله: «هو قدرة الإنسان على تجاوز قصوره الذي كان هو سبباً فيه». وما يمكن استنتاجه من هذا التعريف هو أن عصر الأنوار كان عصر الإنسان، أي بداية اهتمام الإنسان بذاته وبوجوده، وكان الإنسان هو السبب الأول في إيجاد علوم تهتم بمصيره وبوجوده. إن هذا التعريف يرتبط بمادة تطور الإنسان في علاقته بقواه العقلية؛ لأنه هو الذي كان سبباً في قصوره الذي أوجد فيه ذاته. ويمكن أن نستنتج من هذا التعريف أيضاً أن للإنسان القدرة العقلية والنفسية والذهنية -حسب تعبير «كانط»- على تجاوز هذا القصور، وهذا لا يكون إلا بتحقيق بعض الشروط السيكولوجية والمادية لدى الإنسان، إن مشروع «كانط» عبّر عنه بعض الفلاسفة اللاحقين خاصة من أنصار الفلسفة التأويلية.- 5 -
الطرق المنهجية الواجب اتِّباعها من طرف العلوم الإنسانية
تدخل العلوم الإنسانية ضمن دائرة المعرفة الفلسفية الشاملة، وهذه الأخيرة تمر عن طريق النزعة التجريبية التي تطرح بأكبر وضوح مشاكل جوهرية في تفسير المعرفة والعلوم الإنسانية التي تمثل إحدى فئات المعرفة الفلسفية، فهي ملزمة باتِّباع طريق النزعة التجريبية، كما هي ملزمة في الآن ذاته باتِّباع طريق الرياضيات التي تقابل المعرفة التجريبية في الجانب الآخر، وعندما تلتزم العلوم الإنسانية بالرياضيات فهي تبتغي بذلك الثقة في نتائجها رغم أن بعض علماء الرياضيات لا يعتقدون في الدقة بأنها إحدى السمات الجوهرية في فنهم إلا أن الرياضيات هي العلم الوصيد الذي استطاع أن يضع معنى لمثالية المعرفة الدقيقة. ومن هذه الزاوية فلا يمكن للعلوم الإنسانية في الوقت الراهن الاستغناء عن علم الرياضيات.
إن علم الرياضيات ينطوي ضمن دائرة المعرفة الكمية التي اعتمد عليها التقدم العلمي ومختلف المناهج التجريبية منذ ميلاد المنهج التجريبي مع جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وصولاً إلى جون ستوارت مل ثم آينشتين في الفيزياء المعاصرة.
إن المعرفة الكمية ضرورية لكل ميادين العلوم الإنسانية، غير أن هذا لا يعني الاستغناء عن المعرفة الكيفية، فالعلوم الإنسانية مطالبة باستحداث منهجية كيفية، حيث إن المعرفة العلمية لا تخلو من معرفة كيفية موضوعية، ولا يمكن عزل المعرفة الكمية عن المعرفة الكيفية في مجال البحث في جميع محاور العلوم الإنسانية.
- 6 -
الفلسفة التأويلية والعلوم الإنسانية عند غادمير
قدم «غادمير» من خلال فلسفته التأويلية نقداً منهجيًّا لمادية العلوم الإنسانية من زاوية المفاهيم المتداولة فيها، حيث وقف موقفاً ناقداً ورافضاً الاتجاه المادي الذي تسلكه تلك العلوم والذي تأسس مع مدارس علم الاجتماع بصورة خاصة. و قد اعتمد «غادمير» في هذا النقد على الفلسفة التأويلية باعتبارها قاعدة نظرية ومرجعية معرفية في الفهم والتأسيس للمعنى بصورة عامة، كما قامت هذه الفلسفة عند «غادمير» وأيضاً عند «بول ريكور» على قاعدة أساسية وهي رفض تشيئة حقيقة الذات الإنسانية باعتبارها مادة أساسية وجوهرية لدراسة العلوم الإنسانية، كما رفضت هذه الفلسفة اعتبار الإنسان شيئاً من جملة أشياء تخضع لمنطق الكم، الأمر الذي جعل «غادمير» يسلك طريق العقلانية التأويلية التي تقوم على فهم فلسفي للكائن ولمشكلة المعنى والوجود على حساب العقلانية النسقية التي اعتمدت عليها مدارس علم الاجتماع والفلسفة الوضعية في الفكر الفلسفي الأوروبي المعاصر خاصة مع «يورغن هابرماس». لقد أعاد «غادمير» للعلوم الإنسانية إنسانيتها، وذلك عندما ركّز في فلسفته على طبيعة الإنسان الروحية، وعلى فهم معنى الوجود الإنساني الراقي والمجرد من مادية الأشياء الموجودة في الطبيعة؛ ولذلك يلاحظ على «غادمير» تأكيده على النقد الفلسفي العميق لمناهج علوم الإنسان المختلفة وللفلسفات الوضعية القائمة على اعتبار الإنسان شيئاً من الأشياء الموجودة في الطبيعة، وكان يركز في نقده على عدم اعتبار الكم قاعدة من قواعد المنهج التي تخضع لها العلوم الإنسانية؛ لأن قاعدة الكم في نظره لا يمكنها أن تساعد الباحث على فهم طبيعة الوجود الإنساني الذي يعتبر مسألة جوهرية في تطور منهج العلوم الإنسانية.
لقد أرجع «غادمير» للعلوم الإنسانية مكانتها الأولى التي انطلقت منها مع فلسفة عصر الأنوار، التي حاولت فهم طبيعة الذات الإنسانية من خلال دراستها دراسة علمية، تأخذ بعين الاعتبار الشروط الأساسية لتشكل وبناء صورة الإنسان الحقيقية، التي تقوم على المعاني الجوهرية الأخلاقية التي تؤسس لمفهوم الإنسان.
- 7 -
ديلتاي والتفسير المادي للظواهر الإنسانية
لقد تأسس منهج العلوم الطبيعية والتجريبية على مقولة الكم بصورة خاصة، باعتبار أن المنهج الذي يعتمد على هذه المقولة يقدم نتائج دقيقة جدًّا عند دراسة الظاهرة الطبيعية، أما العلوم الإنسانية فتحاول الابتعاد في منهجها عن مقولة الكم في دراستها الظواهر الإنسان المختلفة، وجعلت من ذات الإنسان جوهراً أساسيًّا ومادةً حيةً لأبحاثها. غير أن هذا المنحى بدأ يتغير شيئاً فشيئاً خاصة مع «ديلتاي» في الفلسفة المعاصرة، الذي عمل على تركيز مقولة الفهم – فهم ذات الإنسان –، «وذلك بالاستناد إلى التجربة والتفسير السببي للظواهر الإنسانية، فالإنسان في نظره ليس معطى ثابتاً، فالمنهج ينتهي حيث تستمر التساؤلات الباحثة عن أجوبة حول ماهية الإنسان و وجوده».
ونلاحظ على فلسفة «ديلتاي» أنها محاولة للجمع بين التفسير السببي لمختلف الظواهر الإنسانية والتساؤلات ذات الطابع الفلسفي لفهم الوجود الإنساني. ونتيجة لذلك ظلت العلوم الإنسانية إلى الآن أسيرة هذا الطرح، مما جعل إدارك النتائج اليقينية حول الذات الإنسانية ومصير الإنسان وطبيعة الظواهر الإنسانية أمراً يصعب تحقيقه رغم المحاولات الجادة التي تقوم بها مدارس علم الاجتماع بصورة خاصة، كما لاحظنا مع «بورديو»، وأيضاً مع مدارس علم النفس التحليلية، التي تحاول جاهدة فهم حقيقة الذات الإنسانية التي تظل مع ذلك مجهولة إلى حد بعيد نتيجة لتعقد الظاهرة الإنسانية في حد ذاتها.
وفي داخل سياق الفهم السببي للظواهر الإنسانية، تمكن «ريمون أرون» في رسالته «مقدمة في فلسفة التاريخ» عن طريق التحليل الدقيق الشمولي للوضع التاريخاني للإنسان أن يدرك النقد المقنع لفلسفات التاريخ الحتمية، حيث ركز على إبراز التفاعل بين التجربة التاريخية للإنسان والإرادة السياسية، مبتعداً عن كل أنواع الحتمية التاريخية؛ لأنه اعتقد جازماً بأن التاريخ الذي يصنعه الإنسان له نهاية مقترحة، وبصورة أخرى فإن منهج علم التاريخ ورغم الأدوات العلمية التي يتأسس عليها، إلا أن نهايته، أي نتيجة الظاهرة التاريخية، لا تتحقق بناء على المنهج المتبع ولكن اعتماداً على أدوات ذات طبيعة ميتافزيقية تخرج عن إطار المنهج.
- 8 -
بعض التصورات العملية للنهوض بالعلوم الإنسانية
سنحاول تقديم بعض التصورات التي نعتبرها بمثابة قواعد أساسية تساهم مع قواعد أخرى في بناء منظومة معرفية متكاملة تتعلق بالعلوم الإنسانية، وهذه التصورات يمكن حصرها في النقاط الآتية:
1- يجب التحسيس بأهمية تأسيس مخابر للبحث في العلوم الإنسانية في كل المؤسسات الجامعية والتعليمية، مع ضرورة الاهتمام بالأستاذ الباحث في مجال العلوم الإنسانية. هذه العملية تمكّن الأستاذ الباحث من تجاوز العوائق السيكولوجية والإيديولوجية التي عادة ما تقف في وجه الباحثين في هذا المجال.
2- ضرورة انفتاح العلوم الإنسانية على المجتمع المدني، ومن بين التصورات التي يمكن للعلوم الإنسانية توظيفها حتى تتمكن من نشر مفهومها داخل المجتمع هو ضرورة انفتاحها على المجتمع المدني، باعتبارها تعالج علوماً مرتبطة ارتباطاً عضويًّا بالمجتمع المدني. يعتبر ظهور المجتمع المدني من ملامح تطور الفلسفة الغربية الحديثة، حيث وضع معالم هذا المجتمع الفيلسوف الفرنسي «جون جاك روسو» في كتابه (العقد الاجتماعي)، وأيضاً المؤرخ الفرنسي «الإكسيس دوتوكوفيل»، و قد عرف المجتمع المدني ثلاث مراحل كبرى في تطوره داخل المجتمع الغربي:
1- المرحلة الأولى: وهي مرحلة التأسيس، حيث كانت الدولة تسيطر على كل أمور المجتمع من ناحية التسيير والتنظيم.
2- المرحلة الثانية: هي دخول المجتمع المدني إلى الجانب الاقتصادي، حيث اعتبرت البنية الاقتصادية بمثابة خطوة أساسية لتحرير الإنسان من عبودية الآلة والاستغلال، وبالتالي تعيد للإنسان إنسانيته. وفي هذه المرحلة دخل المجتمع المدني في صراع مع الطبقة السياسية في أوروبا الغربية، وأخذ هذا الصراع أبعاداً ثقافية وسياسية وحتى ثورية.
3- المرحلة الثالثة: وهي تثبيت أصول ومبادئ المجتمع المدني داخل الطبقات الاجتماعية المختلفة للمجتمع، حيث وضع المجتمع المدني لذاته بناء فكريًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا. وفي هذه المرحلة تداخل المجتمع المدني وتقاطع في كثير من جوانبه مع المجتمع السياسي.
إن هذه اللمحة القصيرة على تطور المجتمع المدني تجعلنا نؤسس لفكرة انفتاح العلوم الإنسانية في جامعاتنا على المجتمع المدني، الذي سيجعل من هذه العلوم ومن مناهجها مفتاحاً لحل الكثير من مشاكله المعرفية التي يواجهها داخل المجتمع السياسي والاقتصادي، فالمجتمع المدني بحاجة ماسة إلى علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة وغيرها، ومن هنا، فمن مصلحة المجتمع الدفاع عن هذه العلوم وترقيتها داخل المجتمع، وبهذه الوسيلة المنهجية ترتبط العلوم الإنسانية ارتباطاً وثيقاً جدًّا بالمجتمع.
ﷺ
خلاصةإن التطور الذي تعرفه العلوم الإنسانية في المجتمعات الغربية جاء نتيجة لارتباط هذه العلوم بالمجتمع المدني بصفة خاصة، وظهر هذا جليًّا في المجتمع الفرنسي الذي أحدثت فيه العلوم الإنسانية، بمناهجها المختلفة، تغييرات جذرية، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي وحتى الثقافي، وما أحداث شهر مايو1968 إلا دليل على ذلك.
إن المطلوب من الجامعة في وطننا العربي هو ضرورة انفتاحها على المجتمع من جانب العلوم الإنسانية بصفة خاصة، فهذه العلوم في الوقت الراهن تعرف انفصالاً عضويًّا عن المجتمع، هذا الوضع جعلها تعيش في عزلة بخلاف العلوم التكنولوجية.
إن الاستثمار في الموارد البشرية يعتبر خطوة ناجحة على طريق تنمية العلوم الإنسانية. إن المجتمعات الغربية تفطنت إلى هذه المسألة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لاحظنا الاهتمام بالإنسان من خلال ميثاق حقوق الإنسان، ومن خلال تنظيم ساعات العمل، هذه النتائج جاءت بعد تطور بعض العلوم الإنسانية داخل هذه المجتمعات.
إن مجال البحث في العلوم الإنسانية هو بمثابة تكوين نظرية جديدة ولا يشبه -مثلما قال «ألبرت اينشتين» سنة 1938- هدم كوخ صغير وبناء ناطحة سحاب بدلاً منه، بل أقرب شبهاً بحال رجل يتسلق جبلاً فيتسع أفق نظره ويرى آفاقاً جديدة كلما ازداد ارتفاعه، ويرى طرقاً ومسالكَ جديدةً تصل بين البقاع الموجودة في سفح الجبل مما كان يتعذر عليه رؤيتها لو لم يبرح هذا السفح.