شعار الموقع

مسؤولية المفكر في زمن التباس المفاهيم: الإرهاب الاستباقي أو الإرهاب كصناعة

هاني ادريس 2004-10-14
عدد القراءات « 856 »

ـ يتساءل الروائي الأمريكي (جون أبدايك): (ما هي الحكمة في

 أن يكون المرء أمريكياً دون أن تكون هناك حرب باردة؟!

* * *

 ـ نقول: إن كان ولا بد من وجود عدو افتراضي

كشرط لاستمرار الدولة العظمى، فعلى العالم أن
 يقدر هذا الموقف.. ذلك لأن أي محاولة لتقويض

 أسطورة العدو الافتراضي، هي بمثابة اعتداء على

 الدولة العظمى، وتهديد لها بالزوال!

عذراً، إنها مجرد محاولة لاستيعاب المفارقة الأمريكية!؟

إدريس هاني
مدخل:
يجري الحديث هذه الأيام ـ ولعلها المرة الأولى في تاريخ الحروب ـ عن الحرب النظيفة، وعن الحصيلة رقم صفر في منسوب ضحايا الحرب. وقبل ذلك كله، عن ضرب من الحروب التي تحمل معها رسالة الخير المطلق وأجندة متخمة بالوعيد. إنها بتعبير آخر، حروب مقدسة! إن كان الرافضون لها، أعضاء في البيت الغربي، فهم مجرد جاهلين بالأبعاد الاستراتيجية للحرب النبيلة. إذ ثمة على أية حال، إزعاج ينطلق ـ بين الفينة والأخرى ـ من داخل الدوائر الأوروبية ضد السياسة الأمريكية؛ إزعاج لا تدرك أوروبا خطورة نتائجه على المدى البعيد ـ أوروبا التي لا تعرف مصلحتها، كما يؤكد هينتينغتون ـ. أما لو كان الرافضون لها خلف الأسلاك الشائكة للغرب؛ فهم وحوش خارج التاريخ حسب فوكوياما، أو خصوم طبيعيون حسب هينتينغتون، أوضدنا حسب جورج بوش الابن (1)! إنها حرب مقدسة! ولذا تعين على بلاد الشرـ وهي كل البلاد الواقعة خارج سياسة النفوذ الأمريكي أو المستعصية على الاحتواء ـ أن يقبلوا بها دون أن يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى العم سام. ولينبطحوا ما استطاعوا كي تمر عاصفة العدالة الكوبووية المطلقة بسلام. كل ذلك لمجرد أننا الدولة العظمى! وعليهم حينئذ أن يتجردوا من كل وسائل المقاومة وأن لا يقاتلوننا؛ فالمقاومة إرهاب! ونحن في المقابل، لنا مطلق الحق في تحشيد آخر ما جادت به العبقرية التكنولوجية الحربية من وسائل الدمار الشامل. نحن فقط من له الحق في أن يقصف ويبيد. وعليكم من الآن فصاعداً، أن تكونوا (مازوخيين ) تتلقون الضربات بهياج واستمتاع شبقيين أو بتقدير وإجلال بالغين، وَلِمَ لا تستقبلوننا بالورود!؟ .

ليس غريبا بعد ذلك أن ينزعج كهنة العدالة المطلقة من وجود مناظير ليلية في يد قوات الخصم ـ ولعلها في متناول صيادي الأرانب البرية ـ بمثابتها جريمة حرب ـ إن اقتضى الحال جعلنا شعباً آخر يدفع ثمنها في صورة إبادة شاملة ـ تزعج طيارينا من تنفيذ استعراضاتهم البهلوانية في سماء بغداد (2). إننا نريد قتلكم بدون إزعاج؛ لا تصرخوا رجاء!؟ لا تزعجوا أبطالنا المحررين حينما يقذفون حمم الموت فوق رؤوسكم ـ فالموت الذي نعدكم به نظيف، لأن حربنا، هي في الأصل، حرب نظيفة ـ وإلا اعتبرناكم معتدين ومجرمي حرب!؟

حول هذه النزعة السادية المفرطة لما رسخ في العقيدة العدوانية فيما يسمى بحق العنف، يتحدث جمع من المدرسين في المعهد الفرنسي لعلم الحرب، قائلين: ( يوجد عند بعض فصائل الطيور "نظام تسلسلي بضربات المنقار" إذ يحق بموجبه لبعض الطيور بأن تنقر غيرها، ومن واجب الطيور الأخرى تلقي "ضربات المنقار" هذه دون أن ترد، وقد كان من العدل أن تتمتع على الأقل بحق الفرار! وهذا ما تسميه قوانيننا بـ "الهيبة أو الإجلال") (3).

وهذا حقاً ما حدى بالدولة العظمى اليوم ومن خلال صقورها أو حتى حمائمها المستنسرة والمتطاوسة، للتدرع بالحرب لتأبيد واقع الفوارق الدولية، وانتهاك السيادات، واستباحة الأوطان. وهي في ذلك على ما رأى "هيركليت"، بأن "الحرب هي أم جميع الأشياء، فهي تصنع الآلهة كما تصنع العبيد". فهل الدولة العظمى اليوم بصدد تحويل العالم إلى سادة وعبيد؟! .

يوما بعد يوم يتأكد للرأي العام العالمي، أننا نساق عنوة، وتحت دفق من الإكراهات السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى عصر المفارقة الأمريكية. وهي بالأحرى حالة استدراك قصوى، تتسم بالسرعة الفائقة للحؤول دون أي تشكل لنظام دولي جديد ينعم بالتوازن المطلوب، من شأنه ـ على الأقل ـ في ظرف هذا الاختلال المستفحل، لما بعد الحرب الباردة، أن يحجم من سيطرة ديكتاتورية القطب الواحد، لقوة مهيجة لم تعد تخجل من مفارقاتها! بل والتي ترى في أي دعوة لحثها على التراجع إلى حدودها الطبيعية، تهديدا واعتداء (4).

فقد ظلت المرحلة السابقة، قبيل تأبين الاتحاد السوفياتي، مليئة بالتعثرات التي حالت دون تحقيق الدولة العظمى لحلمها في أن يكون ذلك القرن، قرناً أمريكياً بامتياز! وهو قرن مثقل بمواجع وآلام راح ضحيتها ملايين من البشر، كانوا مثلنا تماماً، يألمون كما نألم ويحلمون كما نحلم، ويطمحون! لكنهم ـ مع ذلك ـ راحوا عبثاً! ليظل السؤال حياً في الأذهان: ما الذي تغير بالفعل خلال هذه الحقبة من سياسات النفوذ والأطماع الامبريالية؟

بعد عقود من الاستسلام لذهان العسكرة، وسباق التسلح الذي أقحم العالم في ما لم يكن يخطر حتى ببال من وصف زماننا بالعصر التراجيدي، داخل عصر نووي كئيب، بلغ فيه الجنون ذروته إلى أن أصبح التدمير الكلي للنوع عقيدة دارجة ومستهلكة في لغة التداول اليومي. وقد أتخم هذا الرعب عقلنا المعاصر بنوباته، حد، بات فيه الفرقاء المتورطون في هذا الجنون، يفكرون في إمكانية تدمير العالم عشرات بل مئات المرات. مع أن النوع الذي قد تقتله الشرقة والشهقة، يكفيه موت واحد. ومع ذلك تظل المفارقة عظمى؛ إذا كانت حضارتهم قد بنيت على فلسفة مادية بالغة الصمم، وعلى نزعة أبيقورية هائجة.. وإذا كان تعاظمهم قام على مدرك تنموي قاض بالرفع من منسوب أمل الحياة ـ l esperence de vie ـ ما هو حقيق بأن يذكي بإسراف، غريزة حب البقاء؛ فكيف قبلوا بأن تتراكم لديهم أسباب الفناء، وتغدو حضارتهم كما وصفها آحادهم، حضارة موت الإنسان؟! فهل هي أم المفارقات في عصرنا الأمريكي الغاط في سبات الهيمنة والاستكبار الفاضح، أم هي حيلة من حيل ذات (نويانية) ـ paranoiaqueـ تسعى من خلال هذه السياسة الاستهلاكية الإعلامية للحرب النووية الممكنة، إلى إرساء فئة جديدة، إن لم تكن هي الأهم من نوعها من السلع الرمزية للاستهلاك الجماهيري ـ la consomation de masses ـ وهو ما سنسميه بـ (الاستهلاك الاسترهابي).

فالمجتمع الحديث بقدر ما يستهلك من سلع وخدمات، هو مطالب في عصر الرعب الأمريكي بالانخراط في دورة الاستهلاك لمنسوب معين من الاسترهاب. وهذا النوع من الاستهلاك، هو ككل المستهلكات القائمة على نظام التصنيع (الفئوي)، يخضع إلى حركة من التجديد المستدام (5). فما دام الاستهلاك ينمو ويتشعب بصورة جنونية، ويتغير بصورة دائمة في مجتمع الاستهلاك إلى حد بات، كما وصفه (جان بودريار)، غاية في ذاته، بطبيعته الرمزية الاجتماعية ـ استهلاك الاستهلاك ـ. فقد بدا وكأن التعاظم في الرعب يراد به مزيد من السيطرة على الأذهان، ما دام استعماله الفعلي لا يحقق سيطرة محضة، بل دماراً شاملاً. وهو ما يناقض مفهوم توازن الوسائل والأهداف في الحرب عند كلاوزفيتز (6).

ولا يخفى أن هذا الكائن المستهدف بالدمار الشامل وسياساته ورموزه وشعاراته، مفطور على التكيف والتأقلم مع أبشع الفظاعات الممكنة. حتى أنه زود بما يقهر به فواجعه متى ما توالت عليه الأهوال وتواطأت عليه الدواهي حتى قسا قلبه. وهي القسوة التي تشارف على بابها المسدود، حيثما تنامى الشعور بالإحباط، وتكررت لغة الرعب والاسترهاب النوويين. لا سيما وقد أظهرت المقاومة الفلسطينية ـ مثلاً ـ أن العرب لم يدخلوا بالفعل عصر الاستهلاك الاسترهابي، بعد أن أظهروا للعالم بأن الكائن مهما قل شأنه، لا تملك أعتى القوى إلا أن تحقق ميتته الواحدة؛ إذ الموت واحد، سواء أكان نتيجة طعنة بالسكين أو نتيجة لانفجار (أم القنابل) (7). فماذا لو كان هذا الفدائي هو من يهجم على الموت الذليل، لكي يحوله من موت بلا معنى إلى موت يحمل معنى الحياة، أو تحويل الموت المادي إلى حياة رمزية. فلقد أدركت الدولة العظمى أن العالم العربي والإسلامي هو وحده المؤهل لتحرير أبنائه من ذهان هذا الاسترهاب المتعاظم. هو وحده من لا يزال يحافظ على طراوته الروحية ورشاقته الإنسانية (8).

ومادام الرعب جاثماً على صدر العالم، وهو اللغة الحقيقية خلف مجازاتنا السياسية، فهذا مؤشر حقيقي على أننا نعيش وضعاً جديداً لم يعد يتحمل مناورات السياسيين ولا أحلام العقائديين. فإذا ما ماتت السياسة وانطمست سيادات الدول، فأصبحت الدول مجرد أنجم مضافة إلى العلم الأمريكي، فأي مستقبل ياترى ينتظر المنتظم الدولي والأمم المتحدة، على ما عليها من هنات؟!

على أن هذا المدخل يؤهلنا لطرح بعض التساؤلات الممكنة، لتوضيح مغزى ما عنونا به هذه الورقة؛ الإرهاب الاستباقى أو الإرهاب كصناعة:

أولاً: حينما نحكم على النوايا، بوصفها مسوغا كافيا لما يسمى بالحرب الاستباقية، ألا يعني ذلك أننا نؤكد على أن لا خلاص لنا من الإرهاب إلا بأن نصبح إرهابيين؟ ، أليست هي إرهاباً استباقياً، بدل الاستسلام لخدعة (مفهوم) الحرب الاستباقية؟ .

ثانياً: إذا كان السؤال الأول يتضمن جواباً على الشق الأول من هذه المعادلة، فإن السؤال الثاني يصبح كالتالي: هل ما يسمى بالإرهاب، هو فعل تلقائي على غرار ما ساد من النشاط المافيوزي والإجرامي؟ ، أم أننا أمام جيل جديد من هذا النشاط، يحمل معه مبرراته السياسية والثقافية والإنسانية.. بمعنى، إذا لم يصبح الإرهاب أمراً جزافياً، بل نتيجة مدبرة لها مقدماتها المنطقية، فهو إذن خاضع لصناعة وتدبير محكمين.. فما هي طبيعة هذه الصناعة ومن هم مهندسوها؟ .

وثمة بالتالي سؤال ثالث يحتوي الأولين معا: إذا كان الممارسون للإرهاب الاستباقي متورطين في هندسة الإرهاب وافتعاله وعولمته، كذريعة للتدخل والعدوان، فلماذا يمعنون في ( تلبيس إبليس) إزاء مطلبين، كان بالأحرى بدولة الإرهاب الاستباقي أن تحددهما بالوضوح الكافي:

ـ أولا، ما هي المصالح القومية الأمريكية؟ (9)

ـ ثانياً: ما هو المحدد الموضوعي للإرهاب؟ (10)

إذا كانت ( المصالح القومية) و(الحرب ضد الإرهاب) هما مفتاحي الخطاب الأمريكي الراهن، فلماذا كل هذه المناورة ـ سواء ما تظهره استجوابات زعمائهم أو مناوراتهم داخل المؤسسات الدولية ـ ضد أي محاولة لوضع تعريف للإرهاب، ووضع بيان شافٍ لهذه المصالح القومية؟ أفلا يعني، أن هذا الإخفاء والممانعة ضد أي وضوح في المفاهيم والأهداف، هو مقدمة نظرية للإرهاب نفسه. وهذا بدوره يؤهلنا لدراسة المقدمات النظرية والمسوغات السياسية للإرهاب. باعتبار الإرهاب صناعة غربية ترتد على الغرب عند الطلب.

ـ الإرهاب الاستباقي والإرهاب كصناعة..

كيف يصبح مفهوم محاربة الإرهاب شعارا أو أسطورة جديدة، مؤسسة لأبشع أشكال الإرهاب؟!

الصناعة الإعلامية أو ما يسميه توفلر بـ (خيمياء الإعلام) (11)، جديرة بأن تحدد لنا فيصلاً هلامياً بين مايسمى إرهاباً وما يمكن أن نسميه (محاربة الإرهاب)؛ إنها كمية ونوعية وسائل التدمير المستخدمة، وكمية النشاط الالتفافي حول القوانين الدولية، وأيضاً ـ وهذا هو المهم ـ كمية الوقاحة التي تجعل مهندسي الإرهاب الاستباقي، لا يخجلون من تفاهة مفارقاتهم، ولا يهتمون بمدى اقتناع العالم بقيمهم الغامضة. فليس أمام العالم إلا خيار واحد: صدق أو لا تصدق، طالما أننا الدولة العظمى!؟ فالإرهابي إذن، هو من لا يملك غطاءاً شرعياً في ممارسة العنف، ولا يملك طائرات ولا جيوشا تقليدية، ولا دولة (ليبرالية). فقد يكون قتل المدنيين بعملية انتحارية، إرهاباً. وهو كذلك بالفعل! لكن قتلهم على إيقاع حركات بهلوانية للأباتشى، أو الـ (ب) 52، هي حرب مشروعة أو نظيفة. فمن هو الإرهابي إذن؟ إنه بالتأكيد من لا يجيد فن الإبادة على طريقة الدولة العظمى! أي من يفكر كثيراً ليقتل قليلاً وليس من يفكر قليلا ليقتل كثيرا! هذا في حين أن الإرهاب واحد، وذا جوهر واحد. (12)

يتيح لنا عصر المفارقة الأمريكية، إمكانية استيعاب سياسة الكيل بمكيالين. إنه إذن، عصر الوقاحة السياسية بامتياز! ولعل واحدة، وهي ـ أم المسائل في علاقتنا بالغرب ـ أن تهمة حيازة أسلحة الدمار الشامل، التي أصبح بموجبها العراق ظنيناً وحيداً ـ مع أن الغرب متورط في عملية تسليم أسلحة دمار شامل للعراق في إطار سياسة الاحتواء المزدوج ـ، في عالم أغرقته الدولة العظمى وحلفاؤها في جنون نووي، يدفعها واقع حيازة إسرائيل لكميات من أسلحة الدمار الشامل تفوق العراق وغيره كمية ونوعاً. ما يجعل موضوع استعمالها ليس هو في حد ذاته المشكلة التي تثير اهتمام الولايات المتحدة في ظل الانهيار الكبير في منظومة القيم السياسية للعالم الحر. بل المشكلة اليوم هي: استعمالها ضد من؟ والحال أن لا أحد يشك في أن إسرائيل المدججة بمائتني وعشرين رأساً نووياً وأطنان من المواد الكيماوية وأكثر من مئة وخمسين قنبلة ذرية، لن يكون في مستطاعها، وبحسب قاعدة توازن الأهداف والوسائل استعمالها ـ لا سيما وأنها جزء من بيئة الاستعمال ـ متى ما ظل الوضع طبيعياً. ولكن هذا لا يعني أن إسرائيل لا يمكنها، تحت ضغط التهديد النووي الذي يحفظ الاختلال في ميزان الرعب والقوى بينها والدول العربية ـ أن تفرض شروطها وأطماعها في إقليم منزوع السلاح. إن السلاح النووي يستعمل فور امتلاكه؛ إما عن طريق الضغط، وهو نوع من الاستعمال بالقوة ـ استعمال القوة بالقوة ـ وإما بالفعل ـ استعمال القوة بالفعل ـ. وفي الحالة الأولى هو استعمال واقع في سياق الاستهلاك الاسترهابي! وفي ضوء هذه السياسة الاسترهابية لن يشكل التهديد الإسرائيلي باستعمال السلاح النووي في حروبها المتوقعة ضد العرب والعالم الإسلامي، لن يشكل إزعاجا للولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك لم يسجل التاريخ الحديث إلا حالة استعمال نووية واحدة،؛ إنها أول ـ ولا نعتقد أنها لن تكون هي آخر ـ من فكر في استعمالها، كما حدث في هيروشيما وناكازاكي. ولعل حديثها عن استعمال بعض الفئات الموسومة بالتكتيكية أو النظيفة هو واقع فرضته الضغوط العالمية لما بعد الحرب العالمية الثانية. إن الفكر الذي سوغ استعمال الأسلحة النووية التكتيكية، هو هو الفكر نفسه الذي استساغ ويستسيغ استعمال السلاح النووي الاستراتيجي. وكما يقول (نيل الروي) ـ سكرتير الدفاع الأمريكي في 13 حزيران من عام 1958ـ؛ (لقد أصبحت الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام القنابل الذرية النظيفة في أية معركة صغيرة، شريطة أن يكون في هذا الاستخدام فائدة ومصلحة ). (13)

 يتيح لنا عصر المفارقة الأمريكية، إذن، القبول بأن تتحول الدولة العظمى إلى دولة إرهاب بالفعل، لكبح إرهاب افتراضي، تتشكل صورته النمطية داخل أذهان مرضية تشكو رهاباً مزمناً من الآخر. أو عقدة اضطهاد داخل إقليم لقطائي ـ ووحدهم الأمريكيون لا يخجلون من هذا الوصف ـ لم تختمر لديه قدسية الأوطان أو مفهوم كرامة الأمم. وهذا ليس له إلا معنى واحدا؛ كلما صمد الخصم أمام إرهابنا، فكرنا في تصعيد منسوب الاسترهاب. وإذا كان استعمال هذا السلاح الفتاك في وارد الاستراتيجية الحربية للدولة العظمى، فهذا معناه أن ما يجري اليوم وما سيجري غداً، هو فصل من فصول الإرهاب الاستباقي لإرهاب متوقع لم يقع.

إن سياسة دولة الاسترهاب ـ المتمرسة في صناعة الحروب وهندسة إرهاب الدولةـ التي قامت سياستها على قواعد الدبلوماسية السرية والحروب الاستخباراتية القذرة، عملت طيلة عقود على تنميط الذهن الأمريكي وجعله مهيئاً للتصديق بكل الأساطير المؤسسة لعقيدة الغزو. وقد بدا الرهاب من الآخر نواة عقيدة شعب جعلوه يجهل كل شئ خارج حدوده الطبيعية، تلك التي لا يدري إلى أي حد تنتهي بالفعل!؟ مع أنه يعيش في دولة ترقص سياستها الخارجية على إيقاع التدخل. وهذا الرهاب الداخلي لا يمكن أن يتحقق إلا بإذكاء التناقضات الدولية، وإضعاف أداء المؤسسات الدولية، وتكريس اللبس والغموض في المفاهيم، والحفاظ على هشاشة بنية القانون الدولي. وهو نوع من تأهيل المناخ الدولي للقبول بصناعة الحروب وهندسة الإرهاب، واستنبات العدو المفترض من داخل أنقاض الحروب، التي تبدو في نهاية المطاف كمشاهد لمسلسل قائم على لعبة التشويق. حيث يبقى دائماً شيء من الغموض لا بد منه لربط المشاهد بمنظومة الافتراضات الممكنة.

إنها مشاهد هيتشكوكية بامتياز! فالدولة العظمى التي ترى نفسها اليوم في حل من أمرها إزاء المنتظم الدولي، لا تريد أن تصبح مجرد عضو في منتظم مستقر. إن استقرار الدول وبالتالي استقرار العالم، هو تهديد لاستقرار داخلي بنته الدولة العظمى على تصريف الأزمات الداخلية إلى الخارج في شكل حروب. هذا فضلاً عن كونه مقوضاً لطموحها في السيطرة.

إن الدولة العظمى لا تتحمل صدمة انتصار السلم والاستقرار الدوليين؛ ومع ذلك فكل سياساتها العدوانية تتم تحت مسوغ تحقيق الاستقرار والسلم الدوليين!؟ فلا يخفى أن الثابت الوحيد في سياسة الاسترهاب الاستباقي، هو المصلحة! وهي مع ذلك، مصلحة غير محددة ولا معرفة. لسبب بسيط جداً؛ كونها مصلحة متطلعة لابتلاع العالم كله. وليس ثمة بعد هذا كله (صداقة ) أو (عداوة) ثابتة! القاعدة التي تتيح لنا إمكانية استيعاب السرعة التي تلتهم فيها الدولة العظمى أصدقاءها أو حلفاءها، والسرعة ذاتها التي تصطنع فيها أعداءها.

إن (لعبة) قانون محاسبة الدول، التي تثار بين الفينة والأخرى داخل الكونغريس، ليست إذلالاً وانتهاكاً لكرامة الدول فحسب، بل هي أيضاً واحدة من الإجراءات التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لترسيخها، كتعبير جديد عن الخرافة الكوبووية حول العدالة المطلقة، تعزيزاً لسياسة الإرهاب الاستباقي. فداخل هذا الحطام الدولي، ليس ثمة أيسر من اختلاق ما يصلح مستمسكاً لإدانة أي دولة من الدول. فهل الدولة العظمى ليس لها من الجرائم ما يجعلها جديرة بالمحاسبة؟! بلى! ولكن من يملك محاسبة الدولة العظمى؟! (14)، ومع ذلك يبدو أن العالم حتى الآن لم يكد يستوعب بعد هذه الحقيقة الأمريكية، بوصفها الممثل الأكثر حداثة ـ وشراسة ـ للداروينية التقليدية! ففي تقرير للمعهد الفرنسي لعلم الحرب في نهاية السبعينيات تحت عنوان (الحروب والحضارات)، نقرأ): أما الوظيفة الثانية للدولة: فهي تعريف العدو والصديق. وبمقدار ما تتكامل المجتمعات وتتنوع، بمقدار ما تظهر العديد من الصفات الجديدة، ولكنها ترتبط مع ذلك بالمخطط البدائي. ومن النادر ألا تشتمل التقاليد والنماذج الأصلية واللاشعورية لشعب ما، على عدو تقليدي وراثي، وهي ظاهرة معقدة، ثابتة نسبياً، ترجع أصولها للحروب القديمة التي تمر بفترات حادة. وعندما يمكن العثور على ( سوابق) من كل الأنواع، كما هي الحال في تاريخ القارة الأوروبية، يصبح الاختيار أمراً لابد منه. فكل أمة كانت في بعض الأحيان وعلى مرور القرون، حليفة أو عدوة لبعض (أو لجميع) جيرانها.. وعندما تتضخم الروح العدوانية الجماعية وتستشيط من الغضب، تكون النتيجة هي البحث عن (نقطة تطبيق). وهكذا يتغير العدو، بتغير الظروف والأحداث. وهذه الطريقة معروفة في ميادين علم النفس، وهي تقوم على طمس الأحقاد والنزعات الماضية نحو البعض وإحيائها وتنشيطها نحو العدو الحالي بكل الوسائل). (15)

وهكذا يتيح لنا عصر المفارقة الأمريكية مكنة استيعاب تلك اللغة الجديدة المدرجة في خانة صدق أو لا تصدق. ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ تحرير العراق!؟ فإذا كانت الدولة العظمى طرفاً في كل ما حصل طيلة هذه العقود من الزمن، في هذه المنطقة، حتى أمكننا القول؛ لولاها لما حدث ما حدث؛ لا حرب الخليج الأولى ولا الثانية ولا الثالثة.. فهل نحن يا ترى بصدد إعلان توبة أمريكية من جرائمها ضد الإنسانية أم أنها فصل جديد من الالتفاف على الحقائق، لنفض اليد مما كانت قد جنته ديبلوماسيتها السرية وحروبها القذرة، كي تأتي في هذا الوقت بدل الضائع، لتحمل نظام بغداد كل ما كان اقترفه ـ وإن كان كل ذلك تم تحت رعايتها وبرسم الاحتواء المزدوج ـ، ولكي تسرق من الشعب العراقي حريته مجدداً وتلطخ نضاله وتاريخه ومستقبله بالعار. حيث لم يكن المطلوب من الدولة العظمى طيلة هذه الحقب إلا أن ترفع يدها عن قضايا شعوب المنطقة.

لا شك، وبعد أن تنجس المسيرة المطلبية لشعب الرافدين بعدوانها الامبريالي الغاشم، سوف تترك وراءها شعباً محرراً فوق زوبعة من التناقضات، وعلى أرض ارتهنت للتلوث البيئي لبلايين السنين؛ شعبا بلا جغرافيا نظيفة وبلا تاريخ يشغل ذاكرته.. منزوع القرار، منزوع السلاح، منزوع الثروة.. شعبا أصبح مصيره على كف عفريت؛ إن هو رفض الخضوع لمطالب النفوذ الأمريكي، فلن ينال استقلاله إلا بحرب إبادة أو مقاومة طويلة الأمد.

ـ عولمة الأمركة أو أمركة العولمة؛ ابدأ من حيث شئت، فالنتيجة واحدة!

 إن الإرهاب الاستباقي، هو المقابل المنطقي ـ والفعلي ـ للإرهاب المتوقع. لأنه لا إرهاب أفظع من أن نحاسب النوايا، بناء على ما تجود به خيمياء الإعلام المضلل، ثم نرتب على فزاعاتنا التخييلية، آثاراً في الخارج. إذا كانت الدولة العظمى تتحدث عن إرهاب افتراضي وعن تكهنات استخباراتية غامضة، ليس لها وجود بالفعل، فإن ما تتخذه من تدابير عدوانية بالفعل، يجعل الفارق الموضوعي ما بين الإرهاب المتوهم وبين الإرهاب الاستباقي وعولمة الأمن القومي الأمريكي المغلوط أو أمركة الأمن الدولي؛ هو كون هذا الأخير إرهابا بالفعل! وما كان بالفعل هو أنفذ مما هو بالقوة. فإذا كان الإرهاب بالقوة ـ أي الإرهاب الافتراضي ـ هو في أقصاه لا يبرح حيز الإمكان ـ لا موجود ولا معدوم ـ قد يكون وقد لا يكون ـ، إذ يمكن احتواءه بفعل الديبلوماسية النشطة ـ فإن الإرهاب الاستباقي القائم على فكرة إبطال الإمكان الإستقبالي، هو إرهاب بالفعل! وهي هنا تؤكد على ازدواجية المعايير، حيث إن كان عرفها الجنائي قاض ببراءة الظنين ما لم تثبت إدانته، فهي بذلك تؤكد على أن أمركة الأمن الدولي، تعد العالم بمشروع (أبارتايد) دولي. ولعل واحدة من مؤشراته المعلنة، الدعوة إلى تغيير البرامج والأنظمة التربوية في العالم العربي والإسلامي، لتسهيل المهمة أمام مشروع أمركة العالم، والذي يعد فصلاً رئيساً في سياسة الإرهاب الاستباقي. بل لعله تأكيد على ما جاء في الهيامات الهنتنغتونية بتميز الحضارة أو الثقافة الغربية على ما دونها من ثقافات الأمم، أو التعبير السخيف لبيرلوسكوني حول هذه الأفضلية تجاه الثقافة الإسلامية. الأمر الذي سخر منه أمبيرتو إيكو داعياً إلى إنشاء انتروبولوجيا بديلة!

ـ أي مسؤولية للمفكر؟
لم تستثن سياسة الاسترهاب الدولي حتى حرم الفكر والمفكرين من هجمتها الكاسحة. بل لعلها رأت في دور المفكر وموقعيته، منطقة الخطر الكبرى. وذلك في جنبة اقتداره الطبيعي على دحض أكاذيبها والرفع من إيقاع الوعي بأبعادها ومخططاتها.
ففي قبال الحث على محاصرة المفكر واللجوء إلى إعداد وصناعة بدائل ـ كفطائر الهمبرغر ـ ليكونوا كهنة هذا التلبيس في المفاهيم داخل الوطن العربي والإسلامي، أوإعادة النظر في منظومات التفكير العربية والإسلامية، وبرامج التعليم والتربية، كما بات يتردد على لسان المسؤولين في الدولة العظمى؛ مقابل ذلك، كانت هناك أرتال من خبراء ومفكرين قد جندوا للقيام بحملات فكرية وأيديولوجية ضد الثقافة العربية والإسلامية، بوصفها ثقافة مناهضة للديمقراطية ومشجعة على الإرهاب. توجت تلك الدعاوى بأعمال من مستويات رفيعة في المشهد الفكري والسياسي والخبرائي، أمثال فوكوياما وهينتنغتون وفريدمان…
ومع أن هينتنغتون قد بدا لبعضهم في حالة تراجع قصوى عن كل ما أثاره في كتابه المعنون بـ (صدام الحضارات) (16)، إلا أنه سبق وأشار إلى تلك المفارقة التي يشهدها واقع النخب الفكرية والثقافية في العالم العربي والإسلامي. لقد كانت هذه النخب عشية الاستقلال بمثابة المدخل الطبيعي للاستعمار الجديد، والقنوات المناسبة لتسريب القيم الغربية إلى البيئة المحلية لهؤلاء المثقفين المنبهرين أيما انبهار بنمط الحياة والثقافة الغربيتين. لكن الآية تبدو لهنتنغتون اليوم معكوسة تماماً. حيث أصبحت الجماهير التي كانت قبل حين ترفض الثقافة الغربية، هي الأكثر انبهاراً اليوم، إلى حد بالغ في الاستلاب. هذا فيما النخب أصبحت في طليعة المواجهة مع الغرب. إن مثل هذا الحديث من شأنه أن يجعل هذه النخب في واجهة الاستهداف لسياسة الاسترهاب الاستباقي. واليوم أمام المفكر في هذه الديار المستهدفة دوراً حاسماً، تتراءى لنا أهم معالمه في الآتي:

1 ـ إنها لفرصة سانحة للمفكر، كي ينهض بدور مزدوج على خلفية التراجع الدراماتيكي لمنظومة القيم، سواء أتعلق الأمر بالوضع المحلي أو الدولي.. فحينما تغيب الممارسة الأخلاقية وتنهار القيم وتلتبس المفاهيم، يبرز تلقائياً دور المثقف بوصفه طليعة التحرر والتنوير. وهذا الدور لن يكتمل ولن يصبح فعالاً إلا بتعدي الحدود، ومعانقة النشاطات الإنسانية التي يضطلع بها مفكرون أحرار داخل المجتمعات الغربية نفسها، والذين يمثلون الوجه الآخر للغرب، لأجل تشكيل جبهة عالمية لمناهضة سياسة الاسترهاب الاستهلاكي وسياسة ( الإرهاب الاستباقي).

2 ـ لقد آن الأوان لهذا المفكر بأن ينهض من سبات هذا الهيام النخبوي المسرف ـ الذي كاد ينزاح به إلى موقف ( لا مساس) ـ. آن الأوان لسامريي الأمة أن ينزلوا درجة من صومعاتهم للمساهمة قدر الوسع فيما يحمي أوطانهم، وتقويض الأساطير التي تؤسس لما يستهدف حماهم من هذا الإرهاب الاستباقي. فالحديث عن ضرورة استقالة المثقف أو انتحار المفكر وعدم جدوى مشاريعه وما إلى ذلك من ترديدات دعاة النهايات؛ إن هي إلا خيانة لكيان استباحه الجهل وحل بفنائه التخلف والدجل.. فإذا كان غرامشي قد تحدث عن المثقف العضوي فما أحوجنا إلى الحديث عن دور المفكر المسؤول!

3ـ ليس سؤال التقدم بالضرورة مزاحماً لسؤال التحرر والاستقلال، كما طغى في بعض الأدبيات الأيديولوجية. لا سيما بعد أن اتضح لنا اليوم بأن سؤال التحرر والاستقلال لا يزال سؤالاً ناجزاً للمرحلة، بحسب ما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي. وليس غير المفكر، قادر على بيان العلاقة الجدلية بين سؤال التقدم وسؤال التحرر والاستقلال.

4ـ ليس دور المفكر، أن يزيد الطين بلة، ليصبح خلف الأحداث تابعاً، إمعة، مستبدلاً فعل التفكر والتحليل بسحر التملق والترديد. بل المطلوب نهوضه بمسؤوليته في التنوير بجرأة وعمق وتخلق. فقد يغدو من الصعوبة بمكان، صمود أهل السياسة في السياسة، أمام هذا التحدي الاسترهابي. في حين، قد يتمتع المفكر بقدرات هائلة في الممانعة، وفي تمرس لا نظير له عند أهل السياسة في دحض التزييف، وحماية ثقة الأمة بالمستقبل من خطر التيئيس! فحيثما غاب المفكر المسؤول طغت مظاهر الاستحمار وعلا ذهان الاستتباع؛ فلنحذر!

5ـ لقد أثبتت الأحداث، أن المفكر الغارق في حداثوية (خضراء الدمن ) (17)، ليس بوسعه تقديم ما يقيم صلب أمته في الملمات وعند الأزمات. وها هي ذي فرصته كي يتصالح مع نفسه ويعيد رسم خريطة الطريق. ويعيد التفكير فيما لم يفكر فيه ـ بكسر الكاف مع تشديدهاـ أو ما لم يفكر فيه ـ بفتح الكاف وتشديدها ـ لأن المطلوب اليوم، هو تصعيد خيار التفكير إلى أقصاه. فإما أن نفكر وإما أن يفكر عنا. إما أن نستأنف التفكير بعمق وحرية أو نتلاشى في خضم صراع الأمم؛ فالمسألة، في تصورنا، أشبه من أي وقت مضى بالسؤال: لنكن أو لا نكون!

6ـ يتعين على المفكر المسؤول أن يجعل من الوحدة والتضامن أرضية إقلاعه الفكري. وأن يرتقي بخطاب الوحدة وفلسفة الاختلاف السعيد إلى أقصى حدوده الممكنة. فلا يستقيم دور المفكر المسؤول إلا بالوحدة وفي الوحدة. وفي مناخ يستمتع بحد أدنى من التعايش السلمي والوفاق الوطني وروح التضامن المحلي!

ـ الهامش:

*ـ ورقة مقدمة لندوة: <مفهوم محاربة الإرهاب ومسؤولية المفكر>، نظمها في المغرب، منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين. وذلك بمناسبة افتتاحه لمقره بالرباط. عقدت الندوة بالمقر، يوم السبت19 أبريل 2003.

**ـ لمزيد من التوضيح نقول؛ إن الموقف النقدي لمفهوم الإرهاب هنا، لا يعني إطلاقاً تبرير الإرهاب وقتل المدنيين، الذي نشهده اليوم في كل مكان، بما يشوه سمعة الإسلام ويقدم التباسات جديدة تسهل فعل الخلط بين المقاومة المشروعة للاحتلال والأعمال التخريبية التي لا تقف على فقه وجيه أو فكر سديد. ولا يحتاج أدنى مطلع، يخفى على تعاليم الإسلام أنها تناقض المقاصد اللاأخلاقية لفعل قتل الأبرياء غير المحاربين. وإذا كان قصدنا من هذا النقد لا يلتقي مع النهج المتطرف لدعاة العنف اللامسؤولين، فإن قصدنا أبعد من أن يكون انتصاراً للنظام العراقي المخلوع، بوصفه يمثل أبشع نموذج للإرهاب، ضد شعبه المعذب. وقد يكون الموقف لا أخلاقياً، إن نحن لم ننبه إلى هذه البشاعة والجرائم ضد الإنسانية التي سكت عنها المثقفون العرب، لا سيما الطامعون منهم في المنح العراقية. وهم بذلك بينوا إلى أي حد هم واقعون في ازدواجية المعايير. وبأن المثقف الذي صفق للنظام العراقي البائد، خان رسالة الشعوب وخان ضميره. ولا قيمة بعد ذلك لتبريراتهم الواهية.

 

1ـ كل هذه المواقف تلخص موقفاً تقليدياً تجاه الآخر؛ بوصفه الجحيم! إلا أن موقف بوش ليس مجرد ثالثة الأثافي في هذه التصريحات التصنيفية ـ فحسب ـ بل هو بالإضافة إلى المواقف الأيديولوجية السابقة لكل من فوكوياما الذي نظر إلى التفوق الأمريكي من وجهة نظر تاريخانية، أو هينتنغتون الذي نظر إلى التميز الأمريكي من منظور بنيوي.. أجل، بالإضافة إلى هذا فإن بوش كان قد أضاف عامل التديين و( التصليب ) لهذا الموقف الجذري من الآخر، باعتبار التدخل الأمريكي هو فعل خلاصي. يتجلى هذا الإحساس المسياني في اعتبار رسالة اليمين المسيحي هي خالدة ومطلقة وفيها خلاص العالم. من هنا اعتباره إياها، حرباً صليبية ـ وهي فلتة قابلة للتحليل النفسي واللغوي ـ. وإضافة إلى عامل (التديين) هناك عامل ( الاستثمار ) بوصفه ـ أي بوش ـ وأعوانه، أمثال ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكوندوليزا رايس.. هم من رجال الأعمال والمستثمرين في قطاع الطاقة. فموقفه إذن ليس أيديولوجياً محضاً، بل إضافة إلى ذلك، هو موقف حاكٍ عن نزعة تمامية ـ يمينية ـ وعن نزعة فيكتورية ـ نيوليبرالية ـ.

2ـ يبدو هذا جزءاً من الحرب النظيفة، حيث شرط تحققها نزع السلاح من يد الخصم، قبل شن الحرب عليه. وهذا النوع من الحروب النظيفة إذن، هي حرب قذرة بامتياز، لأنها تقوم على إبادة العزل. وهذا بحق، معلم من معالم ما أسميناه بالإرهاب الاستباقي!

3ـ الحروب والحضارات، ص 51، إصدار: المؤسسة الفرنسية لدراسات الدفاع الوطني. تـ: أحمد عبد الكريم. ـ دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر. دمشق ط. نيسان 1984.

4ـ لعل سبب استشكال هينتنغتون على ذلك هو إيمانه الشديد بعدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على السيطرة على العالم، فضلاً عن كون الإكراه في عولمة النموذج الغربي ـ وهو في تقديره غير قابل للعالمية بوصف الغرب متميزاً وليس عالمياً ـ هو بالأحرى فعل إمبريإلى وبالتالي فعل لاأخلاقي.

5ـ إنها كناية عن مفهوم الاسترهاب المستدام، تنويعاً على الإنماء المستدام. ففي استعمال الدولة العظمى لليورانيوم المنضب خلال حرب الخليج الثانية والثالثة، نوع من الاسترهاب المستدام يجعل البيئة معرضة لمخاطر انتشار الغبار المحمل بالإشعاع لمدة تقدر ببلايين السنين. فإذا كانت غاية التنمية المستدامة ضمان حق الأجيال في استغلال الموارد الطبيعية والاستمتاع ببيئة نظيفة من التلوث والإشعاع، فإن سياسة الاسترهاب المستدام، تسعى إلى ضمان قدر من الاسترهاب يتعدى إلى المستقبل. فهي محاولة للسيطرة على المكان والزمان؛ أي، سيطرة على المجال وعلى المستقبل!

6ـ يتحدث كلاوزفيتز عن أهمية التوازن بين الأهداف والوسائل. وعلى هذا كما يؤكد إلياس حنا ـ عميد ركن لبناني متقاعدـ أن حرباً نووية شاملة ضد بلد كالعراق، لن تؤدي المطلوب؛ طالما أن عراقاً مدمراً لا يحقق الأهداف الأساسية للحرب أو الأطماع الأمبريالية في منطقة حيوية. هذا مع أن استخدام أسلحة نووية من الفئة التكتيكية يبقى في وارد الولايات المتحدة الأمريكية. لكن وعلى عكس ما تراءى للعميد الركن؛ ليست قاعدة توازن الأهداف والوسائل هي من يدفع بالضرورة قاعدة التصعيد المتبادل، بل يمكن أن يدفع الفشل الذريع لتحقيق الأهداف إلى اللجوء ـ حسب مفهوم التصعيد والتصعيد المضاد ـ إلى استعمال أسلحة الدمار الشامل.

7ـ حتى أننا نجد بعض الفلاسفة القدامى قد أنكر البعث والمعاد الجسماني لهذا السبب تحديداً. إذ لم تستوعب عقولهم قدرة القادر تعإلى على بعث الأموات أو إحياء الأنفس بعد موتها. فأنكروا أن يتخلل العدم الوجود. حتى رب العزة تحدث عن إحياء الأنفس وإماتتها مرتين أو أكثر بوصفها معجزات من صنع قدرته التي لا ينازعه فيها أحد. لكن الدولة العظمى تريد ـ تحت تأثير ذهان القوة والاستكبار ـ عبثاً امتلاك هذه القدرة الإلهية المستحيلة.؛ أي أن تقتل وتحيي وتقتل مرة ومرات. وقد أحسن من قال: تعددت الأسباب والموت واحد.

8ـ لقد أدركت الدولة العظمى، بأن العالم العربي الإسلامي وإن كان لا يملك منازعتها في أسباب القوة المادية، فهو يملك من خلال ثقافته، تقويض سياسة الاسترهاب المستدام. فثقافتهم هذه تمنعهم من الدخول في دورة الاسترهاب الدولي أو الاستهلاك الاسترهابي. وذلك من خلال فلسفة الجهاد والاستشهاد. وبعد أن تبين أن هذه ليست ثقافة محصورة في فئة دون أخرى، بل هي الرأسمال الاحتياطي لكافة العرب والمسلمين متى ما أحسوا بالخطر. وهي ثقافة من شأنها أن تعيد التوازن المفقود. فتغدو الشهادة مفعولاً مضاداً للإسترهاب المستدام. على شرط تفقيه هذا الموقف حتى لايصبح مفهوم الجهاد مستباحاً للجهل والمغامرة والإرهاب. جهاداً لتحرير الأوطان، بقرار إجماعي للأمة وليس بقرارات انفرادية للآحاد، بما يخرجه من مقاصده العادلة وأهدافه الوطنية النبيلة.

9 ـ ليس ثمة ما يسمح بتهديد المصالح القومية للدول. ثمة نظام دولي كفيل بضمان وحماية هذه المصالح. لكن إصرار الدولة العظمى على الحديث عن مصالحها لقومية بهذا الذهان، وبهذا الالتباس، له معنى واحد فقط، وهو أن مصالح الدولة العظمى إزاء باقي الدول، لها الأولوية عند التزاحم. ففي كل دولة ثمة مساحة للمصلحة القومية الأمريكية، قابلة للتوسع والتجدد. فهي جزء من سياسة الدول. وهذا ما جعل هينتنغتون نفسه يشير إلى سوء تقدير الولايات المتحدة الأمريكية لمصالحها. على أن هذه المصالح المتعلقة بالأمن والرخاء المادي والمبادئ، ملتبسة هي الأخرى؛ وكما تؤكد دراسة صادرة من جامعة هارفارد1996، بأن نهاية الحرب الباردة كانت قد غيرت من طبيعة المصالح الأمريكية. ولعل هذا التغير هو الذي منح الدولة العظمى الحق في أن تصبح دركياً يتمتع وحده بحق التدخل وحق العنف في العالم. وهو حق بالطبع، ليس مصدره القانون الدولي، بل هو حق طبيعي مستمد من القانون التصنيفي الدارويني الذي يمنح الحق للأقوى في السيطرة على الأضعف. وبهذا تصبح المصالح القومية الأمريكية مسوغاً شرعياً للتدخل، بل وعنصراً من عناصر الإرهاب الاستباقي.

10 ـ كما هي المصالح القومية الأمريكية، فإن تعريف الإرهاب يصبح جزءا من تعريف تلك المصالح. وبما أنها مبهمة غير معرفة فالإرهاب كذلك، يظل ملتبساً. وهنا يبدو وكأن لسان حال الدولة العظمى: أينما تكون المصلحة الأمريكية، فُثمة حكم الله ". من هنا فالإرهاب سيظل مفهوماً غير قابل للتعريف بعيداً عن المصالح الغامضة للولايات المتحدة الأمريكية، أو خارج المعايير الأمريكية، التي هي للأسف معايير مزدوجة. على إن الدولة العظمى هي من يناور اليوم ضد أي دعوة عالمية لتعريف معنى الإرهاب. ولذا فمقاومة المحتل هي اليوم في الموازين الأمريكية إرهاب!؟ وتصبح مقاومة مشروعة متى ما تناغمت مع المصالح الأمريكية. حتى ليبدو لي أن سبب هذه الازدواجية، ربما، كون الدولة العظمى اليوم، هي دولة جربت الغزو ـ بل قامت عليه ـ كما جربت حروب التحرير!؟ وهذا لا يمكن فهمه إلا إذ1 استسغنا المفارقة الأمريكية.

11 ـ إذا كان من شأن المعرفة حسبALVIN TOFFLER أن تجعلنا قادرين على عمل الشيىْ نفسه بالرأسمال نفسه، فأيضاً هو الإعلام، في ما يسمى بالحروب النظيفة، من شأنه أن يحول الهزيمة إلى نصر، وما كان يتحقق بآلاف وملايين الضحايا يمكن تحقيقه ب" صفر ضحية ".

12 ـ تبدل الولايات المتحدة أل أمريكة جهدا كبيرا في إطار ما يستحق أن يوسم بأسطورة الحرب النظيفة، إلى بلوغ مستوى "صفر ضحية ". وهو جهد بالتأكيد قد يضاعف عدد القتلى في الطرف الآخر. فحيثما قل عدد الضحايا في المعسكر الغازي، تضاعف عدد الضحايا في معسكر الخصم. فهي بقدر ما تقلل من الضحايا بمستوى عدد واحد، تضيفه "صفرا" على اليمين، في جهة الخصم. وهذا ما يعنى أن مستوى "صفر ضحية " في حقيقته، تعبير عن معادلة كالتالي: كيف نقتل ـ بفتح النون ـ كثيراً حتى لا نقتل ـ برفع النون ـ كثيراً!؟ لكن السؤال الأخطر ههنا: كيف نتوقع مستقبلاً تصبح فيه الحروب الأمريكية لا تكلفها ضحايا في صفوفها؟! فالحرب ذات " صفر ضحية " تحمل منظوراً تصنيفياً ومغالطاً أيضاً، أي أنه في الحروب، الآخر هو من يستحق الموت وليس الأمريكي. وربما بدأت إرهاصات عرف جديد سوف تفرضه الدولة العظمى، وهو أن قتل أي أمريكي في الحروب القادمة سيصبح جريمة حرب!؟ إنها أسطورة نيوليبرالية لليمين المتطرف!

13 ـ الجنرال بيير غالوا، العصر النووي، ص 150 ت: اللواء الركن، محمد سميح السيد، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق ط 1 ـ أيار 1984.

14 ـ كل هذا، حكاية عن سيكولوجيا الحرب وأهمية ما تمثله فكرة تحديد العدو والصديق بالنسبة للدول. يتجلى بصورته الأفظع في سيكولوجيا الحرب الأمريكية القائمة على ذهان العسكرة بما تعنيه من رسوخ فكرة العدو الافتراضي في العقيدة السياسية الأمريكية. قد يبدو ذلك طبيعياً إذا حللناه في ضوء النزوع إلى السيطرة. ففكرة العدو الافتراضي تتضخم إلى حد الفحش بالتوازي مع استفحال النزوع إلى الهيمنة. وهذا الإحساس أصبح ذا بعد انطلوجي للشخصية السياسية الأمريكية. أو حسب الروائي الأمريكي جون أبدايك: "ما هي الحكمة في أن يكون المرء أمريكياً، دون وجود حرب باردة "؟ لكن السؤال: أليس السجل الأمريكي حافلاً بجرائم، لعل أقلها يستدعي محاسبة طويلة الأمد؟ إنها لاتحاسب دولة من الدول إلا حول قضايا ارتكبت مثلها بصورة مضاعفة! أليس جريمة استخدام السلاح الذري ضد اليابان هو أبشع جريمة ضد الإنسانية عرفها التاريخ.. لكن من يجرؤ على الكلام ـ حسب تعبير بول فيندلي؟

15 ـ الحروب والحضارات صادر عن المؤسسة الفرنسية لدراسات الدفاع الوطني ص 51 ـ 52.

16 ـ بلا شك، ثمة أفكار أثارها هينتنغتون في الفترات الأخيرة بعد الحادي عشر من سبتمبر يبدو فيها أكثر اعتدالا، لاسيما ما يتعلق بموقفه من الحرب على العراق ومشكلة الإسلاموفوبيا. والواقع، أن من يقرأ صدام الحضارات بعين فاحصة، سوف يدرك أن هينتنغتون ـ بلا شك ـ فاتته الكثير من الحقائق. إلا أن جوهر فكرته حول صراع الحضارات هو تنبيه ووقاية من الوقوع في المحظور. ليس ثمة رسالة أكثر وضوحا في وسم الإكراه الثقافي والتغريب، بالامبريالية واللاأخلاقية من رسالة هنتنغتون تلك!

17 ـ هي كناية عن حداثة مغلوطة تفتقر إلى الماهية؛ أو هي بالأحرى كما وصفها هينتنغتون بحالة التمزق ـ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ـ تماماً كخضراء الدمن في موقعها المتاخم لجنسين مختلفين، فهي أدنى درجات النباتية وأعلى درجات الترابية. فلا ندري أهي فوق حالة التخلف أم هي أدنى درجات التحديث ؟! .