شعار الموقع

من أجل علم البدء

الدكتور قواسمي مراد 2012-10-03
عدد القراءات « 1619 »

كلية المنهج الفينومينولوجي
والصبغة التاريخية لاستراتيجية الارتداد

 المولج

لقد اعتبرت فينومينولوجيا هوسرل (Husserl) «علماً صارماً» (Science rigoureuse) لا يمكن من خلاله إلا الوصول إلى مبدأ الحقيقة، ذلك أن الحقيقة الموضوعية تقوم أساساً على مسألة المنهج، وهو ما يعني أنه لا وجود لحقيقة من دون منهج، بل المنهج هو الحقيقة الموضوعية والعلمية، وكل ما يبتعد عن ذلك ينبغي تطبيق الرّد (Réduction) عليه، بما هو مجرّد أوهام عنكبوتية، بلغة فرانسيس بيكون (Francis Bacon)، بموجب أنه من قبيل الحقيقة النسبية ذات الطابع الريبي الذي عرفه تاريخ الفلسفة مع السوفسطائيين في العصر القديم أو حتى في العصر الحديث مع النزعة النسبية مع نيوتن (Newton)، هيغل (Hegel) وديلثاي (Dilthey).

إن مناسبة الحديث، حسب هوسرل، عن ضرورة منهج لبحث الحقيقة هي أن الحقيقة نفسها تعيش «أزمة» (Krisis)، سببها التوجّهات الريبية والشكّية التي انتشرت هنا وهناك وذاع صيتها وتأثيرها، لأن الرّؤية الفينومينولوجية لا تحتمل أن تخضع الحقيقة للريب، الأمر الذي يعتبر مدعاة لنقد العقل، إذ لم يكف نقد العقل الكانطي المحض، لسبب أنّه كان واقع في الكثير من المطبّات، مطب اكتفائه بالحدس الحسّي في المعرفة مثلاً. ولهذا وجب تأسيس منهج جديد يحصّل الحقيقة القطعية (Apodictique) أو بالأحرى ما يفضّل هوسرل تسميته بالبداهة (Evidence)، في صورة تختلف كلية عن كيفية بحث الحقيقة عند: كانط، هيغل، ديلتاي، نيوتن، برانتانو (Brentano) وتواردوفسكي (Twardowski)... فكلّ هؤلاء لم يتمكّنوا من تقويم منهج علمي يحصّل الحقيقة الكلية المطلقة، الأمر الذي جعله يخوض غمار المغامرة، ودروب الفلسفة الشاقة، لأن الطموح العلمي هو الذي كان يحرّكه قبل كل شيء.

في البدء كانت بداهة الفكر (Cogitatio)، ولكن تلك المفهومة بناء على توجيه النظر صوب المعطيات الواضحة عينيًا، صوب الماهيات والعموميات النوعية وتحصيلها بأجود ما أمكن من النظر والتصويب، بتقوّم (Constitution) «الموضوعات المتنوعة»، ومن هنا يؤسس هوسرل كل انتقاداته للمعرفة السائدة، أي نمط المعرفة الذي توصّل إليه غيره من فلاسفة عصره وسابقيه أيضاً، في «فكرة الفينومينولوجيا» (L’idée de la phénoménologie) (1907) وفي «الفلسفة بما هي علم صارم» (La philosophie comme science rigoureuse) (1911) بحيث ينطلق من أفق المطلق الفلسفي، الفينومينولوجي، واقفاً ضد كل ما يحول دون بلوغه، واضعاً نصب عينيه «الفلسفة الكليّة» (Philosophie universelle) بما هي غاية المنهج الفينومينولوجي، فهي وحدها التي يمكنها أن تقوم بكشف حجوبات ماهية المعرفة وحلّ إلغازاتها العويصة.

هذا هو سرّ تقدير هوسرل لاعتبارات المنهج طوال مسيرته الفلسفية، فقد كان يدرك تماماً أن المنهج الذي يتم تحقيق خطواته بإحكام وتطبيقها على موضوعاته تطبيقاً صارماً أفلحُ طريقةٍ لتحقيق الإنجازات التالية:

1- كليّة (Universalité) المنهج العلمي، أي ضرورة اتخاذ الفينومينولوجيا طابع الكونية الفلسفية سواء على مستوى علوم الطبيعة أم على مستوى علوم الإنسان.

2- علمية العمل المنهجي، وهذا بناء على أن بلوغ الحقيقة العلمية لن يتسنّى إلا من خلال الرؤية النقدية، بل تلك القائمة على تجاوز الأحكام المسبقة والعلم الطبيعي بالدّرجة الأولى.

3- اعتماد منهج الارتداد الفلسفي (Rükfrag) بعدما يتم التنظير له تنظيراً فلسفيًّا، وهو ما يمثّل الرؤية العملية له، علماً أن هوسرل قد خصص لهذه المهمة عمله الموسوم بـ«الفلسفة الأولى» بجزأيها (Philosophie première I et II) وكتاب «أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانساندانتالية» (La crise des sciences européennes et la phénoménologie transcendantale)، ومن هنا يمكن التعريج إلى ما هو أهم في المنهج الفينومينولوجي من مبادئ.

الفينومينولوجيا، منهج ومبادئ

الفينومينولوجيا نفسها ليست محددة بما هي نظرية ذات معايير يمكن الإحاطة بها على نمط النظريات الفلسفية المعروفة نفسها، لأنها تتميّز عنها من حيث الأهداف والمنهج، كما أنها تتميّز بحركية متواصلة التطوّر، إنّها بالأحرى المشروع اللاّنهائي من الممارسة المنهجية التي لا تسمح بإجراء الإمساك النّهائي لها، والحالة فإنّ الفينومينولوجيا ابتداءٌ يكاد لا يبدأ حتى يجد بدايته. بداية متجددة التجليات هي الفينومينولوجيا.

الفينومينولوجيا، بدءاً، هي تلك المهمة النقدية، على مستوى علم النفس، للاتجاه الطبيعي بناء على أنها علم الوعي القائم على التّحليل الدّقيق للمعاني باعتبارها تُدرَك بالحدس في رؤية واضحة، الأمر الذي يمنحها شرف وسام «السيكولوجيا الترانساندانتالية» (La psychologie transcendantale). وبهذا المعنى فهي شرط قيام العلم الإنساني الكلّي، ذلك أنه إذا كانت الرياضيات قد حققت نجاحها على مستوى الطبيعة فإنّ الأمر مرهون، بالنسبة للفينومينولوجيا، بتحقيقه في صورة علم الماهية أي بوصفها علم العلوم أو علم ماهية العلم نفسه، وهو ما يجعل منها «العلم النّظري» بامتياز متّخذاً الحدس بما هو وسيلة رئيسة في المعرفة، وعلى هذا يحدد هوسرل المنهج الفينومينولوجي في مقابل المنهج الرياضي: «إنّ الفينومينولوجيا تقوم على البيان الحدسي، على تحديد المعنى وتمييزه»، فهي تقارن، تميّز، تصل وتعقد العلاقة، تقسّم إلى أجزاء أو تفصل اللّحظات، وهذا كلّه في إطار حدسي خالص. إنّها لا تتبنى الدّرب الرياضي لأنها لا تضع تفاسير على منوال نظرية الاستنتاج (...) وختامها هو بدء العلم المُمَوضِع.

لا يمكن لأي علم، إلا أن يحتوي منهجاً، وهو ما يحصل مع الفينومينولوجيا، ولكن في الوقت نفسه فإنّ درجة أهمية قيام المنهج على مبادئ من أهمية المنهج نفسه، ولهذا لا يجب، والحالة هذه، الاهتمام فقط بخطوات المنهج ومدى تحصيلها للحقيقة، فالفينومينولوجيا منهج يتأسّس على مبادئ أربعة يقدّمها ميشال هنري (M.Henry) وهذه المبادئ هي التالية:

1- قدْرُ الوجودِ على قدر التجلّي (Autant d’apparence autant d’être).

إنّ التطابق الموجود ما بين الوجود والتجلّي يعني أن التجلّي نفسه هو الذي يستغرق الوجود، أو بالأحرى لا وجود إلا للماهية التي توجد بما هي معنى لا بما هي أشياء مطروحة على مستوى العالم المفارق. فتقديم العالم موحّداً مع الوعي، أو ما يسمّيه هوسرل بالتضايف (Corrélation) ما بين الكوجيتو والكوجيتاتوم، بين الشيء ومعناه الذي يقوم الأنا على عطائه. إنّ التجلّي هو كلّ شيء فيما أن الوجود لا شيء أو أن الوجود متجلٍّ لأنه يستمدّ جلاءه من التّجلي نفسه كما أن كلّ وجود يمكن الحديث عنه هو وجود محايث للوعي لا خارج عنه، وعلى ذلك فإن فهم هذا المبدأ ينبغي أن يكون وفق سياق فينومينولوجي، لا أنطولوجي يختص بالكينونة. هذا ما يمنح للفينومينولوجيا طابع العلم الكلّي من باب أنّها حدّدت موضوعها منذ البدء: الماهية (Essence) أو الظاهرة (Phénomène) التي تتطلّب الإيضاح وتسليط النّور عليها. التّنوير (Aüfklarung): تلكم هي المهمة المنهجية والفلسفية لفينومينولوجيا الوعي، مع العلم بأن ديكارت كان قد دعا إلى هذه المهمة من قبل هوسرل في «مقال في المنهج» باسم «قواعد المنهج» التي كانت تطلب بالدرجة الأولى الوضوح تحت جنح النور الطبيعي.

2- لقد قام هوسرل بصياغة هذا المبدأ في كتاب الـ«أفكار...I» الفقرة 24، ومحتواه أن «مبدأ المبادئ» هو حدس العطاء عينيًّا.

بهذا المبدأ تتحدد طبيعة المنهج الوصفي، للفينومينولوجيا، والغاية منه، إذ يرتكز، وابتداء من الظاهرة التي تنعطي لنا أولاً، على: «الحدس» (L’intuition) المثبت في معيش الوعي الذي يمثله، وبهذا تكون الفينومينولوجيا منذ اللّحظة الأولى «علم-نفس وصفي» (Psychologie descriptive) في نطاق بحثها عن وصف الموضوعات المتنوعة التي تنعطي حدسيًّا في صورة معيشات الوعي. بلغة أخرى: إنّ الشيء نفسه في الفينومينولوجيا ليس سوى معيش الوعي (Le vécu de la conscience) الذي يكون شيء ما داخله (Dans) وعبره (Par) بما هو موضوع مقصود (Visé)، وبالتّالي ماثل (Présent)، فبفضل المكانة التي تمنحها الفينومينولوجيا لمثول الوعي، إنّها تخدم ذاتها قبل كلّ شيء، بتوضيحها للموضوعات المطروحة للوصف، عبر أداة «حدس العطاء عينه» (L’intuition donatrice en personne)، وهذا الأخير هو نفسه، كما يقول هوسرل في المجلّد الأول من: «أفكار رئيسية لأجل الفينومينولوجيا» «مبدأ مبادئ» (Le principe des principes) الفينومينولوجيا.

حدس العطاء عينه، أساس كل وصف فينومينولوجي، يرتكز على العطاء الظاهراتي، البسيط والمباشر للموضوع المقصود، الذي لا يستدعي أية وساطة حسية أو عقلية.

عبر هذا المبدأ يكون للعالِم (في علوم الطبيعة) الحق في إثبات كل تأكيد يخصّ أحداث الوقائع الطبيعية على ضوء التّجارب التي تؤسّس هذا الإثبات، إذ ليس ناتجاً سوى عن بداهة عامّة من حيث إنّه استدراج للحقيقة إلى معقلها بالعبارات المتجلّية في المبدأ وإدخال الماهيات المتضمَّنة في مصاف المعطيات المحضة، والأمر نفسه بالنسبة للمختصّ في علم الماهيات إذ عليه اتّباع المبدأ بطريقة موازية، فمعرفة الماهية هي الغاية الأخيرة لهذا المبدأ، وهذا على أساس أنّ الإيدوس المحض يمكن توضيحه بأمثلة، ذات طابع حدسي، مستعارة من معطيات التّجربة.

3- أما المبدأ الثالث فقد تمّت إضافته من قبل المفكّر الفرنسي جون لوك ماريون (J.L.Marion) في كتابه «ردّ وعطاء» (Réduction et Donation)، بحيث قام بصياغته كالتالي: «قَدْرُ العَطاء على قدْرِ الرّد» (autant de réduction, autant de donation) والذي يعتبر بمثابة مضاعفة المبدأ الأسبق (التّجلي والوجود).

لا يتحقّق العطاء إلاّ مع إجراء الرّد (Réduction) بنوعيه: الماهوي (Eidétique) والترانساندانتالي (Transcendantale). إنّه الإجراء الذي يسمح بإدراك العالم بما هو ظاهرة تتجلى في الوعي المحايث، بالتخلّص من العوالق والشوائب، بداهةً، بعيداً عن الواقع الحدثي. قد يكون الرّد إنقاصاً للعالم في صورته الواقعية العَرَضيَّة، ولكن الأكيد أنه إثراء له في حياة الوعي، على أنّه يختلف في معناه عن الشكّ. يصل هوسرل في آخر المطاف إلى الحقيقة التّالية: إيغو ـ كوجيتو ـ كوجيتاتوم (Ego - cogito - cogitatum). فالرّد الفينومينولوجي يتخلّص من القيمة الوجودية للعالم الموضوعي، سواء الحاصل في العالم الخارجي أو النّفسي (...) لا يوجد بهذا سوى الأنا الترانساندانتالي الفينومينولوجي، مجال التّجربة الباطنية الترانساندانتالية الفينومينولوجية. يوجد بالنسبة للأنا عالم موضوعي يستمدّ، مع كلّ موضوعاته، من الأنا كلّ معنى وكلّ قيمة وجودية بصورة ترانساندانتالية. هذا ما يكشفه الرّد الفينومينولوجي الترانساندانتالي، بحيث توجد ظاهرة خالصة، هاهنا، تسمح بأن تُرى ببساطة بالعين الثالثة التي تعاين كل حقيقة نهائية بصورة بديهية. إنّ العالم في الموقف الفينومينولوجي، ليس وجوداً وإنما «ظاهرة».

4- أما المبدأ الرابع، والأكثر إشارة من قبل الباحثين في الفينومينولوجيا والذي يلخّص جماع فلسفة هوسرل فهو: «العودة إلى الأشياء نفسها» (Retour aux choses elles mêmes).

يتضمّن العمل الضخم «أبحاث منطقية» (Les recherches logiques) (1900-1901) تحديداً، مجمل فلسفة، هوسرل ولذلك فإنّ الشّرح المفصّل لمعنى هذا الشّعار يغدو ضروريًّا، لأنّ دلالة الفينومينولوجيا تخضع له بصورة مباشرة. فما الذي نفهمه إذًا من «التّوجه إلى الأشياء نفسها»؟ ما هذه الأشياء نفسها؟ هل هي الموضوعات التي تمنحها لنا إدراكاتنا المعتادة؟ أم هي تلك الأشياء المجرّدة لحظة إدراكنا المعتاد، وبالتّالي المفهومة في جوهرها الخالص؟ لربما يكون الوقت مبكراً عن تقرير ذلك، إذ إننا نرى من المهمات الكبرى لفينومينولوجيا هوسرل ذلك النفاذ إلى هذه «الأشياء نفسها» بحيث عليها، بطريقة ما، أن تقود الفكر الفلسفي.

إن مفهوم الشيء (Sache) -والذي يعني في الألمانية موضوع النقاش- الذي يستخدمه هوسرل في مقامات الفينومينولوجيا يحيل، قبل كل شيء، إلى أنّ الشّغل الشّاغل للفينومينولوجيا لن يكون بالضّرورة الأشياء المادية الحاضرة في الطبيعة (Dinge) بل كل ما فيها من أشياء، مادية، صورية وثقافية لحظة تناولها من حيث هي موضوعات للتحليل. إنّ الشّيء نفسه (Chose elle-même) يختلف جوهريًّا عن الشّيء في ذاته (Chose en soi)، الكانطي، الذي يؤمن بوجود عالم وراء الشّيء الظّاهر ليكرّس بذلك ثنائية الحقيقة والعوالم: الظواهر والجواهر. لا يوجد إلَّا عالم واحد، في الفينومينولوجيا، هو عالم الحقيقة الماثلة هاهنا والآن (Hic und Nunc).

وأمّا من جانب كيفية تفكير المنهج الفينومينولوجي فإنه يمكن تلخيص أهم محطّاته فيما يلي:

1- البدء بقضايا موضوعية يتمّ قبولها من دون شكّ لأجل تحقيق معرفة ضرورية يقينية: وهو يشترط الابتعاد عن المستوى التجريبي الذي تُعرَف قضاياه بأنّها احتمالية، والخلو من الأحكام المسبقة، وبهذا يتأسس البدء المطلق.

2- رفع القضايا اليقينية إلى مستوى الوعي وأفكاره، أي تجربة المعيش: إدراك، تخيّل، وجدان، رغبة... فهذه الأخيرة هي المعطيات المباشرة للوعي من دون توسّط، أي هي الظّاهرة بالمعنى الدّقيق، وهذا هو الأساس في تجاوز تمييز ليبنتز (Leibniz)، ما بين حقائق العقل وحقائق الواقع، وغيره من المدارس بين أحادية الموقف إمّا اعتمادًا على العقل وحده (ديكارت) أو على الحس لوحده (بيكون F.Bacon، لوك Locke وهيوم Hume) بما هي حقائق عقل وواقع في الآن معاً.

3- العمل على تحليل أفعال الفكر (Noèses) بما هي تجارب قصدية: فالأفعال القصدية تقصد موضوعات قصدية، وكلّ فعل يقصد موضوعاً ما وهذا هو معنى كون الوعي وعي بشيء ما، وفقاً لكونه حدساً مباشراً.

4- العمل على وصف الماهية: أي تقديم الهيئة التي توجد عليها الماهية من دون تفسير أو حكم (وهنا تظهر أهمية تعليق الحكم/الإيبوخي Epokhé) أو تأويل أو استنباط من مبادئ أو فروض سابقة، أي كشف المعرفة الصادرة ضرورةً عن حدس الشيء المقصود، كتحصيل ماهية الشيء المُدرَك مكانيًّا-زمانيًّا، ماهية الإدراك، ماهية اللّون، الصّوت، التذكّر، التخيّل... وتتميّز معرفة الماهية بما هي معرفة عقلية منبعها الوضوح والإدراك المباشر، لا الفهم، وبالتّالي كشف الحقيقة في تجلّيها بعد عزل أو ردّ (Réduction) العناصر النّفسية والفيزيائية، أي معطيات الموقف الطبيعي. هذا ما يتضمّن إجراء ردّ الظاهرة، وتغيير الموقف من الطبيعي إلى النّظري (الفينومينولوجي)، والذي سيتمّ تطويره لاحقاً إلى إجراء جذري يمتدّ حتى على مستوى الذّات، التي تمارس الردّ، نفسها في «تأملات ديكارتية».

الفينومينولوجيا: من سؤال المنهج إلى استراتيجية الارتداد

تلك أهم الخطوط العريضة للمنهج الفينومينولوجي الذي يجب ممارسته في العمل الارتدادي لدى مؤسّسه، هوسرل، إذ كثيرًا ما ارتبط إجراء الارتداد (Question en retour) عند هوسرل، بمؤلّف «أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانساندانتالية» (La crise des sciences européennes et la phénoménologie transcendantale)، نظراً لأنّه يُعَدّ إنجازًا يعِدُ به وبتحقيقه لجذرية السّؤال الفينومينولوجي التي تميّزه عن غيره من الأسئلة، ولكن من دون إهمال الإيمان بأنّ هذا السّؤال الجذري قد ظهر سابقاً في «الفلسفة الأولى» لدى بحثها عن الجذرية المطلقة بوصفها سطح القاع الذي تفتش عنه، ومن هنا يمكن الانطلاق من أنّ «الفلسفة الأولى» بحث عن البدء نظريًّا، الأمر الذي يسمح لهوسرل باللجوء إلى ممارسة هذا البدء، الذي تمّ العثور عليه، في كتاب «الأزمة»، فما المقصود بالارتداد، وهل يمكنه أن يمثّل أداة قراءة للحقيقة وللعلم بالأخص ؟

استراتيجية الارتداد، «إجراء» البدء وسؤال المعنى فينومينولوجيًّا

يتناول هوسرل مفهوم الـ: الارتداد(Rückfrage) في دلالته التي تحيل إلى (Question en retour) سؤال العودة الذي يقصد الأَوْبَة والّرجوع، أو حتّى الصّدى البريدي والرّسائلي من حيث يكتسي دلالة الاتصال عن بُعْدٍ، زيادة على أن الـ(Rückfrage)، سؤال العودة، هذا، يطرحُ بدءاً من أوّل إرسال، فانطلاقاً من وثيقةٍ مسلّمة ومقروءة سلفًا، يُعطَى إمكانُ السّؤال من جديد وبالعودة من القصد الأصلي والنّهائي لما يتمّ استلامه من قِبَل التّراث والتّقليد الذي يُعتَبَر وسيطًا وانفتاحًا على الاتصّال التّاريخي بعامّة، وفي الوقت نفسه يمكنه «أن يخضع للسؤال».

يقترح هوسرل منهجَ الارتداد على طريقةِ السّير بـ«التعرّج» (Zig-zag)، في «أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانساندانتالية»، الذي يُعتَبَر نوعًا من الحلقة (Cercle) التي لا يمكن، عبرها، بلوغ فهمِ البداياتِ فهمًا كاملاً إلَّا انطلاقًا من العلم المُعطَى في شكله الحالي، واعتماداً على نظرةٍ ارتداديةٍ لتطوّرهِ، غيرّ أن تطوّر العلوم هو تطوّر، أبكم، للمعنى في حال ما إذا لم تُفهم هذه البدايات، وعلى هذا ينبغي التقدّم والتّراجع في «تعرّجٍ» يشكّل نوعًا من الحلقة الضرورية والتي ليست سوى الصّورة المحضة لكل تجربةٍ تاريخيةٍ.

من هنا فإنّ هوسرل يعتبر نفسه الوريث الشّرعي، وليس فقط بما هو نقطةُ وصولٍ عرضيةٍ تائهةٍ في الحدث التاريخي، إذ كان مُجبَراً على استئناف الماضي الثّقافي الذي وصلَهُ والذي يمنحه المعنى، غير أنّه يستقرّ بما هو ضربُ العقلانيةِ التي يعتدّ بها بحيث يستغلّها بوصفها تحصيلاً لمقتضياتِ الميلادِ، وبهذا فإنّ مهمّة الفيلسوف الأصليّة تنفتح أيضاً من حيث تتعهّد بتقديم برنامج يصبحُ الماضي، فيه، بالنّسبة للمفكّر الرّاهن، هو الوجهَةَ، نظراً لأنَّ ما تمّ تفكيرُهُ أصليًّا جديرٌ بالاستعادة وبإعادة التّفعيل، التّنشيط، إذ يكون على هاتين الحَرَكَتَيْنِ لإيماءَةِ التعرّج (Zig-zag) الاستعانة أحدُهُمَا بالآخر، أي أنّهما مرهونانِ بـ«إيضاحٍ مرتبطٍ من جانبٍ يحمل بعض التّنوير لصالح الجانب الآخر الذي يفكّر بدوره في الأوّل».

يتميّز منهج الارتداد بنوع من اللاّمباشرة، رغم استهدافه لما هو أقصى وما هو أخير، نهائي وأكثر أصالةً، ومن ثمّةَ يتميّز أيضًا بالعودة، إلى الأصل المنسي، التي تفترض أن تكونَ كلّ سيرورةِ الأمثَلَةِ (Idéalisation) معروفةً بما هي كامنة فيما وراء الكواليس (Surreption) حيث يتمّ بحثُ العالم في تكويناتِهِ السُّفلَى، في الدّهاليز التي تُعتَبَرُ الواقع الوحيد المُعطى للإدراك، إنّه «عالمُ الحياة اليومية».

من بين تقنيات المنهج الارتدادي، إيماءةٌ اشتهر بها هوسرل، هي حركةُ القلب أوالانقلاب (Renversement) التي يتمّ تطبيقها على العلوم الرّاهنة (أي في عصره) القائمةِ على الادّعاءات في قدرتها على إيجاد الأساس الأصلي لها من منظور العقلانية المحضة، لا في صفة «العلمية» (Scientificité) المفهومة بمعنى الدّقة الدّاخلية، فالانقلاب يعني أنّه لا ينبغي معاينة إمكان الفلسفة وفقاً لشروط المعرفة الطبيعية و«الموضوعية» التي كانت تمارسها الفلسفة الحديثة وغيرها، ذلك أنّه بالاعتماد على هذا يتحوّل العلم بالذاتية إلى ممارسة طبيعية تُفسِد المطلب الترانساندانتالي وتتحوّل إلى «تقنية» (Technique) بتطابقها مع الإجراءات الطّبيعية للتّفكير.

يتأمّل المنهج، الارتدادي، المُثليات المنطقية، الرياضية، الفيزيائية والعلمية ومشتقاتها الفلسفية بحيث يمارس إيماءة فلسفية، إذ، على ما يبدو، إن هذه الإيماءة الفلسفية تعالج هذه المسائل ولاسيما أسئلةُ معنى الإجراء (Leistung) نفسه، أي أسئلة نظام مفهوم الرّد (Réduction) وعالم الحياة (Lebenswelt) وغيرها من مفاهيم الفينومينولوجيا، فبموجب الواقع السّائد، الذي هو واقع لابدّ من تمييزه وإصلاحه من جهة تأمّل هذه المثليات على مستوى الثقافة الغربية، لابدّ من ممارسة هذا الانقلاب الذي يعتبر تأسيسًا جديدًا، من خلال «الولوج إلى تأمّل ارتدادي، تاريخي ونقدي»، يمرّ بـ«سؤال الإيّاب»، هو، أصليًّا وفي كلّ مرّة، مُرَادٌ بما هو فلسفة واستمرارية، لما يُراد من خلال التّاريخ في مجتمع كلّ الفلاسفة وكلّ الفلسفات، ولكن سيتم ذلك أيضًا باسم النّظر النّقدي إلى ما يمثّل، في الهدف وفي المنهج، أصالةَ الأصلِ هذه، التي بمجرّد إدراكها، تُخضِع الإرادة قطعيًّا.

إنّ الأصلَ الذي ينصبُّ عليه سؤال الانقلاب لا يتمثّل في الحدس الانفعالي (Intuition passive)، بموجب أنّه ردّ فعل متعلّق بالتأثّر، بل يجري في حياةٍ إجرائيةٍ منجِزَةٍ، أمّا عن المفهوم الذي يُستخدم في هذا المقام بإلحاح فهو مفهوم الـ«إجراء» الذي يتضمّن معنى الـ«براكسيس» (Praxis).

هذا ما فشل غاليليو (غاليليه Galilée) في دفعه (سؤاله الانقلابي) إلى غاية الإجراء المِعطَاء للمعنى أصلاً، وعليه فَقَد تقدّمَت الأمثلةُ على أرضيّةٍ أصليّةٍ هي نفسها من نظام الفاعليّة من الإجراء الذي، بوصفه ممارسة، قد اختفى بالنّسبة لغاليليه، وهذا التّعارض ما بين الأمثَلَةِ والإجراء هو الذي تمَّ التوصّل إليه من قِبَلِ منهجِ السّؤال الانقلابي.

وبما أنّه لا وجود لأي تكوينٍ من دون أصلٍ يطلُبُهُ، فسواء كان هذا الأصل مرتبط بالبنى المنطقية للمعرفة أو بأصل الوجود التّاريخي للمعنى، بصورة عامة، وهيئات تجلّيه فيها فإنّه لا مجال لوجهِ حاجةٍ لما يسمّى بـ«كرونولوجيا»، بالمعاني المألوفة للكلمة، وخصوصاً بمعنيي التّاريخ العام والفردي، مثلاً، فطلب العلم بالأصل ليس مطلبًا من مطالبِ الزّمان ومن مسائل النّفس الواقعة فيه، بل هو وجهٌ من وجوه ظهور أصلِ العلم والمعرفة، إذ إن الأمر ليس رهين «النّشأة الأولى وإنّما رهين إنتاج (Erzeugung) ينبثق منه الحكم والمعرفة في صورتهما الأصلية (Ursprungsgestalt) وانعطاؤهما، إنّه إنتاجٌ يعطي الشّيء نفسه والمعرفة نفسها، مهما تكرّرا»، هو وجه الحِرْصِ على استقصاء الأصول في لا مبالاة بالزّمان ومعانيه، لاسيما الطبيعية منها، هو ضرب من منهج الجينيالوجيا الفينومينولوجية للمعرفة والعلم لا بالتّتالي الزّماني وما تعلّق به، وهو ما سيرثه هيدغر لاحقاً عن هوسرل.

إنّ العـلـم الفينومينولوجي، إذاً، بحاجةٍ لعلم أركيولوجي (Science archéologique)، أركيولوجيا «الفلسفة الأولى» أو أركيولوجيا العلم بالذاتية الترانساندانتالية التي ينبغي أن تنهل، بالضّرورة، أصلَ كلّ مفاهيمها ومبادئها الأساسيّة، على غرار المبادئ الأخرى لمنهجها، من الإجراءات الذّاتية، فبفضل ميدانِها المشترك للأصل الذّاتي، تحديدًا، ينبغي على العلوم الوضعية أن تظهَرَ بوصفها فروعًا للفلسفةِ من حيث هي واحدة ووحيدة (الفلسفة)، ولهذا فحينما يتمّ التخلّص، في الخطوط العامة، من التصوّر الساذج -فكرة الغائية المحدودة في ماهيتها الأكثر عمومية، أي فكرة مجنّدة قبل كلّ شيء للاشتغال على نظريات- فإنّه لابدّ للفينومينولوجيا الترانساندانتالية أن تمارس إجراءاتها بل وتفرضها.

الفينومينولوجيا الترانساندانتالية فلسفةٌ حقيقيةٌ ناهِلةٌ من أصلها، ولأجل التّعرف على الفكرة الغائيّة الضرورية لكلّ تطوّر مستقبلي، يقتضي الأمر البدءُ في تحقيقها بوسائلها الخاصّة (أي الفينومينولوجيا الترانساندانتالية)، وبالتّالي، استدراج الفلسفة الموافقة لهذه الفكرة إلى أن تتحيّن الفرصة انطلاقاً من بداياتها الأصلية.

ولهذا عبّر هوسرل عن الفلسفة الترانساندانتالية التي صاغها، في صورة سؤالٍ، بالتَّعبير التَّالي: إنّها تساؤلٌ ارتداديٌ (Rükfrage) يؤدّي إلى المنبعِ النّهائي الذي طالما درسته الفينومينولوجيا تكون فيه «الذّات بما هي المنبع النهائي لمواقف الوجود والقيمة والمعنى»، إذ أَطلَقَ على هذا المنبع تسمية: أنا-نفسه (Moi-même) بحيث تُوكَلُ إليه مهمّةَ فهمِ كلّ الحياة الفعلية والحياة الواقعة في مستوى الإمكان، ذلك أنّ الفضاءات الترانساندانتالية في مجملها قائمة على هذا الأنا وفي حياته، أو بالأحرى، قائمة في تكوينه، إذ إنّ فاعلياته الرّوحية هي التي تتقوَّمُ بها كلّ نشاطاته، لترتكز، لاحقاً، على علاقة هذا الأنا الفردي وعلى حياة الوعي المرتبطة، رأسًا، بالعالم الذي يتحقّق الوعي به من حيث هو وجود حقيقي في صورة منتوج معرفي باسم هذه الفلسفة التي تعني فكرة الفلسفة نفسها.

إنّ الحدسَ المباشر هو العمل الرّئيس الذي يمارس باسمه، الأنا، نشاطه الأصيل بحيث لا يمكنه أن يحدُسَ عالم الحياة (Lebenswelt) سوى عبر الانعطاف من خلال «التأمّل الارتدادي»، أو بالأحرى، بواسطة «سؤال الارتداد»، بما أنّ هذا الأخير هو الأداة التي بها تتمّ مساءلَةُ مصير العلم والمعرفة، مصير التّاريخ والإنسانية الغربيين، عموماً، بوصفه مصيراً واقعاً في أزمةٍ يلزَمُ الفَكَاكَ من قبضتها، بعد الإلمام بها وفهمها.

وبما أنّ إمكان المشروع الفينومينولوجي مرهُونٌ بضرورة التخلّص، من خلال العودة إلى الأصول، من الرّواسب الميتافيزيقية، الفلسفية والعلمية، لأجل تحصيل البدء (Commencement) بما هو مطلقُ الفِكْرِ الذي لا يثق في الافتراضات المُسبَقَةِ والأحكام في تأسيسه النّظري فإنَّهُ يجد نوعًا من التّكامُلِ بين ما يسعى لبلوغه وبين طبيعة منهج الارتداد، والتساؤل الارتدادي نفسه.

يرتبط فهم منطق الارتداد بنسق التّماثلات التي تستند إليها قراءته التي تتّجه نحو إدراك بنية الموقف الفلسفي وإمكانه –الفلسفة الترانساندانتالية– أو بفهم تاريخيته من خلال تثبيت البنية العامّة التي تجمعها في موضعٍ موحّدٍ تثبيتاً «صوريًّا» مثلما أعلنت عن ذلك محاضرة (1924) حول «كانط وفكرة الفلسفة الترانساندانتالية».

ولذلك يبدو أن إمكان المشروع الفينومينولوجي غير منفصل عن صعوبة التّردد بين تخليص الفلسفة من الرّاسب الميتافيزيقي الذي يلازمها والعودة بالنّظر الفلسفي إلى الأصول بما هي «الأشياء» حينًا وحدثية العالم حينًا آخر، ذلك أن المسألة تتعلق بتحديد البدء بما هو موقف مطلق للتّفكير، لا يؤمن بالافتراضات المسبقة الناتجة عن الفكر الميتافيزيقي، حول الأشياء من حيث هي طبائع نظريّة مكينة ولا هو (البدء) بوسعه التلفّت نحو التّقاليد التّاريخية التي كرّست هذه الطبائع.

تتميّز حياة الوعي الواقعة فيما قبل الحياة النّظرية بقدرتها على عطاء المعنى مقارنةً مع الوعي النّظري، ذلك أنّها قريبة من «الإدراك والمعنى الإدراكي»، بناء على كونها الأرضية النموذجية لكلّ علاقة أصلية بالأشياء، تدخل في تشكيل ماهية تواصلها مع الأشياء وتحديد معانيها، ومنه فإنّ التّحليلات التي يقدّمُها هوسرل فيما يتعلّق بالمنطق: لوغوس العقل العلمي أو نظريّة النظريات بما هي ثروة روحية للإنسانية، لسيت سوى سلّمًا ترتقيه لأجل تبيين الحدود التّاريخية لكلّ إصلاح لنظريّة العلم، زيادةً على ترقية وضع الفينومينولوجيا بما هو شرطٌ مطلقٌ لاستعادة العمل العلمي والمنطقي والتّاريخي، ذلك أن هذه الأخيرة، الفينومينولوجيا، هي الموطن الذي تستقرّ فيه الأنظار، في إدراك الحق(Vérité)، والإجراء الذي به يتمّ تركيز الأبصار على لب القضايا المتأزّمة وفقاً لوتيرة تقوّمه في الوعي، وبهذا يمكن استقصاء حياة الوعي ومساءلتها بصورة رجعية (Régressive)، قهقرية، بدءاً من الانتهاء توجّهاً نحو الابتداء، أي المساق الأرحب لحياة الوعي الذي تتقوّم فيه هذه الهيئات.

الأمر الذي يعني أنّ الارتداد واستقصاء موضوعية القضايا العلمية ينبغي أن يحدَّدَ كالتالي: ضرورة استقرار كلّ شيء في أعماق الوعي، كما يكون طموحه للظّهور في العالم انطلاقاً من هذه الأعماق، وهذا ما يعني بما هو «درجةٌ عليا» في العمل على انبثاق الوجود الحقّ، ومن ثمة فالوعي لا يعني الوجود بمطابقته على نمط المُبَاشَرَةِ الصمّاء بل ترقّبٌ أقصى غاياتِهِ عطاء الوجود الفينومينولوجي، إنّه المنبع الحضوري الذي تنبثق عنه كلّ أصالةٍ للوجود وكلّ إعلانٍ عنها، تاريخية كانت أم رياضية....

على هذا فإن الطّريقة التي تتجلى بها مساءلة هيدغر لعمل أحد أكبر مفكري الارتداد (هوسرل) قد أصبحت مَعلَمًا لا فقط لما يُسمَّى بـ«تاريخ الفلسفة» وإنما أيضاً لأجل فهم مسيرة الفكرِ نفسها، فلو كان مستقبل الفلسفة الممكن يرتكز، ضرورةً، على السّؤال الارتدادي ففي ذلك دلالة على أنّ معنى العمل الفلسفي يكمن في فهم كيفية فتح سؤال المنهج اللاّمنتهي، غير النّافذ، إذ لا وجود لاستئنافٍ أخيرٍ وخطوةٍ نهائيةٍ، كما لا يوجد تفكّك يُقدِمُ على حدودٍ نهائيةٍ تقصدُ اللاّمفكَّرَ، ذلك أن هذا اللاّمفكَّر لا يحيل فقط إلى المناطق اللاّمنكشفة والمجهولة، مناطق الظّل التي يسلِّطُ عليها نور الأسئلة المتمّيزة، وإنّما يتعلّق، بصورةٍ أكثر، بتأسيس نفسه بالنّور الذي تزول فيه هذه الأسئلة، حيث يقاوم هذا النّور الفكر لأنه على غرار اللّوغوس الهيراقليطي الذي ليس أبدًا بمطابقٍ لنفسه.

كما يدخل في اعتبار المنهج الارتدادي نوعٌ من إهمال اللّغة العلمية الطبيعية، أو بالأحرى، اللّغة التّقنية التي يطلق عليها هوسرل تسمية «السّطحية»، باسم تحصيل «الحدس الأصلي»، أي الإدراك المباشر لـ«عالم المعيش» (Monde vécu) قبل العلمي وغير العلمي، الذي لا يتمّ العثور عليه سوى في الحياة اليوميّة، بل ويعتبرها هي الأساس، إنّها «منبعُ كلّ تكوينات المعنى الفنيّة»: إنّها مسألة اختيار الكيفية البسيطة والسّاذَجَة التي تتكلّم بها الحياة وفقاً لما تقتضيه بداهة البراهين.

إنّ الارتداد السّليم، إذاً، إلى سذاجة الحياة، بصورة انعكاسية، هو المنهج السّليم، بما هو فلسفة الحياة البَدئيَّة في تخلّيها عن كلّ الادّعاءات الفلسفية وموضوعية النّزعة المتمثّلة في كل ما هو «علمي»، باسم تخطّي نتائجها المتسّرعة التي أغفلت عالم الحياة.

إنّ العالم هو دائماً ذلك العالم المُعطَى مسبقًا وغير المشكوك فيه الذي يتوفّر على يقينٍ للوجود وتأكيد ذاتي على صلاحيةِ الذّاتي الدّائم، ورغم أنّه ليس «مفترَضاً» مُسبقًا كأرضيةٍ إلاَّ أنَّه يتوفّر، للأنا، في «الكوجيتو» ومع كلّ ما ينتمي له بالنّسبة لي، وما هو مشروع موضوعيًّا في تفاصيله تارةً وغير مشروع تارةً أخرى، وأيضًا مع كلّ العلوم والفنون، مع كلّ الأشكال والمؤسّسات الاجتماعية والشّخصية، وبالذّات بقدر ما يمتدّ العالم الذي له، بالنسبة لي، وجود فعلي، وتلكُم هي الواقعيّة بأقوى معانيها التي يقول الأنا من خلالها: «أنا متيقّن من أنّني إنسانٌ يعيشُ في هذا العالم، وأنا لا أشك في ذلك أدنى شك»، وهذه هي التّلقائية التي لابدّ من التحلّي بها والانطلاق منها.

والآن يتطلّب المنهج أن يسأل الأنا ارتداديًّا بكيفيّة نسقية انطلاقًا من العالم بوصفه ظاهرته العينية، وأن يعرف، خلال ذلك، ذَاتَه هو، الأنا الترانساندانتالي، في عينيته، في نسقيّة طبقاته التقوّمية، في تأمينات صلاحياته المتداخلة التي تجلى عن الوصف، لأنَّ الأنا يكون، عند إنجاز الإيبوخي، مُعطَى في يقينٍ قطعي، ولكنه مُعطى كـ«عينيّةٍ خرساء» يجب تأويلها والتّعبير عنها، ففي «تحليلٍ» قصدي نسقي يسأل ارتداديًّا انطلاقًا من ظاهرة العالم في هذا المنهج النّسقي يتمّ بلوغ، في البداية، تضايفَ العالم والذّاتية الترانساندانتالية المموضعة في البشرية.

يمكن أيضاً تحديد، في «المنطق الصّوري والمنطق الترانساندانتالي»، طابع السّؤال الارتدادي كالتالي: إنّه يتأتى حتمًا من «عمومياتٍ تحتمل تفسيرًا خِصبًا»، فالفينومينولوجيا لن تتمكّن، بما هي تحديد قبلي، من إثراء هذه العموميات الفقيرة ماهويًّا، ولن يكون «وضوحها» خصبًا إلا في إطار الاشتغال بأسلوب تنقيبي غايةً في السّذاجة، على أن هذه السّذاجة لن يكون لها المعنى الذي كانت مصبوغة به قبل تحصيل الوعي بهذه العموميات؛ تحصيل الوعي الذي يصفه هوسرل بـ«النقد» والذي يحصّل، لأجل هذا العمل، على قيمة نظامية ومعيارية.

من خلال هذا الإثراء تسمح هذه العموميات المبدئية بالسّؤال الارتدادي المنفتح على الحياة في حضنها، ذلك أن وحدة معنى الهندسة، مثلاً، هي وحدة التّقليد (Tradition)، وصيرورة العلم ليست تاريخًا سوى لأنّها تاريخٌ، ذلك أنّه كلّما قَلَّ تَقَدُّمُ صرحِها كان تكاثُرُ صُوَرِهَا وكانت تحوّلاتها كبيرةً، فأساس وحدة المعنى لا ينعزل في الانصهار النّسقي لعالَمٍ تكون أوّلياته مُتَقَوَّمَة مسبقًا، بوصفه العالَم نفسه، لا بما هو شمولية نهائيّة من الكائنات المحسوسة، وإنّما بما هو شمولية لانهائيّة من التّجارب تمثّل أيضاً وحدانيتها (Unicité)، فوحدة المعنى العلمي، هذه، هي تقليدٌ منفتحٌ لانهائيًّا على كلّ ثوراتها، وبالتّالي فإن طرح سؤال هذه الوحدة التّقليدية، يعني التّساؤل: في أيّة ظروف تاريخيّة كانت أو ستكون العلوم كلّها علومًا بالمعنى الأصلي؟

ومن هنا يقتضي العمل الفينومينولوجي، إذن، تفكيكاً منهجيًّا، للعلم (L’épistémè)، يرتبط بالتوجّه إلى منبعه الأصلي في الرأي (Doxa) إذ يرتبط الأمر في هذا المجال بما يسمى بـ: التّجربة قبل-الحملية (Anté-prédicative) بإضفاء نوعٍ من الشّرعيّةِ على هذه الأخيرة وعدم اعتبارها ميدانَ بداهاتٍ في مستوى المقامات السّفلية لبداهاتِ العلم، على أنّ هذه الفكرة لا تعني أبدًا الحطَّ من قيمة العلم، بل بالعكس، تدلّ على تنوير (Aufklären)، أي توضيح، المسلَّمَات الخفيّة التي ترتكز عليها الأمثَلات العلمية.

إنّ سؤال الارتداد، بالنسبة لهوسرل، غير مرتبط بعملية إعادة مساءلة محتوى المعرفة من النّاحية الكرونولوجية، بالأخص، وإنّما بتقديم فهمٍ ممتلئ للمثال العلمي، ما يتضمّن أنّ الأمرَ مرتبطٌ بإعادةِ رسمِ المسارِ الشّامل الذي يقودُ من البداهة قبل-الحملية إلى البداهة الحملية (Evidence prédicative) وبالعودة إلى أصل العالم المؤمثَلِ (Idéalisé) نفسه.

فمن بين المشكلات التي واجهها هوسرل تلك التي تنطلق من التجربة قبل-الحملية إلى الفكر الحملي ومن المشكلات الضرورية التي لها تحديدًا علاقة بها، الانفعالية إلى الفعالية، من الفردي إلى العام، ومن الزّماني إلى ما فوق-الزّماني. ومن هنا يمكن أخذ مشكل علاقة ما هو زماني بما هو فوق-زماني، على أساس أنّه ما يسمح بفهم التّعارض الموجود ما بين التّجربة الأصلية والحكم، ومن ثمّ إنجاز المعرفة البديهية المؤسّسة فينومينولوجيًا.

هكذا يكون، بالنسبة لهوسرل، استئناف تأمّل انبثاق اللّحظة المُحايثة الفعلية والفو-زمانية للمعرفة التي تبقى متماثلة من خلال تكريراتها الواقعية، إنّها عملية إجراء المَوضَعة (Objectivation)، أي الإجراء الفعّال (Actif) للأنا الذي يبدع هذه الهويّة، في الحمل (الإسناد) (Prédication)، التي تؤسّس خصوصيّةً دائمةً صالحةً للاتّصال والاستخدام مستقبلاً خارج الوضعية الفورية.

يتعلّق الأمر، إذاً، بفهم العبور من المَوضَعَة القائمة في التّجربة قبل-الحملية والتي تُفضِي إلى بناء الموضوعات «الواقعيّة» إلى المَوضَعَة التي هي في الأصل لهذه الموضوعات بمعنى «راسخ» أو التي هي «موضوعات الفهم» أو الـ«موضوعات المقولية» التي يتمّ إنتاجها في النّشاط الحملي، والفارق الأساسي ما بين هذين النّوعين من الموضوعات هو فارق في الزّمانية، ذلك أنّ «العلاقة الضرورية في الزّمان هي هنا» و «تنتمي أصليًّا إلى كلّ الموضوعات».

بلغةٍ أخرى، يرتكز الانتقال من التّجربة قبل-الحملية إلى الحملية منها، ومن الحكم الفردي إلى الحكم العام، تحديدًا، على الانتقال من الانفعالية إلى الفَعالية، من «الرأي الانفعالي» إلى «التّلقائية المنطقية»، كما أنّ التّمييز، في هذا المقام، أقلّ انقساماً عن التّعارض الاعتيادي، لا يجعلنا نعتقد فيه. وعلى هذا يقترح هوسرل «مفهوماً أكثر جذريّة للانفعالية غير مفهوم الوعي الساذج»، ذلك أنّه يوجد مُسبَقًا في تأمّل لحظةٍ فاعلةٍ، لحظةُ التفسير (Explication)، ولهذا فإنّه ينبغي تسميّة «الانفعالية» بـ«الانعطاء قبل الانفعالي المحض» (Prédonation purement affective) الـ«اعتقاد الانفعالي في الوجود»، «التّنشيط البسيط»، غير أنّ التمييز «ما بين الانفعالية والفعالية ليس ثابتاً»، إذ إن هذه المفاهيم مجرّد أدوات للوصف، وهوسرل يعلم أن وجود الانفعالية في النّشاط نفسه، انفعالية مشيّدة على نشاط الأخذ أو التحصيل(Appréhension) ومن ثمّة يوجد تشابكٌ للفعالية والانفعالية، لا يسمح بالتّمييز بينهما وإنّما فقط بمقابلتهما من وجهة نظر تكوينية(Génétique).

إن قابلية التأثّر (أي الانفعالية) (Réceptivité) تسبق التّلقائية، غير أنّها ليست مستقلّة بذاتها ويوجد مسبقًا، في الواقع، ما هو حَمليٌ على المستوى الانفعالي المنفتح على التأثّر، والدّرجات التي يميّزها هوسرل (التّجربة قبل-الحملية، الحمل، الحكم العام) هي تصدّعات: النّظام التّكويني بحيث لا تشكّل تراتبيةً أو كرونولوجيا واقعية ومن هذا المنظور تكمن الصّعوبة بالضبط في تحرير الانفعالي من الفعّال، المتعلّق بالرّأي المنطقي، ومن ثمّة فالوجود قبل-الحملي هو نقطة البدء الفينومينولوجي.