شعار الموقع

هنري كوربان ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية

زكي الميلاد 2012-10-03
عدد القراءات « 1162 »

- 1 -
التجربة
والمحطات الثلاث

عند البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية لا يمكن تجاهل المفكر الفرنسي هنري كوربان (1903 - 1978م)، الذي صنف كتاباً مهمًّا في هذا المجال، حمل عنوان (تاريخ الفلسفة الإسلامية) صدر باللغة الفرنسية سنة 1964م، وتُرجم إلى اللغة العربية وصدر في بيروت سنة 1968م، قام بهذه الترجمة نصير مروة بالاشتراك مع حسن قبيسي، وراجعها وقدّم لها السيد موسى الصدر.

ويُعَدُّ هنري كوربان أحد الباحثين الغربيين البارزين في مجال تاريخ الفلسفة الإسلامية وأحد المتخصصين بحقل الفلسفة الإشراقية وبالإسلاميات الإيرانية، مع عنايته الفائقة بشيخ الإشراق شهاب الدين يحيى السهروردي.

والاهتمام بهذه المنحى الفلسفي عند كوربان بدأ منذ وقت مبكر حينما كان طالباً جامعيًّا، فقد تعرّف أولاً على ابن سينا سنة 1925م عن طريق المفكر الفرنسي أيتان جيلسون حين تابع حلقاته العلمية في المدرسة العلمية للدراسات العليا، والتي كانت تتمحور حول مؤلفات ابن سينا المترجمة إلى اللاتينية، وعلى أثرها قرر تعلّم اللغة العربية، وانتسب إلى مدرسة اللغات الشرقية.

وفي وقت لاحق تعرّف كوربان على شيخ الإشراق السهروردي عن طريق المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي أشار إليه بأهمية كتابه (حكمة الإشراق)، الكتاب الذي كان له -كما يقول الدكتور بيار لوري- دور حاسم في تحديد المسار الفلسفي لكوربان.

وهناك ثلاثة أقوال في الطريقة التي اهتم بها ماسينيون بكتاب (حكمة الإشراق) لكوربان:

القول الأول: أشار إليه بيار لوري الذي يرى أن كوربان بعد التحاقه بمعهد اللغات الشرقية تعرف على لويس ماسينيون فأخبره عن كتاب (حكمة الإشراق).

القول الثاني: أشار إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي يرى أن كوربان داوم على حضور دروس ماسينيون في المدرسة العلمية للدراسات العليا الملحقة بالسوربون، وقد أهداه ماسينيون نسخة من كتاب (حكمة الإشراق) بشرح قطب الدين الرازي، وصدر الدين الشيرازي سنة 1928م، فكان هذا الكتاب بداية لاهتمامه بمؤلفه السهروردي المقتول.

القول الثالث: ورد في سيرة ذاتية لكوربان جاء فيها أن ماسينيون التقى بكوربان في قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية، فأشار إليه بأهمية كتاب (حكمة الإشراق) الذي أعاده إلى المكتبة.

وقد أبدا كوربان تعلّقاً واضحاً بالسهرودي وكتابه (حكمة الإشراق)، التعلّق الذي أشار إليه جميع الذين تحدثوا عن سيرته وتجربته الفكرية والفلسفية، وأطلقوا عليه أوصافاً شديدة الدلالة على ذلك، وكان من ثمرته أن أصدر كوربان أول أعماله وتمثل في ترجمة رسالة صغيرة للسهروردي من الفارسية إلى الفرنسية بعنوان (مؤنس العشاق) صدرت سنة 1933م.

وكانت هذه الترجمة -كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي- بداية رحتله الطويلة المثابرة مع رفيق عمره السهروردي المقتول، والتي ختمها في سنة 1976م بكتابه (الملك البورفيري)، وهو ترجمة لخمس عشرة رسالة للسهروردي بعضها مكتوب بالعربية، وأغلبها بالفارسية.

وبقي الاهتمام بهذا المنحى الفلسفي عند كوربان يتراكم ويتجدد في مختلف أطوار تجربته الفكرية والفلسفية، وهي التجربة التي شهدت ثلاث محطات أساسية خارج موطنه فرنسا، وكانت مؤثرة في طبيعة مساراته الفلسفية، وفي المكانة الفكرية والفلسفية التي وصل إليها، وفي نوعية الأعمال الفكرية التي أنجزها ترجمة وتحقيقاً وتأليفاً، وفي التعريف بأفكاره ومعارفه ومسلكه الفلسفي.

وهذه المحطات الثلاث هي:

المحطة الأولى: ألمانيا

في ثلاثينيات القرن العشرين قام كوربان بزيارات متتالية إلى ألمانيا، وأقام فيها فترة من الوقت حين انتدبته المكتبة الوطنية الفرنسية للعمل في المركز الفرنسي في برلين، وخلال هذه الزيارات وفترة الإقامة تعرّف كوربان إلى شخصيات فلسفية بارزة هناك، منها رادولف أتو، ومارتن هيدغر، وكارل لويس، وهنري جوردن وآخرون.

وأكثر من تواصل معه كوربان من هؤلاء هو مارتن هيدغر فيلسوف الوجودية الشهير الذي أُعجب به، وتأثر بكتاباته ومؤلفاته، وترجم بعض هذه الكتابات إلى اللغة الفرنسية، ومن هذه الجهة يُعد كوربان أول من ترجم هيدغر إلى الفرنسية وعرَّف به وبكتاباته في المجال الفكري الفرنسي، حيث ترجم له كتابه (ما الميتافيزيقا؟) وصدر بالفرنسية سنة 1938م.

ويرى بيار لوري أن اهتمام كوربان بالفلسفة الألمانية أو بالنهج البروتستانتي الجديد للتأويل تزامن بكارل بارت وأبحاثه الإسلامية، والتي دفعه إليها مسائل تلك البحوث نفسها المتعلقة بتفسير النص المقدس حول الطبيعة والوجود.

المحطة الثانية: تركيا

في سنة 1939م وصل كوربان إلى تركيا منتدباً من قبل المكتبة الوطنية الفرنسية للإقامة ستة أشهر في المعهد الفرنسي بإسطنبول، لكن إقامته امتدت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب ظروف وأوضاع الحرب القاهرة، وخلال هذه الفترة طوَّر كوربان معرفته بالفلسفة الإسلامية، وأنجز فيها أهم أعماله المحققة حول مؤلفات السهروردي بالعودة إلى المخطوطات الموجودة في مكتبة إسطنبول التي عكف عليها، واستفاد منها كثيراً.

المحطة الثالثة: إيران

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى غادر كوربان إسطنبول متوجهاً إلى طهران سنة 1945م، وكانت هذه المحطة الأهم في تجربته الفكرية، والأكثر ثراء وإنتاجاً، والأطول مدة وبقاء حيث امتدت إلى وفاته سنة 1987م.

وهي المحطة التي لفتت انتباه الباحثين الذين توقفوا عندها باهتمام، ووجدوا فيها محطة دونها لا يمكن التعرف كاملاً على التجربة الفكرية لكوربان، ويكفي للدلالة على ذلك ما أشار إليه بيار لوري الذي وصفها بأنها كانت بمثابة الحدث الذري في حياته، إذ دفعه الاستقبال الذي لقيه من قبل بعض المفكرين والأكاديميين البارزين، إضافة إلى حبه للثقافة الفارسية إلى البقاء في طهران، حيث أسس قسم العلوم الإيرانية التابع للمعهد الفرنسي هناك.

كما أنها المحطة التي بقي كوربان على تواصل معها دون توقف أو انقطاع، في دلالة على أهمية هذه المحطة بالنسبة إليه، واستمر هذا التواصل حتى بعد أن عُهِدَ إليه ببعض المهام العلمية في بلده فرنسا، حيث خلف ماسينيون في منصبه في المدرسة العلمية للدراسات العليا الملحقة بالسوربون عندما أحيل إلى التقاعد سنة 1954م، ومع هذا المنصب الجديد ظل كوربان يتردد على طهران، ويقيم فيها كل سنة حوالي ثلاثة أشهر متابعاً لأعماله هناك، وبقي على هذا الحال حتى بعد أن أحيل إلى التقاعد سنة 1973م، حيث تمسك به الإيرانيون فَعُيِّنَ عضواً في الأكاديمية الإيرانية للفلسفة التي أسسها صديقه الدكتور سيد حسين نصر، وظل يدرّس فيها إلى سنة 1978م.

وفي طهران أنشأ كوربان ما عُرف بالمكتبة الإيرانية، هي كما يعرفها الدكتور عبد الرحمن بدوي «منشورات محققة تحقيقاً نقديًّا لمؤلفات أساسية بالفارسية، جلّها في ميدان التصوف والفلسفة الإشراقية، وقد بلغ مجموع ما نشر فيها حتى 1975 اثنين وعشرين مجلداً ضخماً، وإلى جانب النص الفارسي أو العربي، كان كوربان يكتب مقدمة مسهبة بالفرنسية. ونذكر من بين هذه المنشورات: المجلد الثاني من مؤلفات السهروردي، بتحقيق هنري كوربان، في 1952 وتعد هذه (المكتبة الإيرانية) من أعظم أعمال النشر المحقق في ميدان الدراسات الإسلامية في العصر الحاضر».

هذه هي أبرز المحطات التي تكشف عن أطوار التجربة الفكرية والفلسفية لكوربان، وكيف أنها مثلت أحد جسور التواصل بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق.

- 2 -
المــنزلة
والقيــمة

لعل الدكتور بيار لوري أستاذ كرسي التصوف الإسلامي في معهد الدراسات العليا بجامعة السوربون، هو أكثر من حاول أن يُبرز القيمة الفكرية لكتاب كوربان (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، فهو أحد العارفين بالمشروع الفكري لكوربان، وعلى دراية بمكانته الفكرية والفلسفية ويقدره ويبجله، والتقديم الذي كتبه للطبعة العربية من كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) كان فائق الأهمية، ويشكّل مدخلاً لتكوين المعرفة بفلسفة كوربان.

في هذا التقديم اعتبر بيار لوري أن في مجال الدراسات الإسلامية التي صدرت في الغرب، هناك بعض الكتب التي طبعت عصرها بشكل متفاوت، فالطرق الجديدة التي ميّزت مقاربة هذه الكتب لموضوعاتها، وانتشار المسائل المعالجة فيها، وحيوية المناقشات وما أثارته من اختلافات جعلت من هذه الكتب معالم في تاريخ فهم الشرق الإسلامي.

ومن هذه الكتب في نظر بيار لوري كتاب (عذاب الحلاج) أو (آلام الحلاج) للويس ماسينيون الصادر سنة 1922م، وكتاب (محمد) لماكسيم رودنسون الصدر سنة 1961م، وكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد الصادر سنة 1978م، ومن هذه الكتب أيضاً ومن دون تردد كتاب (تاريخ الفلسفة الإسلامية) لهنري كوربان الذي أخصب المعرفة والتفكير والنقاش في مجاله.

ومن جهته اعتبر السيد موسى الصدر أن هذا الكتاب فتح أمام الفكر الغربي باباً واسعاً وجديداً للثقافة الشرقية، وكشف له كنوزاً غنية بالإنتاج الديني والفلسفي والتصوف الأصيل، أما القارئ العربي فسوف يجد في ترجمة هذا السفر الجليل -حسب وصفه- متعة فكرية، اعتزازاً بما أنتجته بلاده، وبما أنتجه الشرق كله، وندماً بجهله أو تجاهله لتراثه الثقافي والحضاري العظيم.

وبقدر ما لفت هذا الكتاب إلى أهمية النتاج الفكري لكوربان، بقدر ما لفت أيضاً إلى محدودية الاهتمام بهذا النتاج الذي لم يُكسب صاحبه تلك الشهرة المفترضة، وتلك المكانة الفكرية المعتبرة في النطاقين الأوروبي والعربي.

في النطاق الأوروبي أشار إلى هذا الموقف بيار لوري بقوله: «كان النتاج اللامع لكوربان يثير حماسة جماعة معينة من القرَّاء، ولكنه ظل محصوراً ضمن مساحة هامشية حتى داخل الأوساط الأكاديمية، واستمر هذا الإبعاد في بعض الأوساط الجامعية».

وفي النطاق العربي أشار إلى هذا الموقف عارف ثامر بقوله: إن كوربان «من أولئك الذين لم تتجاوز شهرتهم الأوساط العلمية الإيرانية، وجامعة السوربون في فرنسا على الرغم من وفرة مؤلفاته وتعدد بحوثه».

ويرى فيه عارف ثامر أنه من أعمق الباحثين في قضايا الفلسفة الإسلامية وتطورها، ومن أدقهم معرفة بالفكر الإيراني على اختلاف تشعب مواضيعه، ومن أسرعهم سعياً وراء الحقيقة الناصعة.

ومع هذه الإشارة إلا أن كلًّا من بيار لوري وعارف ثامر لم يُقدما تفسيراً لهذه الملاحظة في النطاقين الأوروبي والعربي، ولعل التفسير المحتمل لهذا التجاهل أو الإهمال، هو أن كوربان حاول أن يمايز نفسه كثيراً عن الآخرين في مجاله الأوروبي وفي دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية تحديداً، كما لو أنه مغاير لهم، ومختلف عنهم، وبطريقة لفتت انتباه أولئك الآخرين إليه، فقابلوا هذه الخطوة منه بعدم إضفاء المزيد من العناية والاهتمام على تراثه وتجربته وشخصه.

وفي النطاق العربي لم يعرف كوربان كثيراً، لأنه من جهة لم تتسلط الأضواء عليه كثيراً في المجال الثقافي الأوروبي، ومن جهة أخرى لم تترجم أعماله الفكرية والفلسفية إلى اللغة العربية حتى تُعرف ويُعرف، وما ترجم منها يُعَدُّ ضئيلاً جدًّا، ولعلها لا تتجاوز كتابين هما: (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، وكتاب (في الإسلام الإيراني)، وهناك ترجمتان متداولتان لهذا الكتاب الثاني، ترجمة قام بها نواف الموسوي وصدرت في بيروت، وترجمة ثانية قام بها ذوقان قرقوط وصدرت في القاهرة.

ومن جهة ثالثة أن جميع مؤلفات وأعمال كوربان المصنفة والمحققة والمترجمة كانت شديدة التخصص، وتنتمي إلى حقل الدراسات الفلسفية، الحقل الذي يشهد تراجعاً وتقهقراً في المجال العربي، بالشكل الذي لا يجعله يلتفت وبعناية إلى ذلك النمط من المؤلفات والأعمال.

فهل هناك مثلاً في المجال الفلسفي العربي من يعتني بفلسفة شيخ الإشراق السهرودي حتى يلتفت إلى ما قدمه كوربان في هذا الشأن! وهل هناك في المجال الفلسفي العربي من يعتني بفلسفة الملا صدرا صاحب مدرسة الحكمة المتعالية في إيران، أو لمدرسة أصفهان الفلسفية التي شهدت نهضة وازدهاراً في القرن السابع عشر الميلادي، حتى يلتفت إلى كتابات كوربان! والالتفات هنا لا نعني به التفات فرد أو اثنين أو ثلاثة وإنما ما هو أوسع من ذلك.

ولا أدري إن كان اهتمام كوربان بالفكر الإسلامي الشيعي له أثر في هذا الإهمال أو التجاهل أم لا! وما يلفت النظر إلى هذه الملاحظة ما أشار إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي حين اعتبر أن كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) بالغ مبالغة شديدة في إبراز نصيب الفكر الشيعي، وأجحف بالفكر السني إجحافاً غريباً.

ويتصل بهذا الموقف أيضاً ما أشار إليه الدكتور ماجد فخري حين ميّز كتاب (تاريخ الفلسفة الإسلامية) بأنه يشدد بصورة خاصة على الجانب الشيعي أو الإسماعيلي من الفكر الإسلامي، ويتجاهل الوحدة العضوية في هذا الفكر.

مع ذلك فإن هذا الاهمال أو التجاهل في النطاقين الأوروبي والعربي، لا يقلل من أهمية العطاء الفكري والفلسفي لكوربان، بغض النظر عن جوانب الاتفاق والاختلاف معه.

- 3 -
مستشرق
أم فيلسوف

الذين تعرّفوا إلى كوربان وصاحبوه من الفرنسيين والعرب والإيرانيين، والذين اقتربوا من تجربته الفكرية وتابعوا أعماله ومؤلفاته؛ هم الذين تساءلوا: هل كان كوربان مستشرقاً أم فيلسوفاً؟

وهذا التساؤل من قبل هؤلاء جاء بقصد الدفاع عن الموقف الفكري لكوربان، ولتمييز موقفه ومكانته عن الآخرين، وذلك بالاستناد إلى خلفية المغايرة التي ظهرت في رؤيته وخطابه ومنهجه المتمايز والمختلف عن رؤية أولئك المستشرقين وخطابهم ومنهجهم.

وما يؤكد موقف هؤلاء أن كوربان نفسه كان مدركاً لهذا الأمر، وملتفتاً إليه، ولعله تقصّد أن يمايز نفسه عن الآخرين في محيط الفرنسي والأوروبي، حتى لا يحسب عليهم، ويُصنَّف في خانتهم، وبالشكل الذي تنبه له هؤلاء فلم يعتبروه من جهتهم أنه واحد منهم وبالمعنى التقليدي لمفهوم الاستشراق.

وأمام التساؤل المطروح يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال، تنتمي إلى ثلاث بيئات: فرنسية وعربية وإيرانية، وبالتالي إلى ثلاثة فضاءات فكرية متنوعة ومختلفة، مع ذلك فإن هذه الأقوال جاءت متقاربة من جهة تغليب صفة الفيلسوف عند كوربان على صفة الاستشراق، دون نفي صفة الاستشراق عنه بالكامل.

وهذه الأقوال الثلاثة هي:

القول الأول: تحدث عنه الفرنسي بيار لوري وهو أكثر من أعطى هذا الموقف مصداقية ووضوحاً، وتأكيداً أيضاً، وحسب رأيه: إن كوربان مع أنه احتل داخل مجموعة مفكري القرن العشرين مكاناً فريداً إلى حد ما، مع ذلك لم يعتبره المستشرقون واحداً منهم بالمعنى التقليدي للكلمة، وكان هو نفسه يسعى إلى أن يتميز عنهم مقدِّماً عمله على أنه نتاج فيلسوف، وكان يعتبر نفسه أولاً وقبل كل شيء فيلسوفاً يحرص على تعريف الجمهور الغربي على فلاسفة آخرين، وعلى باحثين آخرين عن الحقيقة، وهكذا كانت دراسته وتوجهاته وورشة عمله.

وللبرهنة على هذا الموقف أشار بيار لوري إلى مقارنة أساسية ومهمة تكشف عن التباين والاختلاف في طريقة عمل كوربان مقابل طريقة عمل باقي المستشرقين الآخرين، منطلقاً من تحديد قاعدة عمل الاستشراق التي تتحدد حسب قوله: في الاهتمام بدراسة الثقافات العربية والفارسية والتركية... إلخ باعتبارها شرقية أي مختلفة عن ثقافة الغرب، أو يمكن مقارنتها بها، ولكن دائماً من منطلق منظور الغرب.

وعلى أساس هذه القاعدة عمل الاستشراق -كما يضيف بيار لوري- على تصنيف تيارات الفكر في الإسلام وفقاً لفئات ونماذج تصلح للثقافة الأوروبية، فكان الكلام يوضع في مقابل الفلسفة المدرسية اللاتينية في القرون الوسطى، والفلسفة توضع في مقابل الفلسفة الكلاسيكية، ويصنف ابن رشد ضمن دائرة الثقافة الفلسفية اليونانية وبالتالي الغربية، دون الأخذ بعين الاعتبار عمله كقاضٍ شرعي، أو نتاجه كقانوني مسلم، في حين أن ابن عربي باعتباره رجلاً صوفيًّا فكان يصنف ضمن الفئة غير الفلسفية الميالة إلى الخيال.

أما كوربان فقد تجاهل عن قصد هذه التفرقات الضمنية التي ينتهي بها الأمر إلى تعتيم فهم الرهانات الفكرية الحقيقية، فكان يقارب مفكرين مثل ابن سينا أو ابن رشد وفقاً لمعطيات خاصة بمنهجهم، كما كان يسعى إلى إفهام أبعاد ابن عربي أو مؤلفين صوفيين كبار آخرين بإدراك ترابطهم المنطقي بواسطة نوع من التزهد الفكري بعيداً عن أي رأي تصوري مسبق.

القول الثاني: تحدث عنه اللبناني الدكتور بولس الخوري الذي اعتبر أن كوربان من جهة المنهج هو فيلسوف أكثر منه مستشرق، وتمكن من أن يكون في آنٍ فيلسوفاً ومستشرقاً.

ويدل على كونه مستشرقاً إخراجه إلى العلن كنوزاً دفينة هي كنوز الفكر الفلسفي والديني الإسلامي، وخصوصاً الشيعي الإيراني منه، واعترافه أنه استطاع أن يقوم بهذا العمل كونه غربيًّا.

ويدل على كونه فيلسوفاً قدرته في النفاذ إلى المعاني التي استبطنها هذا الفكر.

القول الثالث: تحدث عنه الإيراني الدكتور غلام رضا أعواني الذي يرى أن كوربان لم يكن مستشرقاً بالذات، بل كان قبل كل شيء مفكراً فيلسوفاً، طالباً للحقيقة أينما وجدت، متعمقاً في المعاني والحقائق، وهذا ما دفعه إلى مغادرة دياره متوجهاً إلى شرق العالم الإسلامي وخاصة إيران.

وما يدعم هذه الأقوال ما أشار إليه كوربان نفسه حين اعتبر أن كلامه في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) مُوجَّه إلى الفلاسفة عموماً، وليس إلى المستشرقين وحدهم.

ويفهم من هذا القول أن كوربان كان من جهة يضع نفسه في عِداد الفلاسفة وليس المستشرقين، ومن جهة أخرى أنه حاول مناقشة المستشرقين في أقوالهم ليقول: إنه ليس واحداً منهم وفي عدادهم.

ومن المفارقات التي تذكر في هذا الشأن، ما يتعلق بالتقديم الذي كتبه السيد موسى الصدر للطبعة العربية لكتاب كوربان (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، بين ما نشره في هذا الكتاب وما نشره في مجلة العرفان اللبنانية، فما نشره في الكتاب لم يستعمل قط صفة الاستشراق في الإشارة إلى كوربان، وظل يكرر تسمية الأستاذ المؤلف، ويبدو أنه كان ملتفتاً إلى هذه الملاحظة، وتقصَّد عدم الإشارة إليها في الكتاب، وكأنه أراد مناقشة كوربان بوصفه مفكراً لا بوصفه مستشرقاً.

في حين أن ما نشره في مجلة العرفان، ونُشر لاحقاً في كتابين له الأول بعنوان (منبر وحرب) والثاني بعنوان (أبجدية الحوار)؛ فإنه تضمن مقدمة استعمل فيها صفة الاستشراق في الإشارة إلى كوربان، وقد نُشرت بعنوان (مع المستشرق هنري كوربان)، لكن هذه المقدمة القصيرة لم تُضمَّن في التقديم المنشور في الكتاب.

وفي كتاب كوربان أيضاً الطبعة العربية كتب السيد عارف ثامر تقديماً تقصَّد فيه استعمال صفة الاستشراق في الإشارة إلى كوربان وكررها عدة مرات، لكنه ميّزه عن المستشرقين الآخرين، وقال عنه: إنه مستشرق ذو ضمير حي.

والذي أراه أن من الصعب سلب صفة الاستشراق عن كوربان، وإخراجه من هذه الصفة، حتى لو احتفظ لنفسه بمسافة، لكننا في الوقت نفسه نميزه عن الآخرين، ونضعه في مرتبة مختلفة بين طبقات المستشرقين.

- 4 -
ليس
له سلف في هذا الطريق

إن أول ما يستوقف الانتباه في كتاب كوربان، هو ما أشار إليه في السطر الأول من مقدمة الكتاب بقوله: «ليس لنا سلف يمهد لنا الطريق في هذه الدراسة»، فلا يمكن الولوج إلى موضوعات الكتاب ومحتوياته، ومناقشة منهجه وأطروحته قبل التوقف أمام هذه المقولة التي أراد منها كوربان مفتاح الدخول إلى كتابه.

وإلى مثل هذه المقولة أشار من قبل المستشرق الهولندي دي بور في مفتتح كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) وفي السطر الأول أيضاً من مقدمة الكتاب بقوله: «هذه أول محاولة لبيان تاريخ الفلسفة الإسلامية في جملتها».

وقد توقف الدكتور محمد عابد الجابري أمام كتاب كوربان الصادر سنة 1964م فقد صدرت قبله سلسلة من الكتب التي تؤرخ للفلسفة الإسلامية ككل أو كأجزاء، لكنه رأى أن كوربان أراد أن يشعر قارئه بأن الأمر يتعلق بمشروع جديد للتأريخ للفلسفة الإسلامية.

ولعل كوربان أراد من هذه المقولة البوح بأنه لا يتبع سبيل المستشرقين، ولا يسير على هداهم في كتابة تاريخ الفلسفة الإسلامية، لكي يؤكد مرة أخرى أنه لا ينتمي إلى طبقة المستشرقين، وأنه بصدد اتِّباع منهج مختلف ومغاير لهم.

ومن جهة أخرى فإن هذه المقولة تكشف عن ثقة كوربان في النظر لنفسه، وثقته في طبيعة العمل الذي نهض به، وكوربان يعلم أن ليس من السهولة لأحد أو لأيٍّ كان أن يُطلق مثل هذا الادِّعاء، ويدَّعيه لنفسه، ويجاهر به أمام الملأ وبين الأوروبيين والغربيين خاصة، وهم الذين عرفوا بالبحث والتحقيق والنشاط في كافة ميادين المعرفة، ومنها ميدان الفلسفة والفلسفة الإسلامية وتاريخها.

مع ذلك لم يتردد كوربان أو يتهيب من إطلاق هذه المقولة بحق نفسه، وبحق عمله، وهو المحقق والمتخصص والبارع في هذا المجال، والمتمكن منه، والواثق به، ولم يطلق هذه المقولة دون بيان ما يُراد منها، وما يُبرهن عليها في نظره، وشرح ذلك في النقاط الأربع التالية:

أولاً: يرى كوربان أنه بصدد الحديث عن فلسفة إسلامية، وليس عن فلسفة عربية كما كان سائداً ومعروفاً عند الذين يرون أن مدلول الفلسفة العربية يمكن أن يقتصر على كل فلسفة كتبت باللغة العربية ويشمل حتى غير العرب.

فهذا التحديد في نظر كوربان غير متماسك، ويخطئ مقصده؛ لأنه لم يعد يعلم عدئذ أين نضع المفكرين الإيرانيين القدماء وحتى المعاصرين الذين كتبوا بالفارسية حيناً وبالعربية حيناً آخر.

ومن جانب آخر أن كوربان بصدد الحديث عن العالمية الروحية لمفهوم الإسلام، الأمر الذي اقتضى منه الحديث عن الفلسفة الإسلامية، أي الفلسفة التي ارتبطت نهضتها وانتشارها الأساسي بالواقع الديني والروحي في الإسلام وليس بمجال الفقه وحده.

ثانياً: إن مفهوم الفلسفة الإسلامية عند كوربان، وبشكل قاطع، لا يمكن أن يكون وقفاً على ذلك البيان التقليدي الذي ظلت تتبعه كتب تاريخ الفلسفة بالاقتصار على بعض الأسماء الكبيرة لمفكري الإسلام الذين عرفتهم أوروبا في العصور الوسطى عن طريق الترجمات اللاتينية في صقلية وطليطلة وغيرهما، وهي الأسماء التي تنتهي بابن رشد الذي ورثت منه أوروبا ما عُرف بالرشدية اللاتينية.

فهذا المنحى التقليدي في نظر كوربان لا يسمح بفهم معنى التأمل الفلسفي في الإسلام، وتطوره في مرحلة ما بعد ابن رشد، وفي منطقة المشرق تحديداً، ولاسيما في إيران.

ثالثاً: إن فهم حقيقة معنى التأمل الفلسفي واستمراره في الإسلام لا يمكن في نظر كوربان إلا بالتخلي عن ذلك الادِّعاء بوجوب التنقيب عن معنى مقابل يوازي ما درج على تسميته في الغرب بالفلسفة، التي تقابل معنى اللاهوت، التقابل الذي يعود تاريخيًّا إلى العصور الوسطى الأوروبية، ويراد منه الفصل بين ما هو ديني ويقصد به اللاهوت، وما هو دنيوي ويقصد به الفلسفة.

فهذا التقابل والفصل في تصور كوربان بين اللاهوت والفلسفة، وبين الديني والدنيوي ليس له أساس في الإسلام، لسبب بسيط حسب قوله: كون أن الإسلام لم يعرف ظاهرة الكنسية بمضمونها ونتائجها.

وبناء على ذلك يقرر كوربان إننا «إذا اكتفينا بإعادة طرح مسألة العلاقات بين الدين والفلسفة في الإسلام، كما هي مطروحة تقليديًّا في الغرب، نكون بذلك قد وضعنا المشكلة على غير وجهها الصحيح، إذ إننا لا نلمّ والحالة هذه إلا بناحية واحدة من الموقف. وبالطبع فقد عرفت الفلسفة أكثر من موقف صعب في الإسلام، ولكن هذه الصعوبات لم تكن نفس الصعوبات التي عرفتها المسيحية».

رابعاً: لم يُساير كوربان تقسيم تاريخ الفلسفة الإسلامية بذلك التصميم الاعتيادي حسب قوله الذي يقسم التاريخ عموماً، وتاريخ الفلسفة خصوصاً إلى ثلاث حقب هي: (الأقدمون، والقرون الوسطى، والعصور الحديثة)، ويرى أن من اللغو الباطل القول: إن القرون الوسطى قد استمرت حتى أيامنا هذه.

وأنه وجد دلائل أرصن، وأبقى من المراجع التاريخية البسيطة، جعلته يضع تحقيقاً مختلفاً كليًّا يتحدد عنده في ثلاث حقب كبرى، يوضحها بالشكل التالي:

الحقبة الأولى: تتحدد منذ ظهور الإسلام وتمتد حتى وفاة ابن رشد في القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي، ويبين فيها وجوه عدة لم تظهر في الأبحاث إلا خلال السنين الأخيرة.

الحقبة الثانية: تتحدد خلال القرون الثلاثة التي سبقت النهضة الصفوية في إيران، وهي موسومة -حسب قوله وبشكل أساسي- بما يقتضي أن يسميه ميتافيزيقا الصوفية.

الحقبة الثالثة: تتحدد في القرن السادس عشر مع التقدم المدهش حسب وصفه للفكر والمفكرين في إيران خلال فترة الدولة الصفوية، التقدم الذي استمرت آثاره مع الدولة القاجارية، وبقي مستمراً حتى أيامنا هذه.

لهذا الاعتبارات الأربعة اعتبر كوربان أنه ليس له سلف يُمهِّد له الطريق في كتابته لتاريخ الفلسفة الإسلامية.

 

- 5 -
الكتاب.. موضوعاته ومحتوياته

أرَّخ كوربان لتلك الحقب التاريخية الثلاث الكبرى حسب وصفه، ودرسها وعالجها في جزأين من كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، الجزء الأول يؤرخ للحقبة التاريخية الأولى التي حددها بأنها تمتد من الأصول حتى وفاة ابن رشد، وصدر هذا الجزء من الكتاب باللغة الفرنسية سنة 1964م، وصدر الجزء الثاني سنة 1974م، ويؤرخ للحقبتين التاليتين الممتدتين منذ وفاة ابن رشد حتى أيامنا الحاضرة، أي إلى النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، وتم ضم الجزأين في كتاب واحد وصدر باللغة الفرنسية سنة 1986م.

الجزء الأول الذي نتحدث عنه ترجم إلى اللغة العربية وبات معروفاًومتداولاً، ويعد مرجعاً في موضوعه، أما الجزء الثاني فلم أسمع حتى هذه اللحظة عن ترجمته إلى العربية، ولم أجد من يتحدث عنه أيضاً، في الكتابات العربية بأي صورة كانت ذكراً أو نقداً أو مراجعة، ولا حتى إحالةً أو اقتباساً.

ولهذا سنكتفي بالحديث عن الجزء الأول، والذي يتألف في طبعته العربية من أربع مقدمات، وثمانية فصول، كل فصل يتضمن عدة موضوعات، وجاءت هذه المقدمات والفصول مرتبة على النحو التالي:

المقدمة الأولى كتبها الدكتور بيار لوري أستاذ كرسي التصوف الإسلامي في معهد الدراسات العليا بجامعة السوربون، والمقدمة الثانية كتبها السيد عارف ثامر أحد رموز الإسماعيلية في سوريا، والمقدمة الثالثة كتبها السيد موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان آنذاك، والمقدمة الرابعة كتبها المؤلف.

أما فصول الكتاب، فالفصل الأول حمل عنوان (ينابيع التأمل الفلسفي في الإسلام) وتطرق إلى موضوعين: التأمل الروحي للقرآن، والترجمات. والفصل الثاني حمل عنوان (التشيع والفلسفة النبوية) تطرق إلى موضوعين أيضاً هما: التشيع الاثني عشري حقبه ومناهله، والإسماعلية مراحلها ومصادرها.

وحمل الفصل الثالث عنوان (علم الكلام السني) وتطرق إلى موضوعين: الأول عن المعتزلة المصادر والأصول، والثاني عن الأشعرية وتطورها، والفصل الرابع حمل عنوان (في الفلسفة وعلوم الطبيعة) وتطرق إلى تسعة موضوعات هي: الهرمسية، وجابر بن حيان، وموسوعة إخوان الصفا، والرازي طبيباً وفيلسوفاً، وفلسفة اللغة، والبيروني، والخوارزمي وابن الهيثم وشاهمردان الرازي.

والفصل الخامس حمل عنوان (الفلاسفة الهلينيون) وتطرق إلى سبعة موضوعات تحدثت عن الكندي والفارابي وأبي الحسن العامري وابن سينا وابن مسكويه وأبي البركات البغدادي وأبي حامد الغزالي.

والفصل السادس حمل عنوان (التصوف) وتطرق إلى خمسة موضوعات تحدثت عن أبي يزيد البسطامي والجنيدي وحكيم الترمذي والحلَّاج وأحمد الغزالي.

والفصل السابع حمل عنوان (السهروردي وفلسفة النور) وتطرق إلى خمسة موضوعات هي إحياء حكمة فارس القديمة، ومشرق الأنوار، وترتيب الوجود، والغربة الغربية، والإشراقيون.

والفصل الثامن حمل عنوان (الفلسفة العربية في الأندلس) وتطرق إلى ست موضوعات تحدثت عن ابن مسرة، وابن حزم فيلسوف قرطبة، وابن باجه فيلسوف سرغسطة، وابن السيد فيلسوف بطليوس، وابن طفيل فيلسوف قادس، وابن رشد والرشدية.

وتعاون مع كوربان في إنجاز هذا الكتاب رجلان أشار إليهما في خاتمة مقدمة الكتاب، مذكراً بفضلهما وهما -حسب قوله وتوصيفه- صديقان عزيزان أحدهما إيراني شيعي هو السيد حسين نصر الأستاذ آنذاك في كلية الآداب بجامعة طهران، والثاني عربي سني من سوريا هو السيد عثمان يحيى المكلف آنذاك بأبحاث المركز الوطني للبحوث العلمية، وكانت بينه وبينهما -حسب قول كوربان- مشاركة عميقة في رؤية حقيقة الإسلام الروحاني.

ولعل أكثر من أوضح الرؤية الكلية لكتاب كوربان هو الدكتور بيار لوري الذي اعتبر أن الحجة الأساسية التي يرتكز عليها هذا الكتاب هي بالضبط حسب قوله: إثبات الدور الفعَّال للفلسفة النبوية في إعداد المذاهب في الإسلام منذ الأصول حتى القرنين التاسع عشر والعشرين.

وهذا ما أوضحه كوربان نفسه بقوله: «حيثما استقر المقام (بالتحقيق) الفلسفي في الإسلام، كان التفكير عندها منصبًّا على أمر أساسي هو النبوة أو الوحي النبوي، وعلى المسائل والمواقف التفسيرية التي يتضمنها هذا الأمر الأساسي؛ وعندها تأخذ الفلسفة شكل فلسفة نبوية أو حكمة لدنية. ولهذا فقد أعطينا المركز الرئيسي في هذه الدراسة، للفلسفة النبوية عند الشيعة بشكليها الرئيسيين: الإمامية الاثني عشرية والإسماعيلية. فالبحوث الأخيرة المتعلقة بهاتين المدرستين لم تركز بعد في دراسة من هذا النوع. ونحن لم نستقِ معلوماتنا من مؤرخي النحل، بل ذهبنا إلى المنابع ذاتها».

وعلى ضوء هذا السرد والتوصيف لموضوعات الكتاب ومحتوياته، تتكشف بعض الملامح المهمة التي هي بحاجة إلى التوقف عندها والنظر فيها توصيفاً وتحليلاً ونقاشاً، وفي مقدمة هذه الملامح الكشف عن منابع التأمل الفلسفي في الإسلام.

- 6 -
منابع
التأمل الفلسفي في الإسلام

بخلال سلوك المستشرقين الأوروبيين ومنهجهم، وعلى النقيض من مواقفهم الفكرية والتاريخية، حاول كوربان الكشف عن مابع التأمل الفلسفي في الإسلام من داخل المجال الإسلامي نفسه لا من خارجه، وذلك تقديراً منه واعترافاً بأن في الإسلام منابع للتأمل الفلسفي، تولدت منها ونشأت وتطورت فلسفة إسلامية ظلت متميزة ومستقلة عن باقي الفلسفات الأخرى التي ظهرت وعُرفت في العصور القديمة والوسيطة والحديثة.

وهذا ما لم يعترف به المستشرقون، ولا يرغبون في الاعتراف به، ويصعب عليهم، ولعلهم يحنقون ويضيق صدرهم بمن يقول بهذا الرأي تلميحاً أو تصريحاً ومن الأوروبيين خاصة، حفاظاً على إجماعهم، وتأكيداً لوحدة موقفهم وتماسكه، وتثبيتاً لأهم مقولة أيديولوجية يتفاخرون بها، وهي مقولة مركزية الثقافة الأوروبية التي منها -حسب رأيهم- كانت نشأة ونهضة العلوم والمعارف في أول عهدها.

وقد دأب المستشرقون وتواترت آراؤهم ومواقفهم في تصوير أن الفلسفة عند المسلمين ما ظهرت إلا متأثرة بالفلسفة اليونانية، وعلى أثر ترجمة ما عُرف في أدب المسلمين بعلوم الأوائل، وما هي إلا اقتباس واقتباس مشوَّه في نظر البعض عن الفلسفة اليونانية، ولولا هذه الفلسفة ما عرف المسلمون الفلسفة التي ظهرت عندهم وانشغلوا بها وتفاخروا، وتسابقوا إليها، وتنازعوا حولها.

وعلى هذا الأساس فإن منابع الفلسفة والتأمل الفلسفي عند المسلمين إنما يرجع إلى الفلسفة اليونانية التي منها -حسب هذا الرأي- بدأت الفلسفة في مهدها وأول عهدها، وعنها أخذ العالم يتعرف عليها، ويتواصل معها.

وظل المستشرقون يدافعون عن هذا الرأي، ويحرسونه، ويرفضون التشكيك فيه، فكيف يكون موقفهم إذا جاء أحد ومن الأوروبيين خاصة، وقال: إن في الإسلام منابع للتأمل الفلسفي، ومن هذه المنابع نشأت وولدت فلسفة إسلامية واكتسبت استمراريتها وتطورها من الإسلام نفسه، وهو الرأي الذي قال به كوربان، وحاول الكشف عنه، والبرهنة عليه، والترويج له، والمحاججة به.

ليس هذا فحسب بل إن المستشرقين اعتنوا بدراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وتقصَّدوا بشكل أساسي البحث والكشف والتنقيب عن الأثر اليوناني في الفلسفة والفكر الفلسفي عند المسلمين، ومعرفة ما أحدثه هذا الأثر من تموج ومفاعيل في ثقافة المسلمين وعقائدهم وسياساتهم، وكأنهم أرادوا دراسة الفلسفة اليونانية في صورتها الإسلامية، وفي بيئة غير البيئة اليونانية، وكونها تأتي استكمالاً ومتابعة لدراسة الفلسفة اليونانية لا غير.

وهذا ما لم يلتزم به كوربان، وتقصَّد الخروج عن جادته ليميّز نفسه ومنهجه عن أولئك المستشرقين، ليقول: إنه لا يتبع مِلَّتهم، وانتخب منهجاً وطريقاً ليعلن أنه ليس له سلف في هذا المجال يُمهِّد له الطريق.

ولعل من أشد ما اختلف فيه كوربان مع باقي المستشرقين الآخرين، اعتباره أن القرآن الكريم يُمثِّل أول منبع للتأمل الفلسفي في الإسلام. ويعلم كوربان أن هذا الرأي له وقع ثقيل على الغربيين والمستشرقين، ولا يحبذون التلميح به، ولا يرغبون أن يطرق سمعهم، أو يجول في خاطرهم، فكيف إذا جاء من يحاججهم به، رافعاً أمام الملأ صوته، معلناً لهم مخالفته لطريقتهم، وأنه لا يتبع سبيلهم.

وأعلن كوربان عن هذا الموقف في مستهل الفصل الأول من كتابه، وفي السطر الأول بقوله: «ثمة زعم لاقى نصيباً من الرواج في الغرب ومؤداه أن لا فلسفة ولا تصوُّف في القرآن، وأن الفلاسفة والمتصوفين لا يدينون للقرآن بشيء. ولسنا نبغي في هذا المقام مناقشة ما يجده الغربيون في القرآن، أو ما لا يجدونه، ولكن في أن نعلم ما وجده المسلمون أنفسهم فعلاً فيه».

من هنا تبدو الفلسفة الإسلامية عند كوربان كعمل مفكرين ينتمون إلى جماعة دينية قبل كل شيء، جماعة يخصها التعبير القرآني باسم أهل الكتاب، ويُراد منه -في تصور كوربان- الإشارة إلى مجتمع له كتاب مقدس، وديانته مبنية على كتاب منزل من السماء، أُوحي إلى نبي، ومجتمع تعلّمه من هذا النبي.

وإذا كان يراد بأهل الكتاب عموماً اليهود والنصارى والمسلمين، فهذا يعني أن ما يعم هذه الجماعات مشكلة تطرحها عليها الظاهرة الدينية الأساسية التي تشترك فيها، ألا وهي ظاهرة الكتاب المقدس التي تجعل المهمة الأولى والأخيرة هي فهم المعنى الحقيقي لهذا الكتاب الذي هو القرآن الكريم عند المسلمين.

وعلى هذا الأساس يرى كوربان أن من غير السليم العودة -حسب قوله- بترسيمة الحياة الروحية، وحياة التأمل الفلسفي في الإسلام إلى أولئك الفلاسفة المتهلينين الآخذين بالهلينية.

وهذا الموقف من كوربان يصادم بشدة ذلك الرأي المجحف الذي ظل سائداً في أوساط بعض المستشرقين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وعبّر عنه بوضوح تنمان المتوفى سنة 1819م في كتابه (المختصر في تاريخ الفلسفة) إذ يرى أن هناك عدة عقبات تبطئ تقدم المسلمين في مجال الفلسفة، وفي مقدمة هذه العقبات كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر.

وإذا كان هذا الرأي -في نظر الشيخ مصطفى عبد الرزاق- قد تلاشى أو كاد يتلاشى عند الغربيين في القرن العشرين، مبرهناً على ذلك بأقوال أخرى مناقضة له من غربيين مثل بيكافيه في كتابه (تخطيط لتاريخ عام مقارن لفلسفة القرون الوسطى) المنشور سنة 1905م، وليون جوتييه في مقاله له بعنوان (أسكولاستية إسلامية وأسكولاستية مسيحية) نشرها بمجلة تاريخ الفلسفة.

مع ذلك فإن موقف كوربان هو الأكثر وضوحاً، فهو لا يأتي نفياً للرأي الذي أشار إليه تنمان وغيره فحسب، وإنما تأكيداً وإثباتاً أيضاً على أن القرآن الكريم يمثل منبعاً للتأمل الفلسفي في الإسلام، ويمثل هذا الموقف تطوراً مهمًّا في ساحة الفكر الأوروبي، ولا أدري إن كان أحد غير كوربان أشار إليه بهذا القدر من الوضوح أم لا!

-7-
بعد ابن رشد.. هل توقفت الفلسفة؟

من المقولات التي حاول كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، نقدها والتشكيك فيها مقولة: إن أبا حامد الغزالي قد أطاح بالفلسفة في العالم الإسلامي وتوقفت بعد ابن رشد في نهاية القرن السادس الهجري القرن الثاني عشر الميلادي. وهي المقولة التي ظلّت سائدة ومتداولة في أوساط المستشرقين الأوروبيين، وعن طريقهم شاعت عند العرب والمسلمين في العصر الحديث.

وقد دخل كوربان في محاججة هذه المقولة ونقضها وبيان تهافتها في نظره، وقدّم في هذا الشأن نقاشاً مهمًّا، لفت الانتباه إليه مرة أخرى وإلى تراثه الفكري، وأكد من جديد أنه لا يتبع ملة المستشرقين، ولا يسير على نهجهم، ولكي يقول أيضاً: إنه ليس له سلف يمهد له الطريق.

ويبدو أن هذه المحاججة فتحت أمام كوربان أفقاً جديداً في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الأفق الذي مضى فيه كوربان إلى نهايته، وانتهى به المطاف إلى وضع مخطط جديد في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، جاء مختلفاً ومغايراً للآخرين، وللمستشرقين بصورة خاصة.

وهذه المحاججة على أهميتها وقيمتها لم يخصص لها كوربان فصلاً أو باباً ولا حتى فقرة في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) وإنما ظل يشير إليها، ويؤكد عليها، ويذكِّر بها مرات عدة، وبصور متفرقة، وفي مناسبات مختلفة، وبطريقة مقتضبة، وذلك بحسب مقتضيات الموضوع وسياق البحث، وفي كل مرة يلفت الانتباه إلى نقطة معينة.

وعند النظر في هذه الإشارات والتنبيهات المتفرقة والمتناثرة، يمكن تجميعها وتنظيمها في النقاط التالية:

أولاً: إن من اللغو الباطل -حسب قول كوربان- القول بأن الفلسفة بعد الغزالي قُيِّض لها أن تنتقل إلى غرب العالم الإسلامي، وأنه من الخطأ أيضاً في نظره الزعم بأن الفلسفة لم تقم لها قائمة بعد تلك الضربة التي وجهها لها الغزالي، ويرى أن الفلسفة قد بقيت مزدهرة في الشرق.

ثانياً: يرى كوربان أن أعمال ابن رشد فيلسوف قرطبة أعطت بترجمتها اللاتينية ما يسمى في الغرب بالرشدية التي طغت على السينوية اللاتينية، أما في الشرق فقد مرت الرشدية مروراً غير ملحوظ، ولم تُعرف فيه مدرسة ابن رشد، ولم يُنظر إلى نقد الغزالي للفلسفة على أنه وضع حدًّا للسنة التي ابتدأها ابن سينا، ولا حتى فهمت انتقادات الغزالي على حقيقها التي غالباً ما فسرها مؤرخو الفلسفة الغربيون على أنها كانت بمثابة ضربة قاضية للفلسفة.

وقد عزب عن بال هؤلاء كذلك، ما كان يحدث في الشرق حيث مرَّت مؤلفات ابن رشد دون أثر ملحوظ، فلا دار في خلد نصير الدين الطوسي أو الميرداماد أو هادي السبزواري ما تعلقه تواريخ الفلسفة عند الغربيين من أهمية ومعنى على ذلك النقاش الجدلي الذي دار بين الغزالي وابن رشد، بل إننا إذا أوضحنا لهم ذلك لأثار الأمر دهشتهم كما يثير دهشة خلفهم اليوم.

ثالثاً: عند حديثه عن شيخ الإشراق السهروردي يرى كوربان أن مؤلفاته تقع على مفترق طرق في موقع ممتاز، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السهروردي ترك هذا العالم قبل ابن رشد بسبع سنوات، أي في اللحظة نفسها التي كانت المشائية العربية في الإسلام المغربي تجد تجسيدها الأخير في مؤلفات ابن رشد، حتى أن الغربيين نتيجة لخلط مشؤوم بين مشائية ابن رشد والفلسفة قد ظلوا يعتبرون أن مصير الفلسفة في الإسلام قد انتهى مع ابن رشد.

في حين أن أعمال السهروري قد أنارت الطريق الجديد الذي مشى عليه العديد من المفكرين الروحانيين حتى أيامنا هذه.

رابعاً: من جهة العلاقة بين السهروردي وابن سينا يرى كوربان أن السينوية اللاتينية التي تراجعت واضمحلت، وحلَّت مكانها وغطَّت عليها الرشدية اللاتينية إلا أنها تجددت واستمرت في الشرق، وهذا ما لم يلتفت إليه المؤرخون الغربيون الذين ظنوا خطأً أن مع اختفاء ابن رشد اختفت الفلسفة.

والذي جدَّد فلسفة ابن سينا في الشرق هو السهرودي، فإن مما يجزم به كوربان دون مغالطة -حسب قوله- أن خلف ابن سينا كان السهروردي، لا بمعنى أنه أدخل في كتبه الخاصة بعض العناصر والملامح من ما ورائيات ابن سينا، ولكن لأنه أخذ على عاتقته متابعة الغاية التي قصدها ابن سينا من الحكمة المشرقية، وهي في اعتقاد السهروردي غاية لم يُقدَّر لابن سينا بالرغم من كل جهوده أن يسير بها إلى نهايتها الأمينة، لأنه يجهل المصادر المشرقية الحقة، وقد حقق السهروردي هذه الغاية ببعثه وإحيائه لفلسفة الأنوار أو حكمتها في بلاد فارس القديمة.

وما يريد كوربان أن يصل إليه هو أن هذه السينوية السهروردية -حسب وصفه- هي التي عرفت تلك النهضة المباركة في مدرسة أصفهان البتراء من القرن السادس عشر وبقيت آثارها ناطقة في إيران حتى أيامنا هذه.

خامساً: إن مدرسة أصفهان الفلسفية في القرن السادس عشر الميلادي مثلت في نظر كوربان ظاهرة لا نظير لها في مكان آخر من العالم الإسلامي، حيث كان يعتبر أن باب الفلسفة قد أغلق منذ أيام ابن رشد، واعتاد المؤرخون أن يروا في الرشدية الكلمة الأخيرة في الفلسفة العربية، في حين تقدم لنا الفلسفة الإسلامية في الشرق وعوضاً عن ذلك معيناً لا ينتهي من المناهل والثروات الفكرية.

لهذه المعطيات والحقائق حاجج كوربان وشكَّك في مقولة: إن الغزالي قد أطاح بالفلسفة، وانتهت بانتهاء ابن رشد.

- 8 -
العامل الشيعي.. الأهمية والاهتمام

حاول كوربان لفت الانتباه إلى أهمية العامل الشيعي في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، وبذل جهداً في الكشف عنه، وإثباته والبرهنة عليه، وحسب قناعته التي ترسخت عنده أنه لا يجوز أن يخلو تاريخ الفلسفة الإسلامية من الفكر الشيعي، وهي القناعة التي ظل يُقلِّب النظر فيها، ويحاجج بها، ويسعى لتأكيدها والدفاع عنها.

وقد عُرف كوربان بهذا المنحى عند الأوروبيين وغيرهم، وأراد أن يعرف به هؤلاء وغيرهم، لكي يخبر ويؤكد مرة أخرى أنه ينفرد عنهم، ولا يتبع ملتهم، ولا يهتدي بهديهم، ولا يسير على نهجهم، ولكي يقول كذلك: إنه ليس له سلف يمهد له الطريق.

وما تحدث به كوربان عن أهمية العامل الشيعي في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) جاء متفرقاً ومتناثراً أيضاً، وظل يشير إليه بصور مختلفة، ومن جهات عدة، تارة من جهة المنطلق، وتارة من جهة الغايات، وتارة من جهة التأثير، وتارة من جهة ما تعرَّض له هذا العامل من تكتم وإهمال إلى غير ذلك.

ويمكن مَنْهَجَة وتنظيم تلك الإشارات والتنبيهات المتفرقة والمتناثرة على النحو التالي:

أولاً: في نظر كوربان أن العامل الشيعي قد أجمل بكليته تقريباً مع أنه لا يمكن التفكير بمصير الفلسفة في الإسلام بشكل مستقل عن معنى التشيع.

ولم يأخذ بعين الاعتبار عند المستشرقين الدور والأهمية القاطعة التي كانت للفكر الشيعي في ارتقاء الفكر الفلسفي في الإسلام، وبين المستشرقين من أظهر حيال هذا الدور بعض التكتم، والميل الذي يصل إلى حد العداء.

ثانياً: إن كوربان وجد في العامل الشيعي إنه يعبر عن فلسفة ليست مقتبسة من الفلسفة اليونانية، ولا تذوب فيها، وفي هذه الفلسفة لم تعد القضية كما يقول كوربان التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وهو توفيق غالباً ما يكون في نظره عديم الأثر، ولا قضية الحقيقة المزدوجة عند ابن رشد، كما أنها ليست أيضاً قضية اعتبار الفلسفة خادمة للاهوت.

الأمر الذي يتطلب -في نظر كوربان- تبيان -على وجه الدقة- مقابلة الملامح الفلسفية في فكر إسلامي يراه أكثر تشعباً، وأكثر وفرة وغنى مما يفترضه الغربيون حتى اليوم، ويدعوهم إلى استخلاص الظروف الخاصة لفلسفة لا تذوب في الفلسفة اليونانية.

ثالثاً: تساؤل كوربان: كيف يمكن لتاريخ الإنسانية الديني أن يستمر بعد خاتم النبيين؟

ووجد أن هذا السؤال وجوابه يشكلان في نظره الظاهرة الرئيسية في الإسلام الشيعي، ذلك لأن التشيع -والكلام لكوربان- يستند إلى علم للنبوة يتسع فيصل إلى علم الإمامة، من هنا جاء التركيز على فلسفة التشيع النبوية، تلك الفلسفة التي تجد مثنوية الشريعة والحقيقة بين مقدماتها، وتنحصر مهمتها في استمرار وحفظ الإيحاءات الإلهية الروحية.

ودون هذا يقع الإسلام -في نظر كوربان- ورواياته وطرقه الخاصة، في التطور الذي أصاب المسيحية، وجعل من النظم اللاهوتية نظماً أيديولوجية اجتماعية وسياسية علمانية، وجعل المخلصية اللاهوتية مخلصة اجتماعية.

وعندما يمثل هذا الخطر في الإسلام فإنه يمثل ضمن شروط مختلفة، لكنها شروط لم يتصدَّ أحد من فلاسفة الإسلام لتحليلها بعمق.

هذه بعض الملامح الأساسية والوثيقة الصلة بجوهر أطروحة كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية).

- 9 -
اتجـاهـات الـنــقـد

هناك ثلاث اتجاهات وقفت عليها في نقد كتاب كوربان (تاريخ الفلسفة الإسلامية) تنتهي إلى ثلاث بيئات اجتماعية، وثلاثة فضاءات فكرية، وجاءت متنوعة ومختلفة من حيث البواعث والمنطلقات والمقاصد، وهذه الاتجاهات النقدية هي:

الاتجاه الأول: نقد الفرنسيين

شرح الدكتور بيار لوري في التقديم الذي كتبه لكتاب كوربان (تاريخ الفلسفة الإسلامية) ما تعرّض له هذا الكتاب عند صدوره من نقد واعتراض عند الفرنسيين، وفي الأوساط الفكرية والأكاديمية هناك، شملت مضمونه وحتى عنوانه، وتوقفت عند كل كلمة وردت في العنوان.

وأشار بيار لوري لهذه الاعتراضات التي لا يتفق معها، بقصد مطارحتها، والتشكيك فيها، والدفاع عن موقف كوربان وأطروحة كتابه، ولإعطاء صورة عما أحدث هذا الكتاب من جدل ونقاش في المجال الفكري الفرنسي.

وعن هذه الملاحظات والاعتراضات يقول بيار لوري: منذ ظهور كتاب كوربان ارتفعت اعتراضات حول مضمونه وعنوانه، بشكل يستدعي بعض التوضيحات. والكلمات المستعملة في عنوان الكتاب كانت موضع جدل على هذا النحو:

أولاً: الاعتراض على كلمة (تاريخ) يتحدد هنا من جهة أن كل مذهب يتحدد قليلاً أو كثيراً بوسط اجتماعي معين، وبظروف تاريخية أحاطت به، فهل يمكن التكلم عن تاريخ فكر إذا تم التطرق قليلاً وفي الوقت نفسه إلى المعطيات السياسية والاجتماعية التي أثرت في تكوين هذا الفكر، كما هي الحال بالنسبة لهذا الكتاب.

ثانياً: الاعتراض على كلمة (الفلسفة) يتحدد في أن هذه الكلمة في التقليد الأكاديمي الأوروبي تعني جهد التفكير الفردي الدنيوي المستقل عن مسلمات الإيمان واللاهوت، وبالنظر إلى أن الفلسفة تأسست على خلفية اعتبار أن موقف اللاهوت والانتماء الديني هو حركة اهتداء غير مبنية على العقل، وإنما هو اعتقاد يتوجه إلى القلب، وتأسست هي -أي الفلسفة- لتكون ضد هذا الموقف من اللاهوت والانتماء الديني.

ثالثاً: الاعتراض على كلمة (الإسلامية) يتحدد في أن عنوان الكتاب يعني تاريخاً للفكر الإسلامي، في حين بدا الدور الهام لا بل المؤسس الذي أسند إلى التيارات الشيعية سواء الإمامية الاثني عشرية أو الإسماعيلية في الكتاب مثيراً للجدل، أو على الأقل مفرطاً بالنسبة لأولئك الذين يصنفون المذهب الشيعي في هوامش تكوين الفكر في الإسلام.

وقد ناقش بيار لوري هذه الاعتراضات، وبشأن الاعتراض الأول يرى عندما يتعلق الأمر بالتاريخ يكون من المناسب عدم الوقوع في الالتباس حول التعابير، فإن كوربان لا يعارض البتة الفكرة القائلة بأن التاريخ الاجتماعي يجد تماسكه ومشروعيته في الحقل الخاص به، ولكن ليس هذا هو الذي يهم الفيلسوف هنا، فتاريخ الفكر بالنسبة إليه يعني أولاً تاريخ كل البشر الذين سعوا على مستوى فردي إلى إعطاء معنى لتصرفاتهم ولقدرهم.

وهنا يجد كل باحث نفسه أمام حقيقته الخاصة، ولن تقوم صيرورته عندئذ بالتمدد في الوقائع والتطورات الاقتصادية، بنفس قدر انطلاقها في المسارات الداخلية التي يتبعها كل كائن بشري، وهي مسارات توجهها أفكار وتأملات بواسطة رموز وأوصاف تخيلية.

وبشأن الاعتراض الثاني يرى بيار لوري أن كل إنسان يسعى إلى إيجاد معنى للأحداث والخيارات التي تُوجِّه حياته، ولا يمكن لأي إنسان أن يتوقف عن وضع معنى وقصدية لصيرورته، وهو يقوم بذلك وفقاً لإطاره الثقافي وخبرته وخياراته، وهذا شيء لا يمكن لأحد أن يفلت منه.

وعند المؤمنين بالديانات الموحدة يجري هذا البحث عن المعنى في إطار ما يسميه كوربان الحالة التأويلية حيث يفهم المؤمن مصيره، ويفكر به انطلاقاً من قراءته للكتاب المقدس، ولكن تفسيره للكتاب المقدس يتحدد له من خلال خبرته الحسية وتجربته المعيشة.

وانطلاقاً من هذه العلاقة الجدلية بين الكتاب والحياة يتوطد التفكير الحي للمؤمن، هذا التفكير يستأهل حتماً أن يفهم كمساهمة في الفلسفة وفقاً لما يعرضه كوربان بكثير من الوضوح.

وبشأن الاعتراض الثالث يرى بيار لوري أن معظم المستشرقين أو العلماء الشرقيين الذين قاموا بكتابة خلاصات حول الفكر في الإسلام الكلاسيكي قد استعاد منظور الأكثرية التي يمكن وصفها بالسنية الأشعرية، وبات هذا المنهج يعد منهجاً تقليديًّا ليس فقط لأنه يستند إلى قوة الأحاديث النبوية، ولكن لأنه أيضاً يتجنب عقلانية المعتزلة، وعقلانية الفلاسفة الأرسطوطاليسية، وسلطة الأئمة الشيعية، وتصوف الصوفيين.

في حين أن ما كان يهم كوربان هو قدرة التفسير على إعطاء معنى لحياة الباحث عن الحقيقة ضمن ذاتيته غير القابلة للتبسيط، وإن مفهوم الأكثرية كان قليل الأهمية ضمن هذه الرؤية.

وعلى هذا الأساس لا يعتبر بيار لوري أن عنوان الكتاب (تاريخ الفلسفة الإسلامية) منتحلاً أبداً.

الاتجاه الثاني: نقد السيد موسى الصدر

شرح السيد موسى الصدر ملاحظاته النقدية على كتاب كوربان في التصدير الذي كتبه للترجمة العربية، ونشره في وقته أيضاً في مجلة العرفان اللبنانية المجلد 54 بعنوان (مع المستشرق هنري كوربان).

وعند نشره في مجلة العرفان تحدث السيد الصدر في مفتتحه عن كيف تعرّف على المؤلف وكتابه، المفتتح الذي لم يُضمَّن في التصدير المنشور في الكتاب، ولعل السيد الصدر كتب هذا المفتتح بعد كتابته للتصدير، وحينما ارتأى فيما بعد نشره في المجلة.

وعن هذه المعرفة بالمؤلف يقول السيد الصدر: «عرفت الفيلسوف الفرنسي الكبير أستاذ الفلسفة بجامعة السوربون (هنري كوربان) من خلال ملاحظاته القيِّمة ومقدمته الجامعة على كتاب فلسفة الإشراق للشيخ شهاب الدين السهروردي.

عرفته مهتماً بدراسة الفلسفة الإسلامية اهتماماً يشبه الغرام حتى صرف من عمره في هذا الحقل ما يتجاوز خمساً وعشرين سنة، فأصبح مطلعاً على غوامضها وتاريخها وتطوراتها.

وللمرة الأولى تقريباً من تاريخ دراسات المستشرقين، وجدته متضلِّعاً بدراسة صدر الدين الشيرازي مؤسس الحكمة المتعالية ومجدد الفلسفة الإسلامية، وقرأت رسالة له فيه قيِّمة، ثم التقى هو مع أستاذي، علامة عصرنا السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤلف تفسير الميزان، فوجدت فيها وفي أسئلته العديدة التي جَمَعَتْهَا مع أجوبة السيد الطباطبائي مجلة -مكتب تشيع-، وجدت فيها وفي أسئلته عمقاً يفوق مستوى تفكير زملائه المستشرقين، وإخلاصاً في عمله يفرضان على قارئه الإجلال».

وعن معرفته بالكتاب، يقول السيد الصدر: إنه تعرف عليه من نصير مروة أحد المترجمين، فشعر بدهشة أمام هذا الجهد العظيم، وأمام هذا الإخلاص في الدراسة الفلسفية. وحين تصفح الكتاب وطالعه خاصة فيما كتب عن الشيعة الاثني عشرية وفلسفتهم وتصوفهم وآرائهم، رأى من اللازم ذكر الملاحظات عليه للقارئ العربي، لكون الكتاب يشتمل على أهم المباحث العَقَدِيَّة عند الإمامية، فلا يجوز -حسب قوله- عرض هذه المباحث من دون إبراز رأي المذهب فيها.

وقد تحدث السيد الصدر عن ملاحظاته بشكل مفصل، وهذه أبرزها:

أولاً: يرى السيد الصدر أن أبحاث كتاب كوربان تعتمد بصورة إجمالية على ما وجده في كتب الباحثين من الفقهاء والفلاسفة والصوفية من مقالات لا يمكن التشكيك في نسبتها إليهم، إنما التحفظ الكلي في إسناد هذه الآراء إلى مذاهب المؤلفين، واعتبارها جزءاً من عقائد هذه المذهب، فلا يجوز لنا مثلاً أن نحاسب المذهب الحنفي عما نجده في كتاب نصوص الحكم لمحيي الدين بن عربي أحد أساطين التصوف في الشرق.

ثانياً: اعتبر السيد الصدر أن من أهم النقاط التي أثارها كوربان هي موضوع الظاهر والباطن في الأحكام وفي الدين بصورة عامة، والرمزية في القرآن الكريم، وقد أسهب المؤلف في هذا الأمر، وجعله أساساً لكثير من أبحاثه، ومنطلقاً لمجموعة من استنتاجاته، واعتمد على هذا الأصل في فهم مذهب الإمامية، وتفسير معنى الولاية والإمامة، الإمام الغائب، واستند إليها أيضاً في الإجابة عن مشكلة انقطاع الوحي وبقاء الحياة الدينية للإنسان.

ومن جهته يرى السيد الصدر أن الباحثين في الأحكام الإسلامية، والمفسرين للقرآن الكريم لا يعتمدون غالباً على أسلوب الرمزية، ولا يأخذون بالظاهر والباطن، بل المبدأ الشائع عندهم والطريقة السائدة هي أصل مراحل الإدراك، ومبدأ تفاوت مراتب الفهم.

فالآيات القرآنية أنزلت على الطريقة المألوفة للتفاهم، وهي الطريقة التي تعتمد على الدلالة الوضعية التي يتكلم بها جميع الناس، ولا تعتمد أصلاً على الطريقة الرمزية والدلالات العقلية الغامضة، ولا على علم الأعداد، وحروف الجمل، ومقاطع الأبجدية. وأن القرآن كتاب هداية للبشر كافة على اختلاف درجات معرفتهم، نزل بلغة عربية ظاهرة، لا رمزية فيها ولا غموض.

ثالثاً: لا يعد الإمام عند الشيعة الإمامية -كما يقول السيد الصدر- مرجعاً في تفسير الرموز القرآنية، فلا رمزية، ولا كشف لبواطن الأحكام بالإرث العلمي من النبي، ولا يُعَدُّ الإمام كذلك قيِّماً على كتاب الله كما ورد في كتاب كوربان.

ويرى السيد الصدر أن معنى الإمام هو أنه المثل الكامل الذي جعل إماماً ليُقتدى به في الدين، والدين يتضمن الآراء والعقائد والأخلاق والأعمال والآداب، ورعاية ذات الإنسان بجميع جوانب وجوده وفي عامة شؤونه.

والإمام هو الإمام في جميع هذه الشؤون ولجميع هذه الجوانب فهو المقتدى به والنموذج الكامل في قوله وفعله، في فكره وعواطفه، في رأيه بالموجودات ونظرته إلى الكون وفي كل المسالك الفكرية والخلجات القلبية.

رابعاً: يرى السيد الصدر أن تفسير الولاية بأنها باطن النبوة، وأن ابتداء الولاية نهاية دور النبوة، فهذا رأي خاص لا يعترف به الشيعة كمذهب، ولا الإسلام كدين، وإن كان القائل به بعض كبار الصوفية أو علماء الفلاسفة.

وحسب رأيه: إن الولاية سلطة لتكوين المجتمع الإلهي الذي هو الطريق الوحيد لتربية المسلم تربية كاملة، وهذه التربية هي الغاية لرسالة الإسلام، فأصبحت الولاية هي الطريق الوحيد لبلوغ الإسلام غايته.

ويضيف السيد الصدر فلا وحي للأئمة الاثني عشر، ولا رؤية ملاك، ولا قيمومة على حقائق الأحكام، ولا تفسير لرمزية الآيات، ولا سلطة لإدارة باطن الشريعة، ولا ولاية تكون لب النبوة وحقيقتها.

خامساً: إن الحديث عن التشيع والتصوف -في نظر السيد الصدر- يبدو غريباً جدًّا، فكلمات فقهاء الشيعة ومحديثهم ومتكلميهم وحتى فلاسفتهم مليئة بنفي أي شبه. وفي رأيه إن التصوف مدرسة مستقلة عالمية تسربت إلى الشيعة بعدما غزت العالم الإسلامي كله، وبعدما دخلت في عقائد المسيحيين بصورة واضحة حتى أن التصوف الآن يعدّ مفتاحاً لانتفاح جميع الأديان والمذاهب بعضها على بعض ولا يختص بالتشيع تبعاً ولا سنداً.

ويرى السيد الصدر أن ثنائية الشريعة والحقيقة غير واردة عند المسلمين بمختلف فرقهم المعروفة. فالشريعة في الإٍسلام هي الحقيقة المطلقة الإلهية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.

ويضيف السيد الصدر أن الشيعة لا تأخذ على المتصوفة مسألة تنظيم الطريقة والمسائل المسلكية فحسب، بل الخلاف أعمق، والطريق مختلف، وأدوار القادة متفاوتة جدًّا.

سادساً: ربط المؤلف بين دور الإمام الغائب وبين باطنية الشيعة، وأنهم ينتظرون منه كشف الحقيقة، أي ظهور ولي يكشف جميع حقائق الأحكام، واعتبر أيضاً أن فكرة الإمام الغائب هي فكرة الهادي غير المنظور الذي يقود الأمة ويعرفها الحقيقة.

أمام هذا الرأي يرى السيد الصدر أن من الأنسب توضيح مفهوم الإمام الغائب عند الشيعة الإمامية لكي يتضح مدى صحة استنتاجات كوربان.

وحسب رأيه: إن فكرة الإمام الغائب هي بعينها فكرة ظهور المصلح الكامل الذي يبشر بالنظام الأكمل ويهيئ جميع البشر لبلوغ كمالهم، وذلك بإقامة أفضل مجتمع وتطبيق أفضل نظام وتعميم العدالة التامة، ولكي يصل الإنسان إلى الذروة في المعرفة والعلم ووسائل العيش وفي صلات الناس بعضهم ببعض.

هذه الفكرة أساسها الشعور الفطري للإنسان الذي يدفعه دائماً ومن دون توقف إلى الأفضل في جميع حقول معرفته وميادين حياته، مقنعاً إياه أنه يستمر في الصعود إلى مدارج التكامل ويتقدم دائماً، وأن تجاربه الدائمة قد تعكس انعكاساً مؤقتاً سرعان ما يعود عنه ولو بلغ عمر الانتكاسة عشرات السنين أو أكثر.

ولعل التراث العام الذي ورثه الإنسان من تعاليم السماء في أغلب الأديان يجعله ينتظر ظهور مصلح كامل يعيد الحق إلى نصابه، ويطبق ما تمناه الأنبياء للبشر تطبيقاً كاملاً غير منقوص.

ويُذكر أن السيد الصدر التقى بكوربان سنة 1968م، حين شارك بإلقاء محاضرة في جامعة السوربون بعنوان: (أضواء على الشيعة الإمامية)، وكان كوربان حاضراً فيها وأول من طلب الكلام بعد المحاضرة وحسب رواية الشاعر اللبناني نجيب جمال الدين فإن كوربان انتهز المناسبة ليشكر السيد الصدر على تقديمه لكتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) وبشأن ملاحظاته النقدية، وبعد سماعه المحاضرة قال كوربان: يسعدني أن أقتنع، وشكر وجلس.

الاتجاه الثالث: نقد الدكتور محمد عابد الجابري

أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى ملاحظاته النقدية على كتاب كوربان، في إطار تحليل الرؤية الاستشراقية للفلسفة والفكر الفلسفي في الإسلام، ومحاولة نقد وتعرية هذه الرؤية والتشكيك فيها، والتبصر بها.

وعند النظر في هذه الملاحظات يمكن تحديدها في الجهات التالية:

أولاً: من جهة الظاهر والباطن، فمن جهة الظاهر يرى الدكتور الجابري أننا إذا «نحن أخذنا الأمور بظواهرها أمكن القول بدون تردد: إن هنري كوربان يمزق بمشروعه وبصورة علنية أهم الدعائم التي قام عليها تاريخ الفلسفة في الغرب كما يتمرد بصراحة على مكونات الرؤية الاستشراقية. فهو من جهة يلتمس لمفهوم الفلسفة في الإسلام مضموناً من داخل الإسلام نفسه، وهو من جهة ثانية يركز على ما تنفرد به عن الفلسفة في الغرب، بما في ذلك الفلسفة اليونانية، كما أنه يجعل بدايتها مع قيام الإسلام وبالضبط مع «التأمل الروحي في القرآن» الذي يقول عنه: إنه (مسترسل إلى يومنا هذا)».

ومن جهة الباطن يرى الجابري: «(أن أخذ الأمور بظواهرها) منهج يرفضه كوربان نفسه لأنه لا يعبر عن الدوافع والأهداف الحقيقية. فلنبحث إذن في (باطن) المشروع، ولكن قبل ذلك لا بد من التنويه بكون كوربان قد أبرز ما يهمله (تاريخ الفلسفة الإسلامية) عادة، نقصد بذلك الفكر الشيعي والفلسفة الإشراقية. لقد أرَّخ كوربان فعلاً لما درج على إهماله تاريخ الفلسفة الإسلامية المستنسخ من تاريخ الفلسفة في الغرب».

ثانياً: من جهة البنية الداخلية، توقف الجابري عند التعقيب الذي اعتمده كوربان في كتابة تاريخ الفلسفة الإسلامية، والذي حدده في ثلاث حقب كبرى: الأولى ممتدة منذ ظهور الإسلام إلى وفاة ابن رشد، والثانية تمتد على مدى القرون الثلاثة التي تسبق النهضة الصفوية في إيران، والثالثة تمتد من القرن السادس عشر مع تقدم النهضة الصفوية حتى أيامنا هذه.

وهنا تساءل الجابري: «لماذا هذا (الانقلاب) في (التأريخ) للفلسفة في الإسلام؟ هل لأن هنري كوربان يريد أن يصحح (خطأً شائعاً) وينصف (مظلوماً) ويعيد الاعتبار لـ(ما أهمله التاريخ) الذي خط مساره أمثال المستشرق دي بور... أم أن وراء ذلك دوافع وحوافز أخرى أجنبية عن الإسلام والفكر الشيعي والفلسفة الإشراقية، دوافع وحوافز تحركها -مثلاً- المركزية الأوروبية وتناقضات الفكر الغربي؟».

ثالثاً: من جهة الدوافع والغايات، إن ما يريد الجابري لفت الانتباه إليه والتركيز عليه هو الكشف عن حقيقة الدوافع والغايات في مشروع كوربان، وحسب رأيه فإن هذا المشروع إنما هو نتاج تناقضات الفكر الفلسفي في الغرب، وليس نتيجة الرغبة في خدمة جانب مجهول أو مظلوم في الفكر العربي الإسلامي.

وقد استند الجابري في الكشف عن طبيعة هذه الدوافع والغايات لمشروع كوربان على كتاب أصدره أحد تلامذته ومريديه من بني جلدته هو كريستيان جامبيت بعنوان (منطق المشرقيين.. هنري كوربان وعلم الصور) نشر سنة 1983م، في هذا الكتاب بشر جامبيت -كما يقول الجابري- بالرؤية الغنوصية لكوربان، وشرح إشكاليته الفكرية، والدوافع التي جعلته يرى في الفلسفة الإشراقية في الإسلام معيناً له في خصوماته الفكرية في بلده.

وحسب هذا الكتاب فإن الذي دفع كوربان إلى هذا المنحى الإشراقي والصوفي، مجموعة من الدوافع والمعطيات أشار إليها الجابري، ويمكن تصنيفها وتنظيمها على النحو التالي:

1- الدافع الموضوعي: ويتحدد في طبيعة الأوضاع الموضوعية التي عاصرها كوربان في محيطه الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، وحسب قوله الجابري: إن «المفكرين الغربيين الذين أنتجهم النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بلغ فيها العقل الأوروبي أوج طموحاته فغدا يعتبر نفسه قادراً ليس فقط على السيطرة على الطبيعة بواسطة العلم والصناعة بل أيضاً، على حل مشاكل الإنسانية كلها وتحقيق النصر النهائي للمعقولية في كافة المجالات، مما كان يشكل أبرز مظاهر المركزية الأوروبية في عالم الفكر والثقافة، فإن هنري كوربان ينتمي بالعكس من ذلك إلى فترة ما بين الحربين من هذا القرن، الفترة التي تميزت بوقوع الفكر الأوروبي تحت تأثير نتائج الحرب العالمية الأولى المدمرة، وكابوس الحرب العالمية الثانية قبل وقوعها ثم نتائجها الأكثر تدميراً بعد قيامها... في هذه الفترة، فترة ما بين الحربين، عاشت أوروبا أ.مات نفسية وقلقاً مصيريًّا نتيجة ويلات الحرب وكابوس الحرب، فقامت فلسفات لا عقلانية تهاجم عقلانية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، التي أرسى دعائمها كانط وبلغ بها أوجها هيغل، كما اتَّجه الفكر الأوروبي إلى إبراز جوانب أخرى في الإنسان غير جانب العقل وتضخيم دورها على حسابه، بل وضداً عليه: اللاشعور عند فرويد، معطيات الشعور عند برجسون وجودية ههيدجر وياسبرز... إلخ. ولم يسلم الاستشراق بدوره من تأثير هذه الظاهرة، ظاهرة (الثورة) على العقلانية».

2- الدافع التعليمي: ويتحدد في التأثير الذي تركه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون على كوربان، وحسب قول الجابري: «فإن ماسينيون كان من أبرز الأساتذة الذي أثَّروا في هنري كوربان الشاب ورسموا له خط سيره الثقافي، فهو الذي وجَّهه إلى دراسة ابن سينا والفلسفة الإشراقية في العشرينيات من هذا القرن، ولربما في أفق التخصص في الإيرانيات ضمن مشروع استشراقي يصدر كغيره من المشاريع الاستشراقية عن خلفيات ودوافع ذات علاقة بالتوسع الاستعماري. اتَّجه هنري كوربان في دراسته ذلك الاتجاه فاكتشف شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الحلبي الذي أُغرم به وظل ملازماً له طول حياته».

3- الدافع الأيديولوجي: ويتحدد في الموقف من الخصوم الفكريين الذين ظل كوربان في نزاع معهم في الوسط الفكري الفرنسي، وحسب قول الجابري: «لم يكن هنري كوربان مجرد قارئ ولا مجرد مترجم بل لقد انخرط في الصراعات الفكرية التي عرفتها فرنسا آنذاك، فاتخذ موقفاً معادياً من هيغل صاحب (ظاهريات العقل) و(فلسفة التاريخ) و(فلسفة الحق).. هيغل قمة العقلانية في أوروبا القرن التاسع عشر الذي امتد تأثيره إلى العقود الأولى من القرن العشرين.

ولكي يقاوم هنري كوربان -على الأقل في ذات نفسه- هذا المارد الجبار هيغل اتَّجه -كما يقول تلميذه المشار إليه آنفاً- إلى السهروردي وبكيفية عامة إلى فلاسفة الإشراق في الإسلام «يبحث لديهم عن صور للذاتية غير قابلة للارتداد إلى العام المشخص» الذي يشكل حجر الزاوية في فلسفة هيغل».

4- الدافع الفلسفي: ويتحدد في التوفيق بين فلسفة مشرقيي الشرق، وفلسفة مشرقيي الغرب بهدف إنقاذ أوروبا من أزمتها الفكرية والروحية، وحسب قول الجابري على لسان تلميذ كوربان جامبيت: «إن إحياء فلاسفة أصفهان عمل يهدف إلى جعل القضايا التي طرحوها تعيش بدورها من جديد في قلب العقل الأوروبي. إن الرحلة إلى المشرق تهيئ، حسب هنري كوربان، لعملية تحويل وتغيير في الغرب... وإن أوروبا لا يمكن أن تنقذ فكرها الخاص إلا إذا التقت، خارجها، بمن يكشفون لها ما هو موجود فيها، لا حياة للروح إلا في الوحدة اللامحدودة للحقيقة، إلا في طرح حدود العقل طرحاً فعّالاً من طرف العقل ذاته. إن تسليط الضوء على المفكرين الإشراقيين ليس الهدف منه إضافة نظرية جديدة في (الخيال) إلى النظريات الغربية في المعرفة، بل إن الهدف منه هو مساءلة تصورنا للعالم (نحن الغربيين) ومناقشة بديهياته ومقدماته: لماذا هو واقعي بالنسبة إلينا ما يبدو لنا أنه الواقع؟ لماذا نتعقل الضرورة حسب منطق هو منطقنا؟ لماذا كان ما هو تاريخي وما هو لا تاريخي لا يشكلان وحدة واحدة بل يتمايزان كما يبدوان لنا؟».

وما يخلص إليه الجابري: «من أجل الغرب إذن وبوحي، بل وبضغط، من أزمته الفكرية في فترة ما بين الحربين انصرف هنري كوربان يبحث في (الفلسفة الإسلامية) عن حلول لانعكاسات تلك الأزمة في نفسه. لقد ذهب إلى الشرق يحمل معه أمة الغرب الروحية وصراعاته الفكرية، فراح يبحث في الفكر الإشراقي في الإسلام عن عزاء يقاوم به خصومه في الغرب، وبالذات العقلانية الهيغلية التي وحَّدت ما بين الفكر والتاريخ ونظرت إليهما في صيرورتهما على أنهما تجسيد للمطلق. وقد وجد في فلسفة الإشراق، فلسفة السهروردي وتلامذته، الفلسفة النقيض لفكر هيغل فتمسك بها وانغمس في خيالاتها وشطحاتها.

ولهذا فإن الجابري يرى أن كوربان قد مارس عدواناً وإمبريالية على النمط الهيغلي، ولكن لا على الفكر الغربي بل على الفكر العربي الإسلامي، لأنه في نظره انطلق يؤرخ للفكر الإسلامي من منظور غنوصي وإشراقي، وبطريقة تجعل فلسفة الإشراق السهروردي، الهرمسية الطابع والأصول، هي التجلي الأسمي لحقائق النبوة في الإسلام، مقلداً في ذلك هيغل الذي جعل فلسفته هي التجلي الأسمى لحقائق الفلسفة والدين في الغرب».

- 10 -
مـــوقـف ونــــــقـد

بخلاف الانطباع الذي أشار إليه السيد موسى الصدر، فإني لم أجد في كتاب كوربان تلك المتعة الفكرية، ولم أجد فيه كذلك ذلك الاعتزاز بما أنتجه الشرق، مع اعتزازي الكبير بما أنتجه الشرق، ولم أجد فيه أيضاً ندماً لجهلنا أو تجاهلنا لتراثنا الثقافي والحضاري العظيم، مع ندمي الكبير لجهلنا أو تجاهلنا لتراثنا الثقافي والحضاري العظيم، لكني أتفق مع السيد الصدر في جميع ملاحظاته النقدية.

وبخلاف الانطباع الذي أشار إليه الدكتور غلام رضا أعواني وكان مسروراً به، فإني لم أكن مسروراً بذلك الجهد الذي بذله كوربان في سبيل تقديم الفلسفة الإسلامية، وتعريف حكماء الغرب عليها، وتعريفهم بنهضة التشيع التي لم يهتموا بها كما يجب، وما قصدته تحديداً جهد كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) لأنه قدَّم الفلسفة الإسلامية والفلسفة عند المسلمين الشيعة بطريقة لا نتفق معه فيها، ليس هذا فحسب بل إنه قدَّم تاريخ الفلسفة الإسلامية بطريقة وجدتُ فيها أن ضررها أكثر من نفعها، وليته ما كتب لنا هذا التاريخ المشوَّه والمزعج والضار.

وبخلاف الانطباع الذي أشار إليه الدكتور حبيب فياض وكان مطمئناً إليه، فإني لم أجد في كوربان ما قاله عنه: إنه من بين قلة من الباحثين الغربيين الذين قرؤوا الإسلام كما هو، لا كما تهوى أنفسهم، وبعيداً عن أية مؤثرات خارجية سائدة في البيئة الثقافية الغربية، ولم أجد فيه ما قاله عنه أيضاً من أن نتاجه يشكّل مصدراً معرفيًّا، وملهماً عقائديًّا للمسلمين بمختلف مذاهبهم، وأنه يضع الباحث المسلم أمام منظومة دينية أعيد تشكيلها وترتيبها، ومبتنية على أسس فلسفية محكمة، وفي الوقت نفسه يُفضي إلى محاكمة الوجدان، وتنقية السريرة، وتهذيب الروح، وتثمير العاطفة.

والذي وجدته من خلال كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) أن كوربان قرأ الإسلام بما تهوى نفسه، وجلب معه مؤثرات خارجية فاعلة في بيئته الثقافية الغربية، ولم أجد في نتاجه أنه يمثل ملهماً عقائديًّا للمسلمين، ولا أنه يضع الباحث المسلم أمام منظومة دينية أعيد تشكيلها عن أسس فلسفية محكمة، وما وجدته عكس ذلك تماماً كما تجلَّى عندي من خلال كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية).

كيف نقول مثل هذه الانطباعات وكان كل همّ كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) أن يظهر تارة علاقة الإسلام بالغنوصية، وتارة علاقة التشيع بالهرمسية، وتارة علاقة التشيع بالتصوف، وتارة علاقة التشيع بالنزعة الباطنية، وكتابه في روحه وأطروحته وبنيته قائم على هذا المنحى، وداعٍ إليه، ومُعرِّف به، ومدافع عنه، ومنتقد لمعارضيه، وهذا ما كان يهواه لنفسه فعلاً، وما هو بحاجة إليه في بيئته ومجتمعه.

ومواقفه ونصوصه جلية ومتواترة في كتابه، فعن علاقة الإسلام بالعنوصية يقول كوربان مقرراً ومطمئناً: «ثمة صلة أساسية بين غنوصية فلسفة نبوية ما، وبين ظاهرة الكتاب المقدس المنزل من السماء».

ويقول في هذا النطاق أيضاً: ثمة «أمر مشترك بين الغنوصية المسيحية في اللغة اليونانية، والمعرفة الذوقية والغنوصية في اليهودية والإسلام».

وعند حديثه عن ابن باجه وكتابه (تدبير المتوحد) توقف كوربان عند كلمة المتوحد ورأى أنها تُطلق على الفرد المنعزل، وتطلق أيضاً على مجموعة أفراد دفعة واحدة، فإن هؤلاء يظلون رجالاً غرباء في عائلاتهم ومجتمعاتهم، وهنا يتوقف كوربان عند كلمة الغريب ويرى فيها أنها «من أصل غنوصي قديم، اجتازت أحاديث الأئمة الشيعة، وكثر ورودها في كتاب السهروردي رسالة الغربة المشرقية، ثم ها هي تفضي لنا مع ابن باجه أن الفلسفة في الإسلام لا تنفصل عن الغنوصية إلا بصعوبة».

وعن علاقة التشيع بالهرمسية يقول كوربان جازماً فرحاً: «ليس من العجب أن يكون الشيعة أول من تهرمس في الإسلام». ويرى أن الهرمسية دخلت إلى الإسلام عن طريق الشيعة، وحسب قوله: «يظهر لنا كيف دخلت الهرمسية إلى الإسلام عن طريق الشيعة، ولماذا عرفت فيه قبل أن يعرف قياس أرسطو وما مورائياته».

وهذا ما استند إليه الدكتور الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي) حيث أعطى وصف العقل المستقيل لكل من يؤمن ويقول بالهرمسية.

وعن علاقة التشيع بالتصوف يقول كوربان في كلام له خطير: «يبدو أن التصوف والتشيع باعتبار أن في كليهما تجاوزاً للتفسير الفقهي المحض للشريعة، وصموداً ينطلق من الباطن هما تعبيران عن أمر واحد».

وعن علاقة التشيع بالنزعة الباطنية هو أخطر ما تحدث عنه كوربان الذي أراد أن يقيم فصلاً بين ما يسميه إسلام أهل الشريعة وهو إسلام الظاهر، وإسلام أهل الحقيقة وهو إسلام الباطن، ومنتصراً لأهل الباطن ومدافعاً عنهم أمام أهل الظاهر حيث تساءل: «هل يمكن أن نوقف الدين الإسلامي على التفسير الفقهي الشرعي، أي هل يمكن أن نوقفه على الشريعة والظاهر؟».

ويجيب عن ذلك بقوله: «وحيثما كان الجواب بالإيجاب لم يعد ثمة مجال للكلام عن فلسفة فيه، أم أن هذا الظاهر، هذا الأمر الخارجي الذي يدّعون أنه يكتفي بنفسه في تنظيم الحياة العملية ليس سوى غلاف لأمر آخر، ليس سوى غلاف لباطن ولشيء داخلي؟ فإذا قلنا: نعم، بات كل معنى السلوك العملي متغيراً، ذلك أن نص الدين الوضعي، نص الشريعة، لا معنى له إلا في الحقيقة، أي في الواقع الروحي الذي هو المعنى الباطن للوحي الإلهي».

والدفاع عن النزعة الباطنية هو الذي قاد كوربان إلى تعاليم التشيع التي أساء إليها بشكل خطير حين ظل يصور أن النزعة الباطنية هي أساس التشيع، وأن التشيع في جوهره يمثل باطنية الإسلام، وحسب قوله: «لقد أعطت الفكرة الباطنية التي هي أساس التشيع وأصل بنيانه، أعطت أُكُلها وأثمرت خارج الوسط الشيعي الخاص».

وفي مكان آخر يقول: «أن يكون التشيع في جوهره باطنية الإسلام، فذلك ما يترتب على النصوص نفسها، وعلى تعاليم الأئمة قبل أي شيء».

وفي مكان ثالث يقول: «فالتشيع باعتباره باطنية الإسلام يتمم كل الباطنيات» .

هذا قدر ضئيل من نصوص كوربان المتكاثرة في كتابه، فهل هناك إساءة إلى تعاليم التشيع أشد وطأة من هذه الإساءات، الأمر الذي يقتضي مراجعة الموقف تجاه رؤية كوربان ومنهجه في كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية.