شعار الموقع

في مسألة الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية

إدريس هاني 2012-10-03
عدد القراءات « 851 »

في حوار مع السيد فضل اللَّـه (قدس سره)

أجرى الحوار: إدريس هاني

س: بعد كلّ هذه السنوات من العمل التقريبي والوحدوي الذي شهد فعاليات كبرى منذ قيام دار التقريب بالقاهرة حتّى اليوم، هل أنتم راضون على الأداء؟

ج: لا شكّ في أن هذه العناوين التي أخذت من التقريب شعاراً لعملها قد ساهمت مساهمات إيجابيّة وفعالة تجاه موضوع هو من أكثر المواضيع تعقيداً، نظراً لما حملته الممارسة التاريخية لحركة الاختلاف المذهبي بين المسلمين من تعقيدات وصلت إلى حدّ التكفير.. بالإضافة إلى المشاريع الاستكباريّة التي عملت -ولا تزال- على تغذية كلّ عناصر التفرقة والتباعد بين المسلمين.

إلَّا أنّ مشروع التقريب هو -بطبيعته- مشروع متعدّد الجوانب. وأهمّيته تكمن في النجاح على إيجاد أواصر القربى على المستوى الشعبي، سواء في الجانب الفكري أو الشعوري الوجداني، بحيث يتحرّك المسلمون المتوحّدون حول قضاياهم الكبرى بوحي من هذه القضايا، ولا يكتفون بالشعارات والانفعال بالإثارات الطارئة هنا وهناك.

ولذلك، قد تبدو المشكلة في بقاء كثير من صيغ التقريب في الأبراج العاجيّة، وعدم نزولها إلى الشارع العادي، ما يوحي بأنّ دخول الأطراف في هذه الأطر والصيغ هو أقرب إلى الترف الثقافي والفكري منه إلى التفعيل الجادّ لصيغ الحوار التي تعرّف كلّ طرف واقع الطرف الآخر بالنحو الذي ينعكس على القواعد الشعبيّة لكلّ طرف.

س: أيّ آفاق تستشرفونها للعمل التقريبي، وهل من مستقبل واضح لهذا المشروع؟

ج: من الضروريّ أن ينطلق العمل التقريبي على أساس دراسة الواقع، لا أن ينطلق في آفاقٍ حالمة مثاليّة ترتكز على العاطفة والانفعال، ممّا قد يقودها إلى التبسيط الساذج مع كلّ المشاكل التي تعترض حركة الوصول إلى الهدف، وإلى مواجهة كلّ علامات الاستفهام التي يثيرها الآخرون حول جدّية العمل التقريبي وواقعيّته باعتبارها لوناً من ألوان التشاؤم والانهزاميّة أو العدوانيّة ضدّهم. ولذلك قد نرى من خصائص هذا النمط المثاليّ العمل على إثارة الجماهير بالخطب الحماسيّة والشعارات المثيرة والمهرجانات الصاخبة، ما يجعل الجماهير تصفّق لبلاغة هذا الخطيب، وتهتف لحماسة ذاك القائد.. وهكذا تبقى القضيّة لديهم هدفاً يبحث عن طريق، ودوراً يبحث عن ساحة.

إنّنا نعتقد أنّ الواقعيّة هي التي ينبغي أن تحكم حركة العمل التقريبي؛ لأنّ لكل ظاهرة أسبابها الكافية في الواقع، ولكلّ واقع ظروفه المحدودة بالزمان والمكان والأشخاص، ولكل هدف وسائله ومراحله وآفاقه. ولا يصحّ النظر إلى القضايا بالمنطق التبسيطي السابق؛ لأنّ التاريخ المعقّد الذي عاش المسلمون مشاكله الدامية، وأساليبه المتخلّفه، ومواقعه القلقة، لا يُمكن إلغاؤه بخطبة بليغة أو حركة سريعة؛ إذ إنّ الرواسب التي يتركها في الأعماق، من مشاعر وأفكار وتعقيدات، تخلق حاجزاً نفسيًّا مقدّساً ضدّ الفريق الآخر، وتنقل الصورة -في منهج التفكير- من موقع الاجتهاد في فهم العقيدة أو الشريعة -الذي يفسح المجال لاجتهاد آخر مخالف له، على أساس اختلاف وجهات النظر في فهم المسألة الواحدة- إلى موقع التأكيد على نفي الإسلام عن الفريق الآخر؛ لأنّ الخصوصيّة تحاصر الشموليّة، والجزئيّات تطوّق الكلمات.

إنّ من أولى عناصر العمل التقريبي اعتبار الإسلام قاعدةً للوحدة؛ لأنّنا قد نلاحظ أنّ المسلمين غالباً لا يعيشون الصفة الإسلاميّة كفكرٍ وحركة حياة؛ لأنّهم جعلوا الإسلام يعيش في زاوية ضيّقة، أمكن لهم أن يرتبطوا بأيّ فكر حتى لو كان يواجه الإسلام وجهاً لوجه.. فعلى سبيل المثال، قد يرى المسلم أنّ بإمكانه أن يكون مسلماً وأن يكون شيوعيًّا على مستوى فكريّ، أو مسلماً ووجوديًّا في آنٍ.

وقد نرى هنا ضرورةً لطرح عدّة مداخل ينبغي الارتكاز إليها في صياغة المشروع التقريبي الوحدوي:

الأوّل: التقريب النفسي، عبر العمل على إزالة الحواجز النفسيّة التي تراكمت عبر التاريخ بين المسلمين، سواء عبر لقاء القيادات والنُّخب الثقافيّة والفعاليّات أو اللقاءات العامّة التي تتحرّك في الأجواء الاحتفاليّة المشتركة.

الثاني: التقريب الفكريّ، وذلك بالابتعاد عن منطق تسجيل النقاط الذي طبع السجال الثقافي بين مختلف المذاهب الإسلاميّة، أو الاجتزاء في تناول آراء أو نصوص الطرف الآخر، أو العقليّة الجدليّة التي لا تحاول التدقيق فيما ينفع الخصم، بل كلّ ما عندها أن تدقّق فيما ينفع فريقها وإن لم تلتزم به، ما نتج عنه أحكام متنوّعة من التفسيق تارة والتضليل أخرى، وصولاً إلى التكفير ثالثة.

وقد نجد في هذا المجال أنّ علينا -كعلماء ومفكّرين- أن نبحث عن أسس الخلاف والوفاق، من خلال البحث عن المصادر الأصيلة التي يمكن أن يعتمدها الفريقان أو الفرقاء في قبول رأي أو رفضه، لنصل من خلال ذلك إلى القاعدة الفكريّة الموحّدة التي يُمكن أن تحكم أصول التقويم للمصادر، في سندها ودلالتها، ثمّ نبحث في المصادر التي نختلف عليها، لنعرف ما هي أسس اعتماد هذا الفريق عليها دون ذاك، ولندقّق في مدى اعتماده عليها من ناحية المبدأ والتفاصيل، لئلا نقع في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون، من نسبة قول إلى شخص لم يقله، أو نقل فكر عن شخص لم يلتزم به.

وسيقودنا ذلك إلى اكتشاف الحقيقة العلميّة الواقعيّة، وهي أنّ مواطن اللقاء بين المسلمين تصل إلى نسبة ثمانين في المئة؛ لأنّ اختلاف الاجتهاد لدى الشيعة الآن، ولدى السنّة في الماضي، استطاع أن يحمل إلينا تنوّعاً في الآراء لدى الفريقين، بحيث لا ترى رأياً في الفقه الشيعي إلَّا وترى ما يقابله في الفقه السنّي، والعكس صحيح أيضاً. وقد عاشت جامعاتنا العلميّة في النجف وقمّ والأزهر هذه التجربة في الدراسات المقارنة من ناحية المبدأ، وينبغي العمل على تطويرها في المستقبل.

وربّما نحتاج -عند هذا المدخل- إلى التأكيد على ضرورة تأصيل المفاهيم العامّة لبعض القضايا المهمّة، كمسألة التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، والهدى والضلال، والعدالة والفسق، والتي يكثر الحديث عندها لدى المسلمين، فيما قدّ يتّهم بعضهم بعضاً بالشرك تارة، وبالكفر أخرى، وبالمروق عن الدين ثالثة، وذلك من خلال ما يحملونه من آراء حول مفهوم الكفر والشرك، أو ما يعتقدونه من معتقدات، دون إفساح المجال لهم ليوضحوا فكرتهم ويناقشوا فكرة الفريق الآخر.

الثالث: التقريب السياسي، وذلك في الساحات التي تتحوّل فيها المذاهب، أو الطوائف إلى كيانات مستقلّة في قضاياها ومصالحها، وفي حركة الحاضر والمستقبل، أو الساحات التي تأخذ فيها الدولة بُعداً مذهبيًّا طائفيًّا يضغط على شعبه، أو شرائح منه. وذلك أنّ هذا التشرذم السياسي يشكّل أرضيّة خصبة تعمل المحاور الدوليّة والإقليمية على الاستفادة من سلبياتها لتحويل التنافر إلى صراع طائفي، لتضع أكثر من قضيّة سياسية في نطاق الصراع المذهبي، في الوقت الذي نعلم فيه أنّ موضوع السنّة والشيعة -مثلاً- بمدلوله الفقهي، لا دخل له في كلّ ذلك.

قد لا يكون من الواقعيّ -أمام ذلك- أن نطلب من المسلمين إلغاء كلّ فرقة منهم لخصوصيّاتها المذهبيّة، ولكنّنا نثير في الجوّ ضرورة العمل على إيجاد حالة وحدويّة من خلال القضايا المصيرية التي يعيشها المسلمون على مستوى ما يمثّله الوجود الإسلامي مقابل أيّ وجود آخر، سواء فيما يتحرّك في داخل أيّ بلد أو خارجه على مستوى قضايا المنطقة والعالم، وذلك بمحاولة ربط هذه القضايا بالمبادئ والقيم الإسلاميّة السياسية والاجتماعيّة في الحياة، لتتحوّل هذه الحالة الوحدويّة إلى حالة إسلاميّة عميقة في وجدان كلّ مسلم، ليكون ذلك أساساً للبحث في المواضيع الواقعيّة المختلف عليها، بعيداً عن الحواجز النفسيّة؛ لأن وحدة الموقف السياسي في بعض المواقع، عندما تمتزج بالحالة الإيمانيّة الوجدانيّة الملتزمة بخطّ الإسلام في أجواء التقوى، سوف تسهّل الكثير من الحلول للمشاكل العالقة في الساحة.

س: إذا حصرنا النقاط في الأسباب الداخليّة لهذا التشرذم الطائفي والعرقي في العالم الإسلامي، ما هي العوامل الداخليّة التي تحول دون إنجاح رسالة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة والوحدة بين المسلمين؟

ج: لعلّ من بين مشاكل التقريب تكمن في ذهنيّة المسلمين الثقافيّة، ذلك أنّ التربية العامّة والخاصّة تؤكّد على الشخصيّة المذهبيّة في انتماءاتها قبل التأكيد على الشخصية الإسلاميّة العامة؛ فالمسلم السنّي يولد سنّيًّا في طفولته وشبابه، ويعيش مفردات المذهب المليئة بالحساسيّات والتعقيدات المختنقة بالزوايا المغلقة للتاريخ الغارق في عصبيّاته، وبذلك ينطلق في علاقته بالمسلم الآخر ونظرته إليه من كلّ هذه الأجواء السلبيّة التي تفرضها التربية العامّة والخاصة. والمسلم الشيعي يتحرّك في الخطّ نفسه انطلاقاً من شيعيّته. وهذا ما يساهم في إبعاد المسلمين عن الانفتاح على الإسلام في الأفق الواسع والساحة الممتدّة، سواء في أفكاره وأهدافه، أو في قيمه الأخلاقيّة وحركته الشاملة في العالم كلّه، وفي أساليبه الحواريّة الوحدويّة.

وقد يتحوّل هذا المسار -بفعل الحالة الشعوريّة الحادّة، والاستذكار التاريخي الدائم للمشاكل المتنوّعة، والممارسة اليومية للانفعالات القاسية- إلى تراكمات عقليّة ونفسيّة وتعقيدات عمليّة، تؤدّي إلى أن يتحوّل المذهب إلى دين مميّز بالمستوى الذي قد يعيش فيه المنتمي إليه ثقل الشعور العدواني ضدّ الدين - المذهب، بحيث يجد في وعيه الذهني والشعوري العذر للِّقاء بأتباع الأديان الأخرى في مواقع اللقاء بما لا يجد العذر فيه للِّقاء بأتباع المذاهب الأخرى في دائرة الإسلام، تماماً كما هو شأن اليهود الذين كانوا يعتبرون المشركين {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا}.

ولعلّنا نستطيع أن نشير إلى جُملة من النقاط التي تلعب دوراً سلبيًّا في تأكيد الوحدة:

أوّلاً: غياب المنهج القرآني في الحوار مع المسلمين من المذهب الآخر، من خلال العناوين العامّة في التخاطب والجدال ومواجهة المشاكل في ساحة الخلاف، ومناقشة الخلافات على ضوء الثوابت الإسلاميّة، فيما جاءت به الآيات الكريمة: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، وقد بلغ الأسلوب الحواري القرآني الذروة في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، ليوحي بأنّ مسألة الخلاف الفكري بين خطّ الهدى وخطّ الضلال يفترض أن يبتعد عن الأحكام الحاسمة السابقة، وعن الجوانب الذاتيّة، ليتحوّل إلى حوار بين فكر وفكر، من دون أن يكون للواقع الانتمائي إلى هذا أو ذاك دور في الحوار.

ثانياً: الأخذ بالأساليب العدوانيّة في الشتم والسبّ والاتهامات غير المدروسة وغير الخاضعة للدقّة والحساب، ممّا يزيد من هوّة الخلاف، ويمنع من وجود أي ظروف حواريّة هادئة. وقد قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، فإذا كانت القضيّة المطروحة -في الآية- قضيّة خلاف بين الشرك والتوحيد، فلا ينبغي أن يكون السباب هو أسلوب التعبير عن الرفض، أو وسيلة المواجهة في الصراع، بل لا بدّ أن تنطلق الأساليب في دائرة الحجّة والبُرهان من أجل تكوين القناعات على أساس ثابت؛ لأنّ مسألة السباب لن تؤدّي إلى أيّ نتيجة حاسمة، بل إنّها تزيد الأمور تعقيداً، ما قد يفسح في المجال أمام المزيد من الخصومات والحروب الساخنة. وقد عالج الإمام عليّ (عليه السلام) هذه النقطة بالطريقة التي تجعل للخصوصيّة الإسلاميّة -في خلافات المسلمين- معنىً روحيًّا عميقاً عالياً لا يغيب عن وعي المسلم حتى لو وصل الخلاف إلى مستوى الحرب؛ فقال -وقد سمع في صفّين قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام-: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».

ثالثاً: منهج التكفير الذي تأخذ به بعض الجهات، ما يُدخل مسألة الخلاف في بُعدٍ خطير جدًّا. ولعلّ هذا الأمر ممّا يُشكّل إحدى أهمّ المنافذ التي يتحرّك من خلالها المستكبرون، على مستوى الجهات والدول، لتغذية عناصر الفرقة، عن طريق سفك الدم الحامي، والذي يأخذ بُعداً طائفيًّا، خصوصاً في ظلّ السكوت عنها الذي قد يراه البعض مصلحة مذهبيّة كردّ فعل على أوضاع مذهبيّة أخرى.

لذلك نرى أنّ من الضروريّ أن يتمّ الإعلان بصراحة ووضوح عن رفض المسلمين جميعاً لهذا المنهج في استحلال دماء المسلمين، حتى يرى التكفيريّون أنّهم معزولون إسلاميًّا، وتُحمى -بالتالي- قضايا المسلمين الكبرى والمشتركة من عدوانهم وعبثهم، ما يحمي -تالياً- كلّ مشاريع التقريب على مستوى الحاضر والمستقبل.

إنّنا أمام هذا المنهج الذي دخل قويًّا إلى أكثر من ساحة إسلاميّة، نستذكر قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، لنقول: إنّ مثل هذه القضايا ينبغي أن تُعالج بحسم؛ لأنّ خطرها سوف يمتدّ إلى كلّ الساحات، حتى التي تلتقي معها في عنوان المذهب؛ لأنّ المسألة مسألة نمط خاصّ في التفكير، والذي يُنتج نزوعاً حادًّا في تكفير كلّ مختلف، الذي قد يكون مرحليًّا من المذهب الآخر، فيتحوّل في مرحلة أخرى إلى المذهب نفسه. وقد رأينا في العراق قريباً بعضاً من هذا.

رابعاً: لعلّ إحدى أهم المشاكل التي تواجه مسألة الوحدة الإسلاميّة -من الناحية العمليّة- هي الجدليّة الحاصلة بين النُّخبة التي يقع على عاتقها تحريك المشروع الوحدوي وبين الجماهير التي من المفترض أن تتمثّل هذا المشروع في ثقافتها وحركتها الخاصّة والعامّة. ومقصودنا بالجدليّة هي أنّ القيادة تتحرّك في توجيهاتها للقاعدة، وحتّى في صياغة مفردات المشروع الوحدوي، وفق ما تستسيغه الجماهير التي نعرف أنّها تقع تحت مؤثّرات العاطفة والانفعال بشكل وبآخر، خصوصاً وأنّ التراكم التاريخي للخلاف بين المسلمين يتكفّل بإبقاء جذوة هذه المؤثّرات حامية.. بحيث يُصبح المطلوب والملحّ في حركة النخبة هو ألَّا تقع تحت تأثير الرفض الجماهيري تجاه أطروحات تصطدم مع هواها، ما قد يُفقد النخبة شرعيّتها من حيثُ امتدادها الجماهيري.

ولذلك قد نجد أنّ النُّخبة تلجأ أحياناً إلى نوع من التسوية في هذه المسألة، بحيث تُفهم قواعدها الشعبيّة أنّ المشروع الوحدوي تفرضه الظروف الآنيّة، كجزء من حركة الشكل الوحدوي أكثر منه في المضمون، ما يُدخل مسألة الوحدة الإسلاميّة في إطار المجاملات الاجتماعيّة التي تقترب أحياناً من النفاق والرياء وما أشبه ذلك.

لذلك نرى أنّ من الضروري أن تقتنع النخبة بمشروع الوحدة الإسلاميّة، كحقيقة يفرضها واقع الاختلاف بين المسلمين، لا تعني التنازل عن مبادئ أيّ من أطرافها، بل تفعيل اللقاء على العناصر المشتركة الذي يشكّل الحركة الطبيعيّة تجاه محافظة كلّ فريق على مصالحه النابعة من عنوانه الإسلاميّ العريض المشترك.

ومن هنا، فقد يبدو أنّ على النخبة ألَّا ترضخ في قناعتها بالمشروع لهوى القاعدة؛ لأنّ هوى القاعدة لا يفترض أكثر من تنويع أساليب الطرح، طولاً على مستوى المراحل الزمنيّة، وعرضاً فيما يتّصل بتنوّع الثقافات والظروف التي تعيشها القاعدة والتي تفترض تنوّع أساليب الطرح.

س: هل ما هو معروض اليوم من أفكار تقريبيّة ووحدويّة جامع مانع لتحقق الغرض، أم أنّ العمليّة تتطلّب تفكيراً جديداً يتطوّر بتطوّر الأحداث؟

ج: من الطبيعيّ أن اختلاف الأوضاع والاهتمامات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة تؤثّر في طبيعة المؤثّرات التي تخضع لها الجماهير تجاه الأفكار والمشاريع التي تقدّم لها، خصوصاً أمام التحدّيات الكبرى التي تواجه المسلمين اليوم، في وجودهم ومقدّساتهم وسياساتهم ومناهجهم الثقافيّة والتربويّة، بشكل لم يسبق له نظير في كلّ تاريخ المسلمين، في تنوّع الأساليب وحجم تأثيرها، من جهة، والتطوّر الثقافي والفكري الذي أنتجته المذاهب الإسلاميّة -على تنوّعها- تجاه جُملة من القضايا الخلافيّة، والتي أصبحت معها بعض نقاط الخلاف كذلك على مستوى الشكل والنزاع اللفظي الاصطلاحي فقط، من جهة ثانية، تفترض القفز على بعض النقاط، للبحث عن النقاط الفاعلة على مستوى التحدّيات الكبرى التي يواجه الاستكبار بها المسلمين جميعاً دونما نظر إلى تنوّعهم المذهبيّ، بهدف تحصين الواقع الإسلامي العام أمام خطط الاستكبار، مع الإبقاء على تحريك مسألة الوحدة في بُعدها الثقافي في دوائرها المختصّة، في شكلٍ من توزيع الأدوار بين مختلف مجالات المجتمع الإسلامي. وقد أشرنا في بعض ما تقدّم إلى ما يتّصل بتغيّر الأوضاع السياسية وغيرها، مما ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار في صياغة أي مشروع للتقريب والوحدة.

س: ما حدث في العراق، هل هو يبشّر بنضج الأمّة تجاه محاولات الزجّ بها في أتون الصراعات الداخليّة والحروب الأهليّة، أم أنّ المشهد العراقي كان أضعف من أن يواجه تحدّي الصراع الطائفي؟

ج: لقد ذكرت مراراً أنّ طبيعة التداخل الذي يعيشه المجتمع العراقي، بين سنّة وشيعة، قد خلق نوعاً من التماسك الاجتماعي القويّ ضدّ عمليّات إثارة الفتنة والتفكيك. ولكنّنا نرى أنّ المشروع الاستكباري للمنقطة، وخصوصاً الأمريكي، يعمل على إثارة الفتنة، عبر إفساح المجال للتكفيريّين للعمل بحريّة في قتل الأبرياء، وتدمير المقدّسات، واغتيال الشخصيّات، ما يجعل التنوّع المذهبي في العراق مهدّداً بأن يتحوّل -لولا حرص أبنائه- إلى انقسامات حادّة، يجتذب الفعل فيها ردّات فعل، على أرضيّة منهج التكفير الذي قد يتغذّى من جهات خارجيّة أو داخليّة، والذي نعتقد أنّه هو الخطر الذي يطرق على حديد الوحدة العراقيّة، حتى يفلّ من العزيمة ويُضعف من التماسك.

ولذلك، وعلى أساس ما أثرناه في جوابنا عن السؤال السابق، يبدو جليًّا تحديد الأولويّات على مستوى الوحدة، وأهمّها مقاومة الاحتلال الذي لا يهمّه إلَّا تحقيق مصالحه؛ باعتبارها إحدى أهمّ القضايا الكبرى المشتركة بين العراقيّين، والتي تُلقي بظلالها على حاضر العراق ومستقبله، بل على حاضر المنطقة ومستقبلها، وإنّ التلاقي حولها -ولو من خلال توزّع الأدوار- يُبعد عناصر الخلاف والفرقة عن البروز بقوّة في الساحة، ويسحب البساط من تحت أرجل الكثيرين الذين يعملون على تحريك الفتنة بين أبناء المسلمين.

س: إذا كان المتشبّثون بالفرقة يستندون إلى حجّية القطع بموقفهم باعتبارهم قاطعين بضلال الغير. كيف نعالج هذه الإشكاليّة الكلاميّة - الأصوليّة؟ وهل حجّية القطع مفتوحة وموسّعة إلى الحدّ الذي يصل إلى هدر الدماء البريئة وقتل النفس المحترمة؟

ج: من الناحية الثقافية الفكريّة، فإنّه ليس من العمليّ مناقشة هذه المسألة مع الأطراف التكفيريّة إلَّا بمقدار ما تنفتح هي على الدخول في حوارٍ يطال مقدّمات القطع الذي على أساسه يستبيحون الدماء، وذلك بإثارة كلّ القواعد التي استنبطوها بشكل خاطئ، والمنهجيّة التي يحرّكون الفكر على أساسها.

ولعلّ من الضروريّ هنا أن تتحرّك الخطوط المعتدلة، سواء لدى السنّة أو الشيعة، في سبيل إظهار البراءة من كلّ المحسوبين على هؤلاء أو هؤلاء من التكفيريّين؛ حتى يكونوا جماعات لا تملك امتداداً شرعيًّا في الواقع الإسلاميّ.

س: كيف نستطيع كلاميًّا وأصوليًّا دفع مغالطات وشبهات الفكر التكفيريّ وثقافته التدميريّة؟

ج: كما قُلنا، فإنّ هذا الأمر لا بدّ أن يخضع للأسس التي ترتكز عليها أفكار التكفيريّين، ومحاولة إرجاعها إلى الثوابت الأساسية الواضحة، والتي لا تقبل تأويلاً ولا تبديلاً.