شعار الموقع

خطوات عملية في سبيل الإصلاح والتجديد (قراءة في كتاب)

محمد تهامي دكير 2012-10-03
عدد القراءات « 1005 »

قراءة في كتاب: محمد حسين فضل اللَّـه العقلانية والحوار من أجل التغيير.

الكُتَّاب: مجموعة من المؤلفين.

الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.

الصفحات: 415 من القطع الوسط.

سنة النشر: ط1 - 2010م.

 

من التنظير إلى العمل والمعايشة

ما يميز المشروع النهضوي- التجديدي للسيد محمد حسين فضل الله، كما تجلى وتجسدت معالمه في كتاباته وخطبه ومحاضراته ومواقفه وفتاواه- هو عدم استغراقه في التنظير الفكري البعيد عن الواقع، وإنما القدرة على الجمع بين التنظير الفكري إلى جانب الممارسة العملية، والانخراط في معايشة هموم الواقع ومعالجة تحدياته. بل نستطيع أن ندَّعي أن قسماً كبيراً من مشروعه الفكري النظري، جاء استجابة للواقع وللمعايشة والمكابدة اليومية، سواء في تطبيقه للفقه وإنزال أحكامه على الواقع –باعتباره مرجع تقليد ومجتهد متصد للشأن الديني– أو من خلال جهوده التجديدية لإخراج الأمة من حالة الجمود الفكري والتخلف الحضاري إلى حالة النهضة والتغيير، وكذلك في ممارسة الحوار مع الآخر داخل الدائرة الإسلامية وخارجها، أو في مواجهة الاستعمار الغربي وأطماعه في فلسطين.

هذه الواقعية في ممارسة التغيير عن طريق الإصلاح والتجديد، تجلَّت بوضوح في كتابات المرحوم السيد محمد حسين فضل الله، في خطبه الأسبوعية، وفي دروسه الحوزوية، وفي علاقاته الواسعة بالأوساط السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية العامة.

وهذا ما استطاعت فصول هذا الكتاب ومباحثه أن تُسلِّط الضوء عليه بشكل كبير إلى حد ما.

الاجتهاد وحاكمية القرآن

ففي مجال الاجتهاد استطاع السيد فضل الله –باعتباره مجتهداً ومرجعاً للتقليد– أن يخطو خطوات مهمة في مجال توجيه الاجتهاد الفقهي نحو الإهتمام أكثر بالقرآن، والعودة إلى مرجعية القرآن الكريم، بعدما اكتشف القصور في المنهج الاجتهادي القديم. حيث اقتصر الفقهاء عموماً على الآيات القرآنية التي عالجت جوانب تشريعية بشكل مباشر دون غيرها، إلى درجة حصر معها الفقهاء آيات الأحكام في خمسمائة آية فقط.

وهذا الاتِّجاه رفضه السيد فضل الله، لأن القرآن في نظره انطلق في حركة الدعوة ليؤصل القواعد في دائرتها الواسعة، لذلك عد السيد فضل الله جملة من الآيات الكريمة ضمن القواعد العامة، لأنها تشكل مرجعاً تشريعيًّا لعدد من الأحكام.

وقد قدَّم السيد فضل الله نماذج كثيرة على ذلك، نذكر منها آية العقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حيث اعتبرها «تؤسس حرية التعاقد في الإسلام بما يمنح العقود المستجدة كعقود التأمين مثلاً، شرعية تشريعية من دون المحاولات التي يجريها بعض الفقهاء، في إرجاعها إلى عقود لها مسميات سابقة كالجعالة أو الإجارة..» (ص58).

لقد أكد السيد فضل الله على حاكمية القرآن، وهذا يعني «أن ورود القرآن مورد القاعدة في موضوع معين يجعلنا نخضع السنة لمدى الدلالة القرآنية وليس العكس، لأن التطبيق عرفاً يفهم منه العنوان المطبق..» (ص 61).

وكذلك الأمر بالنسبة لمسألة البلوغ، فالسيد فضل الله دعا إلى التقيد بالعنوان القرآني، لا أن تتم توسعة البلوغ إلى ما لا يتحقق معه ذلك العنوان، كما قرَّبه الفقهاء فيما سمي باب الحكومة.

وفي إطار التطبيق الفعلي لحاكمية القرآن، أشار السيد إلى معنى آخر للحاكمية، ويتمثل في عدم مخالفة منطوق القرآن. وهذا المنهج دفع بالسيد إلى رفض الالتزام بعدد من الأحاديث والروايات لأنها تصطدم مع المفاهيم القرآنية. كما رفض السيد الحيل الشرعية.

وفي مجال الاجتهاد أيضاً انتقد السيد «طريقة الفقهاء في الأخذ بإطلاقات العناوين الواردة في الروايات الفقهية» (ص74). كذلك أشار السيد إلى أهمية إدخال العنصر التاريخي في الاجتهاد لفهم بعض الأحكام والتشريعات الواردة، واعتماد البعد التاريخي لترجيح بعض وجهات النظر. ومن خلال ذلك خالف السيد مشهور الفقهاء بأن المرأة لا ترث من زوجها العقارات، فأفتى بأن ترث المرأة من كل شيء تركه زوجها.

بالإضافة إلى إعطاء الاعتبار للواقع في المسائل الفقهية والبعد عن النظرة التجريدية أو الافتراضية التي لا واقع لها، كما دأب على ذلك بعض الفقهاء (ص87).

تميز منهج السيد كذلك بالاهتمام بالمعطيات العلمية والحقائق التي ثبتت علميًّا وليس النظريات العلمية. لذلك نراه يعتمد علم الفلك في إثبات ولادة الأشهر القمرية، لأن العلم والأجهزة المتطورة في علم الفلك تستطيع أن تقدم معطيات دقيقة تثبت رؤية الهلال أفضل بكثير من الرؤية البصرية.

القرآن منهج حياة وحركة

في مجال التفسير كان للسيد تجديدات على مستوى منهج القراءة للنص القرآني وطريقة التفسير، وقد ظهر ذلك في تفسيره الكبير (من وحي القرآن) حيث نجده يناقش –في سياق التفسير للآيات الكريمة– الكثير من القضايا والمسائل العقائدية والفقهية والفكرية وأثناء ذلك يقدم رأيه المستوحى من تلك الآيات، وبذلك يقوم باستنطاق القرآن ليقول رأيه في القضايا المستجدة من خلال ما يسميه الإيحاءات؛ «لأن كل كلمة –كما يقول السيد فضل الله- تحمل في كل تاريخ استعمالاتها الكثير من الإيحاءات.. من هنا اعتقد أنه يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة (عليهم السلام) يستوحونه.. فالإمام الباقر (عليه السلام) عندما يتحدث عن الآية القرآنية {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، يقول (عليه السلام): تأويلها الأعظم: من نقلها –أي النفس- من ضلال إلى هدى».

ومن خلال تفسيره (من وحي القرآن) يبدو للباحث أن منهج السيد في تفسيره يرتكز على عناصر هي: استقلالية القرآن، الظهور القرآني، السياق القرآني، الاستيحاء.. وقد تحدث الكتاب عن هذه العناصر بالتفصيل.

التجديد في القضايا المعاصرة

في معالجته للقضايا المعاصرة تظهر بوضوح جهود السيد فضل الله التجديدية، بالإضافة إلى اكتشاف مقدار اهتمامه بقضايا الأمة الرئيسة، أي هموم التغيير والإصلاح للخروج من حالة التخلف، ومواجهة الاستعمار بكل أشكاله، والعمل للوصول إلى حالة الاقتدار السياسي والاقتصادي والعلمي والفكري.

من القضايا التي ناقشها السيد وأبدى فيها رأيه بوضوح وتحدَّث عنها في أكثر من كتاب ومحاضرة ودرس حوزوي، قضية العقل والعقلانية، والرد على اتهام الدين بعدم العقلانية.. في هذا الموضوع يؤكد السيد أن القرآن الكريم يخطط في المنهج الإسلامي لصنع العقل وتنميته وتطويره ومنحه الحرية الكاملة، في أن يفكر في كل شيء، ولم يجعل له آفاقاً ضيِّقة يُحشر في داخلها.. بل قال له: كن حرًّا، فكِّر فيما تريد، ليست هناك حدود لتفكيرك، فكِّر في صنع الله، فكر فيما يقوله الآخرون وما يقولونه، ولكن تحمل مسؤولية فكرك.. من هذا الموقف من العقل ومن التفكيرالعقلي يدعو السيد لممارسة التفكير العقلاني في الكثير من القضايا والأزمات والمشاكل التي يُعاني منها المسلمون والواقع الإسلامي، لأن الحلول لجميع هذه المعضلات تمر عن طريق التفكير العقلاني، لذلك يدعو السيد إلى عقلنة مجمل الحياة الاجتماعية، وأن نعيد النظر في كل المسلمات، وأن نبتعد عن الانفعالات العاطفية والعصبيات الغريزية.

أما أهم ما يُلاحظ على منهجية السيد فضل الله في تناوله لقضايا الحياة المعاصرة على تنوعها واختلافها وتناقضاتها وتعدد مشاربها، أن السيد يركز على العقل المتفاعل مع النص، فتراه يستخدم سلطة العقل لتفسير النص وشرح مضامينه والنفاذ العميق إلى جوهره وحقيقته. والمهمة الأخطر والأهم للعقل، وللتفكير العقلاني الذي يمارسه السيد فضل الله في تفسيره للنص ووعيه لقضايا الحياة استنادا للنص المفسر عقليًّا؛ أنه يُشكِّل مصفاةً للنص ومعياراً في قبوله أو رفضه إن لم يكن النص ذا مستند قطعي، أو تأويل إن كان كذلك..(ص224).

كيف ندرس التاريخ وكيف نتعاطى مع وقائعه؟

يُشكِّل التاريخ معضلة المعضلات في الواقع والفكر العربي والإسلامي، فوقائعه الماضية -بانتصاراتها وهزائمها معاً- لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على الواقع، ما يجعله أسيراً لهذه الوقائع التاريخية، بل إن استحضار بعض الوقائع والأحداث والمحطات المظلمة والسوداوية في تاريخ المسلمين، يجعل الواقع يعيد إنتاجها من جديد بعناوين جديدة، ما يُؤدي إلى إحياء النزاعات القديمة بل التحارب والتنازع من وحي التاريخ، ما يزيد الواقع العربي والإسلامي تردياً وسوءاً وتمزقاً.

لذلك تصدى السيد فضل الله بجرأته وشجاعته المعهودة ليقف من التاريخ الإسلامي ومن بعض وقائعه ونصوصه موقفاً نقديًّا، داعياً إلى مراجعة الكثير من الأخبار والمسلمات والمشهورات مما تم تداوله في أمهات الكتب، وتداوله الناس بالتصديق والاعتقاد والتسليم، داعياً إلى التشكيك المنهجي فيها ونقدها وإعادة النظر والبحث فيها وكشف تناقضاتها ولا عقلانيتها، وأخذ العبر والدروس منها، بدل إعادة إنتاجها بلباس ومبررات جديدة وملتبسة.

لقد كان السيد (رحمه الله تعالى) ينظر إلى التاريخ لا كمقدس واجب الاتِّباع بالمطلق، ولا كصنم مطلوب منا أن نتعبد في محرابه، ولا كنص مغلق غير قابل للتحليل والتأمل، بل أحداث ورموز فيها المصيب والمخطئ، والغث والسمين، وفيها الميت والحي الدائم الحضور..(ص229).

لذلك لابد من دراسة التاريخ بموضوعية علمية ومنهج نقدي، وإعادة تقويم ودراسة جميع مراحل تاريخ هذه الأمة، بتجرد، كي نستفيد فعلاً من تاريخنا ونتجنب التأثيرات السلبية لبعض الوقائع والأحداث على واقعنا.

والسيد كعادته، لم يكتفِ بالتنظير في هذا المجال والطلب من الآخرين أن يمارسوا هذا المنهج، بل قام بتطبيقه، فكتب وتحدَّث عن وقائع ومسلمات تاريخية، ناقداً ورافضاً ومفسراً.. ما جعله عرضةً لسهام حراس التاريخ والمذاهب، والفئات المنتفعة من استمرار الواقع كما هو عليه، ومَنْ يستثمرون في بعض الوقائع التاريخية لتمديد حالات النزاع والخصام والكراهية بين المسلمين.

الحوار وضرورة الانفتاح على الآخر

أما بالنسبة للحوار، فالسيد فضل الله باعتراف خصومه كان رجل الحوار بامتياز، كتب عن الحوار وأصَّله قرآنيًّا في كتابه (الحوار في القرآن: قواعده، أساليبه، معطياته) وهو من أهم وأوائل الكتب في هذا المجال.

ولم يكتفِ بالكتابة والدعوة إلى الحوار بل مارسه في يومياته وحركته الدؤوبة، واعتبره الطريق العقلاني للعلاقة مع الآخر، ومفتاح الانفتاح على الآخر المختلف داخل الدائرة الإسلامية وخارجها، وبين جميع المكونات الاجتماعية والدينية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي. الحوار في نظر السيد فضل الله هو المنهج والمنطلق لعلاج الكثير من المشاكل والتشنجات والأزمات التي يتخبط فيها واقعنا، وقد قدَّم السيد نفسه كنموذج للعالم والفقيه والباحث المحاور الذي لا يخشى من الحوار ولا من نتائج الحوار، بل لا بد من الحوار ولو كان سيؤدي إلى بعض الخسارة لشيء ما، لأن الأمة التي يتحاور أبناؤها بينهم ومع مخالفيهم، أمة ستعرف طريقها نحو الحياة والتقدم، الحوار هو طريق التغيير والصلاح والنهضة، وقد كان السيد رجل الحوار بامتياز...

هذه قراءة سريعة في فصول هذا الكتاب لا تغني -طبعاً- عن قراءته، لأن هناك قضايا وموضوعات متعددة لم نتطرق لها في هذه القراءة المقتضبة، عالجها كُتَّاب هذا الكتاب وتحدثوا عنها بالتفصيل.