«إن الفلسفة اليوم كلها سياسية وكلها تاريخية. إنها السياسة المحايثة للتاريخ والتاريخ الضروري للسياسة».
ميشال فوكو(1926 - 1984م)
الملخص
اشتهر محمد أركون بالإسلاميات في العالم الغربي، ولكن اللامفكر فيه في مؤلفاته هو موقفه السياسي السلبي إزاء وطنه الأصلي بالمقارنة مع دفاع سارتر وفرانز فانون والأب برينغر، ورون هالبير عن الجزائر ثورةً ومشروعاً للتنمية.
وهذه المقارنة لصيرورة شخصيته مع نضال هؤلاء الذين استجابوا لنداء الضمير الإنساني، تُلزمنا بمراجعة مفهوم الشخصية كما فكَّر فيها محمد عزيز الحبابي في كتابه من (الكائن إلى الشخص)، وما أبدعه من مفاهيم عبدالمجيد مزيان، وما اقترحه عبدالله شريط من نقد للأيديولوجيا.
عاش ومات محمد أركون (1928 - 2010م) قد يُخلِّده التاريخ كمفكر للإسلاميات التطبيقية ولمشروع أنسنة الفكر الإسلامي والدعوة للتجديد المنهجي في معرفة التراث العربي - الإسلامي، ولكن هذا التاريخ ذاته قد يُحاكمه عن موقفه من إضراب الطلبة في 19 مايو 1956م والالتحاق بالثورة الجزائرية، عملاً بالمبدأ «لن تجعلنا الشهادات جثثاً أفضل»، لأنه كان يدرس بإحدى ثانويات ستراسبورغ بفرنسا بين 1956 و 1959م ثم بثانوية فولتير بباريس بين 1959 و 1961م. وفي هذا السياق النقدي نتساءل -على طريقة أبي حامد الغزالي- عن قيمة العلم بلا عمل وقيمة العمل بلا علم، لعلنا نكتشف كيف فكَّر أركون، ولمن فكَّر، وقيمة إنتاجه الفكري.
درس في السربون وَوُظِّف فيها عام 1968م، وفي هذا التاريخ الرمزي لانتفاضة طلبة فرنسا، نذكر ما كتبه زكي نجيب محمود عن دور طالب الفلسفة في المجتمع في كتابه (هموم المثقفين)، ومحاضرة مالك بن نبي في رسالة الطالب المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، قبل أن نتحدَّث عن نظرية الالتزام والمثقف العضوي بالمعنى الغرامشي، ودفاع سارتر وفرانز فانون والأب برينغر عن الوجود الجزائري، وأمثالهم من أصحاب الضمائر الحيّة المناهضة للاستعباد والاحتلال وتدنيس كرامة الإنسان. لأن الوعي التاريخي الذي يدعونا إليه في مقدمة رسالته في الدكتوراه، وبالتحديد في طبعتها العربية: «فقد كتبت أطروحتي في ظروف معينة، أي في السياق العلمي والفلسفي والسياسي للستينات. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن حصلت أشياء كثيرة في مجال البحث العلمي. ذلك لأنه تفصلنا عن تلك المرحلة مدة ثلاثين سنة»، يقتضي منّا التمهيد لعلاقة المفكر بروح العصر، أَوَلَيس ماهية الفلسفة إلَّا فكراً مستوعباً للعصر حسب الرؤية الهيجلية؟
كان أركون يبحث في المعنى الإنساني وهو يعيش في حالة اغتراب، لأن باريس الثقافية يومها أعلنت موت الإنسان، وكأن أسوار العصر الوسيط الذي أنتج الجامعة جعلته مهزوماً في ذاته، فلم يرَ قيم التنوير والثورة الفرنسية تتجسد في ثقافة الاحتجاج وهي تواجه المجتمع التقليدي الذي يظهر في الرأسمالية والإمبريالية والسلطة الديغولية. و«في هذا الجو السياسي - الفكري كانت العلموية البنيوية تنظر في الغرب لموت الإنسان وانحلال الذات الإنسانية. وكل ذلك على أثر (أو على منوال) الجينيالوجيا النتشوية باختفاء الله من الساحة. وكان طالب الدكتوراه في ذلك الوقت مضطراً لمراعاة القواعد الصارمة السائدة في السربون قبل مايو 1968م. كان الجو المحافظ والخانق يمنعني من المشاركة في مثل هذه المناقشات الطليعية من الناحية الفلسفية. وكنت مضطراً للتقيد بجميع هذه القواعد الأكاديمية الثقيلة من أجل إكمال أطروحتي ومناقشتها». ومثل هذا الاعتراف كفيل بأن يحررنا من سياجه الدوغمائي القائم من أجل الانتصار للإنسية والخطاب العلمي، لأن فيلسوف الوجودية العربية عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002م) درس هذه الموضوعات من خلال كتبه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي» عام 1947م، و«انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي» (صدر الكتاب عند الناشر فيران بباريس، سنة 1968م)، وتعامل مع الشخصيات الاستشراقية التي أرعبت أركون من أمثال روبير برنشفيك وشارل بيلا وموريس دي جاندياك، عندما يقول عنهم: «فهؤلاء كانوا يمثلون الخط الوحيد والصحيح في الفكر. وويل لمن تُسوِّل له نفسه أن يحيد عنه قيد شعرة. كانت منهجية الاستشراق الكلاسيكي الموروثة من القرن التاسع عشر هي المهيمنة. ولم تكن تسمح بإدخال المنهجيات أو الإشكاليات الجديدة التي كنا نسمع أصداءها القوية ما أن نخرج من أقسام الجدران المحافظة والتقليدية في السربون»، غير أن شهادة عبد الرحمن بدوي على العصر في سيرته الذاتية تفضح مثل هذا الادِّعاء الذي يصور الباحث مقيداً بسلطة البحث، لأن معظم طلابه في معهد الدراسات الإسلامية خلال هذه الفترة التاريخية «كان شغلهم الشاغل -من الناحية العلمية- الحصول على الدكتوراه بأقل جهد وأيسر طريق، طال هذا الطريق (إن كان من مبعوثي الحكومات) أو قصر (إن كان على حساب أهلهم)؛ لهذا كانوا لا يختارون إلَّا موضوعات عربية أو إسلامية، ويسعون أن يكون المشرف عليهم أبعد ما يكون في اختصاصه عن الموضوع الذي يختارونه، حتى يكون التعامل معه شكليًّا إداريًّا محضاً».
وفي ضوء هذه البيداغوجيا اللاعلمية نجد أركون غارقاً في سلفية الأفكار، يحاول إثبات ارتباط النزعة الإنسانية بالعقلانية في أطروحته التي تناولت «تحليل كتب مسكويه والتوحيدي»، ومتجاهلاً ما كتبه الشاعر الألماني غوته (1749 - 1832م) في نهاية حياته، عندما قال: «إن ديكارت كتب وأعاد كتابة مقاله في المنهج عدة مرّات. ولكن كما نمتلكه الآن لا يمكنه أن يفيدنا في شيء».
وهذا الحكم قد يصدق على فلسفة مسكويه والتوحيدي؛ لأن «مهمة تمثُّل العناصر التقدمية في تراثنا وتطويرها التي يطالبنا بها بعض المثقفين العرب، هي مهمة أُنجزت تاريخيًّا من قبل الأوربيين. ولذلك فالمطروح علينا ليس الانطلاق ممّا انطلقت منه أوروبا الناهضة (أي فكر ابن رشد)، لأن تكرار ذلك الموقف لا طائل من ورائه أولاً، ثم ثانياً هو موقف رجعي، بل يجب الانطلاق ممّا وصلت إليه أوروبا. فالفكر هو إنساني قبل أن يكون فكراً عرقيًّا أو قوميًّا». ولكن هذا الموقف، يفنده تاريخ الفلسفة الحديثة الأوروبية، لأن «المنهج الحسي الذي وضعه لوك وباركلي وهيوم، متأثرين بفلسفة أرسطو، ما هو إلَّا ردّ فعل للمنهج العقلي الذي نادى به ديكارت وسبينوزا وليبتنز، متأثرين بفلسفة أفلاطون».
والأمر كذلك بالنسبة للفلسفة المعاصرة، التي ما هي إلَّا استمرارية للفلسفة الحديثة حيث ظهر التياران الفلسفيان المتعارضات: الميتافيزيقي والعلمي». وهذا يعني أن جانباً كبيراً من الفلسفة القديمة لا يزال وسيظل دائماً يحتفظ بقيمته ولاسيما في نظرية المعرفة، غير أن اختيار أركون لا يحقق بعض مطامحه النهضوية؛ لأنه لكي يجعل التيار الفلسفي مستمراً حتى نجد مستقبلاً مذاهب فلسفية، حتى نصل ما انقطع، فليس أمامنا إلَّا الرجوع إلى بعض الجذور التي نجدها عند فريق من المفكرين والفلاسفة العرب.
وهذه الرؤية التي ترى أن الفلسفة «نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل ويخدم مجتمعاً ويعبر عن حضارة»، ستجعل درس الفلسفة يتميز بقدرة على التحرر مما هو جاهز، وقدرته على الانفصال والقطيعة. و«إذا أردنا ألَّا يظل الفكر تأويلاً، هو أنه كيف تنفصل عن الأفكار، بما هي تيارات جارفة؟»، وبهذه الروح الفلسفية تنتسب للعقل الحديث من خلال الكشف عن الجذور الإبستمولوجية في تراثنا، وقراءة في منعطفات التاريخ الخطير كما يقول مالك بن نبي، ليس من قلة أشيائه، ولكن من فقر أفكاره.ومثل هذا الدرس ينبغي التفكير فيه؛ لأن المشكلة الجوهرية هي كيف ننتقل من استغلال وظيفة الفلسفة إلى استثمار التجربة الفلسفية؟
إن هذا الرؤية هي ما اشتغل به أركون في إطار ذاتي سولوبسي إن لم نقل أوتيسي، عجز عن التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير في التاريخ، خاصة عندما اقترح تفسير فشل الفلسفة في السياق الإسلامي بالدراسة السوسيولوجية التي تدرس «العلاقات الكائنة بين أشكال السلطة السياسية، وبين الأطر الاجتماعية للمعرفة كما كانت سائدة آنذاك، وبين المكانة الاجتماعية والاقتصادية لمختلف الناشطين في مجال الحياة الفكرية والثقافية (أي المثقفين بلغة اليوم) وبين وظائف المشروعية الموكلة للدين (ولكن الموكلة من قبل من؟). ينبغي أن ندرس كل هذه العلاقات لنفهم سبب موت الفلسفة في أرض الإسلام».
وهذه الخطوة المنهجية، سنحاول تجسيدها في فهم فكر أركون، خاصة عندما انتقد بحوث النخب الوطنية بعد الاستقلال عندما قامت بغرض «تمجيد العصر الذهبي والتراث الكلاسيكي بشكل تبجيلي وأيديولوجي. وكل ذلك من أجل بناء الشخصية الوطنية كرد فعل على المستعمر السابق»، إلَّا أن تاريخية الحداثة التي انتقدت كافة النصوص بما فيها النصوص المقدسة تلزمنا بقراءة النص الأركوني بالطريقة عينها حتى لا يبدو مفكراً فوق التاريخ، لأنه خضع حتماً لضرورات سياسية واجتماعية واقتصادية، فابن الفقير رواية باللغة الفرنسية للكاتب الجزائري مولود فرعون (1913- 1962م) الذي اغتالته منظمة الجيش السري الإرهابية أربعة أيام قبل إعلان وقف إطلاق النار بين جبهة التحرير الوطني والاحتلال الفرنسي؛ تحدَّث عن القيم الإنسانية وسؤال الانتماء الوطني في سيرته الذاتية التي تروي حياة الخمسينات، حيث كان يصارع ثقافة غريبة ويتحدَّى الوجود الفرنسي بلغته؛ لينقل آلام شعبه وعاداته. ومثل هذه القضايا من المستحيل أن يفكر فيها من اختار مخيال الموقف الإنساني القائل: «الإنسان بالنسبة له هو قيمة عليا لا يجوز المس بها أو الاعتداء عليها. والإنسان إنسان بغض النظر عن مشروطيته السوسيولوجية أو العرقية أو الدينية».
إنها رؤية نظرية خالصة عند أركون؛ لأن علاقة المغلوب بالغالب أقوى من حقوق الإنسان وكرامته، ومنهجية المقارنات لا تطال معاني الذات والآخر، وتقتصر فقط على «الآداب والفلسفات وأساليب الإبداع الفني»، مادام العقل المحض يواصل أحكامه المسبقة على الأمازيغي والعربي والمسلم بعدما اكتشف أن «مستوى التعليم الثانوي والجامعي بعيد جدًّا عمَّا يجب أن يكون عليه فيما يتعلق بعلوم الإنسان والمجتمع. ولذا معظم الطلبة الذين قرؤوا كتبي يشكون من صعوبة فهم الجهاز المفهومي أو المصطلحي الذي أستخدمه وأواصل تجديده وإثراءه انطلاقاً من النصوص والمؤلفات والتجارب الفكرية الإسلامية».
وهذا التعميم الذي لا يستند إلى معايير علمية ينتهي إلى مقارنة زائفة بين تاريخ المؤسسات الجامعية التي تعود إلى المرحلة المدرسية الأوروبية السربون 1253م ومؤسسات التعليم في الأوطان العربية الإسلامية بعد الاستقلال السياسي حيث كانت في حالة تكوين جامعة وهران 1967م. وبمثل هذا الموقف النقدي يحدثنا الأستاذ الهولندي رون هالبير عن حقيقة الروح العلمية التي يتغنى بها أركون: «سبق لي أن نشرت جميع هذه المداولات في المقدمة التعريفية التي أصدرتها باللغة الهولندية. وأبدى أركون اهتماماً كبيراً بالدراسة الحالية التي ستصدر باللغة الفرنسية، ووعدني منذ سنوات بأن يجيب على الأسئلة الجديدة المطروحة، وبأن يكتب حولها تعليقاً مسهباً. ولكنه منذ استلامه النص النهائي لهذه الدراسة، وذلك منذ شهر آذار 2005، قد غيّر رأيه. وللأسف أرجأ أركون مرات عديدة أن يكتب تعليقاً، مع أننا كلينا بقينا على اتصال منتظم، إنْ بالمراسلة أو اللقاءات الشخصية». ولما ترجمت هذه الدراسة إلى اللغة العربية طلب الناشر بالمغرب من أركون كتابة مقدمة، فأرسل تعليقاً أضافه الكاتب في ملحق دراسته، «ولسوء الحظ لم يسق في تعليقه المرّ أي دليل علمي، بل اندرج في مستوى آخر يختلف عن المستوى العلمي المنحاز. واقتصر انتقاده على التعليق على بعض الأشخاص وعلى التواصل بينهم. أيعني هذا أن أركون عاجز عن مجابهة اعتراضاتي على توجيهاته العلمية؟».
- 1 -
قراءة في مناظرة أركون ورون هالبير
إن ردّ أركون على دراسة رون هالبير تميّز بالانغلاق والموقف الدوغمائي؛ لأن عنوانه هو «التواصل المستحيل»، وكأن الموضوع تجاوز العلاقات الإنسانية إلى الصلات الميتافيزيقية التي تقوم على الوسائط غير المباشرة، وباعتباره أنموذجاً لها يُقدِّم أركون نفسه وسيطاً وحيداً للمنهج العلمي في قراءة الفكر الإسلامي، يعترف بلحظة ميلاد مشروعه في زمن الاحتلال وفق مرجعيتين مختلفتين، إنهما «تقليد الجمهور الأوروبي والجمهور الإسلامي، ولقد ولد هذا المشروع في الواقع في الجزائر في فترة الاحتلال، على مقاعد ثانويتي أردايون ولاموريسيير في وهران، حيث أمضيت دراستي، ثم في كلية الآداب في مدينة الجزائر، حيث فرض الأستاذ هنري بيريس، ولعشرات السنين رؤية خاصة للدراسات العربية والإسلامية ونمطاً من السلطة الأكاديمية. في جامعة الجزائر في الخمسينات. فهنا في الواقع تجذَّرت أشكال تمردي كطالب شاب، وكذلك الحلول الصارمة التي أوجدتُها للتمرد على الممارسات الإدراكية للاستشراق البراق الذي كان من الصعب عليَّ التخلص منه». ومثل هذا التهافت في الأفكار دفع رون هالبير إلى اختيار عنوان «المعرفية في الإسلام كمفتاح للأبواب المغلقة». ويمكن تبرير هذه الرؤية المنهجية بغموض المعنى الأركوني الذي نتج عن إسقاط مفاهيم الأديان الأخرى ومصطلحات الحداثة على الفكر الإسلامي، وكأنه بهذه الطريقة الخميائية وليس الكميائية، ينتصر أركون لضجة الاختلاف، لأن كثيراً -بحسب قوله- «اشتكوا، مسلمين أو غير مسلمين، من التعقيد الشديد لتقنية أداتي الفكرية، ومن تراكم المسائل والمواضيع والمناهج والتوجهات الفكرية غير المألوفة حتى للقراء شديدي التأهيل». وفي المقابل وجدنا عبد المجيد مزيان (1926 - 2001م) على صورة جيل دولوز (1925 - 1995م) في أطروحته: النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون وأسسها من الفكر الإسلامي والواقع المجتمعي، يبدع مفهوم السنة المثالية باعتباره «أوطوبيا
utopie أو مجتمع أحلام المسلمين الذي يتمثل في التعلق بعصر ذهبي مفقود، هو عصر الإسلام الأول الذي يمكن بناؤه في المستقبل، وما من فرقة من الفرق الإسلامية إلَّا تدعي عقائديًّا الارتباط بالسنة والجماعة أكثر من غيرها».وعندما يناقش رون هالبير أسلوب أركون يتَّهمه قائلاً: «إن رون هاليير لا يدافع عن المعتقدات، بل عن قناعات يصفها بالمعرفية ليفسر مواقفي من مسائل شديدة التعقيد ومتقطعة في أغلب الأحيان من السياق الذي وردت فيه.أخشى أن ينتمي إلى تلك الفئة من الناس التي لقَّبها الرئيس السابق بومدين بالأقدام الحمر، والمقصود بها مجموعة من الرجال والنساء المنتمين إلى اليسار السخي والمفكرين الحصيفين الذين يتضامنون بشكل مطلق مع الأصدقاء العرب، والأصدقاء المسلمين، والمهاجرين المضطهدين، وضحايا العنصرية البغيضة..»، فيذكره رون هالبير على طريقة سارتر عندما صرح عام 1964م قائلاً: «إن الأدب لا ينقذنا أكثر مما تنقذنا السياسة. فالمجاعة شر مطلق.. أفتعتقدون أنني استطيع قراءة روب غرييه
Robbe Grillet في بلد متخلف؟ فلا وزن للغثيان في بلد يموت فيه الطفل جوعا»، وموضحاً موقفه السياسي بقوله: «إذا كان هذا المهاجر الجزائري أركون يعتبر المؤلف هو والهولنديين الآخريين من الأقدام الحمر، فإن هؤلاء التروسكيين العالميين أمثال سال سانتن، كانوا يزورون المال والأوراق الثبوتية لمساعدة مقاتلي جبهة التحرير الوطنية الجزائرية خلال الصراع الطويل والدامي للشعب الجزائري أثناء مقاومته للمحتل والمستعمر الفرنسي، رغم أن أن نتيجة ذلك كان الحكم عليهم بالسجن في هولندا! هل كان السيد أركون -الذي بحسب اعترافاته في مقابلتنا الصحفية- لم يكن مهتمًّا فعلاً بتحرير بلاده الأم.. طبعاً باعتباري مناضلاً في العديد من الهيئات المعنية بالمهاجرين العرب، وبلجان التضامن مثل لجنة التضامن مع فلسطين، فإني أُقدِّر من أعماق قلبي هذا الإطراء الصادر من رجل يبتعد عن النضال الوطني وعن جميع أشكال النضال الأيديولوجي لمواطنيه».ومثل هذه الشهادة التاريخية تُجرِّد المشروع الأركوني من الحضور العلمي الصرف؛ لأن الممارسة النقدية لا تعتني بالتصنيف الأيديولوجي بقدر ما تهتم بقيمة الكتابة ورسالتها في الوجود الإنساني، وهو الذي ادَّعى الانخراط الإبستيمولوجي صدرت منه أحكاماً سياسية دون مرجعية علمية عندما قال: «والثورة الشعبية في الجزائر الراغبة في حرق المراحل لتصنيع المجتمع الجزائري وتعريبه وأسلمته، وفي نفس الحركة التاريخية، حركة الاشتراكية البعثية في طروحتها حول بناء الأمة العربية الواحدة. وبعد استنفاذ الشحنة الأسطورية للأمة العربية والثورة الاشتراكية العربية، التي كان يمكن أن تصلح نموذجاً لتحرر شعوب العالم الثالث (وكان هذا هو الهدف الواضح للدبلوماسية الجزائرية، على الأقل حتى الاحتجاج الحديث في تشرين الأول عام 1988م)». وهذا التبسيط في وصف جهود الدولة بعد الاستقلال في التنمية والانتصار للقضايا العادلة في إطار استراتيجية دولية تبحث عن قيم التعايش والحياد وعدم الانحياز، يظهر حفريات النص الأركوني في صورة «أخف من الملائكة» لا يخضع لجاذبية الواقع الاجتماعي، لأنه عبَّر عن الدور الكلاسيكي للجامعي الفرنسي أو الموظف العمومي في إنتاج الأفكار وتسويقها، وفي هذا الصدد رأى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو: «كان المثقف -إلى وقت قريب- هو الكاتب بامتياز: ضمير كوني وكائن حر يتعارض مع كل أولئك الذين كانوا يعتبرون مجرد مؤهلات في خدمة الدولة والرأسمال. إن عتبة الكتابة التي كانت خاصية مقدسة تلاشت اليوم».
- 2 -
مفهوم الشخص بين أركون والحبابي
في دراسته لمفهوم الشخص يثير أركون الأسئلة التالية:
1- «كيف تبرز مشكلة الشخص كحقيقة لا يمكن الالتفاف عليها في المجتمعات المسلمة المعاصرة؟
2- ما الزاد الثقافي، وما الموارد العلمية والثقافية التي يملكها الفكر الإسلامي، ليحمل إلى المشكلة المطروحة أجوبة جديدة، تحترم تعاليم السنة الإيجابية وأوامر الحداثة التي لا سبيل إلى ردها؟
3- كيف تحدّد موقع الجواب الإسلامي، عن مشكلة الشخص، بين التصورات والمواقف المشخصة التي يفرضها الفكر العلمي الحديث؟».
وبعد سرد ثلاث تعاريف للفيلسوف الروسي بردائيف وعالم الاجتماع الفرنسي مارسال موس والمؤرخ الفرنسي إيفان غوبري، وبالرغم إقراره بوجود المفهوم في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، ودعوته إلى الالتزام «بالتفكير النقدي انطلاقاً من الشروط الجديدة للتطور التاريخي للمجتمعات المسلمة منذ الخمسينات»؛ نجده يتجاهل تيار الشخصانية الفرنسية ومساهمة محمد عزيز الحبابي (1922 - 1993م) في أطروحته من (الكائن إلى الشخص) التي صدرت باللغة الفرنسية عام 1954م، والذي «عرف بمؤلفاته حول الشخصانية، والتي تميزّت عن التيار الغربي، لأننا يمكن وصفها بالشخصانية الواقعية، لقد كان فكره الفلسفي ملتزماً، لأنه ولد وعاش في الزمن الكولونيالي، فناضل من أجل استقلال وطنه». وهذا ما يفسر الأحكام العدوانية عند أركون على الإرادات السياسية بعد الاستقلال باعتبارها سبباً لتأخر ظهور الشخص، فهي دولاً تنحدر من «حروب التحرير التي نشبت أثناء الخمسينات، تحارب بشراسة الانقسامات العرقية الثقافية والطائفية، التي تشكّل في كل مكان عوائق في وجه الوحدة القومية، أي في وجه الاستقرار وتعميم السلطة المركزية».
في حين فكر الحبابي في سؤال الهوية، كما تغذيه الثقافات السائدة بعد الحرب العالمية الثانية، فاكتشف ذاته ضمن «مجموعة من الممثلين الفاشلين الذين يبعث بهم فوق خشبة المسرح ليمزقوا الصمت، إذن، أنا لست بشخص أو إنني شخص من نوع خاص، إنما أنا كائن مُشيَّأ، فأين أتموضع، تاريخيًّا؟ إني مُستعمَر ومُتخلِّف، تُعتبر إنسانيته غير مكتملة». فهو لا ينتمي إلى هذا العصر الذي يناقش مسرحية الأبواب المقفلة لسارتر، والطاعون لكامي، في حين أن أحداث هوريشما اللاإنسانية «مازالت تتردد أصداؤها، كما تتردد أصداء الأفران التي خصصها النازيون لإحراق الملايين من البشر، وأصداء همجية الحرب الهند- الصينية»، وعليه كيف يمكن التموضع في مناخ كهذا، بالنسبة لثالثي أجنبي، محطم القدرة، عانى الذل فحل بفرنسا بحثاً عن أفق لتطلعاته وآماله، وأمل كل الشعوب المضطهدة؟ هذه التساؤلات وغيرها، تجعل الحبابي يبحث عن الأصل الأول أو البداية الأولى، لأن «وجودنا هو الوجود الذي نتيقنه أحسن تيقن ونعرفه أحسن معرفة، ذلك لأننا نتمثل معاني الأشياء كلها تملأ خارجيًّا وسطحيًّا، على حين أننا ندرك ذواتنا إدراكاً داخليًّا وعميقاً، فماذا نشاهد حينئذ؟ وما هو المعنى الدقيق لكلمة وجود في هذه الحالة المتميزة؟»، ومثل هذه الطريقة الفلسفية في الدهشة أمام الظاهرة الاجتماعية، والتهكم من الوقائع الوجودية، ستحاول من خلال التأمل الباطني
–الذي يظل فاتحة لكل أفق فلسفي جديد– إعادة الاعتبار للذات الإنسانية، على أساس ما يجب أن يكون، لأن «أطروحة الوحدة المبدئية للحضارة الإنسانية العامة مسلمة فلسفية أولية وهدفاً نهائيًّا للإبداع الاجتماعي.إن مفهوم الإصلاحات الأخلاقية والاجتماعية على المستوى العالمي عند محمد عزيز الحبابي لا صلة له بالإصلاحية البورجوازية الضيقة، بل على العكس من ذلك هو في حقيقة الأمر، يتطابق مع رؤية فرانز فانون (1925 - 1961م) الثورية حول عالمية جديدة، وليس من باب الصدفة أن يقيم الحبابي في كتابه (من المنغلق إلى المنفتح) الصلة بين العالمية والالتزام». وبمعنى أكثر وضوحاً، لا يجب إقصاء أي إمكانية، مهما كانت قيمتها من إمكانات البشرية، حتى نستطيع أن نكوّن نظرة صادقة عن الإنسان، وحكماً صحيحاً على القيم، فقد استطاع الحبابي أن ينتقل من «المثقف الأهلي» الذي «همه الوحيد هو البحث عن الماضي وعن كل ما يؤكد الشخصية الوطنية ويدعمها» إلى الفيلسوف الذي يعمل على «تحرير الإنسان بقطع النظر عن الوضعيات المحسوسة التي يوجد عليها يشمل ويهم مجموع الإنسانية. فالكفاح من أجل الكرامة الوطنية يعطى للكفاح من أجل الخبز والكرامة الاجتماعية مدلوله الحقيقي»، وفي ضوء ذلك كان السؤال حول الهوية والوجود الإنساني عند الحبابي إحدى المحاولات العنيدة للوصول إلى المعرفة الصحيحة. بينما بدا أركون ضائعاً في تعميمات نظرية عندما رأى بأن «الشخص الذي تكوَّن داخل هذه الحظيرة العقائدية، لا يمكن أن يفكر في مشكلة الأيديولوجية»، وفي هذا الإطار نذكر على سبيل المثال لا الحصر دراسة عبدالله شريط (1921 - 2010م): مشكلة الأيديولوجية وقضايا التنمية، حيث رأى بأن التنمية الحقة تكمن في «نقل المعرفة لا في نقل المصانع»، وعلى هذا الأساس بدت البنية الفكرية لدى أركون في خدمة المشروع الثقافي الغربي؛ لأن الاستشراق الكلاسيكي تطوَّر بفضل ترجمة التراث العربي - الإسلامي إلى مختلف اللغات إلى الإسلاميات التي تخصَّص فيها.