شعار الموقع

الجانب الاجتماعي في تجربة الشيخ علي المرهون

محمد محفوظ 2012-10-03
عدد القراءات « 822 »

جاء الحديث عن جابر بن عبدالله الأنصاري: «يا جابر! قوام الدنيا بأربعة: عالم مستعمل لعلمه، والجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه. يا جابر! من كَثُرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب عرَّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرَّضها للزوال والفناء».

نهج البلاغة ج 3، ص 224.

مفتتح

من الصعوبة بمكان، حين دراسة أي تجربة فكرية أو دينية، الفصل بين جوانبها وحقولها المختلفة؛ لأن هذه التجربة في عناوينها المتعددة، هي متداخلة، ومترابطة بعضها مع بعض، وتتأكد هذه الصعوبة حين دراسة تجربة علماء الدين في الاجتماع الإسلامي؛ لأن علماء الدين بحكم موقعهم الديني والاجتماعي، والأدوار والمهام التي يقومون بها، تتداخل اهتماماتهم وتتلاصق الحقول والمناشط التي يقومون بها. لهذا فإن الحديث عن أي جانب من جوانب هذه التجربة، يقتضي العمل على قراءة السياق الديني والفكري والاجتماعي، الذي تبلورت فيه التجربة، مع العمل على إبراز التعبيرات والمبادرات المتعلقة بجوانب التجربة المختلفة.

ولكن هذا التداخل، لا يحول موضوعيًّا دون بيان أهم جوانب التجربة الاجتماعية في مسيرة وحياة الشيخ المرهون رحمه الله تعالى (1334- 1431هـ/ 1915 2010م).

وتنبع أهمية إبراز هذا الجانب من هذه التجربة الدينية، في أن عالم الدين بخطابه الديني والثقافي ومبادراته الثقافية والاجتماعية، وعطاءاته وخدماته المختلفة، هو رافعة حقيقية في مشروع تنمية المجتمع وتقوية أفراده، عبر تفجير طاقاتهم وصقل مواهبهم، وتوفير مبادرات للحماية الاجتماعية. فالمجتمع في كل مراحله وأطواره، كان يواجه تحديات ومخاطر عديدة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، وإن الاستسلام لهذه التحديات سيجعل المجتمع ريشة في مهب الريح.

وحضور علماء الدين والقيام بأدوارهم الدينية والثقافية والاجتماعية، هو أحد الاستجابات الحيوية الذاتية لمواجهة هذه التحديات.

بمعنى أن الشيخ علي المرهون، وهو يتحرك على صعد الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية، يدرك طبيعة التحديات والمخاطر والمشاكل التي تواجه مجتمعنا، ويقوم -عبر مبادراته وإمكاناته- بمواجهة هذه التحديات والمخاطر.

فهي تجربة ساهمت في تحصين الواقع الاجتماعي، على المستوى الديني والثقافي، عبر محاضراته ومؤلفاته ومسجده والأنشطة المختلفة الموجودة فيه.

كما أن الاهتمام بالحلقات الضعيفة في المجتمع، هو أحد مصاديق تعزيز وتقوية المجتمع من الداخل.

وجماع القول: أن تجربة الشيخ المرهون بكل أبعادها وجوانبها، هي إحدى التجارب المعاصرة في مجتمعنا، التي استهدفت تحصينه من الداخل، وتعزيز مناعته، والحؤول دون اختراقه أو تآكله الداخلي.

فالشيخ المرهون هو أحد رواد الدفاع عن الذات الدينية والثقافية لمجتمعنا، وتمكَّن وفق الإمكانات المتاحة، من بناء قاعدة اجتماعية صلبة، تغار على الدين وقيمه، وتدافع عن فضائل ومكارم الأخلاق في المجتمع، وتعمل على إخراج شرائح المجتمع المختلفة من حالة اللامبالاة والسلبية.

في معنى الوعي الاجتماعي

يعتقد الكثير من الناس أن الوعي الاجتماعي، هو مجرَّد نصوص لفظية أو شعارات يلوكها لسان الإنسان، وامتلاك القدرة على توصيف الواقع الاجتماعي بجملة من الكلمات والألفاظ البرَّاقة، يعتبر واعياً اجتماعيًّا ويضرب به المثال في هذا المجال، ولقد أضاع هذه الفهم ومتوالياته النفسية والاجتماعية والثقافية، الكثير من الفرص السانحة، التي كان بإمكان المجتمع، لو كان يسوده وعي اجتماعي حقيقي، أن يغتنمها ويترجمها، إلى حقائق اجتماعية وثقافية تطور من واقعه، وتُنهي الكثير من مشاكله و أزماته.

ومن جرّاء هذا الفهم المغلوط للوعي الاجتماعي، تحوَّلت فرص النمو والانطلاق، في المجتمع، إلى مهاوٍ تزيد من تعقيد المشكلة وتُضيف لها أبعاداً أخرى.

وتظهر أعراض هذا الفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي، في الكثير من الأعراض والمؤشرات والمسارات التي يسير على هداها المجتمع. ففي أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية، تسود قيم التلقين والتلقي والفردية القائمة على نفي حاجة الإنسان إلى التعاون والتآلف مع الآخرين، لذلك ينشأ الواحد منا وهو لا يفكر إلَّا في ذاته وفي حدودها الضيقة والآنية أيضاً.

وفي التنشئة الثقافية، تسود قيم الفرادة الموهومة ووهم امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة وضرورة الاكتفاء بما عندنا من علم وثقافة، وكأن العلم والثقافة وصلا إلى حدودهما القصوى، وهي مُخزَّنة في صندوق، وما علينا -إذا أردنا العلم والثقافة- إلَّا فتح الصندوق، ودورنا ينحصر في استهلاك ذلك العلم المكتشف من ذلك الصندوق.

لذلك ومن جرّاء هذا التركيب المجتمعي القائم، على فهم مغلوط أو ناقص لمفهوم الوعي الاجتماعي، نخسر فرص النمو والتطور، وتنقلب علينا بشكل سلبي وتتراكم في محيطنا عناوين تُبرِّر لنا هذا الواقع المعيش، ودون الاستطراد في بيان الأعراض والآثار السيئة للفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي، نحاول أن نُوضِّح مقصودنا من هذه المقولة.

الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة و متوالياتها المتعددة. لهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي، وطبيعة الفهم الإنساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس، لذلك فإن الوعي الاجتماعي، هو وليد فهم الناس إلى تاريخهم وحاضرهم وقيمهم العليا، ونتاج التفاعل البشري مع الأطر النظرية المتاحة أو المتداولة.

وبهذا نستطيع أن نُحدِّد مفهوم الوعي الاجتماعي بالعناصر التالية:

1) مجموع المفاهيم والقيم المتداولة في حياة الناس ونظام التفاضل الموجود بينها.

2) تفسير الناس وفق ظروفهم ومستوياتهم المختلفة، إلى تلك المفاهيم والقيم.

3) تجربة الناس اليومية في الالتزام بهذه المفاهيم، ونظام علائقهم السائد في أوساطهم، وبينهم وبين الآخرين.

ووفق هذا المنظور، فإن الوعي الاجتماعي ليس مفهوماً ناجزاً ومكتملاً، وإنما هو دائم التحوُّل والتطوُّر من جرّاء تحوُّلات المجتمع المختلفة؛ لذلك فإن بقاء الوعي الاجتماعي ثابتاً والواقع الاجتماعي مُتحرِّكاً ومُتغيِّراً هو الذي يُؤسِّس لفهم مغلوط ومشوَّه لمعنى الوعي الاجتماعي. من هنا فإن شرط الوعي الاجتماعي الفعّال هو وجود فكر نقدي، يدعم هذا الوعي،ويرفده بالآفاق الجديدة، ويؤسّس لحالات تحوُّل اجتماعي متواصل بهدف الرقي والتقدم الاجتماعي، لهذا ينبغي ألَّا نتشاءم أو ننظر بريبة وشك إلى كل الأفكار النقدية للعوائد والمسارات الاجتماعية، وإنما من الأهمية بمكان أن نستوعب هذه الأفكار النقدية، ونوفر لها الأطر الاجتماعية الطبيعية، لكي تأخذ هذه الأفكار مسارها الطبيعي في التفاعل مع الواقع الاجتماعي، وبهذا التفاعل تنضج الأفكار وتتبلور المسارات وتعم الحيوية الجسم الاجتماعي كله.

وتجارب المجتمعات ذات الوعي المتميز، تؤكد لنا أهمية حركة النقد وضرورتها القصوى في خلق الوعي الاجتماعي الجديد. فلولا الأفكار النقدية، التي بثَّها فلاسفة التنوير في أوروبا، وما أحدثته من وعي اجتماعي جديد، لبقي الظلام والجمود سائداً في أوروبا. فشيوع مفاهيم النقد البنَّاء في المحيط الاجتماعي يُبدِّد الجمود، وينهي الرتابة، ويبث الحيوية والحياة في أرجاء المجتمع، ويزيد من مستوى المسؤولية العامة، ويساهم في بلورة وإنضاج قوى اجتماعية جديدة، تأخذ على عاتقها دور التجديد والتطوير في المحيط الاجتماعي.

وإن شيوع حالات الاضطراب والفوضى في بعض المجتمعات، ليس من جراء حركة النقد السائد، وإنما هو، في حقيقة الأمر، من جرّاء غياب أطر الاستيعاب لأفكار النقد الجديدة، أو من ردود الفعل السلبية وذات الطابع الارتجالي تجاه الأفكار الجديدة. أما المجتمع الذي يُوجِد لنفسه القنوات الطبيعية لاستيعاب أفكار أبنائه الجدية، فإنه سيتمكن من إضافة قوة جديدة إلى قوته، وسيُدخل دماء جديدة تُنهي السكون وتحول دون تبلُّد وتكلُّس الحياة الاجتماعية.

لهذا فإننا نؤكد على ضرورة توفر الأطر المناسبة لاستيعاب وامتصاص الأفكار الجديدة، والرؤى النقدية الهادفة إلى التطوير وإعادة صياغة وتشكيل الوعي الاجتماعي بما ينسجم ومتطلبات العصر وضرورات التقدم الاجتماعي.

ولا بد ألَّا نستعجل في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف، تجاه من اجتهد في سبيل تطوير وتجديد الوعي الاجتماعي. وإن التحليل العلمي النقدي للسائد اجتماعيًّا وثقافيًّا هو الذي يوفر الأرضية العقلية والنفسية لتجاوز البائد من ذلك السائد، وإنهاء ما فيه من أنماط بالية. ولقد حاول الدكتور (هشام شرابي) في كتابه «البنية البطركية.. بحث في المجتمع العربي المعاصر» أن يوضح الصلة الضرورية بين الوعي الاجتماعي والفكر النقدي.

لهذا من الضروري أن نتعامل مع التحليلات النقدية لمسار المجتمعات برؤية منفتحة، مستوعبة بعيدة كل البعد عن لغة النفي والتخوين. والنقد الهادف في أحد وجوهه الرئيسة، يُشكِّل شرطاً ضروريًّا لتحقيق التطور الاجتماعي المأمول.

فلا وعي اجتماعيًّا متجدد، إلَّا بفكر نقدي، ولا فكر نقديًّا بنَّاء، إلَّا بوجود أطر مجتمعية، تستوعب تلك الأفكار وتموجاتها. وهكذا يصبح الفكر النقدي شرطاً من شروط الوعي الاجتماعي الجديد. بمعنى أن وعي المجتمع بذاته وبالآخرين وبدوره التاريخي، لا ينجز إلَّا على قاعدة نقدية مستديمة، تُسائل السائد، وتجعله على طاولة التشريح والتقويم. وضرورة الحفاظ على الوئام الاجتماعي لا تعني بأي شكل من الأشكال قسر الجميع وإرغامهم على نمط اجتماعي محدد، وإنما تعني حيوية التنوعات وفاعليتها في أثراء مفهوم الوئام الاجتماعي، بأفكار ورؤى وآفاق جديدة.

وبالتالي فإن الإصرار على إيجاد مسافة تفصل الوعي الاجتماعي السائد، عن الفكر النقدي، يؤدي فيما يؤدي إليه، إلى شيوع حالة العجز التي تنتاب المجتمع تجاه مشاكله وتحدياته المصيرية.

وعليه فإنه لا مبرر للخوف من النقد وفحص المسلمات الاجتماعية؛ لأن هذا النقد والفحص، هو الذي يطرد العناصر السلبية والميتة من الفضاء الاجتماعي. والخوف الحقيقي ينبغي أن يكون حينما تغيب عمليات النقد، وحينما تتضاءل فرص الفحص على وقائع المسيرة الاجتماعية. فالنقد ضرورة قصوى لسلامة المجتمع؛ لأنه يتجه صوب نقاط الضعف، ويعمل على تعريتها وفضحها، ويشحذ الهمم لتوفير الإرادة المجتمعية القادرة على سد تلك النقاط. فلا قوة حقيقية لأي مجتمع تغيب فيه عمليات النقد والتقويم. فالقوة مرهونة بقدرة أبناء المجتمع على مساءلة سائدهم، وفحص قناعاتهم العامة، وذلك ليس من أجل إشاعة الفوضى والهدم، وإنما من أجل طرد كل الأمراض التي قد تبرز في الفضاء الاجتماعي.

لهذا كله فإننا ندعو إلى عدم الخوف من النقد الاجتماعي، بل من الضروري أن نوفر الأطر البحثية التي تقدم لنا دراسات وأبحاث جادة عن واقعنا الاجتماعي. لمعرفة عناصر قوتنا وضعفنا، ومن ثم العمل على تأكيد عناصر القوة وطرد عناصر الضعف. فلا حيوية في المجتمع بلا نقد، ولا قدرة للمجتمع للتخلص من عيوبه دون تشجيع الباحثين والمختصين على قراءة الواقع الاجتماعي ونقده.

والنقد الاجتماعي لا يؤسس للفوضى والانفلات أو تضخيم السلبيات، وإنما هو ضرورة من ضرورات تحقيق الأمن الاجتماعي.

وجماع القول: إننا بحاجة دائمة إلى ممارسة النقد والفحص، حتى يزداد وعينا الاجتماعي، وتنضج قدراتنا المجتمعية، وتتمكن من طرد كل عناصر الضعف والاهتراء من فضائنا الاجتماعي. وعليه فإن الخوف من النقد يضر بالواقع الاجتماعي حقيقة. ولا سبيل أمامنا إذا أردنا الحيوية والفعالية الدائمة، إلَّا مواصلة الفحص الدائم والنقد المستمر لكل وقائعنا وحقائقنا الاجتماعية. النقد الذي لا يستهدف التقويض، بل التقويم وتصحيح الاعوجاج.

من هنا فإننا نشعر بأهمية قراءة تجاربنا الاجتماعية والثقافية، وفحص خياراتها، ومناقشة نتائجها ومآلاتها؛ لأن التواصل العلمي والنقدي مع هذه التجارب، هو الذي يُعزِّز مفهوم الوعي الاجتماعي في فضائنا، وهو الذي يحول دون تكرار الأخطاء. كما أن هذا التواصل هو الذي يوفر المناخ المعرفي والاجتماعي لاستيعاب الدروس والعبر من التجارب المختلفة التي مر بها مجتمعنا.

خصائص التجربة

أولاً: محورية المسجد

لعلنا لا نضيف جديداً، حين نقول: إن من أهم الخصائص التي تُميِّز تجربة العلامة الشيخ علي المرهون الاجتماعية، هو أن هذه التجربة منذ انطلاقتها الأولى اعتمدت على العمل المسجدي.

فمن المسجد باشر الشيخ دوره الديني والوعظي، ومن المسجد عمل على توسيع حالة الوعي الديني في المجتمع، ومنه (أي المسجد) تواصل اجتماعيًّا مع مختلف فئات المجتمع، ومن المسجد تحسَّس حاجات الناس وعمل على تلبيتها وسدها.

فالمسجد، في تجربة الشيخ المرهون الاجتماعية، هو نقطة الارتكاز التي انطلق منها، ومن خلاله مارس أدواره ووظائفه الدينية والاجتماعية الأخرى.

والعلامة الشيخ المرهون، كان علامة بارزة في طبيعة التصاق عالم الدين بالمسجد، وبإحياء دوره في المجتمع.

ولا يمكن لأي دارس لتجربة الشيخ المرهون الاجتماعية أن يتجاوز حقيقة اهتمامه بالعمل المسجدي، وأحيائه لوظائفه المتعددة. وحين التأمل في هذه التجربة نرى أن المسجد في رؤية العلامة المرهون كان يقوم بالأدوار التالية:

1- إقامة الصلوات وتعليم الأحكام الإسلامية للمصلين. ولا يخفى على أحد أن هذه البرامج كانت آنذاك هي الرافد الأساسي لعموم أبناء المجتمع لمعرفة أحكام دينهم وتعاليم شريعتهم المقدسة. فهي البوابة الواسعة المتاحة آنذاك لتوسيع دائرة المعرفة الدينية، وتعزيز قيم الدين في الفضاء الاجتماعي.

2- إحياء المناسبات الدينية، فالمسجد في هذه التجربة ليس مكاناً للصلاة فقط، وإنما هو أيضاً المكان الذي يُحيي فيه سماحة الشيخ، وبقية المؤمنين، المناسبات الدينية المختلفة.

ومن خلال هذا الدور تحوَّل المسجد إلى منبر لصناعة الوعي الديني في المجتمع.

3- التواصل الاجتماعي، فالمسجد كما أسلفنا هو حجر الزاوية في هذه التجربة الرائدة، لذلك فإن لحضور الشيخ الدائم في المسجد واعتنائه اليومي بشؤونه، عمق صِلاته بأبناء مجتمعه. فكان المسجد هو نقطة الانطلاق لزيارة المرضى، وتفقُّد أحوال الناس المعيشية، ومعالجة المشاكل الأسرية والزوجية، ومشاركة أبناء المجتمع في أفراحهم وأحزانهم.

فالعمل المسجدي في هذه الرؤية والتجربة، هو الوعاء الذي يستوعب مجمل الأنشطة الاجتماعية، التي تستهدف حماية الحلقات الضعيفة في المجتمع، وتذليل العقبات أمام الأسر للحفاظ على استقرارها، كما أنه الإطار الذي تنطلق منه الأعمال والمبادرات والأنشطة التي تستهدف زيادة وتيرة التضامن الاجتماعي بين مختلف الفئات والشرائح.

«وقد أتاح الشيخ علي، وبفعل تلبُّسه بلبوس التواضع، أن كسر ذلك الحاجز النفسي المانع للناس من التواصل معه والتواصل معهم، فكان موئلاً لكل مستفهِم ومسترشِد يسعى بخطى واثقة بأن سيجد في تواضع الشيخ وسماحته ما يمكنه من البوح عما في خاطره دون شعور بأي حرج.

فهو مع الكبير والصغير، وفي المسجد، وفي الحسينية، وفي المجلس، والحل والترحال وفي أي موضع كان، تجده ذلك الإنسان المتواضع الذي لا يتكلف مع الناس في الفعل والممارسة، كما لا يرغب في أن يتكلف معه الناس، فهو في أقصى درجات التواضع والأريحية.

فهو في موسم الحج أو العمرة مثلاً، لا يقبل أن تُفرد له غرفة خاصة ينعزل فيها عن الناس، بل كان ينام حيث يوضع فراشه على الأرض كثالث ثلاثة، أو رابع أربعة في الغرفة المخصصة للسكن، مثله في ذلك كبقية الحجاج دون تمييز في المأكل أو المشرب».

4- الاهتمام بشريحة الشباب: لعلنا لا نأتي بجديد حين نقول: إن العلامة المرهون بدأ تجربته الدينية والاجتماعية في ظرف يغيب فيه اهتمام عالم الدين بالأجيال الطالعة في المجتمع. لذلك فإن من أهم ما يميز تجربة الشيخ على هذا الصعيد، هو اهتمامه بالشباب، وحثهم على حضور صلاة الجماعة وقراءة تعقيبات الصلوات والمشاركة بقصيدة شعرية أو ما أشبه في المناسبات الدينية، حتى أن بعض الإخوة تحدَّث عن قيام الشيخ بإعطاء بعض المبالغ المالية تشجيعاً لأي شاب يقوم بالأذان في المسجد أو أي نشاط آخر في المسجد.

كما أن الشباب الذي يمتلك قدرة أدبية أو ثقافية على الكتابة والتأليف، فإن العلامة المرهون يحتضنه ويشجعه ويحثه على الاستمرار في صقل موهبته الأدبية أو الكتابية.

فالمسجد في التجربة الاجتماعية للشيخ المرهون، كان واحة للاهتمام بالأجيال الطالعة، وتلمُّس حاجاتهم، والإجابة عن أسئلتهم، والأخذ بيدهم وتشجيعهم على العطاء الديني والاجتماعي.

ثانياً: رسالية الخدمة

حين التأمل في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) نكتشف حجم اهتمام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بقضاء حوائج الناس، والعمل على خدمة ذوي الحاجات المختلفة. فخدمة الناس وقضاء حوائجهم في رؤية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هي جزء أساسي من مشروعهم الرسالي؛ لذلك نجد التوجيهات الإسلامية الكثيرة، التي تؤكد هذه القيمة، وتدعو إليها، وتحث الناس على الالتزام بها.

والعلامة المرهون في اهتمامه بقضاء حوائج الناس ومساعدتهم، هو امتداد لهذه المدرسة الرسالية، التي لا تتعالى على حاجات الناس، ولا تستنكف من مساعدتهم وقضاء حوائجهم.

والراصد لحياة الشيخ المرهون يجد العديد من القصص والمبادرات التي تنم عن اهتمام الشيخ بقضاء حوائج الناس، وبالذات الفئات المحرومة والمستضعفة.

فعالم الدين هو ضمير الناس، ولا يجوز لمن هو ضمير الناس والناصت الدقيق لمشاكلهم وآلامهم وحاجاتهم، أن يتعالى على هذه الحاجات. وإنما هو يتحمل مسؤولية دينية وأخلاقية، للعمل على قضاء حوائج المحتاجين.

والخدمة التي يقدمها عالم الدين هي جزء من رسالته ووعيه لموقعه في مسيرة المجتمع؛ لأنه لا يمكن لأي فكرة أو مشروع أن تتمكن في المجتمع، دون الاهتمام بمعالجة مشاكل الناس وتلبية حاجاتهم المختلفة.

فأحد البوابات الأساسية للتمكن في المجتمع، لأي فكرة أو مشروع، هو في قضاء حوائج الناس، وتقديم الخدمات الضرورية لهم.

من هنا نجد أن الشيخ المرهون، اهتم بمساعدة الفقراء والمحتاجين والأرامل، وعمل على تزويج العزاب. وكانت مبادرته الأولى في تأسيس جمعية القطيف الخيرية، هي جزء من اهتمامه بمشروع خدمة الناس واحتضان ذوي الحاجات، والعمل على رعاية الحلقات الضعيفة في المجتمع.

وحينما يعتني عالم الدين بذوي الحاجات، ويقوم -عبر مبادرات ومؤسسات- بحمايتهم ورعايتهم، فإنهم يبادلونه حبًّا بحب، ويعملون وفق إمكاناتهم المتواضعة على حمايته والدفاع عنه والالتفاف به وبمشروعاته ومبادراته المختلفة.

واليوم حين تلتقي بكبار السن الذين واكبوا تجربة الشيخ المرهون، وعملوا معه، يستذكرون تلك المبادرات الأبوية الرائعة، التي يقوم بها الشيخ، وتستهدف مساعدة المحتاجين أو تزويج العزاب أو رعاية الأيتام والأرامل.

ثالثاً: الاهتمام بالثقافة

يبدو من جميع النظريات التي تناقش مسائل التغيير الاجتماعي، أنها جميعاً تتفق في مسألة أنه لا يمكن أن تحدث تحوُّلات عميقة في مسيرة أي مجتمع، دون حدوث تحوُّل فكري وثقافي، يُغيِّر من عقلية الناس كشرط ضروري لعملية التغيير في مجالات الحياة المختلفة. لذلك نجد أن أغلب المصلحين، لهم اهتماماتهم الفكرية والثقافية، ويعملون عبر وسائط عديدة لخلق تغيير ثقافي في مجتمعهم، يهيئ الأرضية لانخراط هذا المجتمع لتحوُّلات أخرى في حقول الحياة المختلفة.

وسماحة الشيخ المرهون، ووفق رؤيته وظروفه ومحيطه الاجتماعي، اقترب من هذه المسألة، وعمل على إبرازها في تجربته الاجتماعية من خلال النقاط التالية:

1- الاهتمام بالشباب وتشجيعهم على الكتابة والتأليف. «ومن هذه المحطات المضيئة عنايته المنقطعة النظير في نشر موروث منطقته (القطيف)، فكان بفعل مساعيه هذه أن أصبح رائد النشر الأول للكتاب القطيفي، فتخطت مجهوداته النشر المتصل بمؤلفاته الخاصة، ليكون داعية من طراز أول، ليس فقط فيما يخص توليه بنفسه التنسيق والمباشرة مع أصحاب المطابع في النجف الأشرف بالعراق، لطباعة أي نتاج يأتيه من أي فرد من أبناء مجتمعه، بل من خلال المساهمة بالدعم المالي على الرغم من قلة ذات اليد، فهو مشارك بالجهد البدني، والبذل المالي. وهذا السلوك الصادر منه مكَّنه من مواصلة مشوار مشروعه من خلال:

* الحث الدائم والمستمر على الكتابة والتأليف والنشر.

* السعي الدؤوب لتأمين نفقات الطباعة.

* التصدي لمتابعة عملية الطباعة، أثناء تواجده في النجف الأشرف في الفترات التي يتواجد فيها للدراسة».

2- تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات. وقد رصد الأستاذ عبد الإله التاروتي في كتابه (الشيخ علي المرهون سرد ببيلوجرافي) (24) كتاباً مطبوعاً.. للكتابات والمؤلفات التي ترجمت أو أوردت شيئاً عن الشيخ علي المرهون، أما كتب الشيخ المطبوعة فقد وصلت إلى (15) كتاباً، أما كتبه وأبحاثه المخطوطة فقد وصلت إلى (11) كتاباً.

3- العمل على بناء حوزة علمية في القطيف، بوصفها هي القادرة على بناء نخبة دينية وثقافية، تحمل هَمِّ التغيير وصناعة الوعي والمعرفة في المجتمع.

ويبدو من العديد من المعطيات أنه لا يمكن تطوير الوضع العلمي والثقافي في مجتمعنا، من دون بناء حوزات علمية تأخذ على عاتقها بناء الطلبة علميًّا وتربويًّا، وتمارس دورها في إشاعة الجو العلمي وصناعة الأفكار والآراء العلمية، والاستجابة إلى التحديات ذات الطابع العلمي والثقافي التي تواجه مجتمعنا.

وانطلاقاً من هذه القناعة عمل العديد من علماء الدين على تحقيق هذه المسألة، إلَّا أن الظروف لم تكن مواتية لذلك. ولكن صعوبة الظروف لم تمنع البعض من الدعوة إلى هذه الفكرة وتشجيع أبناء المجتمع بمختلف شرائحهم على احتضان هذه الرؤية، وتوفير كل سبل إنجازها وتحقيقها. ولعل من أبرز من دعا إلى هذه الفكرة، وبشَّر بها، هو الشيخ علي المرهون؛ فقد قام «بإلقاء خطبة في محضر عام يحضّ فيها قومه على النهضة العلمية العصرية، وتشجيعها بفتح المنتديات، والمدارس، وكان ذلك في 15رمضان 1361هـ، بالحسينية المعروفة بـ(حسينية مياس).

كما ألقى نفس الخطاب في (مجلس يوم الأربعاء) الذي يعقده سماحة المرجع السيد ماجد العوامي (1279هـ - 1369هـ) من كل أسبوع.

كما أرسل الشيخ علي هذا الخطاب مع المرحوم الحاج مهدي جواد الأسود، إلى البحرين لينشره في (جريدة البحرين)، التي أسسها (عبدالله الزايد)، تحت عنوان (له دعوة الحق)، وقد غيَّرته الصحيفة لينشر تحت هذا العنوان (تأسيس معهد بالقطيف)».

وجاء في دعوة الشيخ علي المرهون لتأسيس حوزة علمية بالقطيف المعنونة بـ(له دعوة الحق) ما يلي: «فعلى هذا ليس من الإنصاف أن تتركوا وطنكم الرؤوم بلا محل يأوي إليه أولادكم لتعلُّم معارفهم والاطلاع على مسائل دينهم وأحكامه، ليعرفوا كيف يعبدوا إلههم، مضافاً إلى ذلك ما يكتسبون من مكارم الأخلاق وتصفية الأذهان. على أن بلادكم القطيف فيها من الاستعداد ما يقوم بهذا المشروع وزيادة ماديًّا وأدبيًّا، فإن فيها من العلماء الفطاحل الذين يستطيعون القيام بأنواع أبحاث الخارج، وفيها من الجهابذة الأفاضل المترشحين لدرجة الاجتهاد كثير، ومن الطلاب المُحصِّلين عدد ليس بالقليل، ومن المتعلمين الراغبين عدد ينوف على المائة، أفتكرهون لبلادكم أن تكون كغيرها من البلدان العَلِيَّة مناخاً لذوي الألباب السليمة، ومنزلاً لذوي المعارف، ومحطَّا لرواد العلوم الدينية؟ أليس هذا مكسباً لكم حسن الأحدوثة وجميل الذكر؟ أتدرون أن تأسيس مدرسة علمية في القطيف يُحييها ويطير باسمها بعد أن كانت خاملة الذكر كأنها لم تخلق في الدنيا، فاغسلوا هذا الدرن بتأسيس مدرسة علمية تكفيكم مؤونة دينكم، وتضمن الرقي لأولادكم، فترقى بهم إلى أوج الاجتهاد بعد أن كانوا في حضيض التقليد، أفتكرهون لأولادكم الوصول إلى الدرجات الرفيعة والمراتب العالية والخروج من الهمجية؟».

4- القيام بدوره في المنبر الحسيني وعدم التوقف عن خدمةالامام الحسين.

5- الحضور الاجتماعي المباشر عبر الالتزام بالصلاة في المسجد وما يرافقه من إجابة على أسئلة الناس واستفساراتهم، ومرافقة المؤمنين لزيارة مراقد المعصومين، وما تتضمن هذه المرافقة من أدور دينية واجتماعية وثقافية، والذهاب مرشداً في حملات الحج والعمرة، وما يقوم به المرشد من توعية دينية واجتماعية. كلها صور توضح بشكل صريح طبيعة الحضور الاجتماعي المباشر للشيخ رحمه الله تعالى.

فهذا الشيخ الجليل، وعبر هذا الحضور، كان يعيش مع الناس، ينصت إلى قضاياهم وهمومهم، ويجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم، ويتدخل لعلاج بعض مشكلاتهم.

وحين نتحدَّث عن الحضور الاجتماعي بوصفه ميزة، لأننا ندرك أن هناك نزعة لدى بعض علماء الدين وبالذات الكبار منهم، هي ترفُّعهم عن الحضور الاجتماعي، واستنكافهم لممارسة بعض الأدوار الاجتماعية، والتي تتطلب جهداً وتحملاً للناس. فالشيخ المرهون لم يتعالَ على الناس، وإنما عاش معهم، وتفاعل مع قضاياهم، كما هم تفاعلوا معه، وأحبوه ودافعوا عنه.

وبهذا السلوك تمكَّن الشيخ المرهون من بناء علاقة اجتماعية متميزة بالناس، قائمة هذه العلاقة على الخدمة والإنصات إلى أحوالهم، والعمل على رفع وعيهم الديني والاجتماعي. هذا من جهة الشيخ، أما من جهة الناس فكان الاحترام العميق للشيخ ومحبته وزيارته والالتفاف حول مشروعاته ومنبره.

دروس وعبر

1- إن الشيخ علي المرهون أسس لخطاب ديني وممارسة اجتماعية، تستوعب جميع الأطياف والأطراف. فلم يكن في أي مرحلة من مراحل حياته طرفاً في عملية التمزق والتشظي الاجتماعي، فمن حق الجميع أن يلتزم بفكرة، ويؤمن بمشروع وخيار، ولكن الالتزام بالفكرة شيء والمشاركة في عملية التشظي الاجتماعي شيء آخر.

ولعل من أهم الدروس التي نتعلمها من تجربة الشيخ المرهون، هو أهمية أن يكون عالم الدين في مجتمعنا حاضناً ومستوعباً لجميع الأطراف، وهذا الاحتضان والاستيعاب الذي يأخذ أشكالاً وصوراً متعددةً، ليس مضادًّا إلى التزام عالم الدين بفكرة أو مشروع محدد؛ فمن حقه الطبيعي أن يلتزم بفكرة ومشروع، ولكن بإمكانه التعبير عن التزامه بعيداً عن عمليات التسقيط والتشويه للأفكار والقناعات الأخرى.

وما أحوج مجتمعنا اليوم، إلى الشخصيات الدينية والاجتماعية، التي تنفتح على كل شرائح المجتمع، وتتواصل مع جميع التعبيرات، وتعمل على دعم كل المبادرات التي تستهدف تعزيز قوة المجتمع وتضامنه الداخلي.

ولقد كان الشيخ المرهون في خياراته الاجتماعية، ونمط العلاقة الذي يحكمه مع فئات وشرائح المجتمع المختلفة، مصداقاً لوصية الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) للزهري التي جاء فيها: «أما عليك أن تجعل المسلمين والمؤمنين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم منك بمنزلة ولدك، وتجعل تِرْبك بمنزلة أخيك. فأي هؤلاء تحب أن تظلم؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟».

فكان الشيخ المرهون بمثابة الأب لكل الأطياف والأطراف، يتواصل مع الجميع، ويستمع إلى الجميع، ويتعاون مع الجميع، ويحفظ حرمة الجميع.

2- إن بعض المشاكل الاجتماعية التي يُعانيها مجتمعنا، لا يمكن أن تُعالج بالموعظة الدينية والأخلاقية، مع أهمية هذه المواعظ في ضبط اندفاعات الناس المادية والدنيوية. ولكن هذه بوحدها لا تعالج بعض المشاكل والأزمات، وإنما هي بحاجة إلى صناعة بدائل وحقائق اجتماعية مضادة، تعمل على تحريك عجلة الحل والمعالجة في الفضاء الاجتماعي. فلا يكفي أن نُحذِّر من غلاء المهور أو زيادة تكاليف الزواج في مجتمعنا، وإنما نحن بحاجة أيضاً للقيام بمبادرات لتيسير شؤون الزواج.

وهكذا دواليك مع بعض المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها واقعنا الاجتماعي.

فلعن الظلام بوحده، لا يعالج الأزمة أو المشكلة، وإنما نحن بحاجة باستمرار مع لعن الظلام وبيان مخاطر هذه المشكلة أو تلك، إلى إشعال شمعة، وتأسيس مبادرة، تُساهم بشكل عملي في علاج هذه المشكلة أو تلك.

ومجتمعنا اليوم بحاجة ماسة إلى بناء الأطر والمؤسسات، التي تستوعب طاقات المجتمع، وتعمل على سد بعض الثغرات، ومعالجة بعض الإشكاليات. فقوة مجتمعنا اليوم، مرهونة إلى حد بعيد على قدرته على بناء الأطر والهياكل والمؤسسات في مختلف جوانب الحياة، حتى يتمكن من تسيير شؤونه المختلفة، وتوسيع دائرة المشتغلين والمهتمين بالشأن العام.

ودائماً نحن كمجتمع، وحتى لا تتحوَّل حالات التعدد والتنوع في الأفكار والقناعات والميولات، إلى نافذة للفوضى والمزيد من التشظي والتفتت، نحتاج إلى قامات علمية واجتماعية، تُدير هذا التعدد، وتضبط حالات التنوع بعيداً عن الانفلاش أو التقوقع والانكفاء.

ومن الضروري لهذه الشخصيات أن تتحلى بأعلى درجات المناقبية الأخلاقية، وتمتلك قدرة على التواصل والتعاون مع جميع الأطراف والتوجهات.

والشيخ المرهون، بموقعه الديني وحيثيته الاجتماعية، مارس هذا الدور، وتحلى بهذه الصفات.

لهذا تحلى المحيط الاجتماعي الذي تحرَّك ونشط فيه الشيخ المرهون، بمستوى من الترابط والتماسك بعيداً عن عناوين التمايز أو دوائر الاختلاف.

لهذا فإن المطلوب دائماً التحلي بروح المسجد، وهي روح جامعة وحاضنة لجميع التعبيرات والأطياف.

3- ثمة توجيه ودعوة قرآنية صريحة بضرورة التعاون بين أبناء المجتمع والأمة الواحدة، وذلك من أجل إنجاز الأهداف وتحقيق التطلعات والطموحات؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.

ويبدو من الآية القرآنية الكريمة أن التعاون، بكل مستوياته ودوائره، هو شرط الإصلاح في أي مجتمع؛ لأنه لا يمكن ليد واحدة أو طرف واحد أن يحقق تطلعات الأمة والمجتمع. وإنما هو بحاجة أن تتكاتف كل الجهود، وتتوفر كل سبل التعاون والتكامل بين المؤمنين، وذلك من أجل تشكيل كتلة تاريخية، قادرة على إنجاز المهام وتحقيق الآمال.

وضرورة التعاون بين أطياف المجتمع وتياراته، من أجل تحقيق الأهداف والغايات، لا تلغي حقيقة التعدد والتنوع في الآراء والقناعات.

لهذا فإن مهمتنا جميعاً العمل على تطوير أوضاعنا الأخلاقية والثقافية والاجتماعية لاستيعاب مقتضيات التعاون دون تعصب أو انغلاق، يحول دون تحقيق قيمة التعاون في المجتمع.

والتعاون، كممارسة وأفق، مطلوب في كل الأحوال. فليس هو قيمة خاصة بالضعفاء، وإنما هو ضرورة في كل الأحوال والظروف. فالجماعة التي تشعر بالقوة لا يمكن أن تستغني عن بقية الأطراف.

لهذا فإننا نتطلع إلى ذلك اليوم، الذي تتضح فيه معالم التعاون المستديم بين جميع الجماعات والأطراف في المجتمع الواحد؛ لأن أهداف المجتمع وغاياته تحتاج إلى جميع الجهود والطاقات. ووجود مشكلة هنا أو هناك لا يمنع من التعاون، بل حينما ننفتح بعضنا على بعض ونتعاون نتمكن من محاصرة المشاكل كخطوة أولى في مشروع معالجتها.

والشيخ المرهون من النماذج التي تُحتذى على هذا الصعيد؛ حيث انفتاحه وتواصله مع الجميع دون تردد وحذر، وحيث استعداده الدائم للتعاون مع أي فكرة أو مشروع لخدمة المجتمع وتطوير أحواله.

لهذا ومن أجل أن تتعزز قيمة التعاون بين الأفراد والجماعات في مجتمعنا نحن بحاجة إلى:

1- بث الثقافة الدينية والاجتماعية، التي تحثّ على التعاون والتضامن والتكافل، وتحترم واقع الاختلاف والتعدد، ولا تعتبره حائلاً دون التلاقي والتعاون.

2- القيام بمبادرات اجتماعية وثقافية وعملية لإنجاز مفهوم التعاون والتلاقي. وفشل مبادرة هنا، أو إخفاق تجربة هناك، ينبغي ألَّا يُعطِّل المبادرات التي تستهدف التعاون والتلاقي بين جميع الأطراف.

3- العمل على إدارة الاختلافات الفكرية والاجتماعية والميدانية، بعقلية استيعابية، تُدوِّر الزوايا وتبحث عن الحلول التي تحول دون تفاقم الاختلافات والتباينات. فليس مطلوباً المماحكات والسجالات، التي تشحن النفوس وتُغذِّي الأحقاد، وإنما الحوار الهادئ والموضوعي الذي يوسع المشتركات، وينزع فتائل الصدام، ويحول دون استمرار حالة القطيعة والجفاء.

4- على ضوء التطورات والتحولات الكثيرة التي حدثت في مجتمعنا، وبعيداً عن لغة الوعظ والإرشاد، أعتقد بشكل عميق أن عالم الدين في مجتمعنا، وحتى يحافظ على موقعه في المجتمع، ويستمر في مسيرة العطاء لمجتمعه هو بحاجة:

* إلى قدرات فكرية وثقافية تُمكِّنه من بلورة خطاب ديني، قادر على استيعاب شرائح المجتمع وبالذات الأجيال الطالعة، والإجابة عن أسئلتهم، والتفاعل مع قضاياهم ومتطلباتهم المختلفة. وإن غياب هذه القدرة الفكرية والثقافية سيُضعف من دور وموقع عالم الدين في مجتمعنا.

* إمكانية روحية وأخلاقية وسلوكية، تُبعد هذه الشريحة المحترمة، من شبهات عديدة، تُقلِّل من موقعها، وتُساهم في تراجع دورها.

فعالم الدين في مجتمعنا، كما أنه يحتاج إلى قدرات معرفية تؤهله لمواكبة مستجدات الفكر والثقافة وفق رؤية وبصيرة إيمانية، هو بحاجة أيضاً إلى مناقبيات أخلاقية وروحية، تُبعده عن توافه الأمور أو سفاسف بعض القضايا المادية.

وهذه الإمكانية هي التي تعصم الإنسان من الانخراط في قضايا ثانوية، تشغل بال الإنسان وتفكيره.

ولأنه في مجتمعنا تطغى بعض النزعات المادية، نحن أحوج ما نكون إلى قدرة أخلاقية توازن بين متطلبات الروح والجسد، الحياة المادية والحياة المعنوية دون إفراط أو تفريط.

* إعادة صياغة الدور الاجتماعي لعالم الدين. بمعنى أن الحضور المأمول لعالم الدين في مجتمعنا على ضوء أحواله الجديدة، تتطلب معاودة النظر في طبيعة الأدوار التي يقوم بها عالم الدين في مجتمعنا.

صحيح أن هذه الشريحة كغيرها من شرائح المجتمع، لا تمتلك حلولاً سحرية لواقع المجتمع، ولكننا نعتقد أنها أكثر الشرائح الاجتماعية قدرة على اجتراح مهام ووظائف تعود بالنفع والتأثير الإيجابي في مسيرة المجتمع.

فالمناقبية الأخلاقية هي التي تحول دون الانخراط في مشاكل تزيد من التفتت الاجتماعي. كما أنها الشرط الضروري لممارسة الدور التوحيدي والحاضن لجميع الفعاليات في المجتمع.

وبالقدرات الفكرية والمعرفية، نُجدِّد حياتنا الدينية والاجتماعية، ونُطوِّر من وعي أبناء مجتمعنا، ونحول دون ابتعادهم عن قيم الدين وثوابته.

وبالدور الاجتماعي الفاعل، نُساهم في تأسيس مؤسسات لحماية المجتمع وزيادة وتيرة تلاحمه الداخلي، وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي تحمل هم الشأن العام.

ونحن إذ نطرح هذه الفكرة، ندرك أن في سماء مجتمعنا الكثير من النجوم المتلألئة التي تقوم بدورها، وتمارس وظائفها المتعددة، وتحمل مشعل وراية النهضة والتقدم لمجتمعنا في مختلف المجالات.

الخاتمة

من الضروري أن تُقرأ تجربة العلامة الشيخ علي المرهون في سياقها التاريخي والاجتماعي، بعيداً عن عمليات الإسقاط، أو تجاوز مقتضيات اللحظة التاريخية والاجتماعية، التي تَحرَّك فيها الشيخ المرهون في أنشطته الدينية والدعوية وفعالياته الاجتماعية المختلفة.

لأننا نعتقد أن قراءة هذه التجربة في سياقها التاريخي والاجتماعي، سيجعلنا نكتشف أن الشيخ المرهون ووفق إمكاناته وظروف مجتمعه المختلفة، هو أحد أعلام الإصلاح الديني والاجتماعي في فضائنا الاجتماعي.

وبعيداً عن إطلاق أحكام قيمة على هذه التجربة سواء في أولوياتها أو مآلاتها، فإننا نعتقد أنها تجربة ثرية في بُعدها الاجتماعي، وقدرة صاحب التجربة على التواصل مع مختلف شرائح المجتمع.

فالتواضع إلى الناس، والإنصات إلى همومهم، والعمل على تعريفهم بأمور دينهم عبر وسائل تمكن فئات المجتمع المختلفة من فهمها والالتزام بمقتضياتها.

فأفق الإصلاح والتغيير يتبلور في أي مجتمع، حينما يمتلك المصلحون إرادة الإصلاح وعزيمة التغيير وإصرار رجال التاريخ.