تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

أنثربولوجيا الدازاين : قلب المفهوم التقليدي للكائن الإنساني

الدكتور: مهنانة إسماعيل

أنثربولوجيا الدازاين

قلب المفهوم التقليدي للكائن الإنساني

الدكتور: مهنانة إسماعيل

لقد ازدهرت الدراسات الأنثروبولوجية والأتنولوجية، منذ بدايات القرن العشرين بشكل غير مسبوق، فقد أدّت أبحاث كل من مارسيل، موس وليفي برول إلى طرح أهم الأسئلة الفلسفية على الإطلاق: ما هو الإنسان؟، طرحاً علميًّا أو يدّعي ذلك، وهو السؤال الأوديبي الذي ستقفز به ثورة كلود ليفي ستروس البنيوية إلى أعلى مستوى من العلمية والجدية، ولم يكن مارتن هيدغر(M. Heidegger,1889-1976) في غفلة عن السؤال أو الأبحاث التي تدور حوله، لقد افتتح مدوّنته الأساسية «الوجود والزمان» سنة 1927، بالتساؤل عن الكائن الذي يسأل، أي الإنسان، لكن هيدغر يحاول قدر المستطاع أن يسمو بسؤاله عن كل طرح أنثروبولوجي أو علمي؛ لأنه يعتبر الأنثروبولوجيا إلى ذلك الحين لا تخرج عن دائرة الميتافيزيقا في التساؤل عن ماهية الإنسان، ولهذا نجده كذلك يستبدل سؤال الماهية (ما هو الإنسان؟) بسؤال أكثر جذرية: من هو الإنسان؟، أكثر من ذلك سيستغني هيدغر نهائيًّا عن كلمة «إنسان» لتختفي نهائيًّا من النصوص اللاحقة وتظهر بدلها مصطلح الدازاين Dasein الفاقد للماهية، فهو يعنى الوجود-هنا، وفقط: «أكثر أصلانية من الإنسان تناهي الدازاين في ذاته».

يبدو جليًّا أن استغناء هيدغر، منذ البدء، عن مصطلح «الإنسان» ذو دلالة عميقة في مدى جذرية الطرح الذي تبتغيه «تحليلية الدازاين»،فـ«الإنسان» محمّل بالدلالات الدينية والأخلاقية والميتافيزيقية التي يريد هيدغر وضعها «قاب قوسين» وفقاً للمبدأ الفينومينولوجي الشهير (الإيبوخية) الذي لا يزال هيدغر إلى ذلك الحين وفيًّا له، ويعني تعليق الحكم حول كل هذه الدلالات وضع الأنثربولوجيا نفسها كعلم بين قوسين، واختزالها إلى أفق الميتافيزيقا وتاريخ النسيان الذي يطال الفكر الغربي في كليته، يقول هيدغر: «تبين الأصول التي تنحدر منها الأنثروبولوجيا التقليدية؛ أن مسألة وجود الإنسان قد طالها النسيان حينما اجتهدت في تحديد ماهية الكائن «الإنسان»، أي أن الأنثروبولوجيا برمّتها تقوم على فرضية ميتافيزيقية مفادها أن «للإنسان ماهية محددة» رغم فشلها الدائم في الوصول إلى هذه الماهية، وهو ما يبقيها دوما رهن التخمينات الميتافيزيقية، ويحرمها من العلمية التي ترومها. إن شرط قيام أنثروبولوجيا جديدة خارج المفاهيم الميتافيزيقية هو تجاوز الفكر لعارض الماهية، يبدو الدازاين في مبدأ تعريفه تعليق لماهية الإنسان، ووضع لكل تعريف سابق قاب قوسين، وهنا نجد هيدغر واضحاً حينما يتساءل: «ما هو الإنسان؟ هل هو عبور؟ اتجاه؟ عاصفة أتت على كوكبنا؟ أم هو عودة وسقط للآلهة، إننا لا نعرف».

إذا كانت هيرمينوطيقا الدازاين لا تعرف ما هو الإنسان؛ فإنها تعرف «من هو الدازاين»، وتضع المقولات الأساسية التي على أساسها يمكن معرفة «من هو الإنسان؟» في الأخير، أي أن تحليلية الدازاين ليست تعريفاً للإنسان ولكنها الدرب الأنطولوجي الذي يقود نحو هذا التعريف: «يأخذ السؤال: «من هو الإنسان؟» مظهر درب مطروق، إنه على أكثر تقدير تيار بلا هدف تسقط عليه عاصفة الوجود»، فإذا كانت «هيرمينوطيقا الدازاين» تتقوم بمفاهيم أنطولوجية مثل القلق، السقوط، الكلام، النسيان، الموت، الولادة، التزمّن، ألا يمكن الانطلاق من هذه الأنطولوجيا الأساسية في بناء «أنثروبولوجيا» جديدة؟

لا تكون الأنطولوجيا التي هي نظرية الوجود، ممكنة وأصيلة إلا في ضوء «الوجود الإنساني» أي الكائن المتسائل، فالوجود الإنساني يتحدد بدءاً في علاقته بماهية السؤال وبنيته، أي أن الأنطولوجيا مبدئيًّا تفترض أو تؤدي إلى تساؤل أنثروبولوجي، وهو ما تهيئ له ما أسماه هيدغر آنذاك بـ«هيرمينوطيقا الدازاين» l’herméneutique du Dasein، وهيدغر نفسه يعترف أنه: «لا يمكننا أن نطرق الوجود ذاته بدون تجربة أكثر أصالة في ماهية الإنسان، والعكس صحيح»، صحيح أننا هنا نجد أنفسنا في دور، ولكنه بوسعنا أن نتبع تطور هيرمينوطيقا الدازاين نحو بناء أنثروبولوجيا تعتبر انقلاباً جذريًّا على المفاهيم الميتافيزيقية حول الإنسان التي لا تزال الإنسانية تلوكها منذ أفلاطون.

يعرَّف الإنسان منذ أرسطو بوصفه حيواناً عاقلاً animalis rationis أي أنه اتحاد «للعقل» «والحياة» في كينونة واحدة، ارتباط جوهري للحسي واللاحسّي، أي (تجاور ما) للجسد والنفس أو الروح، وهي المسلّمة الميتافيزيقية التي تقوم عليها الأنثروبولوجيا التقليدية بأسرها، والمسلّمة التي تقوم عليها كل الخطابات الدينية والنظريات الأخلاقية التي جاءت بعد أفلاطون، يتعجّب هيدغر كيف أن الفكر لم يتساءل لحد الآن عن وجود هذا الاتحاد والارتباط أو التجاور بين الجسد والنفس؟ كيف وأين يرتبط العقل بالحياة؟ ثمّ ما هو العقل؟ وما معنى الحياة؟ وما هو الجسد؟ وما معنى النفس؟ وهل الجسد الإنساني هو نفسه العضوية الحيوانية مضافاً إليها عنصر العقل أو الروح؟ ألا يبدو افتراض مثل هذا التجاور والاتحاد ساذجاً وسطحيًّا؟ ثمّة إذن وابل من الأسئلة يصب على الفكر السؤول بمجرد ما يخوض في هذا المضمار.

تنطلق هيرمينوطيقا الدازاين من فرضية: «أن الجسد الإنساني هو شيء آخر مختلفاً جوهريًّا عن العضوية الحيوانية»، كما سيكشف هيدغر فيما بعد، فالأنثروبولوجيا التقليدية وقعت في فخ الخلط والشبه بين الجسد والعضوية الحيوانية، إن الجسد يتخارج إلى العالم، لأنه يتواصل مع عالمه عن طريق الحس واللغة، في حين أن الحيوان فاقد-للعالم weltlos، لأنه لا يتخارج ولا يتزمّن، وهو كذلك لأن الحيوان ليس له استشعار للموت، بل إنه يفسد ولا يموت، فالدازاين وحده يموت، كما يقول هيدغر، يتوجب على الأنثروبولوجيا الجديدة إذن، أن تتجاوز فكرة الإنسان الحيواني المرتقي بالعقل؛ إلى تعريف للدازاين انطلاقاً من تخارجه تزمّناً من إضاءة الوجود، وانقذافه نحو عالمه بموجب هذا التزمّن، فـ«هنا حيث الإنسان تائه في ارتقائه نحو الذاتية؛ يكون النزول أشقّ وأخطر من الصعود، النزول يقود إلى فقر الوجود الخاص بـ«إنسان الإنسانية homo humanus، ففي تخارج الوجود يتم التخلّي عن دائرة «الإنسان الحيواني» homo animalis الذي تطرحه الميتافيزيقا» يقول هيدغر.

يبدو أن رسم «الاختلاف الأنطولوجي» بين «الدازاين» و«الإنسان الحيواني» يبدأ من «الموت»: فإذا كان الدازاين يتخارج في تحقيق إمكاناته التي يختارها في أفق عالمه، فإن الموت هو إمكانية قصوى، إمكانية ألاّ تكون هناك إمكانية، وبالتالي فهي الإمكانية المحايثة لكل الإمكانات الأخرى، لأن كل إمكانية تفترض التحقق وعدم التحقق، وبالتالي فالموت ثاوٍ في كل سلوك يقوم به الدازاين، يحمل هذا الأخير موته الخاص عبر كل اختياراته، ومن هنا يكون وجود الدازاين وجود-للموت، ليس الموت نقطة نهاية «تنتظر» الدازاين في «المستقبل»، بل إن الموت يحمل المستقبل إلى الدازاين في شكل توقع وتوثب لكل إمكانية أخرى، ولهذا فهو يتزمّن انطلاقاً من المستقبل، والزمانية الأصلية «تأتي» الدازاين على جهة المستقبل، رغم أن التزمن لا يحمل له أي نبأ أو محتوى واقعي عن «العالم»، يقول ميشال هار: «إن الوجود إلى الموت باعتباره وثبة لتقديم الإمكانية الأخص التي لا يمكن تجاوزها؛ يفتح الطريق للزمانية الأصلية ولكنه لا يسمح بأي امتلاء ولا يفرز إلا «الهو» Le Soi بدون محتوى وجودي، إنه نداء الوعي؛ فداخل رنين القلق لا يسمع إلا صوت لا يقول شيء، نداء ليس له أية رسالة، ولكنه يقذف الدازاين نحو العراء الوحيد لوجوده»، والدلالة الأنثروبولوجية لذلك هي أن وجود الدازاين أو الوجود-للموت أو التزمن –نفس الظاهرة- ليس لها أية دلالة في ذاتها وبالتالي فالدازاين لا ماهية له، وجوده لا يتضمّن أية دلالة أخلاقية أو جمالية كما تفترض الأنثروبولوجيا التقليدية.

كيف يمكن تأسيس أنثروبولوجيا إذا كان الدازاين لا ماهية له؟ إذا كان وجوده فاقداً لأية معنى؟

إن الوجود هو الوجود-في-العالم، وإذا كان الإنسان وحده «يملك» عالماً؛ فمعنى ذلك أن العالم لا «يعني» شيئاً للحيوان، ولكنه «يعني» كل شيء للدازاين، والعالم لا يحصل على «معنى» إلا بوجود-الدازاين، أي أن «المعنى» مشروط باهتمام الدازاين وعنايته بعالمه، فالعالم لا «يعني» إلا بقدر ما «يُعنى» به، إن «العناية» أو الاهتمام هي إشارة الدازاين لعالمه المنسحب دوماً، فالدازاين «مهموم بذاته» وهو حين يشير إلى عالمه، يشير إليه بوصفه «آخر»، «ما ليس هو...» وهو معنى الانسحاب كشرط للتجلّي، يقول هيدغر: «نحن قبل كل شيء هم نحن أنفسنا، ولن نكون كذلك إلا بكوننا نشير إلى ما ينسحب؛ هذه الإشارة هي ماهيتنا، إننا ما يصف هذا المنسحب، ما يسم الاتجاه، الإنسان هو الوجود الذي يشير».

إذا كانت هناك من ماهية للإنسان، فهي كونه اتجاهاً، إشارة ومنحى، أي بمعنى الوجهة والناحية والمكان، فـ«الإنسان هو المكان المانح للعدم»، كما يقول هيدغر، إنه الفسحة la Contrée التي يفتحها وجوده-في-العالم، وإذا استعدنا القول: إن الدازاين ليس موجود، ولكنه يتزمّن، أي أن وجوده هو عين تزمّنه، أمكننا القول: إن تزمّن الدازاين-في-اتجاه-العالم هو عينه فسح المكان أو الفسحة التي شأن الدازاين، فالمكان إذن ينتمي إلى بنية الزمان وهو بعد من أبعاده، إن الوجود بوصفه تزمّناً أي الزمانية هي من يرسم المكان والوجهة والمنحى التي من شأن الدازاين، وبعبارة ميشال هار: «ترسم الزمانية التي لا يمكن امتلاكها؛ الدائرة الأكثر شساعة المتضمنة لكل البنى»، لقد بدأ الإنسان حينما بدأ التزمّن، ورغم انتماء الزمان للإنسان؛ وانتماء الإنسان للزمان؛ لا يمكن القول: إن أحدهما ينتج أو يصنع الآخر كما يقول هيدغر: «الزمن ليس من صنع الإنسان، والإنسان ليس من صنع الزمن، لا يوجد هنا صنع، ولا يوجد فعل»، إن ما يوجد هو حدث انفتاح أحدهما على الآخر، حدث أساسي يسمّيه هيدغر بالعهد Ereignis، العهد بين الزمان والإنسان، يبدو أن كل أنثروبولوجيا فلسفية مقبلة يجب أن تعود إلى هذا العهد أو الحدث لتشكيل تفسيراتها وفرضياتها حول الإنسان.

لكن التزمّن، كما رأينا، فارغ من كل معنى، فليس التزمّن إلا انقذاف الدازاين من خواء القلق إلى عراء العالم، وإذا كانت هناك من وجهة لهذا التخارج فهي وجهة المستقبل، وجهة زمانية، إننا «المستقبليون» الذين تتحدث عنهم «المساهمة في الفلسفة» 1938، فهل تكفي هذه البنى لبناء أنثروبولوجيا فلسفية؟، وحسب تساؤل ميشال هار: «هل يمكن اختزال الإنسان إلى مجرد انفتاحة تبدو في الأخير غامضة، إلى بعد تخارجي Extatique خالص؟».

يجيب هيدغر ضمناً أن الانفتاح والتخارج تزمناً والليسية أو السالبية؛ كلها أبعاد تحيل إلى فكرة التناهي finitude/ Endlikheit في تعريف الإنسان، إن التناهي هو المدخل الأساسي لكل أنثروبولوجيا أصيلة، وكما يشرح غادامير: «مازال هناك الكثير مما يرتبط بتناهي الكائن الإنساني، ومن هنا مثلاً أحجية النسيان الكبيرة، إن الكومبيوتر شيء بالغ الفقر، لأنه لا ينسى، لذلك فهو غير مبدع، ذلك إن الإبداع يعتمد على الخيارات التي يكوّنها عقلنا، وعلى قدرتنا على التفكير»، يبدو أن تفكير الإنسان انطلاقاً من التناهي لا يفسر فقط اختلاف الإنسان عن الكومبيوتر، بل كذلك والأكثر أهمية هو اختلافه عن الحيوان، فالتناهي يعني أن الموت أو العدم يشكّل نسيج الدازاين: «الفانون هم معشر الإنسان»، كما يقول هيدغر، والإنسان جثة ينخرها العدم منذ الولادة: «إننا نموت...» يضيف الفيلسوف، أي أن الحياة والموت متجاوران ومتداخلان في جسد الدازاين بل هما الشيء نفسه، إن الحياة، أو «عالم الحياة» الذي كان هوسيرل يبحث عنه في «البنى المتعالية للوعي» قد وجده هيدغر في «التزمّن القلق للدازاين انطلاقاً من الموت المحايث لجسده»، وهو زمانية أصيلة، يبقى أن نضيف لذلك أن التزمّن هنا يتخارج إلى الزمانية اللا-أصيلة أو الزائفة inauthentique، أي التخارج كلاماً وثرثرة، فبالكلام يبسط الدازاين عالمه، إنه لا يخلق عالماً ولكنه يكشف عنه بالكلام، وهو بذلك يشهد على تناهيه الأكثر عمقاً: «الإنسان هو الإنسان بوصفه من يتكلم»، يضيف الفيلسوف.

تمثل اللا أصالة أو الوجود الزائف في «الوجود والزمان» دائرة الأنثروبولوجيا، في مقابل الوجود الأصيل الذي هو مجال الأنطولوجيا، وليس للأصالة والزيف هنا أية دلالة أخلاقية، بل هي مجرد «مقولات» للتحليل الوجودي للدازاين، فاللا أصيل يحيل إلى «الدازاين-مقذوفاً-به-في عالم الناس حيث الكلام والفضول والثرثرة؛ هي الاغتراب الأصلي الذي يهرب إليه من قلق الموت الذي يمثل أصالة التناهي الخاص، «إن الإنسان غريب في ماهيته الأخص»، يقول هيدغر، فالاغتراب إذن أو الغربة هو البعد الأنثروبولوجي للدازاين، فمن أين يتأتى هذا الاغتراب الأصلي الذي من شأن الدازاين؟

يبدو أن تخارج الدازاين كلاماً، أو بالأحرى ثرثرة صامتة تصف الوعي، يجعل الدازاين مخترقاً دوماً بصوت عفوي، يصدح من أعماق القلق الصامت و«المتجمّع كالضباب»، يسميه هيدغر بـ«النداء»، أو نداء الضمير، يمثل النداء الإمكانية الذاتية للدازاين في اختار وجوده في «كل مرة» أو القدرة الذاتية على التخارج والوجود والتزمّن، أن يكون نفسه في كل مرة، فهو نداء فارغ من كل محتوى كما رأينا، يقول هيدغر في «الوجود والزمان ص 294»: «إذا كان نداء الضمير/ الوعي لا يمنح ضمانات عملية، فلأنه فقط يستدعي الدازاين إلى وجوده، إلى القدرة-على-الوجود؛ أن يكون نفسه الأكثر خصوصية»، يبدو أن وجوده القلق هو ما يمنحه «القدرة» على الاختيار، ويجبره على ذلك، أي يشعره بضرورة الاختيار، مفهوم يبدو متضاداً ولكنه غير متناقض في هذا المستوى من التحليل الأنطولوجي، فالحرية والضرورة هنا تعبران عن الشيء نفسه عن «العزم» أو «القرار» الذي يجد الدازاين نفسه مدعوًّا إليه، أي منادى عليه، «ولا يعني سماع النداء بالنسبة للدازاين إلا فهم الضرورة الوجودية للاختيار الخاضع للآمرة الوحيدة، وهي أن «يختار نفسه» في كل الحالات»، كما يقول ميشال هار، يبدو أن الدازاين هو المنادي والمنادى في الوقت نفسه، ولهذا تتوقف هنا كل إحالة إلى أفق آخر، كما تفعل الميتافيزيقا، فالقلق هو الأفق النهائي لكل البنى الأنطولوجية الأخرى وهو «السديم» الذي منه تتشكل كل إمكانات الدازاين، وبعبارة أنثروبولوجية: القلق هو ما يجعل من الإنسان إنساناً، وبعبارة هيدغر: «المنادي هو الدازاين القلِق في وجوده المقذوف».

يعبر النداء إذن عن عفوية التخارج والتزمّن أو الإمكانية الذاتية التي يمنحها القلق للوجود الإنساني،ولكنه أيضاً يعكس خضوع الدازاين لقوى غريبة عنه: «إن هذا الصوت العفوي هو العفوية المضادة عينها، إنه يرمي الدازاين في غربته المحضة منعزلاً»، فالنداء مستمد من الكلام، والكلام يستمد وجوده من اللغة، واللغة ليست بريئة؛ فهي محملة بكل أشكال السلطة والقسر الاجتماعي، ولهذا بمجرد ما يتخارج الدازاين عن وجوده الأصيل يجد نفسه مخترقاً من طرف السلطة ومغترباً في الناس، وهنا نتساءل مع ميشال هار: «كيف يمكن للدازاين أن يكون سيد نفسه إذا كان مسكوناً بصوت غريب؟، يقول هيدغر ما مفاده أن استجابة الدازاين للنداء هي اختياره لنفسه أمام إمكانات العالم، أي اختلافه عن العالم، أو الموجود، وهو الاختلاف الأنطولوجي الذي يجعل الدازاين دوماً يشعر بالدّين (la dette) إزاء عالمه، أي قلق الانفصال الأصلي، بعبارة فرويد،: «باختيار الدازاين لنفسه، يكون قد جعل وجوده-المدان الأخص ممكناً»، فالدّين هو أن يكون للآخر «فضل» عليك، أن يشكّل وجوده شرطاً في وجودك على ما أنت عليه، وهو الدور الأساسي الذي يلعبه «العالم» و«الآخر» في وجود الدازاين: «الوجود-مداناً être-en-dette هو أن تكون أساساً لليسية، إنه بالخصوص أن تكون أساساً مصاباً بالليسية، وهنا ينقلب التحليل»، فالدازاين في انقذافه إلى العالم يتحدد بوصفه «ليس هو...» أي مختلف جذريًّا عن كل موجود، وهو ما يشكل أساساً للموجود والعالم، وفي الوقت نفسه يكون بموجب هذه الليسية، كائناً بلا معالم..، أي فاقداً لكل ماهية أو هوية، إنه «العدم المتعادم» أو «الهاوية» Abgrund، التي تشكل أساس Grund وجود الوجود.

الحق أن تناهي الدازاين في القلق الكاشف عن العدم أو العدم المتعادم، المتجمع كالضباب، كقرار للهاوية، والتي جعلها هيدغر أساساً لوجود الموجود، منذ محاضرة «ما هي الميتافيزيقا؟» سنة 1929، سيقوده شيئاً فشيئاً إلى تشكيل فكر المنعطف Die Kehre، حيث تتطور هيرمينوطيقا الدازاين في خطّين لا يفتآن يتباعدان عبر كل الكتابات اللاحقة: الخط الأنطولوجي الذي يجعل من الدازاين «أساس» وجود الموجود، والأصل الذي يعزى إليه «الوجود-في-العالم»، والخط الأنثروبولوجي الذي يحاول التأكيد على اغتراب الدازاين واختراقه من طرف البني المحددة للوجود-في-العالم، ففي سنة 1929 يقول «ليس نحن الأحرار بل الحرية هي من يمتلكنا»، وفي سنة 1943 يقول: «إننا لا نتوصل أبداً إلى الأفكار؛ بل هي من يصل إلينا»، ثم يقول سنة 1952: «ليس نحن من يلعب بكلمات اللغة بل اللغة من يلعب بنا»، ليخلص في آخر كتاباته إلى التأكيد بقوله: «عن أي نداء نتكلم؟ إن وجودنا في كل المجالات؛ منتهك، مضغوط، متحرش به ومحشور في ضائقة، وبكل هذه الوسائل المسخّرة لتحويل جهده نحو التخطيط والتحسيب الكوني»، ومعنى ذلك أن تشكيل أنثروبوجيا هيدغرية يتطلب تتبع هذا الخط من هيرمينوطيقا الدازاين عبر كل تشعّباته، وهو ما لا يتسع له المقام هنا.

نكتفي هنا بالقول: إن إناسة هيدغر هي إناسة «الإنسان الأخير»، الإنسان المنتَهك، المضغوط، المحشور في ضائقة، الدازاين هو إنسان بلا ملامح، بلا ماهية وبلا هوية، الغريب في حميميته،.. أنت أخير لأنك لا أحد: «لم يعد للإنسان أية هوية إلا تلك التي تستقبل الإتيان إلى الوجود بقلق وشجاعة، تتأرجح ماهيته بين الإعجاب والخوف، إنه مسكون برعب الهاوية ويقترب من «المتعذّر عن التدمير» Unzerstrorbaren، ينتظر ما لا يمكن تجنبه»، الإنسان الأخير هو إنسان القلق لأن القلق يتوارى في «صمت عميق» ليكشف عن أقنعته في وجه العالم، وكم هي كثيرة أقنعة الإنسان الأخير، ولهذا كما يقول ميشال هار: «يعزو هيدغر للقلق نوع من الجلاء ونفاذ البصيرة، قدرة على الإلهام السامي، قوة محررة... القلق هو غرابة مطلقة إزاء الناس، إنه الهروب أو فقدان الذات في الناس، هو هروب أصلي أمام القلق من الذات»، يترجم القلق كذلك عجز الفكر عن تغيير تاريخ الوجود، إنه يعكس العجز الأصلي للإنسان الأخير في تغيير قدره، فهو مجرد متلقٍّ لهبة الوجود، كونه ينقذف بالقرب من الوجود المنفتح، ولهذا: «تُدخِل موضوعة الوجود-المنفتح؛ نقداً جديداً للفعل action عبر الفقرة 60 من «الوجود والزمان»»، الحق أن هيدغر يسخر بمرارة من كل الفلسفات العملية التي تدعي إنقاذ الإنسان من قدره.

 

 

 

في البدء كان الاعتراف

تحية حب وإكبار إلى أستاذ الأجيال
محمد جسوس عالماً ومناضلاً وإنساناً

مصطفى محسن

أستاذنا المبجل، أيها الكرام الحاضرون، عمتم صباحا في هذا اللقاء الباذخ البهاء:

على الرغم من كون علاقتي بعلم الاجتماع تعود، في جذورها الأولى، إلى أواسط ستينات القرن الفائت، حيث كنت وقتها تلميذاً بآسفي في المرحلة الإعدادية، ثم لتتوسع وتتضح بعض معالمها أكثر مع بداية التحاقي بالجامعة أواخر العقد ذاته، فإن توطد هذه العلاقة -جنباً إلى جنب مع اهتماماتي الفلسفية والإبداعية...- لم تكن بدايته الفعلية إلا بعد تعرفي على عالم الاجتماع المغربي الكبير أ. د. محمد جسوس، وتتلمذي عليه، بشكل مباشر، في سني أواخر سبعينات القرن المذكور، كي تتواصل هذه العلاقة الروحية، وتزداد حميمية وعمقاً فكريًّا وإنسانيًّا وصدق محبة وإخلاص ووفاء حتى الآن.

ونظراً لما كان لهذا المفكر والمربي الرائد من دور هام، وربما حاسم، في تكويننا العلمي وتوجيهنا الفكري والاجتماعي العام، نحن أجيالاً بأكملها، فقد ظلت تراودني، منذ مدة، هواجس متأججة ودائمة حول الكتابة عن محمد جسوس مربيًّا فذًّا وعالماً ومناضلاً وإنساناً... ولعل من بين أهم دوافع ذلك -في تفسيري الشخصي على الأقل- خصوصية تلك الوشائج الودية التي ما فتئت تربطني به خلال أكثر من ثلاثة عقود أشرف فيها على كل أبحاثي الجامعية بلا استثناء، وبأرقى ما تتطلبه هذه المسؤولية التربوية النبيلة من أخلاقيات الحوار والتوجيه والتحفيز والرعاية والاحتضان... هذا فضلاً عن إحساسي بأن ما يجمعني عاطفيًّا أيضاً مع أستاذي محمد جسوس هو ذلك الشعور المشترك الممض بسطوة المرض واعتلال الجسد، مما اكتوى بناره منذ أمد بعيد، ومما انظلمت به بدوري يافعاً يوقع خطواته الأولى في مدارج تجربة الكتابة والبحث والإبداع...

ولذا فقد كانت نضالاتنا متعددة الجبهات، لا تقف عند حدود الاجتهاد في ميادين التخصص أو العمل أو الاهتمام...، وإنما تتخطى ذلك إلى ضرورة الثورة الدائمة المستميتة من أجل قهر الهزيمة وخذلان الاستسلام وقسوة الموت المعنوي الغاشم... مما ينيخ على الفكر والوجدان من ضيوم ولواعج وجراحات بليغة مبرحة...!

وربما لهذه الأسباب كلها، قد خامرني، منذ مدة، شعور غريب -قد يكون حقيقة أو مجرد وهم، لا أدري!- شعور مفاده أنني قد أصبحت، بفضل علاقة التلمذة القوية التي تجمعني بـ«سي محمد»، من أقدر تلامذته جميعاً على فهم فكره، وما يقوم عليه من ميكانيزمات الخطاب/ أو الخطابة أو التلقين أو التحاور والتواصل... لذا فقد انتهزت فرصة المواظبة على حضور دروسه في وحدة «النظريات السوسيولوجية» بالسلك الثالث، ولاسيما منذ مستهل الثمانينات من القرن الذي مضى. وكنت حينها في عز فورة الانبهار بالذات، طالباً مجتهداً ومدرساً موفور النجاح، مهموماً بمشاغل المهنة، اختياراً ونضالاً وصحوة ضمير.

هكذا إذن، وبخلفية ذكاء المربي ووعي «المتعلم» الذي خبر ممارسة هذه المهنة منذ عهد «الكتاب/ لمسيد»، كنت أقتعد الصفوف الأمامية في الغالب، مصغياً بدقة متناهية إلى محاضرات الأستاذ محمد جسوس، ملاحقاً حركاته وسكناته، صعود نبرة، وفتوراً وتوتراً، منشدًّا بدهشة آسرة إلى جمالية أساليبه الفريدة الذكية في العرض والتلقين والتمثيل والاستشهاد والشرح والتخريج... منشغلاً بمحاولة الفهم العميق للعديد من الإواليات التي يتأسس عليها خطابه، والتي تتمثل في بعض طرائقه في التساؤل والنقد والتحليل والتركيب والاستنتاج...، كما في أشكال البرهنة والحجاج والاستدلال والاستعارة والمقابلة وغير ذلك من مقومات وعناصر المنطق الداخلي الذي يوجه لديه مجريان القول والتفكير...

إلا أني حينما كنت أخلد إلى الذات في بيتي، «زعيماً لعصابة» من الطلاب الباحثين الجادين المتمردين، المسكونين دوماً بهوس التنطع بالمساءلة والتحليل والنقد للعديد من الأفكار والطروحات والقيم والممارسات التي كانت وقتها متداولة في الحرم الجامعي أو في الحقل التربوي والثقافي والاجتماعي بشكل عام... كنت أرفع عقيرة صوتي في أوجه هؤلاء: ألا اسمعوا «يا صعاليك»، «يا قبيلة بني جسوس» وأصحاب «دار الندوة» هذه، فنحن ننتقد أفكار ودروس محمد جسوس بنفس الأساليب المنهجية التي علمنا إياها هو نفسه في محاضراته حول «سوسيولوجيا الأنساق الثقافية والأيديولوجية»! ولكن اطمئنوا فأنا «غادي نعجبكم في سي محمد»! سأقدم تحت إشرافه أطروحة جامعية «واعرة»، وسترون كيف «سأقهره» بها: جدة وجودة علمية عالية!

وبالرغم من أن أزمة صحية خطيرة ألمت بي وقتذاك، وحالت بيني وبين تسجيل هذه الأطروحة فيما رسمت لها من خطة للإنجاز، إلا أني تمكنت من ذلك لاحقاً. وقد ظلت فترة الاشتغال مع محمد جسوس، على متاعبها وعلاتها، فترة متعة وفائدة بالنسبة لي. فقد تمكنت فيها من تمتين علاقتي به مربياً ومفكراً وإنساناً، واكتشفت عن كثب، تكوينه الموسوعي الذي يند عن كل إحاطة أو حصر أو تحجيم أو اختزال...خاصة وأني كنت قد تجندت لملاحقته أينما وأنى كان، سواء في بيته الذي كنا ندعوه «الزاوية»، أو في الكلية، أو في أي مكان. وفي الكثير من الأحيان حتى بلا موعد أو أي إخبار سابق. وغالباً ما كان يفتح لنا باب منزله، نحن مجموعة من طلبته، أو يمتثل لرغبتنا في أن نختطفه إلى أي فضاء نختاره لمجالسته، والتي كانت تستمر -رغم سوء أحواله الصحية- ساعات طوالاً نخجل ونشفق عليه من آثارها وتعبها، بل كثيراً ما كنا نصاب نحن قبله بالتعب والإرهاق، فنضطر، مكرهين، إلى مطالبته بالتوقف رفقاً بنا، وإرجاء تكملة المحاضرة إلى جلسة أخرى قابلة. مكبرين فيه غيريته السخية، وقدرته العجيبة على التحمل والتضحية والإيثار...

ولعل من أجمل الذكريات التي مازلت أحتفظ بها عن هذه المرحلة المتألقة من حياتي الجامعية، أنني كنت أجالس ذات مساء، بمقهى فلامينكو بأكدال، نخبة طيبة من أساتذتي وزملائي المربين والباحثين: د. مولاي أحمد العلوي، د. عبد الرحيم حمادات، د. البشير التيزنيتي، والمرحوم د. عبد السلام السليماني وغيرهم... وفي غفلة مني باغتني مولاي أحمد بلكمة خفيفة وبصوته المتهدج المعهود: «ها صاحبك، ها صاحبك!». وقبل أن ينهي ترديده لهذا التنبيه، انتفضت مهرولاً لأنقضَّ، بسرعة البرق، على سي محمد جسوس، ولأوقفه عن سيره في شارع فال ولد عمير. واستغرقنا الحديث عن الأطروحة فترة غير يسيرة لم نشعر أننا كنا خلالها نقف تحت نثيث مطر كثيف جلل هامة رأس كل منا ببرودة ربيعية ناعمة، وعلى وتيرة تصاعد إيقاع قطرات هذه المطر الجميل أطلقت سراح سي محمد، ودعته معتذراً وعدت إلى «شلة» الجلساء، مبشراً إياهم بأن الأطروحة ستتم مناقشتها عما قريب. وذلك بعد أن «أشبعها» هذا المشرف العنيد، من بدايتها إلى نهايتها، متابعة وقراءة ومراجعة نقدية ومقترحات نظرية ومنهجية عميقة متعددة... مما مازلت أعتز بقيمته الفكرية والإنسانية حتى الآن.

وحتى أكون وفيًّا بوعدي لـ«عصابة المتمردين»، التي حدثتكم عنها، بأن أقدم أطروحة في المستوى، وبينما كنت في «الزاوية» عفواً، ببيت سي محمد جسوس، خاطبته متحدياً -ولكن بأدب ولباقة بالغين-: «كيف حيتك أسي محمد؟»، أقصد تقييمه لعملي. أطرق قليلاً ثم رفع بحياء رأسه مبتسماً: «أعتقد أن للغة وأسلوب كتابتك قرابة ما بمنهجية الجابري في سلالة اللغة ووضوح الأفكار وبلاغة التعبير». فلم يكن مني سوى أن أجبته على الفور: «ألم أقل لك حينما كنت تعلق على بعض مضامين أطروحتي أنك، يا أستاذي العزيز، أمام أديب وفقيه ولغوي محنك لا يشق له غبار، قبل أن تطالني عدواك، وأتحول على يديك بالذات إلى سوسيولوجي مشاغب؟» ربت على كتفي بيده مازحاً ومداعباً، ثم استطرد: «هذه خاصية في الأسلوب والكتابة لدى بعض الباحثين عندنا في شعبة الفلسفة. لذا، وبما أن موضوع بحثك يتمحور حول (سوسيولوجيا الخطاب الفلسفي المدرسي...)، فإنه يستحسن أن يشاركنا في مناقشته أحد الباحثين في الحقل الفلسفي». وذلك هو، بالفعل ما حصل، حيث كان دور الصديق الأثير والمفكر المجتهد في هذه المناقشة، د. محمد وقيدي، ذا قيمة مضافة معبرة.

وأنا أستحضر هنا، وبشكل مجتزأ سريع، بعض صور العلاقات التربوية والإنسانية المتميزة التي كانت -ما تزال- تربط سي محمد بطلابه ومريديه، تحضرني ملاحظة دالة معبرة لابد من المرور عليها، ولو كراماً، وذلك للشهادة والتاريخ. فنظراً لما يتميز به هذا الرجل الفاضل العظيم من طيب الشمائل ودماثة الخلق وزهد في الحياة ورقة في الإحساس -مما كنت أجد فيه أحياناً كثيرة صدى لنفسي: طبعاً وقيماً ومشاعر ومسلكيات جيل...- فقد كان يحترمنا ويعزنا، بل يخجل منا، ربما أكثر مما يفعل بعضنا إزاءه. ويحتل الباحثون من رجال التعليم في كنف هذا الإعزاز مكانة تقدير خاص لديه: يوجهنا، يساعدنا، يضع أمامنا محتويات رفوف خزانته الخاصة الغنية، يشجعنا، يتجنب إحباط مساعينا، يستمع بعناية فائقة إلى أسئلتنا وأفكارنا وتجاربنا وهمومنا وحتى مشكلاتنا الشخصية وخصوصياتنا العائلية والاجتماعية المتباينة... إلا أنه كان يلح بشكل خاص على ضرورة اشتغال كل منا في حقل اهتمامه، والبحث فيما هو أقرب إلى مجال ممارساته المهنية والاجتماعية. فذلك مدعاة للتركيز وتلافٍ لتشتيت أو تبديد الوقت والمجهود. وكذلك كان بالنسبة لي، إذ انجذبت، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي إلى مجال «سوسيولوجيا التربية والثقافة والتنمية»، الذي وجهت جل مؤلفاتي وأعمالي نحو مقاربة العديد منن مفاهيمه وإشكالاته وقضاياه...

وحتى عندما كنا نتفكه معه أحياناً فننعته بـ«الشَّرْف» وزحف آثار الشيخوخة الظالمة على عمره المديد بإذن الله، كان يجيبنا بسرعة بديهته المعروفة: «أنتم كتشرفو –بتخفيف الشين- وكتشرفو – بتفخيم الشين والراء». أما حينما كنا نعاتبه بقسوة عما يسميه «إضراباً عن الكتابة والتأليف...»، أو نلومه على كون السياسة قد انتزعته منا ومن السوسيولوجيا أكثر مما يجب، رافضين، بحب، كل حججه ومبرراته، فقد كان يرد علينا بما مفاده: «لئن لم أكن قد درست وأطرت ووجهت سوى هذه النخبة المستنيرة من أمثالكم فإن ذلك سوف يكون من أنبل وأرقى ما فعلت في حياتي كلها، كما سيكون من أجمل وأروع ما كتبت وألفت ونشرت، فأنتم (الخير والبركة)، وأمل الاستمرارية والمستقبل...». ولست أدري إلى أي مدى قد استطعنا –نحن طلبته وأصدقاءه ومحبيه...، ولاسيما من يزعم منا، كما العبد الضعيف كاتب هذه السطور، أنه صاحب مشروع أو مؤسس تيار أو اتجاه أو منظور، فكري طموح...- أن نشفي بعض غليل سي محمد أو نحقق بعضاً من طموحاته واتنظاراته وأمله فينا، نحن «جيل السوسيولوجيين الجدد»، كما يطلق علينا البعض؟ فلعل في ذلك نوعاً من الوفاء لجميل صنع هذا المربي والمفكر الأصيل، ولما له علينا جميعاً -مهما اختلفت أشكال ومسافات علاقاتنا به- من دين الاعتراف بمكارم وأفضال وفضائل التعليم والتوجيه والاحتضان.

هذا أيها الإخوة الكرام غيض من فيض من بعض ما أحمله عن سي محمد جسوس عالماً ومربياً ومناضلاً وإنساناً رفيع القيم والمبادئ والسلوك من مشاعر وصور وذكريات... مما انغرس، عميقاً وعبر عقود، في فكر مهموم وذاكرة مكلومة ووجدان منكسر... غير أني، إذ أعتذر لكم عن إطلاق العنان، قسراً، لهواجسي الذاتية في هذا الجزء من مداخلتي، فإني أعترف أمامكم بأن ذلك هو ما كان عندي مقدوراً عليه، فلا أستطيع التحدث عن سي محمد، مطلقاً ومهما كانت طبيعة هذا الحديث، دون استحضاري لهذا البعد الوجداني في حميمية علاقتي به. فهو لم يكن، بالنسبة لي خاصة، مجرد «معلم» مبدع ملتزم صاحب قضية ورسالة، بل كان بالإضافة إلى ذلك، إسوة حسنة في التفكير والسلوك، ومنارة علمية وسياسية مضيئة رامزة، هادية لأجيال مجتمعنا في مفازات الفكر ومعارج النضال ومراتب الأخلاق والمواطنة الصادقة...

فلتعانق هامتك البهية يا محمد شموخ الشمس، ولك من الله العمر المديد كي تظل ذخراً لا ينفد لأهلك وذويك ووطنك، والمجد لزوجتك الصامدة إلى جانبك بدرب الحياة في جلد نادر وأناة. وليدم لنا نحن، منك ولك، هذا الحب «العذري» الذي نمحضه لك صافياً خالصاً لوجه الله، كما صادق الإجلال وعميق الامتنان، والاعتراف بأنك حقًّا رائد عظيم وأستاذ جيل، وبأنك، في سموق علمك وشمائلك، قيمة فكرية وإنسانية خالدة لا تضاهى، وستبقى على الدوام أكبر من كل تكريم وأسمى مما يقال، في حقك وعنك، من أي تقريظ أو بوح أو كلام... وأبهى، إلى الأبد، في تألق العطاء وتوهج الحضور...!

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة