تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المنهج العرفاني.. العقل ومكانته في المنهج العرفاني

بن عومر رزقي

عند الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي الجزائري

تمهيد

بالنظر إلى الثقافة الإسلامية وما أنتجته من مفاهيم وتصورات، بفعل البحث والتحقيق، نميز بين علوم تعتمد النقل في تأصيل مفاهيمها وإنتاجها، كالفقه والعلوم الشرعية، وعلم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم التصوف، ثم العلوم العقلية البحتة من فلسفة وطبيعيات وغيرها من العلوم. هذه العلوم منها ما كان الأصل فيها النص الديني ويأتي العقل مبيناً لمفاهيمه، ومنها ما كان العقل فيها منتجاً بشكل مستقل للمفاهيم، ومنها ما كان الأصل في الإنتاج لا يعود للعقل ولا لفهم النص الديني، بل يرجع أصل إنتاج مفاهيم العلم فيها إلى الإلهام والتلقي عن مصدر متعالٍ، لكن في النهاية تجد في النص سنداً لنتائجها.

النتيجة التي نخلص إليها في هذه المقدمة أن الأصل في العلوم الإسلامية هو التمحور حول النص الديني، سواء من خلال الأخذ بظاهره أو تأويله بما يوافق نتائج البحث المتوصل إليها في مستوى كل علم، وعرف هذا المنحى بالمنحى التوفيقي، حرصاً منه على ضمان شرعية نتائجه. ما يميز العرفان ضمن العلوم الإسلامية، أنه لم يعتمد في إنتاج مفاهيمه على العقل ولا على ظاهر النص الديني، بل يرجع أصل إنتاج مفاهيم العلم فيه إلى الإلهام والتلقي عن مصدر متعالٍ.

ولعل أهم نقطة ساهم فيها العرفان داخل الثقافة الإسلامية هي منهجه الجديد والإشكالي الذي غلق على غيره الطرق الاعتيادية في المناقشة والجدل؛ لأن المرتكز الذي اعتمده خصومه هو العقل، بينما المنهج العرفاني يدعي أن معارفه طريقه إليها الكشف والشهود ولا سبيل للعقل إليها البتة.

مفهوم العرفان

يعرفه الجابري بقوله: «يبدو أن العرفان نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية للعالم، وأيضاً موقف منه، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى... يسمى الغنوص gnose، والكلمة يونانية الأصل، ومعناها المعرفة. وقد استعملت أيضاً بمعنى العلم والحكمة. غير أن ما يميز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصاً، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي». بغض النظر عما يمكن أن نقابله به من مفاهيم هي خارج البيئة الإسلامية التي نشأ فيها، وبالتالي هو منهج خاص يتميز عن منهج البيان والبرهان في اعتماده على القبول من مصدر غير ذات الإنسان لكن يُعَد لهذا التلقي بتهيئة الباطن لقبول هذه العلوم، وهذا سيصعب على العقل مناقشة منهج العرفان ونتائجه؛ لذلك لا يُستغرَب حكم الكثير ممن اصطدموا بهذا الميدان (التصوف والعرفان) سواء ممن رفضوا نتائجه كما فعل الكثير من المتكلمين والفلاسفة وعلماء أهل الحديث، أو ممن احتجوا على طريقه من الفقهاء الذين بدّعوا السالكين سبيله، أو بعض الباحثين المعاصرين الذين حصروا طريق الخلاص المعرفي في العقل مقتفين في ذلك أثر سلف لهم من الفلاسفة كابن رشد وابن باجة، نخص بالذكر هنا الأستاذ محمد عابد الجابري الذي صنف نظام العرفان ضمن توصيف العقل المستقيل، طبعاً هذا الحكم لا يمكن فهمه إلا في إطار وجهة نظر كان الأستاذ الجابري ينافح عنها، خاصة حينما يصبح داعية للعقلانية المغاربية التي ارتأى لها أبا الوليد ابن رشد أستاذاً، في قبال ما رآه نزعة إشراقية تعطل العقل ممثلة في السينوية وما وافقها من تيار إشراقي يستأنس بالعرفان. وفي مقابل هذه الاعتراضات نواجه قبولاً واسعاً لهذا المنهج (نقصد المنهج العرفاني) ونتائجه ممن لا ينتهجونه من الباحثين الذين انضووا تحت المظلة التي أقامها أهل العرفان، وهي مظلة التسليم لأهل المجال منهجهم وعلمهم، وبالتالي قبول هذا المنهج وما اقتضاه من نتائج، واعتبروه مما يتجاوز العقل.

لنبدأ البحث في مفهوم العرفان كما اصطلح عليه أهله، فهم يرون أنّ منهجهم وطريقهم أفضل المناهج وأرقى الطرق الموصلة إلى الحقيقة، وبالتالي فإن معرفتهم هي أشرف المعارف، ذلك أنها متوقفة على الوهب والفيض الإلهيين ليس للإنسان في ذلك من جهد سوى تحسين الاستعداد لتقبل هذا الفيض بل كما يقول الشيخ العلاوي: «لا مدخل على الحق عز وجل إلا من جهة الفضل، ومتى أردت أن تدخل على الله بشيء من كواسبك، كان ذلك الشيء حاجزاً بينك وبين ربك، لأنه لا دليل على الله سواه ولا وصول إليه بغيره...[فـ] معرفة الله ليست مكتسبة بالعمل، إنما هي تحفة إلهية يقذفها الله عز وجل في قلوب من يشاء من عباده».

على أن الوصول إلى الله تعالى هو واقع هذا العرفان، والعرفان حكاية هذا الواقع المطلق الذي شرطه المحو والجمع، «العارف يقول ولا يبالي بما يقول؛ لأنه يتكلم على لسان الحق ومعرب عن ذات الحق لا عن ذاته»، لذلك كان طريق المعرفة عندهم لا يكون بتوسط جهود منطقية وعلمية، أي من خلال الرويّة والتفكير وإعداد المقدمات النظرية، بل يكون عن ذوق ومشاهدة. «العلماء بالله، فإنهم عرفوا الأشياء من أصلها ودخلوا البيوت من أبوابها، فكشف لهم عن حقائق الذات الجامعة لسائر الأسماء والصفات فعرفوه سبحانه وتعالى على الوجه اللائق بجلاله، وكانت معرفتهم ناشئة عن مكاشفة وعيان، لا عن دليل وبرهان، وهؤلاء يحق اتصافهم بالعلم، لآن العلم هو إدراك المعلوم على ما هو عليه إدراكاً كشفيًّا... ومن لم يصل إلى رتبتهم لا يتصف بالعلم»، على أن هذا العلم كاشف لحال العارف غير مستقل عنه كما هو الشأن مع العلوم التي أصلها الفكر والتعقل لجواز انفصال العالم عن المعلوم، فمعلوم العارف مشهود غير متصور كما الشأن في بقية العلوم، لذا كان ضبط حد العرفان مستعصياً على من لم يكن له ذوق في هذا المجال وكل توصيف للعرفان فهو إما ذوق كاشف عن مرتبة الواصف أو رواية عن متحقق بالعرفان. «يطلق العرفان... اصطلاحاً على لون خاص من الإدراك وهو الحاصل عن طريق تركيز الالتفات إلى باطن النفس (وليس من طريق التجربة الحسية ولا من طريق التحليل العقلي)، فخلال السير والسلوك عادة تتم مكاشفات تشبه الرؤيا».

ويعرّفه الشيخ عبد الرزاق القاشاني بقوله: «عرفه الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري بأنه ينبت في الأسرار الطاهرة في الأبدان الزاكية بماء الرياضة الخالصة، ويظهر في الأنفاس الصادقة لأهل الهمم العالية في الأحايين الخالية في الأسماع الصاخبة. وقد ذكرنا تفسير ما يتضمنه هذا التعريف من غريب الألفاظ في أبوابها من هذا الكتاب». يرى كذلك الشيخ عبد الرزاق القاشاني أن أصل كلمة العرفان واعتمادها من قبل الصوفية راجع إلى أن مبنى علمهم وبابه معرفة النفس فيقول: «وقد يعني بالعارف من عرف نفسه فعرف ربه، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من عرف نفسه فقد عرف ربه)».

للعرفان مصطلحات هي على علاقة عائلية معه، منها العلم اللّدني و«يراد به العلم الحاصل من غير كسب، ولا تعمل للعبد فيه»، كذلك هناك مصطلح آخر وهو العلم الذّوقي: «هو العلم الحاصل للعبد من جهة المشاهدة، والعين لا بطريق خبر ولا باستدلال برهان».

مباني العرفان الإسلامي

يبنى العرفان على الشهود والمعاينة لا دور فيه لكسب الإنسان، لأن كل مقدمة يكون سببها الإنسان تجعل من العلم الحاصل متقوّماً بها وبالتالي يأخذ مواصفاتها بحيث تكون هناك سنخية بين المعروف والعارف، وبين الوعاء والموعَى، ومادام العرفان شرطه المعرفة الحضورية لذات الله وصفاته وأفعاله فلا مجال للسنخية بين الحادث والقديم وشتان ما بينهما، فكما يقول الشيخ العلاوي في إحدى حكمه: «ضدان لا يجتمعان إن كنت لم يكن وإن كان لم تكن فاترك وجودك يدعوك الداعي إليه»، هذه المسافة اللاّمتناهية من الوجود بين الإنسان بما هو حادث والحق تعالى بما هو قديم، زوالها شرط لتحقق المعرفة على شرط المشاهدة، فلم يبق إلا الفناء لأحد الطرفين والبقاء لطرف آخر، والأصل يقضي بفناء الذي أصله كذلك وهو الإنسان، والبقاء للذي أصله كذلك وهو الحق تعالى، «فالحقيقة لا تُرى، لكن إذا أخذت العبد من وجوده وظهرت له في نفسه رآها بظهورها في بصره، بل في جميع ذاته، فيقول: رأيت الله، وعليه من شاف العارف شاف من شاف الله».

في العرفان يتم إسقاط ملكات الإنسان المعهودة التي اعتاد الاستعانة بها في الاطلاع على ما يحيط به من حواس ظاهرة وباطنة ومن عقل، وكل ما تقتضيه هذه القوى من أساليب برهانية وجدلية وإيحائية، يصطلح العرفاء على قوام الإنسان في المعرفة بالنعلين، يعتمدهما في تحصيل علمه وبالتالي رؤيته للحياة، وهما العقل والوهم الذي أصبح عادة لا يمكن الانفكاك عنهما في التعامل مع المستجدات الحياتية، وجب خرقهما وخلعهما، وطيهما ليبعث في عالم القدس الإلهي المتمثل في المعرفة الخاصة بالحق تعالى، ألا وهي العرفان، «وبالجملة، ما لا يمكن للكمل أن يطووا مراحل طواه إلا بعد خلع النعلين، ولا لأحد أن يحوم حول حماه إلا بانطواء القدمين، بل بالانخلاع عن القوتين (الوهم والعقل)... لكن المتأخرين من أصحاب المعلم الأول أعني المشائين، لما قصروا طريق الاستفاضة واستعلام الحكمة الحقة على الحجة المحضة والبحث البحت، حجزهم حجب الشبهات المظلمة عن أن يتفطنوا لما هو الحق في تلك المسألة الجلية».

العرفان مبني على الذوق ولا يمكن تحصيله بالتعلم والدرس لأن الذي يحصل بالدرس للعقل والحافظة عليه سلطان وينطبق عليه المحاطية، بينما الحق تعالى لا يحاط به بمعنى العلم به إلا بشرط الفناء «العارف لا يسعه إلا الحق، كما أن الحق لا يسعه إلا العارف... فلا يسع الواسع إلا الواسع وذلك شيء من وراء العقل... لا تضبطه نقول ولا تحصره عقول.

تنقل إلى حق اليقين تنزهاً

عن العقل والنقل الذي هو قاطع

ويكون بهذا الاعتبار محيطاً بذاته بل نوع المعرفة الحاصلة هنا هي كما قال الشيخ محيي الدين بن عربي: «لما شاء الحق سبحانه من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت: أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفاً بالوجود، ويظهر سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له»، المعرفة هنا هي معرفة إلهية في صورة إنسانية، وهذا ينسجم مع المعادلة المعرفية التي يشهرها الصوفية في مجال معرفة الله تعالى، هذه المعادلة جاءت بلسان الجنيد في قوله: «لا يعرف الله إلا الله»، وهذه الصيغة تفهم وفق خاصية المعرفة الفنائية حيث يكون الله تعالى عالماً ومعلوماً، وما العبد إلا مرآة عاكسة لهذا العرفان، ويؤيد هذا الحديث القدسي الذي يعتمده الصوفية أصلاً لعلمهم وكمالاتهم الموهوبة لهم، نص هذا الحديث هو: «لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش»، ويؤيد هذا الحديث قول الشيخ العلاوي: «قال بعض العارفين: قال لي قلبي عن ربي: القلب إذا كان منوراً فارغاً من وجود الأغيار لا تبقى له واسطة بينه وبين ربه، فيحدثه في سره حديثاً تعجز عن إدراكه العقول».

والجدير بالذكر أن هذه البنى الأساسية للعرفان والمتمثلة في كونه مشروطاً بالمشاهدة والكشف بمعنى يجعله لا يخرج عن كونه موهوباً لا يد للاستدلال والإحساس فيه، مما يجعل فهمه والتعاطي معه بالوسائل العادية كالعقل والوهم منغلقاً، «علم القوم المأخوذ عن كشف مع الاتصاف بحقيقته هو الولاية، كما أن كلامهم دون التحقق به زندقة»، بل يجد الصوفية غرابة عندما يعلمون أن علمهم الذي كان ثمرة مشاهدة لا يد لهم فيها، أصبح متداولاً عند أهل الفكر والنظر العقلي «تجد الناس في اصطلاحاته يداولونه فكان عندهم من جملة النقول بل جعلوه فنًّا مستقلاً يتدارسونه، ومن العجب أنهم يحققونه حتى يشك أنهم يذوقونه»، بل في كثير من السياقات يحذر الشيخ العلاوي المريدين والسالكين من تعاطي مسائل العرفان من مراتب الوجود ومقامات العارفين الغيبية، بوجه المذاكرة حتى لا يمتنع عليهم تذوقها ومشاهدتها، ويمتنع عليهم الوصول إلى حقيقتها: «إياكم أيها السائرون المتوجهون من الكلام في الطريق والمحاكاة والتفنن في المذاكرة قبل تحقق المقام وتمكن الأحوال، فإن ذلك يقطع بكم عن الوصول إلى حقيقته، فمن تعلم المذاكرة ليكتفي بها دون أن يطلب الوصول فهو مغرور، وطريق القوم مبنية على تحقق المقام لا مجرد الكلام».

يقسم العرفان الإسلامي كما يشاء للكثير أن يقسمه إلى قسمين، بالتقسيم نفسه الذي قسمت إليه الفلسفة أي إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، فكذلك العرفان الإسلامي قسم إلى عرفان عملي، وعرفان نظري. وهذا التقسيم والتمييز هو واقع عليه من خارجه أي خارج ميدان العرفان لتسهيل تعقله لدى الدارس، وإلا فإن العرفاء يعتبرون أن علمهم كله عمل ولا مجال لحقيقة دون أن يكون معها أدب لازم لها؛ فإن هذا العلم هو حكاية عن حضور في حضرة القدس الإلهي لا يستند في صياغته إلى قواعد نظرية أو مبادئ عقلية أو حتى نفسية، بل هو محض وهب يظل العارف يتنكر لنسبته إلى قواه النظرية بل ينسبه إلى الفيض الإلهي على أثر السلف المذكور في القرآن الكريم وهو الخضر (عليه السلام) الذي ذكر القرآن أنه أوتي علم من لدن الله تعالى وكان أدبه مع الله تعالى ألَّا ينسب لنفسه أمراً: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، نجد في كلام العرفاء ما يثبت هذا التقسيم، من خلال التقسيم الثنائي الذي يوافق ما اصطلح عليه بالعرفان العملي والعرفان النظري، وهذان القسمان اصطلح عليهما العرفاء بالطريقة والحقيقة، بحيث تمثل الطريقة المجاهدات والسلوكيات الموصلة إلى المقام الأسنى، وتمثل الحقيقة الجانب المعرفي للعرفان أي عالم الحقائق الذي ينكشف له بعد ارتفاع حجاب البين.

مشكلة العقل وعلماء الإسلام

حتى نجلِّي هذا الطرح عند الصوفية بالأساس وعند الشيخ العلاوي خاصة، لا بأس أن نضع المشكلة في إطارها المعرفي، فنقول: إن علماء الإسلام أجمعوا على قيمة العقل الوجودية والوظيفية، فبه فضل الإنسان على بقية الأنواع المشاركة له في جنس الحيوانية، وبسببه تأهل الإنسان لعبادة الله تعالى، وبحضوره ومراعاته يجازى الإنسان، لكن الذي أوقع الخلاف فيه وجعل منه مشكلة دينية هو الجانب المعرفي للموضوع، بمعنى آخر الحدود المعرفية له، فما هي حدوده؟ وما مجاله المأذون له الاسترسال فيه؟ هذه هي الإشكالية التي أسالت الحبر الكثير واستنفرت لإسالة الدم في بعض المواطن القلقة في تاريخ الإسلام.

فالعقل خاصة في البيئة الإسلامية كان أداة فعالة في يد النخبة الثقافية في الإسلام منذ بدأت تنمو العلوم الإسلامية، حيث استعان به الفقيه والأصولي والمتكلم والفيلسوف وعالم الطبيعة، لذلك كان التشكيك في الوثوق به ليس بالأمر الهين خاصة في مجال هذه الحقول، نعم ظهرت موجة في تاريخ الإسلام تشكك في قدرة العقل على طرد الشك وتحقيق اليقين لدى النفس الإنسانية التواقة إلى النجاة من همّ السؤال الذي لا يجد له نهاية، فالعقل لا يفيد النفس يقيناً، ذلك أن «الوساوس إذا وقعت في العقائد فلا يفسد فيها إلا الإيمان المجمل، وإلا فلا ينفع استنتاج البراهين، ولا ترتب المقدمات، لأنه مهما أتيتهم بحجج يأتوك بحجج، لأن انقطاعه غير ممكن لكونه مقروناً بوجود النفس وكفاية الله تكمن في عدم المؤاخذة بحديث النفس، والخلاص يكون بمعرفته الخاصة التي تصبغك بصبغته الخاصة وتطويك في وجوده».

كما ظهرت موجة أخرى تعدمه صلاحيته للوصول إلى الحق في ميدان معرفة العقائد، وضلّلته في ذلك، لكن هذه الطروحات التي جاءت لهذا الغرض اصطدمت بالحقيقة التكوينية للإنسان التي تجعل من العقل آلة لإدراك مرتبة مهمة من مراتب الحقيقة، فكممته في قِبال النّص الديني وكأنّ التدين لا يكون إلا بتكميم العقل، فجعل مناقضاً للنص الديني، وبالتالي خلاصه في تصديق ظاهر النص الديني من غير رويّة فيه، ومثّل هذا الاتجاه أهل الحديث والتيار الذي اتخذ لنفسه فيما بعد تسمية أهل السنة، وسماه غيره بالسلفية، كما كان هناك اتجاه غلا في الوثوق بالعقل وأثقل عليه حينما حمّله ما لا سبيل له إليه وتمثل هذا الاتجاه في تيار المعتزلة وبعض المشائين من فلاسفة الإسلام.

ثم جاء الصوفية وورثوا هذه المشكلة وتلقوها عن غيرهم من علماء الإسلام حيث انتهى بهم السلوك وبذل الجهد فيه إلى حقائق لم يحلهم إليها عقلهم حالة فرقهم، فدخلت عليهم الحيرة من جهة العقل وتأزم عليهم الوضع بين أن يُضحّوا بالعقل الذي لا يقوى على استيعاب ثمار الشهود الصوفي الذي نزل عليهم منزل اليقين وقهر كل عطش معرفي وفتح عليهم باب الحيرة في مبدأ الوجود وهو الحق تعالى، والصوفية هم الشاهرون سيف قهر أنوار الذات الإلهية في وجه العقل والفكر من خلال ما تحققوه من ثمار قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا»، على أنّ عدم التفكر لا يعني تعطيل معرفة الحق تعالى بل يعني فيما يعنيه أن هناك مجال في الإنسان يليق بمعرفة الحق تعالى يفضي إلى التحقق بالحيرة من خلال التقلب في تجلياته تعالى وعدم التوقف في المراتب، وهذا شأن القلب، إذ يروي الصوفية الحديث القدسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه عن ربه: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن»، في هذا الحديث -كما فهمه الصوفية- إشارة إلى أن للعقل طوراً لا يتعداه وأن هناك طوراً فوقه يذعن له العقل ويتلقى عنه معطيات لا تعطيها إياه آلاته من حس ظاهر أو حس باطن.

العقل من منظور الشيخ العلاوي

مع الصوفية ظهر إشكال من نوع آخر بسبب رؤيتهم التي توافق الفلاسفة في كون الشريعة لها مستوى فوق المستوى الظاهر وهو الباطن، لكنها ترى أن هذا الباطن يخرج عن أن يدركه العقل، فالفلاسفة بالنسبة للصوفية لا يخرجون عن طور المتكلمين فهم –عند الصوفية- من العوام الذين يستظلون بنور فكرهم وعقلهم، فأقاموا عدة إشكالات على العقل، وأبرزوا قصوره، فالصوفية يجمعون كل من المعترضين على العقليين، والعقليين من المتكلمين والفلاسفة في كفة واحدة لكونهم يسيرون وراء خطوات فكرهم، فللفكر حد لا يتجاوزه، ذلك أنه يستقي مادته مما دونه من آلات الإدراك كالحواس الظاهرة والباطنة، ومادام أن آلته الحواس فيكفي هذا مانعاً له من أن ينشد معرفة الإلهيات لأنه خارج عن حدود طاقته وطاقة الحواس، «الحواس لا تعلق لها بالإلهيات ومثلها الفكر والخيال؛ لأن الفكر لا يجوز على نعت الإصاب إلا فيما مر عليه، والخيال لا يتخيل إلا ما ارتسم فيه، وأين هما من شيء لا مساس لهما به البتة؟ وعليه فلم يبق إلا الدليل من الخارج»، المتمثل في الكتب الإلهية التي فيها إخبار عن الله تعالى وما يليق به وما يستحيل وما يجب له، وهذا مما لا سبيل للعقل إليه، إذ مجال العقل الكونيات لا يتعداها، يقول الشيخ العلاوي: «الواجب على من اعتمد الفكر في المعقولات ألَّا يستعمله في كنه ذات البارئ، لأن معرفته جاءت من وراء طور العقول». فالله تعالى جعل الحواس حاكمة على المحسوسات، وجعل العقل حاكماً على الحواس ليحكم على ما تورده إليه مصححاً ما تنقله إلينا مما يخالف وضع الأشياء وخواصها، «ولما كان هو [العقل] أيضاً لا يعدم نصيبه من التقصير أحياناً حسبما تقدم برهانه جعل الحق تعالى له الشرع حاكماً عليه فلا بد من اعتماده خصوصاً فيما لم يتعود الولوج فيه... يفيدنا أن الفلسفة لا يعتمد عليها في الإلهيات· إلا إذا كانت بشاهد من الكتاب والسنة بخلافها فيما سوى ذلك»، لأن الإلهيات من صفاتها المفارقة عما عليه المحسوسات والمتخيلة، وهذا ما لا طاقة للحواس وما بُنِي عليها من صور متخيلة، وأن معرفة الله مبنية على التنزيه ومخالفة كل ما يقع في ذهن العاقل، «وأما دليل مخالفته تعالى للحوادث، فلا يخفى على العاقل، لأن كل صانع يباين صنعته في ذاته وصفاته من كل الوجوه، وليس في الصنعة إلا ما يدل على وجود الصانع»، إذن ما يمكن للعقل معرفته في مجال الألوهية هو معرفة الصانع وتنزيه الحق تعالى عن كل ما صنع؛ لهذا كان على المكلف من جهة الاعتقاد أن «يقدسه عما يوجد في الأثر من الجواهر والأعراض، وعن كل ما يحدث في الفكر، وهو معنى التنزيه المعبر عنه بالمخالفة للحوادث»، فمقتضى معرفة الله تعالى عدم بناء الفكر على ما تنقله له قواه التي يعتمد عليها بل يبني على خلاف ذلك، وهذا هو عتبة التنزيه.

إننا عندما نقرأ هذا التحذير من العقل فهذا ليس معناه حرمانه صلاحياته التي أنيطت به بالنظر إلى تكوينه، فالصوفية عموماً والشيخ العلاوي خصوصاً يحذرون تمادي العقل إلى ما لا سبيل له فيه وهو معرفة الحق تعالى وما يليق به وما يستحيل عليه؛ لأن مبادئ العقل وآلياته رغم وثوقها إلا أنه لا سلطان لها على الإلهيات، إذ المشكلة تكمن في هذه الصلاحية التي يعطيها القياس والبرهان لنفسه في القفز من معلوم وهو الكون إلى مجهول وهو المكوّن وشتان بينهما من حيث الذات والصفات والأفعال، نعم دليل العقل ينتهي إلى نتيجة مهمة ومفيدة تسمح له بأن يطلب علم ذلك بآلة بينها وبين مجال الألوهية تناسب وهي الوحي أو الإلهام عن طريق القلب، فكما يرى الشيخ محيي الدين ابن عربي -ويوافقه الشيخ العلاوي في ذلك- أن من «أراد أن يعرف لباب التوحيد فلينظر في الآيات الواردة في التوحيد من الكتاب العزيز الذي وحد بها نفسه، فلا أحد أعرف من الشيء بنفسه، فلتنظر بما وصف نفسه وتسأل الله تعالى أن يفهمك ذلك فستقف على علم إلهي لا يبلغ إليه عقل بفكره أبد الآباد»، فعلم العقل بما هو مفكر في مجال الألوهية هو إثبات وجود الله تعالى وتنزيهه فقط، «ليس في قوة العقل أن يتوصل إلى شيء مما ذكرناه من حيث ذاته إلا بواسطة آلة يعتمدها... وإذا تحقق منه أنه لا يصل إلى شيء من الأشياء التي هو من جنسها، من حيث الحدوث، إلا بآلته الموضوعة من أجله، فلزمه حينئذ ألَّا يقدم على شيء إلا بآلته. وعليه فأي آلة وجدها الإنسان في نفسه يتوصل بها إلى كنه ربه، فيدركه على ما هو عليه، كلا.»، لذا أنّى للعقل أن يناقش النص الديني في تقريراته في مجال الألوهية وما لا سبيل لآلات العقل أن تدركه؟ فكما يقول الأمير عبد القادر الجزائري: «فإن العقل عقال عن الترقي إلى إدراك الأمور الإلهية، التي فوق طوره، ولذا قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت/ 43). وما قال: وما يعلمها إلا العقلاء، إذ استناد الأمور الكونية، ومثاليتها للحقائق الإلهية خفي عن العقول، لا تدركه بآلاتها، وما كان فوق حدها المحدود لها، لا حيلة لها في الوصول إليه واكتسابه»، فالشيخ العلاوي يرفض تأويلات أهل النظر المانعة ما أثبته الحق لنفسه، فمثلاً رفض الدليل العقلي الذي قدمته المعتزلة في امتناع رؤية الله تعالى، بقوله: «ثم اعلم أن ما قدمناه من تعلق البصر بشهود الحق هو مستبعد جدًّا عند الكثير ممن يدعي العلم فضلاً عن غيره، وربما يحمل ذلك على المنع عقلاً وشرعاً. وبذلك قالت المعتزلة... حسبما يلزمهم على ذلك من تحيز المرئي لتمكن إيقاع البصر عليه، ولم ينتبهوا لما يلزم على ذلك من امتناع تعلق بصره سبحانه وتعالى بالكائنات، لأن في تعلق بصره سبحانه وتعالى بالكائنات يلزم تحيزه على المرئي ليتمكن إيقاع البصر عليه»، وما يقال في مجال علم الكلام، يقال كذلك على الفلسفة خاصة في علم الإلهيات، إذ يعتبرها العلاوي ضَلّ سعيها فيه، مع ما لها من التوفيق والإصابة في العلوم الأخرى -الشيخ العلاوي ينحو منحى الاتجاه الكلاسيكي في تصنيف العلوم-، ويرجع سبب ضلالها في ذلك إلى استخدام العقل فيما وراء طوره وتماديه فيما لا دليل له عليه و لا دراية له به؛ فـ«الفلاسفة عاجزون عن إدراك ما وراء المادة، والمعنى أنه لا يعول عليهم في الإلهيات... والسبب في ذلك استخدام العقل فيما وراء طوره واسترساله فيما لا يدريه بدون دليل يعتمده ولا برهان يعول عليه... وقد اعتاد الخطأ أحياناً فيما تعود الولوج فيه، والبرهان على خطئه اختلاف العقلاء في المعقولات».

يذهب أغلب الصوفية إلى أنه لا مناسبة بين الخلق والحق، بحيث يرى ابن عربي أن علم العقل ينحصر فيما له جوهر أو طبع، أو حالة أو هيئة، هذه الأمور لا تتحقق في الله تعالى، فلا سبيل للعقل في العلم بالله من جهة ما هو مفكر، كما أن طرق العقل إلى العلم بالمجهول هي إما الحس أو الضرورة أو التجربة، والبارئ تعالى لا يدرك بهذه الأصول، ويبقى للعقل طريق واحد إلى العلم بالله تعالى وهو البرهان الوجودي، بمعنى يعلم أن الله تعالى موجود وأن العالم مفتقر إليه.

حدود العقل

بناء على ما سبق نفهم أن العقل هيئة علمية محدودة، تعتمد على آلات محدودة، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، تزودها هذه الحواس بمواد من جنسها، أي الصور الجزئية لأشياء العالم الخارجي -بناء على تحديد علم النفس الكلاسيكي الذي نسجت عليه الفلسفة الإسلامية بحوثها الوجودية، والمعرفية، والأخلاقية- فتكون وسائل معرفته محدودة، فإنه من التعسف تعاطيه ما يتعدى طوره وهو مجال الإلهيات، هذا من حيث التكوين-ونحن هنا نتحدث عنه من جهة ذاته باعتباره مفكراً معتمداً على آلاته التي له من جهة تكوينه- وهو الذي ينعكس في عمله المعرفي، فمثلاً الشيخ العلاوي يسجل على العقل عجزه عن الجمع بين النقائض فيقول: «بحيث يصير العارف يرى واحداً في وجود اثنين أي يرى الوجود من حيث ظاهره نقطة من طين، ومن حيث باطنه خليفة رب العالمين إن لم نقل هو هو، والمعنى أنه يرى الرحمن في صورة إنسان، ولا تفهم من ذلك معنى الجسمية... يقول صاحب هذا المقام: إن العبد حق والرب حق ولا يغيبه ذا عن ذا، فهو جامع مانع، أي جامع بين الأضداد التي لا يمكن اجتماعها في العقل، لكن يمكن اجتماعها خارج العقل، ولا تطلب في ذلك دليلاً فإنك لن تحصل شيئاً ولو مع وجود البرهان انعدمت في ذلك وجود الشهود والعيان، وإن فاتك ذلك فالتصديق بأهله لا يفوتك».

أنى للعقل المفكر أن يجمع المتناقضات وهو الذي يرى ذلك قلباً للحقائق، فالوجود مثلاً يستحيل اعتباره عين العدم؛ لأن هذا قلب للحقائق، ويستحيل الوصول إلى المعرفة ما لم يقرر العقل عدم اجتماع النقيضين؛ إذ كما يقول الشيخ العلاوي: «يعتبر من الموت الحياة ومن الحياة الموت، لأن الأشياء كامنة في أضدادها، ولهذا قال: {بل أحياء} خلاف ما يتوهمه الفكر العام من أن الحياة حياة والموت موت... وقلب الحقائق من المستحيلات».

ويورد نصًّا آخر يثبت خاصية الحقائق التي يصل إليها الصوفي والتي ليست من سنخ العقل المحكوم بمبدأ عدم التناقض، «الحس يناقض المعنى، اللهم إلا إذا كان الحس هو عين المعنى، وهذا عزيز لا يمكن للعقل أن يصل إليه، وإنما هو واجب في الابتداء (شرط وجوب)، وأما في الوسط والآخر، فالغيبة عنه شرط الوصول إلى هذا المقام من وراء طور العقول».

يضاف إلى ما سبق عجز العقل عن معرفة كيفية أحوال الآخرة، «أن يؤمن بلوازم اليوم الآخر... بدون ما يتكلف لمعرفة كيفية ذلك، لأن أحوال الآخرة جاءت من وراء العقول، فيعتذر الإفصاح عنها».

كما أن العقل يعجز عن إدراك نيابة حاسة عن حاسة في الإدراك أو نيابة الحس عن العقل في ذلك، وهذا من خوارق الأمور التي يتحقق بها بعض العرفاء، فـ«تصير جوارحه وصفاته تنوب عن بعضها بعضاً، وذلك خارج عن دائرة العقل، وهو من مدهشات الأمور».

والعقل عاجز عن تعقل وصول المحدود إلى اللامحدود والسير فيه؛ إذ بينهما بينونة وجودية ومرتبية لا تخترق ولا تختصر، وهذا العجز سببه محدودية مبدأ عدم اجتماع النقيضين الحاكم على عمل العقل، فالعارفون بما هم مخلوقون يستحيل عقلاً أن يتحقق لهم قطع المسافة اللانهائية التي تفصلهم عن البارئ تعالى، فاللامحدود ليس له حد ليوصل إليه، كما لا يمكن تحديد وسط له فيكون الموجود داخله، هذا تحليل العقل، بينما يدعي الشهود ما يبطله العقل، فالعارفون «لما وصلوا ابتدؤوا السير منه إليه قد ساروا أولاً لله ثم ساروا في الله. هذا شيء من وراء العقول خارج عن المعقول والمنقول»، على أن المقصود بالمنقول ظاهر النص الديني لا حقيقته وإلا قلنا بمخالفة أهل الله للنص الديني، وهذا مما لا يتوانون في التنبيه عليه، ومما لا يطيقه العقل المفكر أنه إذا اعتبر مرتبة أسقط ما يضادّها أو ما يقابلها، فمثلاً إذا اعتبر المجرد لا يقبل أن يتنزل إلى الحس مع حفاظه على تجرده، يقول الشيخ العلاوي: «أهل النظر اختلفوا في ظهور الأنوار المحمدية في هذا المظهر المعبر عنه بالكتاب في اصطلاحاتهم، فأما الذين يرون الوجود فارغاً من ذلك فلا يعدون في طبقاتهم، وهم المشار لهم بقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، ومنهم من يلاحظ أنواره في اللطائف، وتغيب عنه في الكثائف، ومنهم من يعرفها في النفائس وينكرها في الخسائس». والذي يقال في هذا ينطبق أيضاً على حال الصوفي الذي لا يستوعبه العقل كذلك، إذ «قد يصدر من العارفين ما يعجز الفكر من إهمالهم لبشريتهم، وسبب ذلك ملاحظتهم لسر الجمع الظاهر في أغصان الفرق».

هذه المفارقات التي ذكرها الشيخ العلاوي، التي يقبلها الكشف ويؤسس عليها، هي مما يحيلها العقل. طبعاً الشيخ العلاوي لا يشذ عن التحقيق الذي أسس له الشيخ محيي الدين بن عربي، الذي يرى فيه أن للعقل مستويين: المستوى الداني، وهو الذي يظهر في أعمال المفكرين عموماً، سماه مستوى العقل بما هو مفكر، هذا المستوى معروف بمحدوديته، وهناك المستوى الثاني الذي يتمكن من استخدامه أهل الكشف والمشاهدة، سمّى هذا المستوى بالعقل بما هو قابل، أي يقبل ما يجيئه من الأعلى مما يتجاوزه. إذن العقل الذي يعجز عن درك ما سبق من القضايا التي أوردها الشيخ العلاوي هو العقل بما هو مفكر الذي آلاته من سنخ المكونات ومبدؤه الحاكم عليه هو مبدأ عدم التناقض.

جهتا العقل أو العقل وما فوق طوره

حجية العقل تحدثت عنها النصوص الدينية، بل إن مناط التكليف والقبول بالشريعة يمر بتعقل الإنسان لمبادئ الدين الممثلة في أصول الدين فما لم يصل الإنسان إلى العقائد بالاستدلال لا يعتد باعتقاده ومن ثم لا معنى لأدائه التكاليف الشرعية، وعلماء أصول الدين مجمعون على أن العقائد لا تؤخذ بالتقليد بل بالدليل ولو كان بسيطاً، ولا يستند إلى قواعد منطقية معقدة مثلما هو عند الحكماء والمتكلمين، على خلاف الشريعة التي يجوز فيها التقليد طبعاً بعد الوصول إلى الثقة بالمجتهد، وهذا طريقه أيضاً العقل سواء كان بالاستقلال عند الحاصل على مرتبة الاجتهاد أو بالاستعانة بدليل الغير الكفء الذي لديه العلم بأهلية المجتهد وكفاءته، هذه الأهمية التي يكتسبها العقل من خلال وظيفته التي تؤهل الإنسان لأداء وظيفته الوجودية وهي التعبد لله تعالى، لا تعني أن له السلطة في تحديد ما الذي يقرب إلى المولى وكيفية سلوك ذلك؛ لأن تحديد ذلك منوط بمعرفة المتقرَّب إليه وما يليق به، وهذا الأمر يعرِّفه الله، ولم يوفِق العقل إلى هذا الأمر، بل دل عليه عباده من خلال رسل وأنبياء اصطفاهم وأهَّلهم لعلم ذلك وتبليغه بواسطة عدة أساليب، ولعل الأدلة العقلية واحدة منها، وليست كل الأساليب، مع العلم أن الهدف من البعثة ليس تمكين العباد من تحصيل صور علمية في أذهانهم عما يليق بذات الله على سبيل الحصول، وإنما الهدف الحصري هو وصول الإنسان إلى التحقق بكينونته الفقرية وارتباطه الوجودي بالله تعالى، ومن ثم تسليم إرادته وتوجهه الوجودي لمولاه، وهو الذي اصطلح عليه العرفاء وبعض الحكماء بالعلم الحضوري بالله وما يليق به، وهذا لا يتحقق إلا بالتربية وتطويع إرادة الإنسان من خلال تجلية القلب؛ المحل اللائق بمعرفة الحق تعالى وتنمية الهيئة العبودية لدى الإنسان، يصطلح القرآن الكريم على هذه التربية بالتزكية، وهذا الأمر يُعنى بتوجيه الإرادة لهذا الغرض، لذلك كانت مهمة الأنبياء تعليم الكتاب والحكمة والتزكية.

فوفق النصوص الدينية، العقل مقدمة إعدادية تهيئ الإنسان لتلقي المعطيات التي تزوده بها هذه النصوص عن ربه وما تقتضيه هذه المعرفة؛ لذلك يحذر الشيخ العلاوي من تمادي العقل إلى ما يتجاوز طوره ويدعو العقل إلى الإذعان لرتبة علم الأنبياء، في قوله: «ولا يقيس ما عنده من الفكر السقيم على أهل المقام العظيم (الأنبياء والأولياء)... القائلين بمعرفتهم للإلهيات على سبل التحقيق، فإنهم عرفوا الله بما أودعه فيهم، لا بقلم وقرطاس، أو تقوّل بمنطق وقياس، فالحق أعز من أن تتوصل إليه بالحواس». لذلك لم تعطِ النصوص الدينية للعقل صلاحية التشريع للتقرب إلى الله تعالى، ففهم من هذا أن له مهمة تنتهي عند تحديد ضرورة الإذعان للقوة التي يدرك سلطتها على العالم والإذعان إلى أدعياء الوساطة إذا توفرت الشرائط التي باستطاعته إدراكها من خلال المعجزات وأوصاف الأنبياء والرسل، هذا حد العقل وبالتالي ما زالت هناك مسافة وجودية ومعرفية ينبغي أن يجتازها هذا الإنسان بغير العقل، لذلك تؤكد الثقافة الصوفية أن للعقل حدًّا ينتهي عنده من حيث كينونته أو في مرتبة الوجود ففي الروايات الإسلامية نجد أن ما يقابل العقل في واقع الوجود الخارجي هو الملك جبريل (عليه السلام) الذي كان منتهى مقامه في معراجه لا يتجاوز حدود سدرة المنتهى والتي بعدها يبدأ عروج آخر يتم من خلاله الولوج إلى عالم الجبروت الذي تحقق به الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشخصه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لي وقت مع الله لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل»، وهذا الطريق يؤذن فيه للقلب، فالعقل عند العرفاء من العقال، فهو حبل يشد رجل السالك ويمنعه من سلوك طريق الله، وهذا لا يمنع كونه هبة إلهية، لأن من دلالات العقل كذلك، أنه العقال الذي يشد صاحبه إلى مبدأ الوجود، وعليه فإن العارف بالله من المفروض ألَّا يناصبه العداء من هذه الجهة بل يعتبره من أنوار تجليات الحق تعالى، بل يمكن القول بالجهتين في العقل كما سبق وأن بيَّن الشيخ ابن عربي، الذي يقول بالمستويين للعقل: العقل بما هو مفكر والعقل بما هو قابل، «فإن للعقول حدًّا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة، فنقول في الأمر الذي يستحيل عقلاً: قد لا يستحيل نسبة إلهية، كما نقول فيما يجوز عقلاً: قد يستحيل نسبة إلهية»، فيما يرى الأستاذ الديناني أنه «ينبغي للعقل أن يقف على محدوديته من أجل أن تكون لديه القابلية على الاستدلال. ولكن الذي لا شك فيه أيضاً أن ما بإمكانه أن يقف على محدوديته لا بد وأن يكون أعلى مما يرى به مرحلته المحدودة»، فلا معنى للتخلص من العقل وإنما تكميله، مادام يعرف حده ويستطيع تجاوز المرحلة التي هو فيها مفكر، إلى تقليد ربه في تعليمه العلم الذي لا سبيل له إليه في ظل عادته الذهنية حيث الحس حاكم عليه بما يجيئه به من معطيات عن الواقع المحيط به في العادة. إذن فلا مجال لعداء بين العقل والشرع أو بين العقل والكشف، كما قد يتبادر إلى ذهن المطالع لنصوص الصوفية، وكما عودتنا الذهنية الكلامية فيما رأته من تصادم بين مقررات العقل ومعطيات النص الديني «فالذين يعادون العقل الاستدلالي يغفلون عن حقيقة مهمة وهي كون العقل الاستدلالي انعكاس للعقل الشهودي»، العقل يقف على محدوديته، وإدراكه لمحدوديته تأتيه منه، عندما يواجه معطيات يستعصي عليه تعقلها بآلاته التي هي من سنخه، فيتوقف في تصديقها، وإذا لم يسعفه دليل يعلم هذه المعطيات ويعلم في الوقت نفسه حدود العقل فإنه يسبق إلى إنكارها، وهذا تمادٍ فيما لا سبيل له إليه. والذي يتمكن من إسعاف العقل هنا هو ما يصطلح عليه الشيخ العلاوي بالشهود أو نصيب من علم الخصوص، وعليه أن من كان له الفهم الخارق وعقله في ذلك مقلد لفهمه الخارق يمكنه من الإفادة، «فمن جال في العلم الإلهي الذي هو من أقسام الفلسفة وكان دليله الفهم الخارق أجاد وأفاد، ومن لا فلا، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور».

ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر بقوله: «المنشغل بفن الفلسفة قد يدبر عن الحق في حال الإقبال عليه، إلا إذا كان له النصيب من عقيدة الخصوص؛ لأن ما وصل إليه من عدم الإدراك هو ما ينبغي الاعتماد عليه، وتلك عقيدة الإسلام»، لأن سبيل الخصوص دليله إلى الإدراك هو العجز عن الإدراك، وهذا ما يحيله العقل بما هو مفكر، ونجاته تكمن «في تسليم المقام لأربابه، لأنه أغمض من أن تتوصل إليه العقول».طبعاً هنا المقصود هو العقول من جهة كونها مفكرة، لا من جهة ما هي قابلة، وهذا هو المعنى نفسه الذي ذكره الأستاذ الديناني أن العقل يدرك محدوديته وبفعل إدراكه محدوديته، يجب له طلب المعرفة من طريقه غير المعهود الذي يعبر عنه الشيخ العلاوي في كثير من النصوص بالمعرفة الخارقة.

يعطي الصوفية للقلب الأهمية الكبرى في تلقي العلم الإلهي الذي لا سبيل للعقل إليه، وهذا العلم لا نصل إليه ببذل جهد بل هو محض وهب إلهي، يقتضي فقط الاستعداد الجزئي، طبعاً هذا الاستعداد ليس موجباً لتلقي هذا العلم بل يتوقف فيضه على الوهب الإلهي وباختيار منه تعالى؛ لأن الصوفية لا يتناقضون مع المبدأ الوجودي الذي يمنع أن يكون المعلول حاكماً على علته، فكما يقول سيدي بن عطاء الله السكندري: «لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه ستر وصفك بوصفه، وغطى نعتك بنعته، فوصلك إليه بما منه إليك، لا بما منك إليه»، الأساس في العطاء الإلهي يكون بحسن الأدب معه تعالى، ومن الأدب عدم نسبة شيء معه فكيف بأن يكون الكسب الإنساني علة لفعل الله تعالى، وبمعنى آخر: كيف يُعقل أن يكون من وصفه العدم علّة لمن وصفه القدم، بهذا الاعتبار لا يكون العلم المُفاض على القلوب إلا محض فضل، وهذا لا ينفي التعمّل تكليفاً وأدباً، يقول الأمير عبد القادر الجزائري: «وما كان فوق حدها (حد العقول من العلم) المحدود لها، لا حيلة لها في الوصول إليه واكتسابه، وإنما لها أن تتعمل بالأعمال الشرعية، وتستعد الاستعداد الجزئي، وتنتظر الوهب من الوهاب -تعالى-، فإنها علوم وهب، لا علوم كسب، وهو المسمى بالعلم اللّدني»، فالمجاهدة لا تعد علة الوهب الإلهي لكن يمكن التعامل معها بأنها مقدمات إعدادية فقط.

أعطي القلب الأهمية في تلقي العلم اللّدني لما له من خاصية التقلب، والوعاء من جنس الموعى، فالتجليات الإلهية من صفاتها التحول والتعارض كما القلب خاصيته التقلب، كما أن القلب لا يتقيد بصورة أو ماهية بل هو بمثابة مرآة إذا كانت مجلوة صلحت أن تكون محل انعكاس ما يحاذيها من الحقائق، لذلك كان القلب مما يسع الحق معرفة وتحققاً، «وانظر قول الحق حيث قال: «لا يسعني إلا قلب عبدي المؤمن» فلا يسع الوسع إلا الواسع. وذلك شيء من وراء العقل، خارج عن الحصر والقصر، لا تضبطه نقول و لا تحصره عقول:

تنقل إلى حق اليقين تنزهاً

عن العقل والنقل الذي هو قاطع»

وبمقتضى سعته الحق تعالى يلزم تبدل حال العبد من الظلمة العدمية والقيد الإمكاني إلى محض الإطلاق والتنوّر الوجودي، ليأتي دور العقل وحظه من التنوّر، «ففيض هذا العلم متقدم على تعقله، فإذا وردت هذه العلوم من الوهاب، عقلها العقل وصارت عنده من المعقولات... بعد أن كان لا يتصورها... بل ينكرها إن سمعها»، بل كما يقول الشيخ العلاوي: «قال بعض العارفين: قال لي قلبي عن ربي: القلب إذا كان منوراً فارغاً من وجود الأغيار لا تبقى له واسطة بينه وبين ربه، فيحدثه في سره حديثاً تعجز عن إدراكه العقول»، هذه حالة العارف الذي يتلقى العلم منكشفاً على مرآة قلبه الذي لم يعد غيراً للحق تعالى بعد أن ذهب عنه حجاب البعد بسبب توهم الغيرية التي كانت بإشراف عقله المفكر الذي أراه غيريته للحق تعالى، وبمقتضاها فهم أن له عملاً يجب القيام به يكون هذا العمل سبب الجزاء، وهذا حجاب خطير في طريق معرفة الحق تعالى المعرفة اللائقة بجلاله وجماله، المعرفة التنزيهية التي تقضي بعدمية كل ما سواه لا نفي المشابهة له، كما فهمها أهل النظر، إذ لا موجود سواه فكيف يكون موصوفاً بأية صفة كانت ما دامت يمكن أن يتلبسها موجود غيره، لذا وجب الخروج عن العمل الذي يتوهمه العامل والخروج عن العامل الذي يتوهم لنفسه نحواً من الوجود، خرقاً لعوائد النفوس، وأوهامها حتى يتمكن من خرق طور العادة الذهنية، وصولاً إلى ما يتجاوز العقل، العارف في هذا المقام... مكلف بالخروج عن الكل (ظهور، بطون، غيبة، حضور)؛ لأن المقام لا يقبل من الظهور شيئاً فكل ما سوى الكنزية لا يعقل فهو مطلسم كنز مجمل لا اسم ولا نعت، ذات في ذات... قد تطلب منه هذه الحضرة الخروج من شبحه وروحه ونفسه وعقله، وعن الأسماء والصفات وكل ما فيه رائحة التجليات، تأمره بالجمع وطي الظهور في البطون والبطون في الظهور».

تمثلاً لما جاء به المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، «فمن ذا الذي يكون هواه تبعاً لما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد جاء بعلوم ثلاثة، وهل يوجد فيما سوى العارفين من حصل على هذه العلوم فضلاً عن متابعتها، وقد جاء (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلم منقول وعلم معقول وعلم من وراء العقول... لا والله لا يوجد في غيرهم»؛ فالعارف الكامل هو من تحقق بالمراتب الثلاثة للمعرفة، فهو ذو عقل وشهود، بمعنى أنه تحقق بالظاهر والباطن معاً فحصلت له الرؤيتان أو الشهودان: شهود الكثرة في الوحدة وشهود الوحدة في الكثرة، ولا يحجبه شهود ذا عن شهود ذاك، «ذو العقل يرى الخلق ظاهراً ويرى الحق باطناً، فيكون الحق عنده مرآة الخلق، لاحتجاب المرآة بالصورة الظاهرة، وذو العين هو الذي يرى الحق ظاهراً والخلق باطناً فيكون الخلق عنده مرآة الحق لظهور الحق عنده واختفاء الخلق فيه اختفاء المرآة في الصورة، وذو العقل والعين هو الذي يرى الحق في الخلق وهو قرب النوافل، فيرى الخلق في الحق وهو قرب الفرائض».

الشيخ العلاوي يقول بالمستوى الثاني للعقل، وهو العقل القابل الذي أسس له الشيخ محيي الدين ابن عربي، هذا العقل بفعل تقيده للكشف وفهمه عنه كسب من الشرف ما مكنه التنور بالنور الوجودي المطلق.

«وقد خمر الغرام منا عقولنا

كأننا في خبل ولست أرى خبلاً

.............................

.................................

لنا من عقل العقول عقل فيا له

جوهر فريد الحسن يعتبر عقلا

لا يعقل ما سوى الله جل ثناؤه

فهذا هو العقال يعقل ولو قلا».

بعض الباحثين من يصطلح عليه بالعقل الشهودي الذي يوفق في البرهنة على العلوم الإلهية الحاصلة بغير طريق الفكر، لذلك يعتبر الشيخ العلاوي أنه من الكراهة استعمال التفكير في الموجودات عند العارف بعد تحققه بالوحدة، بحيث يقول: «يكره للعارف تفكر القلب في المخلوقات بعد فنائه في الذات... ومن تفكر في الخلق استتر عنه الحق... لأن التفكر يكون في المصنوعات لا في الذات».

خاتمة

في الختام نصل إلى نتيجة مجمع عليها عند الصوفية المحققين أمثال الشيخ محيي الدين ابن عربي والأمير عبد القادر وكل من نحا نحوهم، ونخص بالحديث في هذه الخاتمة الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، هذه النتيجة مفادها أن العرفان الإسلامي ذو منهج متميز يستعصي على العقل فهمه والتواصل معه باقتدار، اللهم إلا التسليم له من خلال ما يمكن للعارف أن يقدمه كتمثيلات تقرب الفهم للعقل، أما إدراك الحقائق العرفانية والتعاطي معها فهذا مما لا سبيل للفكر إليها، بل يجب اتباع منهج آخر أساسه المجاهدة وتزكية النفس وتهيئتها لقبول هذه المعارف، ونزولها في محل أعلى وهو القلب القابل للتقلب على حسب الحقائق اللائق بها، وهي التجليات الإلهية، وإذا جعلنا مغايرة بين المعرفة العرفانية والمعرفة العقلية، ليس هذا بمعنى التضاد، بحيث يقتضي تبني إحداهما التخلي عن الأخرى لا سيما عند العارف لأنه أوسع وبالتالي يعرف ما يتجاوز العقل وما هو في حدوده، أما أهل النظر فتبنيهم لمنهج العقل يجب ألَّا يمنعهم هذا من التسليم لما لا سبيل لهم إليه رغم عدم قدرتهم على تعاطي المعارف العرفانية لمانع حجاب الغفلة؛ لأن ذلك وقوف والوقوف حجاب يحرم صاحبه حتى معرفته التي هي حقه، فما بالك ما يتجاوز طوره، لذا ما كتب من تعارض بين العقل والكشف، هو لعدم الفهم، وحتى وإن سلمنا بهذا التعارض فنقول: إنه تعارض في الطول، أي تعارض شرف وخسة، «وعليه فالعارف بالله والبالغ لمقام المعرفة عن طريق الله بواسطة الله، لا يناصب العقل العداء قط وإنما يعتبره من أنوار تجلياته»، وخلصنا كذلك مع الشيخ العلاوي إلى إقراره بالحقيقتين للعقل الإنساني أو الجهتين، الدنيا وهي جهة كونه مفكراً حيث يعتمد على الآلات الحسية التي هي من جنس المكونات، وبهذه الجهة ليس مخول له إدراك الحقائق الإلهية، وهناك الجهة الثانية العليا وهي جهة كونه قابلاً يقبل ما يرد عليه بتوسط القلب من الحقائق الإلهية.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة