شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
*
ما كادت حركة التنوير الفلسفية تخفت وتتوارى حتى تداعت إلى ساحة الوجود والمعرفة موجة تنويرية جديدة باسم الحداثة، أحدثت انقلاباً في سلم القيم والمعايير، وارتباكاً في علاقات الإنسان بالفهم، الوجود والطبيعة... إلخ وجعلت المجتمعات الأوروبية تعرف أطواراً جديدة ونوعية من العقلانية والتفلسف. والحداثة، كحركة فكرية وأيديولوجية، إنما انبنت في الزمن والتاريخ نتيجة الثورات الفكرية والتطورات العلمية التي تراكمت على أنقاض وخلفيات عصر الأنوار.
ويبدو أن الحداثة، كمرحلة تتسابق المجتمعات والشعوب بغية إدراكها، نتجت أيضاً عن الدينامية التي أفرزها التطور الصناعي والتقني الجد متسارع، الذي وضع تمهيداتها وشروطها الأولى، «فالثورة الصناعية الغربية، وما رافقها من تطورات ومتغيرات هائلة على مختلف الأصعدة، أنتجت طفرة أو قفزة في حركة التطور الاجتماعي والاقتصادي، بحيث توسَّعت قوى الإنتاج وتطور العلم والتقنية تطوراً واسعاً»، الأمر الذي جعل الإنسانية تدخل مرحلة جديدة من التقدم والتطور والنماء.
والتقنية، على وجه أخص، هي إحدى اللبنات الفاعلة التي انبنت الحداثة على أساسها، فالأدوات التقنية والمعدات التكنولوجية وكل منجزات المكننة المتطورة أضفت دينامية وفاعلية لا نظير لها على وتيرة الإنتاج، وضاعفت من الإنتاجية، بل وجعلت الإنسان يختزل المعالم الكبرى للعالم ويقوّض إخفاقات الزمن البطيئة في كبسة زر، أي بالتقنية التي تُعد مكسباً حقيقيًّا من مكاسب التقدم والحضارة.
وإذا كانت التقنية مدخلاً رئيساً من مداخل الحداثة فإنها غير كافية لوحدها في صنع التقدم، وإنما ينبغي النهوض بجميع الميادين والمجالات سياسية أو ثقافية، اجتماعية، اقتصادية... إلخ؛ لأن الحداثة -كمرحلة عليا مطلوبة دوماً
– لا تركن أبداً إلى الخمول والتردي ولا تتحقق إلا بعد أشواط ومسافات من التطور والتقدم. فما هي خصائصها؟ وما أهم شروطها؟ضبط مفهوم الحداثة
على الرغم من أن التعاريف التي خصت مفهوم الحداثة كثيرة وعديدة فإن الدلالة الأكثر وضوحاً للحداثة هي أنها حركة دينامية تتجدد وتتجاوز باستمرار، إذ تتخذ من التغيّر والتحوّل والانقلاب منطلقات أساسية لإحداث القطيعة مع كل ما هو تقليدي. وهذه الحركة
–في الواقع- لم تنشأ من العدم كما لم تنبعث دفعة واحدة، وإنما هي نتاج قرون من التجدد والتطور المستمر. وإذا كانت أغلب الاعتقادات ترجع بداياتها إلى القرن الثامن عشر فإن جذورها تعود إلى القرن الخامس العشر الذي شهد ثورات كبرى في مختلف المجالات، ذلك أن التحولات والتغيرات العامة للحداثة لم تنحصر في مجال بعينه، وإنما مست كافة المستويات. وهو ما سنحاول الإشارة إليه من خلال الخصائص الفلسفية للحداثة.خصائص الحداثة
إن الدعامة الفكرية والأيديولوجية التي تشكل البنية العامة للحداثة، مرهونة بجملة من الخصائص الكبرى التي تعد متطلبات جوهرية في فكر الحداثة، ولعله من الصعب الإلمام بكل هذه السمات والخصائص، غير أننا سنحاول في هذا المقام الوقوف -قدر إمكاناتنا- على أهمها من خلال النقاط والعناصر التالية:
1-
العقلانية والعقل الأداتيعلى غرار عصر الأنوار الذي أعلى من قيمة العقل وعظّم العقلانية فإن الحداثة تمجّد بدورها العقل وتوليه اهتماماً واسعاً، اذ يرتبط الأساس الأول للعقلانية بين ثناياها «بدور العقل في علاقته بالكون، فقد غدا الكون كله صورة للعقل؛ فانطلاقاً من ذلك يمكن لهذا الأخير أن يسود ويسيطر على الوجود في تطوره المقبل كما في مساره التاريخي». وإذا كان الإنسان الحداثي يعتمد اعتماداً كبيراً على عقله فذلك لأن العقل «ميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده. إنه الأداة التي بها يتوصل إلى الحقيقة، ويكون ذخيرته العلمية التي تؤلف لب حضارته وعنوان مجده، وهذه الذخيرة العلمية ذات وجهين: حشد متزايد من المعارف المنتظمة في شتى الحقول الطبيعية والإنسانية، ومنهج دقيق في الاكتشاف والحشد والتنظيم». فالعقل وحده «ولا شيء سوى العقل» (على حد تعبير ليبنتز) من يمنحنا مفاتيح إدراك هذا العالم، ويطلعنا على كنه المعرفة والحقيقة.
2-
تعظيم الطبيعةلقد أولى الفكر الحداثي عناية بالغة بالطبيعة، لا سيما ما يتعلق باستكشاف خباياها، وترصّد تغيراتها، وتقصّي قوانينها الخاصة، غير أن إيمان الحداثة بهذا العالم لم يتوقف عند هذه المستويات بل تعداها إلى درجة «تعظيم الطبيعة». فالعالم الطبيعي ليس فقط حقلاً للاكتشاف العلمي والاستقراء المعرفي، أو مجالاً لأشكال الحياة المختلفة، وإنما هو أيضاً المصدر الأساسي لسعادة الإنسان وتألّقه، إنه «العالم الحقيقي، أو على الأقل، العالم الذي يجب أن ننصرف إليه بأذهاننا ونصب فيه جهودنا، إنه ليس عالماً حقيراً زائلاً، وليس مجرد جسر نجوز به إلى العالم الآخر الحقيقي الثابت السرمدي، بل إنه له وجوده الخاص به الخليق بأن يجتذب اهتمامنا» وأن يفتح أمامنا آفاقاً واسعة ومجالات رحبة من التفكير والإبداع، والقبض على مداخل أسراره الكبرى إنما يتحقق بالبحث العلمي الرصين، والمجهود الفكري الدقيق، الذي يفك الغاز الطبيعة، ويحوّل صرامة قوانينها إلى مرونة، وصلابة جماداتها إلى حياة، ويجعلها في خدمة الإنسان. وفي ذلك إشارة إلى إيمان الحداثة الراسخ بقدرة العلم على مواجهة الصعاب التي تفرضها الطبيعة والحياة عموماً.
3-
مركزية الإنسانمن المبادئ الأساسية المقوّمة لوجود الحداثة كحقيقة فكرية وثقافية أنسنة المجتمع وإعلان أصالة الإنسان، التي تفضي إلى التأكيد بأن «الإنسان هو ما يفعل». ويراد من ذلك نفي الدين والوحي الإلهي والإعلاء التام -في المقابل
– من قيمة الإنسان بوصفه محوراً وجوديًّا مقدساً تتحدد عند مركزيته متطلبات الحياة ومضامينها، حيث إن الإرادة الإنسانية هي التي تصنع القدر وتوجهه، وهي المحدد الرئيسي لهذا العالم الكوني، وعليها تتعين مهمة حفظ نظامه وتسيير شؤونه. فالإنسان «أهم كائن في العام الطبيعي و«معيار الأشياء جميعاً» هو الغاية والعامل معاً.. هو العامل في التطور والتحضر القادر عليهما والمسؤول عنهما»، وحده بإمكاناته الخاصة بلا عوز أو حاجة. والقيمة المركزية للإنسان إنما تتجلى بوضوح في مجال المعرفة حيث أصبحت ذاتية العقل الإنساني موضوعية الموضوعات، وغدت الذات المفكرة المنطلق الأول للفاعلية والتجديد. فالذات هي الجوهر والحقيقة بعيداً عن أي مدد الهي أو خصاصة روحية، بيد أن هذه النظرة إلى الإنسان والوجود إذ تعلن الاستقلال عن الدين وتعارضه تؤسس من وجهة أخرى لضرب القيم الدينية والاعتبارات الأخلاقية، من خلال اكتفائها بكل ما هو دنيوي مادي، وتُعلي من وجه آخر من شأن الفردانية بتركيزها على مركزية الإنسان حول نفسه واكتفائه بذاته.4-
قيم الحريةارتبط الأساس الفلسفي والأيديولوجي للحداثة «بوجود إرادة بشرية لها من الحرية ما يتيح لها أن تنتزع نفسها من حتمياتها الطبيعية والثقافية والبيولوجية والتاريخية»، حيث إن الإنسان هو المحدد الفعلي لهذا العالم الطبيعي بما يملكه من قدرات وإمكانات، وهذا التحديد يتطلب قدراً كبيراً من الحرية، وإلا فما فائدة مسؤولية الأفراد عن تدبير نظام الكون إذا كانت حريتهم ملغاة أو على الأقل نسبية ومحدودة. ولقد استطاعت الحرية كمطلب حداثي رئيسي أن تُحدث تغيّرات جذرية وكبيرة في ميادين الحياة المختلفة، فعلى المستوى السياسي أصبح الشعب سيد القرارات السياسية (الأحزاب، البرلمان) بعد الثورة في وجه النظام الكنسي والحد من سطوته، وعلى المستوى الفلسفي الفكري: ذيوع مبادئ حقوق الإنسان وانتشار المذاهب والنظريات التي تدارست ونظّرت للحرية (نظرية العقد الاجتماعي وما تلاها من نظريات سياسية)، وعلى المستوى الاجتماعي: حريات فردية وجماعية واسعة، وعلى المستوى الثقافي: تفاعل معرفي وحراك ثقافي بدلاً من الثبات والانغلاق الفكري الذي كان سائداً من قبل.
5-
الحداثة ومفهوم الزمنبناء على أصالة الإنسان ومحوريته في الطرح الحداثوي تنظر الحداثة «إلى التاريخ كحقيقة واقعة لا رجعة فيها وليس كواقعة متكررة أو دورية، ومن هنا يغدو الإنسان صانع تاريخه ويغدو الزمن رصيداً يتجدد بالتدريج»، حيث إن زمن الحداثة زمن كثيف ومتسارع الأحداث يشرئبّ دوماً إلى الآتي إلى المستقبل كمصب يحيا بالجديد، وعلى أساس هذا التجدد الزمني يتزايد التقدم بزيادة الفعل الإنساني الذي يتضاعف ويتجدد على الدوام بتحفيز من نظرية «التحرر من كل الإكراهات» التي تعد قاعدة جوهرية للحداثة.
وتأسيساً على ما سبق نجد أن الحداثة لا تنبني على مجموعة من الخصائص المتنافرة أو العناصر الشكلية، وإنما على مجموعة من الأسس التي تتضافر وتتكامل فيما بينها لتشكل البنية الجوهرية للكيان الحداثوي. ولعله من الضروري الإشارة في هذا السياق إلى أن الحداثة ليست فكراً نظريًّا أجوف، أو «صفة يتصف بها المجتمع، أو شكلاً يتزيَّا به، وإنما هي مرحلة يبلغها المجتمع ويدخل بتطوره النوعي الذاتي في نمط جديد من الحياة»، زادُه الحرية والعقلانية، وعدَّته العلم والتقنية، وغايته التقدم والتطور. وإدراك هذه المرحلة يستدعي تكاتف العديد من العوامل والمقومات، أهمها التفاني في العمل لمسايرة جديد العلم والتقنية.
وفي الحقيقة لا توجد «الحداثة» بل توجد حداثتنا، أي الحداثة التي يصنعها الإنسان بالفعل ويبلغها في جميع المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية... إلخ، في مقابل الحداثة كأطروحة نظرية جامدة أو كمذهب فلسفي منغلق. وهذا الطرح يسوقنا إلى ضرورة التفريق والتمييز بين الحداثة والتحديث درءاً لأي تداخل قد يخدش المعنى الأصلي لكل منهما.
إن الحداثة تطور وتقدم تنشده كل الشعوب والمجتمعات ويأتي بعد جهود مكثفة من المثابرة والجدة، أما التحديث فهو السياق الذي يتم التحول والتغير على بساطه، وهو يأخذ في الغالب معنى التجدد الاقتصادي والتكنولوجي... إلخ. ومعناه أيضاً الاضطلاع بمهمة تجديد بنى الفكر والثقافة، وتغيير أنماط السياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى إعادة هيكلة المنظومة القيمية والمعرفية، وهذا كله يتم بناء على نموذج حداثي غربي معين. «ونظرية التجدد واحدة من النماذج المهيمنة لعلم الاجتماع والعلوم السياسية الأمريكية في الخمسينات والستينات في القرن العشرين، والتي ذهبت إلى القول بأن التجديد يتطلب إحداث التنمية في مختلف البنى والمؤسسات»، وقد لاقت هذه النظرية انتقادات لاذعة «كان منها أن التجدد مبني على التنمية التي حدثت في الغرب، وهذا النموذج إنما حدث على أساس مجتمعات وملل معينة»، في حين أنه لكل مجتمع ولكل عصر طريقته في فهم الأخلاق، المحبة، الدين.. وهذا الفهم الخاص يضع حواجز مانعة ومسافات لا نهائية أمام نقل الحداثة؛ إذ يغدو الأمر في النهاية تقليداً ومحاكاة ليس إلا.
إن استعارة تجربة الآخر الحداثية جعلت العديد من المجتمعات لا سيما العربية والإسلامية منها تدخل في متاهات متوالية؛ وذلك لأنها حاولت تطبيق درس الحداثة الغربي بحذافيره، وتناست أن البيئة الأصلية التي صدّرت هذا النموذج لا تتوافق مع خصائص ومقومات بيئتها المستقبلة على الأقل في المستوى الثقافي والديني.
مفهوم ما بعد الحداثة
لقد أدت موجة الحداثة، التي غزت المجتمع الأوروبي، إلى تقسيم المجتمعات إلى نمطين متباينين أشد التباين: مجتمعات تقليدية يسودها تفكير قديم ورتابة علمية ومجتمعات حديثة تقوّمها الجدة والعقلانية وتجدّدها الثورات المعرفية، غير أن هذه المجتمعات الأخيرة ما لبثت أن خاضت معركة أخرى جديدة مع التغيير، وذلك بانتقالها من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ولقد أثار هذا الانتقال جدلاً واسعاً في أوساط الفلاسفة والمفكرين، وتدارسته الدوائر العلمية والحلقات الفكرية على اختلاف أنواعها. والسؤال الجوهري المطروح بين ثنايا هذا الجدل هو: من أين تبدأ الحداثة تاريخيًّا وأين تنتهي إن كان هناك مجال للحديث بالفعل عن نهايتها؟
ما - بعد - الحداثة
Post modernité هي مرحلة لاحقة للحداثة، وهي ترتبط على وجه التحديد بالتحولات السوسيولوجية، التاريخية التي عرفتها المجتمعات الغربية منذ منتصف هذا القرن، غير أننا نتلمس بشان هذه الحركة اتجاهين فكريين متعارضين:الاتجاه الأول: يرى أن الحداثة حقيقة تاريخية وثقافية مستديمة، ويرفض أن تليها مرحلة ما بعد الحداثة أو أي مرحلة غيرها. من أبرز رواده الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس. ولقد شرع هذا الأخير سنة 1981 في حملات نقدية شديدة ضد المناصرين لما بعد الحداثة ونعتهم بالتخلف والتأخر، كما اعتبر نظريتهم نظرية ما قبل الحداثة
Pré moderne ، ولقد «نشر هابرماس مقالة شهيرة بعنوان: «مشروع الحداثة لم يكتمل بعد»، وهو يريد بذلك أن ينسف الفكرة المحورية لحركة ما بعد الحداثة، التي تزعم نهاية عصر الحداثة. ومن ناحية أخرى فهناك نقاد ماركسيون جدد يقفون موقفاً نقدياً عنيفاً من هذه الحركة، ومن أبرزهم ثلاثة: الناقد الأدبي الأمريكي الشهير فريديريك جمسون، والناقد الأدبي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد، والناقد الإنجليزي المعروف تيري إيجلتون»، ويتفق هؤلاء على أن الفكر ما بعد الحداثي لا يعدو أن يكون سوى رؤية معتمة، وفكراً منغلقاً، وأطروحاته ليست حداثية بالمرة.أما الاتجاه الثاني فيرى أن العصر الحديث ليس فقط العصر الحاضر، وإنما عصر انتصار العقل، أي أن مشروع الحداثة الغربي إنما بدأ في الأصل منذ عصر التنوير الأوروبي، ولقد ولى هذا العصر وانقضى، وبذا ستنتقل الإنسانية إلى مرحلة جديدة هي مرحلة «ما بعد الحداثة». لقد وجّه أصحاب هذا الموقف انتقادات شديدة لا سيما للمذهب الوضعي بوصفه منهجاً لهذا الفكر. ومن أبرز المؤسسين لهذا الاتجاه الفيلسوف الفرنسي ليوتار الذي أرهص البدايات الحقيقة الأولى لما بعد الحداثة بإعلانه موت عصر الحداثة في مؤلفه «الطرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة» سنة 1979 . وطروحات ما بعد الحداثة تجزم عموماً بضرورة التسليم بانقضاء وزوال الحداثة، والإيمان في المقابل بحقيقة واقعية مؤكدة هي مرحلة ما بعد الحداثة التي صارت أمراً يقينيًّا وواقعاً حقيقيًّا لا مناص للتنصل أو الهروب منه.
خصائص ما بعد الحداثة
قبل أن نمضي في تحديد خصائص ما بعد الحداثة، ثمة نقطة جدُّ مهمة نرى أنه من الأهمية بما كان شد الانتباه إليها، وهي أن حركة ما بعد الحداثة وجهت نقداً عنيفاً لمبادئ الحداثة، وعلى أساس هذا النقد بنت مبادئ مناقضة ومغايرة، كان لها عظيم الأثر على العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وفلسفة العلوم المعاصرة، ولقد ظهرت تأثيرات هذه الحركة أول ما ظهرت في مجال العمارة، ثم انتقلت إلى النقد الأدبي ثم إلى الفلسفة، غير أن التطور البالغ الأهمية لها، هو أنها انتقلت الآن إلى مجال العلوم الاجتماعية وظهرت تطبيقات هامة لأفكارها في علم السياسة وعلم الاجتماع، وكانت تركز في تطورها وانتشارها هذا على تقويض الحداثة وهدم مبادئها. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن مبادئ ما بعد الحداثة ليست بالوضوح نفسه الذي يسم مبادئ الحداثة، فثمة غموض يكتنف أسسها، وهي تختلف من فيلسوف إلى آخر، ناهيك عن تمايز المذاهب الفلسفية التي تتبناها.
ومهما يكن الاختلاف فإن النظرة البراغماتية (ما بعد الحداثية) للحقيقة والميل إلى إلغاء الذات يظلان سمة بارزة من سمات هذه الحركة، وأهم ما يميزها أزمة اليقين وغلو نزعة التشكيك، فلقد ضاع زمن اليقين في هذه المرحلة وصار الشك مكمن الحقيقة، ولقد طغت هذه النزعة الشكية على كافة المجالات وبلغت مراتب لا حدود لها، إذ شككت في قدرات العقل الأداتي، ورفضت العقلانية رفضاً قاطعاً، وألغت كل ما يمت إلى عصر التنوير بصلة. وأهم ما ترتب عن ذلك: نسبية العلم ونسبية الأخلاق بل ونسبية الدين والوحي الإلهي، ومرد ذلك إلى أن الحقيقة يكاد من المستحيل الوصول إليها وهي حتى وإن وجدت لا معنى لها أو تعسفية، ولقد كان لهذه النظرة الفكرية آثار بالغة وانعكاسات بارزة على بقية المبادئ، والتي سنحاول تلخيصها في النقاط التالية:
1-
عقم النظريةلقد قللت ما بعد الحداثة من دور النظرية وشككت في قيمتها، وهي ترى أن تعميم النظريات على ميادين ومجالات فكرية عديدة -والذي ينتشر بكثرة- أمر غير ممكن، كما أن الزعم القائل بأنه من الممكن تطبيق نظرية معينة على مجمل علم أو تخصص زعم باطل ولا أساس له من الصحة؛ لأن الواقع يثبت عقم النظريات الكبرى وعجزها عن حل إشكاليات الحياة، وفي ذلك إشارة إلى سقوط النماذج النظرية التي سادت العلوم الاجتماعية في القرن العشرين؛ لأنها عجزت عن قراءة العالم وتفسيره والتنبؤ بمصيره، فكل ما قدمته هذه النظريات هشاشة فكرية ليس إلا، ولم تتوقف مرامي الشك عند إعلان عقم النظريات بل تجاوزتها لتطال البديهيات والمسلمات وتطعن في مصداقيتها.
2-
تقليص دور التاريخكما قلّص الفكر ما بعد الحداثوي من دور النظرية قلّص أيضاً من شأن التاريخ ومن كثرة الاعتماد عليه، والمجال الأنسب
–في رأيه- لهذا العلم هو: «مجال الأساطير والأيديولوجيات»، وركز بخلاف ذلك على الحاضر بوصفه مجالاً لتداول الأحداث الإنسانية. وعلى هذا فإن التاريخ ليس مهمًّا إلا بالقدر الذي يلقي فيه الضوء على الحاضر.3-
اللاحتميةفي إطار رفضها الشامل للإطلاقية وإيمانها الراسخ بالنسبية، رفضت ما بعد الحداثة الحتمية وبيّنت عجزها لا سيما في تطبيقات العلم، مؤسسةً بذلك لنظرية جديدة هي اللاحتمية. ويعد التاريخ وفلسفة العلوم من أبرز المجالات التي حظيت بتعميم شامل للطرح الحتمي، فإذا كانت الحداثة تنظر إلى التاريخ نظرة حتمية مفادها -كما أشرنا سابقاً- أن التطور التاريخي يسلك دوماً اتجاهاً خطيًّا يصعد من الأدنى إلى الأعلى ويتقدم باستمرار (فكرة التقدم)، فإن حركة ما بعد الحداثة ترى أن التاريخ مفتوح على احتمالات متعددة، فقد يتقدم وقد يتراجع بالقدر نفسه، وهي بذلك تبيّن عجز فكرة التقدم الحداثية وتؤكد عدم جدواها.
4
– إلغاء دور الذاتمن المقومات الرئيسية لما بعد الحداثة إلغاء دور الذات والتقليل من فاعلية الإنسان، وذلك لجملة من الاعتبارات، أهمها معارضة الحداثة في تركيزها على الذات الإنسانية، وهي إذ ترفض الذات ترفض أيضاً الإعلاء من شأن الإنسان والاعتراف بقدراته وحريته. ولقد وجهت في هذا الإطار انتقادات شديدة للعقل الأداتي الذي أسس البنية الفكرية للحداثة ككيان فكري وحضاري؛ وذلك لأنه يتعلق بالذات التي ينبغي أن تلغى في كل الأحوال. ويمكننا إجمالاً تعداد خصائص ما بعد الحداثة في العناصر التالية:
- تحطيم الإطلاقية والاعتقاد بالنسبية.
- التشكيك في قدرات العقل والرفض المطلق للعقلانية.
- نسبية العلم والأخلاق.
- وعموماً، إقحام الفكر الإنساني في مسافات لا نهاية لها من الشك وعدم اليقين.
القيم السياسية الأخلاقية لمجتمع الحداثة وما بعد الحداثة
شهد عصر الحداثة تطوراً ملحوظاً للدولة ومؤسساتها، وتنامياً كبيراً للظاهرة السياسية، إذ تطورت الدولة في أوربا من دولة الأمير (الملك أو الإمبراطور) إلى الدولة الحديثة التي ينبني نظامها السياسي أساساً على الشعب والمصلحة العامة.
النموذج الأوربي للدولة الحديثة إنما جاء كنتيجة عن الصراع السياسي بين الأمير والكنيسة، والذي أفضى إلى بروز مجال جديد في الحياة السياسية هو مجال السياسي، ذلك المجال الذي قدّم نفسه كبديل عن المجال الديني الذي أفرزته سلطة الكنيسة.
والمجال السياسي في الأصل نتيجة من نتائج ظهور نظرية العقد الاجتماعي التي مجدّت الفردانية، ودافعت عن حقوق الإنسان وحرياته ضد الاستبداد والقسر الذي مارسته الأنظمة الكنسية والأنظمة الاستبدادية.
وهكذا وبالثوران والانقلاب على هذه الأنظمة طرح مشروع الحداثة الغربي نموذجاً جديداً للدولة يتقوَّم بالحرية والعدالة، ويشكل الشعب فيه خصوصية أساسية، حيث إن الدولة الحديثة تستمد شرعيتها من الشعب عبر الانتخابات إضافة إلى أنها دولة القانون والحرية.
وإذ تضطلع الدولة بمهمة حفظ الحقوق والواجبات وتحقيق النظام والعدالة، وتولي اهتماماً واسعاً بالنظم الاجتماعية والقيم السياسية، فإنها من وجه آخر لا تعير للقيم الدينية والاعتبارات الأخلاقية أدنى اهتمام، وتركز على علمنة الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث إن «النظرة الحداثوية للدين مجرد نظرة براغماتية نفعية.. أي الاعتقاد بأن الدين إما أنه لا يجوز أن يكون له وجود أساساً، أو إن كان له وجود فلا بد من أن يكون مرجعه أمراً شخصيًّا مؤطراً في العبادات والأحكام الفردية»، كما أن رؤاها للأخلاق تغلب عليها النظرة المادية جراء تركيزها على الفردانية التي أدت إلى فقدان المعنى وتقلص القيم والأخلاق ومن ثمة الاهتمام فقط بكل ما هو دنيوي مادي.
والامتعاضات
les malaises التي تطرحها الحداثة لا تتوقف عند حدود اختفاء القيم الأخلاقية بل تتعداها إلى «الهيمنة التكنولوجية والتهديدات التي يحملها العقل الأداتي ضد حريتنا، وتتعلق أيضاً بالاستبداد الناعم -حسب عبارة Tocqueville- الممارس من طرف الدولة الحديثة على المواطنين الداخلين تحت وصايتها»، وكذا بالتفاوت الطبقي الذي يفضي يوماً بعد يوماً إلى تعميق الصراع والتنافس بين أفراد المجتمع.من زاوية أخرى انبرت (ما بعد الحداثة) في سياق مشروعها الساعي إلى هدم أسس الحداثة إلى نقض القيم السياسية والأخلاقية على حد سواء، ففي المجال السياسي أدى إلى ترسيخ النزعة التشكيكية للفكر مابعد الحداثوي إلى معارضة السلطة أو الدولة الحديثة المركزية، وانتقاد القيم السياسية للحداثة بما فيها حقوق الإنسان والديمقراطية. وفي مجال الأخلاق أدى تحكيم النسبية إلى فساد قيمي، وذلك من خلال إخضاع المنظومة القيمية وكل المعايير إلى التشكيك الأخلاقي والترويج للنسبية الأخلاقية. وترجع أغلب الدراسات هذا التسارع في الانقلاب على القيم إلى التحولات الكبيرة التي خلّفها التطور للعلم والتكنولوجيا، هذه التحولات التي جعلت العقل ما بعد الحداثي يُخضع كل البنى المعرفية والمفاهيم القيمية إلى النسبية والشك.
علاقة المجتمع الإسلامي بالحداثة وما بعد الحداثة
بالرغم من المزالق الخطيرة التي أفرزتها الحداثة وما بعد الحداثة استطاعت المشاريع الغربية الحداثية أن تستهوي العديد من الدول الغربية وغير الغربية، إذ سرعان ما لقيت هذه الطروحات والأفكار إقبالاً وانتشاراً واسعين في الدول الأوروبية، فضلاً عن انتشارها بخاصة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تنافست في تناقل الحداثة الغربية بشتى أشكالها.
لقد مضت الدول العربية والإسلامية في تجديد أجهزتها المعرفية والقيمية، وتحديث مؤسساتها السياسية والاقتصادية، ولقد بلغ تقليد تجربة الآخر الحضارية هذه درجة الهوس، فالنموذج الغربي أضحى وبلا منازع النموذج الوحيد الموصوف بالتحرر والتطور، والمنوط بفتح مغاليق التقدم والحضارة، «وكانت النتيجة العملية لهذه المسألة هي السعي الجاد إلى تحديث أنماط الحياة بما يتماشى مع متطلبات المعركة الجديدة، فتم إنهاء الصناعات الحرفية والوطنية، وتدمير البنية التعليمية والثقافية التقليدية... وأصبحت التنمية وفق هذا المنظور تعني: تحديث وسائل العيش، وإقحام التقنية في كل مكان وفي كل المجالات»، وبمختصر القول: القضاء على كل البنى والنظم التقليدية، والإقبال بشغف على القيم والمبادئ الحداثية، سواء تعلق الأمر بتقليد ومحاكاة مشاريع الحداثة أو تعميم النماذج الغربية الحديثة من الأصل كما هي من دون أي تغيير أو إضافة.
بيد أن النتائج غير المتوقعة والحاصلة من هذا الانسياق هي دخول هذه المجتمعات في مراحل من الجمود والضياع والتأخر في شرك التقليد الحركي، وتمادت في الانبهار الحداثي دون أن تلتفت إلى قيمها الذاتية ومخزونها الفكري والحضاري الخاص.
إن الجهود الكبيرة والمساعي الحثيثة التي بذلها المجتمع العربي الإسلامي في التجديد، سواء في نقل الحداثة أو باستيراد تجارب ما بعد الحداثة لم تنبع من عمق الذات الحضارية الأصلية، ولم تعد إلى منظومة القيم التراثية التي تعد الذخر الوافي لأي وثوب حضاري، وإنما حاولت فقط تطبيق نمط حداثي لا يتواءم مع أنساقها القيمية وتوجهاتها الثقافية وبالأساس مع أسسها العقائدية، مما جعلها تفقد هويتها وخصوصياتها وتدخل في دوامة من العزلة الفكرية والاغتراب الحضاري، فهي إذ تجعل الحداثة غايتها القسوى ما هي بالحديثة، وإذ تبذل الجهد الجهيد لمواكبة التطور باقية في مؤخرة ركب الحضارة، حيث إن الركود والانحطاط البديل الحقيقي عن الحداثة التي تتوخاها. ويبقى السؤال في الأخير: هل سيظل النموذج الغربي النموذج الأمثل، أم ثمة إمكانية للتجديد والحداثة من داخل المجتمع العربي الإسلامي؟
القيم الأخلاقية والسياسية الإسلامية: المقومات المنسية للحضارة
لكل مجتمع نصيب من الإبداع والنبوغ الفكري الذي يؤول إلى مستوى معين من الحضارة، وهذا القدر من التحضر والتقدم يعود بالشيء الكثير إلى المقومات الذاتية التي يبذلها الأفراد من داخل المجتمع. والمفارقة الحقيقية التي عاشتها الدول التقليدية لا سيما الدول العربية والإسلامية هي أنها تجاهلت مقوماتها الخاصة، ونظرت إلى الحداثة على أنها وثبة حضارية حاصلة في اللحظة والحين، متناسية أن أشواط الحضارة -وهي نتاج جهود مضنية- روافدها الأصيلة القيم والثوابت الذاتية. وإذا كنا سنتعرض هاهنا بشيء من الشرح والتفصيل لشروط البناء الحضاري، فإننا نؤكد أن هذه المقومات مجتمعة هي التي جعلت الأمة الإسلامية تلج دروب الحضارة.
مقومات التجديد الذاتي
أولا
: الالتحام العقيدي الواقعيإن الإسلام كعقيدة ودين لا ينفصل بأي حال من الأحوال، ذلك أنه يتخذ من التوحيد والإيمان بالله عز وجل منطلقات ربانية أساسية لبناء أطوار هذه الحياة الدنيا، فهو يشتمل على مجموعة من الأحكام والقوانين الصادرة عن الله سبحانه وتعالى، صيغتها الإلهية المتعالية أن تكون موجهة لإعمار هذه الأرض، وعلى هذا فعمل الإنسان الدنيوي ليس بمنأى عن التوحيد الإيماني وإنما أعماله كلها عبادة، إنه يشق ضروب العمل المختلفة استخلافاً لله ومرضاة له، وبذا «يعتبر الإسلام برنامج عمل لنظام اجتماعي» متكامل، حيث إنه لم يقدم نموذجاً إيمانيًّا منغلقاً على حدود الشرع ومنعزلاً عن تخوم الواقع، وإنما قدم منهجاً روحيًّا يبدأ من العقيدة وينتهي إلى الواقع الحياتي المعيش.
وهكذا يغدو الجانب الإيماني مجسداً في التوحيد والإقرار بعظمة الخالق نظاماً عقائديًّا جدُّ متماسك؛ لأنه ببساطة يستلهم قوته من الصلة العميقة الموجودة بين ما هو ديني وما هو واقعي، فالأحكام والقواعد الصادرة عن الله سبحانه وتعالى إنما تعد منهاجاً قويماً وصراطاً مستقيماً ينظم حياة البشر ويوجهها بالتعاليم والقوانين الدينية التي تستمد مرجعيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
ثانياً
: توخي العدل ونبذ الجورتعد العدالة الحجر الأساس الذي تبني به وعليه الأمة الإسلامية وجودها وحضارتها، فالله سبحانه وتعالى وفي أكثر من موضع يدعونا إلى توخي العدل والإنصاف ونبذ الظلم والجور؛ إذ يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، ويقول أيضاً: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وفي سورة النساء يجعل الله صفة العدل تكليفاً صريحاً للمسلمين في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}، وتكليفاً واضحاً للرسول (صلى الله عليه وسلم) «وأمرت لأعدل بينكم»، وقصارى القول: إن الدين الإسلامي «إعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد والعبودية لهواه»، لكن ما علاقة العدالة بالانبعاث الحضاري؟ في الواقع المجتمعات التي تعيث في الأرض ظلماً وعدواناً تبقى من الناحية القيمية الأخلاقية همجية بربرية حتى ولو بلغت أقصى درجات التطور والرقي المادي.
إن العدالة مطلوبة جدًّا على مستويين:
المستوى الأول: ينبغي توفر سمة العدل في شخص الحاكم باعتباره القيّم على شؤون رعيته.
المستوى الثاني: شيوع العدالة بين أفراد الأمة مع توادهم واتحادهم أمر ضروري ومطلوب، وهو ما حدث في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والتابعين من بعده.
ومن غير مجافاة للواقع ثمة علاقة وطيدة بين المستويين: فبعدالة الراعي المسؤول ينتشر العدل بين أفراد الأمة، و بتساويهم في الحقوق والواجبات يزداد ولاؤهم لحاكمهم وتقوى علاقات القرابة والتواصل بينهم، ويشتد إثر ذلك كيان الأمة قوةً وتماسكاً، وفي هذا كله تأسيس لا مناص منه لأرضية يسودها التكافل، والانسجام والوحدة، وهي متطلبات جدُّ ضرورية لقيام الحضارة.
ثالثاً
: الاحتكام إلى مبدأ الشورىإذا كانت الديمقراطية الحجر الأساس في الحداثة السياسية فإن المنظومة السياسية الإسلامية تنبني على قاعدة جوهرية هي الشورى، والتي تُلزم الحكام بضرورة المشاورة من خلال مجلس خاص يسمى بأهل الحل والعقد. ومبدأ الشورى بدأ مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يشاور أصحابه في كثير من المسائل والقضايا السياسية، وهكذا كانت «الشورى مقابل الحكم النيابي الديمقراطي وأهل الحل والعقد مقابل النواب».
ومن الضروري التوضيح هنا أن سن هذا المبدأ في النظام السياسي الإسلامي لم يكن جزافيًّا، وإنما كان بغرض الاحتكام إلى الجماعة حتى لا تكون قرارات الحكام تعسفية وجائرة، وهو يستمد إلزاميته من الآيتين الكريمتين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ}.
رابعاً
: المسؤولية الفردية وقيمة الذاتمن واجب كل إنسان مسلم أن يؤدي جملة من المسؤوليات الفردية التي تساهم في حفظ كيان الفرد والجماعة على حد سواء، فهو ملزم بأن ينبري لنصرة الإسلام والمسلمين، ومطالب باحترام بني جلدته، و«باحترام كل شيء حي»، ومسؤول عن نفسه بألَّا يُلحق بها الأذى، يقول الباري عز وجل: {لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، ومسؤول عن طاعة أولي الأمر بدءاً من الوالدين ووصولاً إلى الحكام والقائمين على شؤون الرعية، ومسؤول عن درجة التحضر أو التخلف التي تبلغها الأمة، فالإنسان المسلم له من القدرات والطاقات ما يؤهله لخدمة رسالة الإسلام السامية على اعتبار أنه خليفة الله في الأرض.
خامساً
: الوسطية بين الدنيا والآخرةانطلاقاً من مبدأ الوسطية الذي يعد من المبادئ الأساسية للنموذج الحضاري الإسلامي {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، فإن المرجعية الأولى التي ينطلق منها المسلم في هذه الحياة هي الإيمان بوجود حياة أخرى حياة الخلود الأبدي، يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وليس كما قالت العرب قديماً في إنكارها للبعث:
أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي
فعلى الرغم من أن الإنسان خليفة الله في هذه الأرض، وهو مطالب بإنمائها وإعمارها؛ فهو مطالب للتجهز للموت والإعداد للعالم الأخروي، أَوَلم تكن الحياة الدنيا حرث للآخرة؟
سادساً
: الاستخلاف والتمكينإننا حين نتحدث عن مسؤولية الإنسان في الدار الدنيا نشير بشكل أو بآخر إلى استخلاف الله للإنسان في الأرض، قال تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}، ويقول أيضاً: {قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فالإنسان
–باختصار- مطالب بالسعي في هذه الأرض بغية إعمارها وتخليص البشرية من عتمات الجهل والتخلف، حيث إن الله لم يخلقه عبثاً، وإنما خلقه لهدف وغاية، وهو عبادته سبحانه وتعالى وخلافته في تسيير شؤون هذه الأرض بحفظ النظام العام للفرد والجماعة. والغرض الأساسي من مفهوم الاستخلاف في الأرض هو التمكين بغية طاعة الله، بخلاف التمكين الذي استثمره الغرب في بناء الحضارة بغية الإنسان، فالحضارة في الإسلام هي حضور الإنسان المادي والروحي في نسق البناء التاريخي، وهي بهذا المعنى تطبق مبدأ الوسطية الإسلامي بين الدنيا والآخرة، والتناغم والتواؤم بين ما هو مادي وروحي، وعلى النقيض من ذلك تنبني الحضارة الغربية على أسس فلسفية مادية، كما توظف ثمار تفوقها الحضاري لأغراض دنيوية محضة.سابعاً
: أولوية الأخلاقمن الأحكام الواضحة التي تبني جوهر الرسالة المحمدية تحقق عبادة الله بتحقق حسن معاملة خلقه، بمعنى آخر السلوك الأخلاقي للإنسان المسلم ممثلاً في الإحسان والإنصاف هو الذي يجسد أهم مبادئ رسالة الإسلام، وربما قد يتراءى لنا للوهلة الأولى أن ثمة مبالغة في وصل تحقق عبادة الخالق بحسن معاملة خلقه، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما يزول إذا أدركنا المكانة العالية للمنظومة القيمية الأخلاقية، فالنصوص حبلى بالآيات التي تدعو المسلمين إلى الالتزام الخلقي، و مليئة بالقيم والمعايير الأخلاقية التي تؤطر العلاقات بين الأفراد، يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فالأخلاق كانت اللبنة الرصينة والعماد القويم الذي بنت عليه الأمة الإسلامية حضارتها، فبعدما كان العرب شرذمة قليلة يسودها التنافر والعداء استطاع الإسلام أن يوحدهم ويرص صفوفهم، بنشره للمبادئ الفاضلة والأخلاق الحسنة، التي وطدت أواصر العلاقات بين أفراده وبين أفراد الأمم التي اعتنقت الإسلام.
إن الحديث عن الأخلاق إنما يقود إلى الحديث عن الحضارة، ففضلاً عن النموذج الإسلامي الذي توقفنا عنده من قليل، نستشف من الدرس التاريخي أن التماسك الأخلاقي بين أفراد الأمة الواحدة شرط أساسي من شروط قيام الحضارة واستمرار مجدها، ذلك أن الدول والأمم
–وفقاً للطرح الخلدوني– عندما تستكين للترف واللهو، وتضرب بسلم القيم الأخلاقية، ينال الهرم منها وتتهاوى، ويكون مآلها في الأخير الانحطاط والزوال. وكم هي كثيرة الدوائر الحضارية التي اضمحلت واندثرت بعدما انهارت قيمها الأخلاقية.ثامناً
: ثنائية العقل والإيمانبالعودة مجدداً إلى المزاوجة بين الشرع والواقع، النقل والحياة، «نجد أن الإسلام يجمع من جهة أخرى في أخلاق واحدة، بين التفكير العقلي وتعاليم الدين، دون أن يجعل بينهما تعارضا»، ففي النصوص القرآنية دعوة صريحة وبيّنة إلى التدبر العقلي. والأدلة على نزوع المنظومة الفكرية الإسلامية إلى تلقف العقل وتوظيفه كثيرة، نورد منها على سبيل الذكر لا الحصر، «الحث في القرآن، والذي اضطر المسلمين اضطراراً إلى استعمال عقولهم، فهو يحث إلى النظر والتأمل وعدم أخذ الأمور تقليداً واتِّباعاً»، والحضور القوي لموروثات الفكر اليونانية في الثقافة العربية الإسلامية، وأساسها طبعاً العقل. وهذا التكامل القوي بين الجانب الموحى الإيماني والجانب الفلسفي العقلي ساعد الأمة الإسلامية كثيراً على بلوغ المجد الحضاري.
تاسعاً
: عالمية الإسلاممن منعطف آخر يوجه الإسلام إلى الإنسانية جمعاء من دون أن يفضل شعباً على آخر، وهذه النزعة الإنسانية والروح العالمية إنما يستمدها من نظامها الأخلاقي المحكم، «فدعوة الإسلام هي ذات طابع شمولي، وهي تتوجه إلى جميع الناس كبشر ليس فقط باعتبارهم أعضاء في مجموعة إثنية أو قومية»، وبرجوعنا إلى آي القرآن الكريم نجد أن أغلب النصوص التي تبدأ بالنداء تكون الدعوة فيها موجهة إلى الناس جميعاً بلا تمييز أو تفريق، والدين الإسلامي بالإضافة إلى ذلك «ليس حكراً على فئة من المسلمين.. الدين هو ملك كل مسلم آمن بالله ورسوله»، وفي ذلك أيضاً تأسيس للمساواة والوحدة بين أفراد الأمة إحدى أسس تحقق الحضارة ونمائها.
لكن ألا يمكن لهذه القيم الحضارية أن تساهم في الوصول بالمجتمعات الإسلامية إلى الحداثة؟
إن الشروط الحضارية موجودة إذن لكنها للأسف مهملة ومغيبة، صحيح أن مواكبة الجديد تفرض على الشعوب تقصي كل ما هو مستحدث لكن هذا الأمر لا يتأتى بالتجارب الحديثة، وإنما هو بحاجة إلى التجديد الذي ينبعث من الذات، فلا التراث وحده كفيل ببلوغ الحداثة بمعزل عن الأفكار والطروحات الجديدة، ولا المشاريع الحداثية وحدها قمينة بصنع الحضارة، وإنما ينبغي أن نلغي الصراع المفتعل بين الاثنين ونكيف ونوائم بينهما بتعقل وإحكام والإسلام قد أرسى بجلاء أسس البناء الحضاري.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.