تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تجديد أصول الفقه بين أيدي المعاصرين : «حسن حنفي» نموذجاً

الدكتور بوبكر جيلالي

الملخّص باللّغة العربية

عرفت أصول الفقه في عصرنا قراءات عديدة، غرضها تناول فلسفة التشريع من منظور معاصر، انصبت على إعادة بناء مقاصد الشريعة وفق حاجات العالم الإسلامي المعاصر، بعضها اجتمع فيه المنهج العلمي بالمنهج الفلسفي بالمناهج التراثية، وأهم قراءة معاصرة كانت لحسن حنفي في كتابه «من النص إلى الواقع»، غرضها تحويل علم أصول الفقه إلى علم سلوكي يعطي الأولوية للواقع على النص، لكن تبنّي قراءة منطق الفقه للمناهج المعاصرة جعلها تتعرض للكثير من الانتقادات.

* * * *

لقد ثبت في البحث الذي قام به «حسن حنفي» حول إعادة بناء علم أصول الفقه في مصنفه الأصولي الجديد «من النص إلى الواقع» أن أصول الفقه عند الشيعة بدأ متأخراً ومزدهراً، في حين أن علم أصول الفقه لدى السنة بدأ مبكراً وازدهر ثم انتهى وتوقف وأُغلق بابه، وفي أيامنا تمّ اختيار علم أصول الفقه للتجديد من قبل العديد من العلماء والمفكرين شيعة وسنة. و«هو اختيار لأهم مواطن الإبداع في العلوم الإسلامية. فعلم الأصول هو العلم الإسلامي الإبداعي بالأصالة. تأسس بشقيه قبل عصر الترجمة. ومن ثم فهو سابق على الفلسفة... وهو العلم الذي يعبّر عن روح الحضارة الإسلامية، التوجه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه عن طريق تنظيم الأفعال فيه، ووضع قواعد السلوك البشري. ليست غايته الآخرة بل الدنيا، وليس الدين بل عمارة الأرض، وليس الله بل العالم. فالله هو الشارع، واضع الشريعة. ولما كانت الشريعة وضعية لها بنيتها في الواقع الاجتماعي وفي الموقف الإنساني لم تكن هناك حاجة إلى تشخيص الشريعة في شخص الشارع وليس الإشراقيات والاتصال بالعقل الفعال بل العقل الاستنباطي والاستقراء التجريبي مع مباحث اللغة وتحليل الألفاظ».

فمن رواد تجديد أصول الفقه عند الشيعة محمد باقر الصدر الذي اهتم بالفقه وأصوله وخصص لعلم أصول الفقه أعمالاً كثيرة. كتب في مباحث الدليل اللفظي وفي مباحث الحجج والأصول العلمية، وفي المعالم الجديدة للأصول وفي الأسس المنطقية للاستقراء وهو عمل تنظيري جمع بين الاستنباط والاستقراء، «بين استنباط الأصل واستقراء الفرع بعد نقد المنطق الصوري الخالص، ونقد المنطق التجريبي الخالص من أجل تأسيس منطق ذاتي للمعرفة». وتميزت محاولة الإمام الصدر بالجدّة في اللفظ والمصطلح، وفي نقد المدرسة الإخبارية، وفي فهم الأدلة والاستدلال، فتجاوز «أصول الفقه الشيعي عند القدماء وأصبح من الأئمة المجتهدين المعاصرين كان لديه إحساس الجدّة وبضرورة التطوير على ما يبدو من بعض عناوين مؤلفاته في علم الأصول مثل «المعالم الجديدة للأصول». فالعلم نشأ وتطور وانتهى في دورته الأولى طبقاً لتطور الحضارة الإسلامية. ويمكن أن يعاد بناؤه من جديد في النهضة الإسلامية الثانية التي بدأت منذ القرن الماضي. وتلك مسؤولية العلماء المجتهدين. والزمان يتغير، والعصر يتبدل، والمصالح لا تثبت على حال. ولما كان علم الأصول هو علم المصالح المتجددة وجبت إعادة بنائه طبقاً لروح العصر... علم الأصول هو منطق الفقه. هو نظر العمل وأساس الفعل، علم القواعد العامة للسلوك البشري. هو الفعل النظري العملي الذي يجمع بين النظرية والتطبيق، يتفاعل الفكر الأصولي مع الفكر الفقهي. الكل مع الجزء، القاعدة مع المثل. لذلك خرجت قواعد جواز تكليف بما لا يطاق، ولرفع الحرج، ولا ضرر ولا ضرار. ليست الغاية من علم الأصول وضع مجرد مناهج الاستنباط من أجل الاتساق المنطقي وإحكام أشكال القياس. بل الغاية هو العمل. لذلك سمي المنطق الأصولي منطق الاستعمال».

تتفق محاولة باقر الصدر مع محاولة «حسن حنفي» في الكثير من النقاط وتتقاطع، وتثبت محاولة «حسن حنفي» الكثير من أفكار محمد باقر الصدر في تجديد علم الأصول بشقيه أصول الدين وأصول الفقه. وانطلاق حسن حنفي من أعمال محمد باقر الصدر في محاولته إعادة بناء أصول الفقه في مباحث الألفاظ والأدلة والمقاصد والأحكام جعله يصل إلى العديد من الدلالات والتحليلات التي تميزت بالجدة منها في قوله: «وما يدعو للتجديد أيضاً هو أولويات الأدلة الشرعية الأربعة. كانت عند القدماء ترتيباً تنازليًّا... أما الآن فيمكن إعادة ترتيب الأدلة ترتيباً تصاعديًّا من القياس إلى الإجماع إلى السنة إلى الكتاب. إذ تستلزم تحديات العصر الرئيسية، مواجهة الاستعمار والصهيونية والتخلف والتبعية والتشرذم، البداية بتحليل الواقع مباشرة ومعرفة علله، أي الاجتهاد، فإن صعب يمكن التوجه إلى أهل الاختصاص لمعرفة الحلول الجماعية. فإن صعب يمكن بعد ذلك قراءة السابقين في مدوناتهم ابتداء من الخبرات المتميزة حتى حكمة الشعوب على مرّ السنين».

إن تجديد علم الأصول عمل متواصل واتجاه مستمر في التاريخ ابتداء من «الرسالة» للشافعي إلى «العدة» للطوسي إلى «الموافقات» للشاطبي إلى «المعالم الجديدة للأصول» للإمام محمد باقر الصدر إلى «مقاصد الشريعة» لمحمد الطاهر بن عاشور إلى «مقاصد الشريعة ومكارمها» لعلال الفاسي إلى «نحو مقاصد الشريعة» لجمال الدين عطية إلى «تجديد أصول الفقه الإسلامي» لحسن الترابي إلى «من النص إلى الواقع» لحسن حنفي. هذا المصنف الأخير الذي بان فيه تأثره بكل الأعمال التي عاصرته، أخذ منها وحاول تجاوزها، مثلما تجاوز محمد باقر الصدر القدماء، ومثله موسى الصدر في تفسير القرآن على أساس أن النص تجربة حيّة في الزمان، والزمان هو الحركة، «وهو تفسير إنساني يجعل الإنسان مركز الكون». ويتم تفسير الظواهر الدينية بالعلوم الإنسانية والاجتماعية مثل علم النفس الديني والأنثروبولوجيا، وعلم تاريخ الأديان وعلم تاريخ الحضارات والثقافات. هذا المنهج في التفسير يقوم على مبدأ أولوية الواقع على النص، ومنه جاء شعار محاولة إعادة بناء أصول الفقه عند «حسن حنفي»، وهو «من النص إلى الواقع». وهو توجه مستمد من الدراسات المعاصرة للفقه وأصوله الشيعية والسنية، الشيعية بالنسبة لتجديد علم أصول الفقه ككل، خاصة في رده إلى الواقع وإلى مصالح الناس، والسنية بالنسبة لبناء المقاصد وتطورها كجزء من الفقه وأصوله ورد الفقه وأصوله إلى التاريخ.

وعلوم التراث ككل، بما في ذلك العلوم النصية كعلوم التفسير أو علوم الحديث وحتى علم التوحيد، «يقوّي روح الواقعية في الإنسان ويدفعه إلى حرية الاختيار، وتحمّل المسؤولية. وهذه دلالة «أسباب النزول»، أولوية الواقع على الفكر، والسؤال على الجواب، والإشكال على الحل، والواقع هو الواقع الاجتماعي الفردي والعائلي والجماعي من أجل تغيير الواقع مثل وأد البنات. فرسالة السماء موجهة إلى الأرض، والوحي قصد من الله إلى الإنسان فالأولوية للدنيا على الآخرة. وشرط الاتجاه في الآخرة الفرح في الدنيا. كل شيء في الوحي يتفق مع مصالح الإنسان، الفرد والجماعة». ويتكرر المشهد عند «حسن حنفي» مع محاولة إعادة بناء مشكلات الحضارة عند المفكر الجزائري «مالك بن نبي» الذي يدور فكره حول التراث القديم والتراث الغربي وتلخيص تحديات العصر كلها في «مشكلات الحضارة»، «بما في ذلك النهضة والتحرر من الاستعمار والقضاء على التخلف ومظاهره من فقر وقهر وتجزئة، وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع وتحويل أحداث عصره إلى التمركزات الفكرية». ومحاور الفكر والبحث عند «مالك بن نبي» هي الجبهات الثلاث التي يشتغل بها مشروع «التراث والتجديد» و«من النص إلى الواقع»، مبدأ قام عليه منهج التفسير عند موسى الصدر هو شعار محاولة إعادة بناء أصول الفقه عند «حسن حنفي»، والدلالات التجديدية الأصولية في «المعالم الجديدة للأصول» لمحمد باقر الصدر قامت عليها محاولة «حسن حنفي» إلا فيما يتميز به الشيعة عن السنة عقيديًّا ودينيًّا، وتلتقي محاولة «حسن حنفي» لإعادة قراءة وصياغة علم أصول الفقه ودعوته إلى تجديده مع دعوة حسن الترابي في كتابه «تجديد الفكر الإسلامي» وفي رسالته «تجديد أصول الفقه الإسلامي». كما كتب «حسن حنفي» عن هذه المحاولات والدعوات المعاصرة ونوّه بها بل شرحها وأيّدها وهذا يعني أن محاولته انبثقت من هاته المحاولات المعاصرة وتأثرت بها، خاصة محاولة محمد باقر الصدر، حتى أنه يمكن اعتبار محاولة «حسن حنفي» امتداداً لمحاولة باقر الصدر وتطويراً لها.

يظهر حضور محاولات التجديد الأصولي المعاصر في محاولة «حسن حنفي» إعجاباً وتأثراً، منطلقاً ومنهجاً ومبتغى. والنص الأصولي الجديد «من النص إلى الواقع» يمكن مراجعته من قبل المعاصرين ومقارنته بالمتون الكلاسيكية لمعرفة درجة التواصل ودرجة الاستقلال ومن قبل علماء اللسان وعلماء النص والتأويل لإدراك درجة إسهامه في هذه العلوم. ويراجع من قبل المجددين في علم أصول الفقه «الذين ساروا على هذا المنهج منذ حركة الإصلاح الحديثة، خاصة في النص الثاني من القرن العشرين عند علال الفاسي، ومحمد باقر الصدر، وجمال الدين عطية، ومجلة «علم المعاصر» إنها خطوة على طريق تجديد علم الأصول، سبقتها خطوات حثيثة وربما تتلوها خطوات أكثر جرأة».

أما من جهة المصالح والمقاصد كأساس للتشريع فقد درج الأصوليون القدماء على تناول المقاصد ضمن علم أصول الفقه في مباحث القياس والاستصحاب والاستصلاح وغيرها. وتناول البعض موضوع المقاصد في حكم التشريع وأسراره مثلما فعل أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، والحديث عن فقه المقاصد وأصوله هو حديث عن «فقه الأولويات»، والمسألة تتعلق «بتجديد المنهج الفقهي الذي يُدخل الفقه في مستوى القاعدة، ويفتح المجال للموضوعات الجديدة في عالم التشريع الثانوي مما استحدثه الناس من موضوعات. وإهمال الموضوعات الميتة التي كانت تمثل حاجات الماضي ولم تعد تمثل حاجات المستقبل. ما يفرض على الحوزات العلمية أن تكتب الفقه الجديد في تفريعاته وموضوعاته حتى تكون الرسائل العلمية والمتون الفقهية مواكبة للواقع المعاش بحيث يشعر المكلف بعيش عصره في الفقه الجديد، وأن الفقه يعالج له مشاكله على مستوى المنهج الإسلامي في الدائرة الإسلامية أو في خارج هذه الدائرة، أي في المجتمعات الخاضعة لنظام غير إسلامي في المفاهيم والتشريعات».

ويدعو محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» إلى أنه قصد من مصنفه «إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون مرجعاً عند اختلاف الأنظار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، وإغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة». كما انتقد الفكر الأصولي القديم ومنهجه القياس الاجتهادي، وارتبط في بحثه مجال مقاصد الشريعة بالنظام الاجتماعي الإسلامي الذي يرى فيه بأنّ قواعده لا تفيد علم الأصول في شيء الأمر الذي يحتم إيجاد قواعد أشمل وأوسع تمثل الجهاز النظري الذي يمكِّننا من ترتيب شبكة القيم والمبادئ التي تحكم حياة المجتمع وتوجه حركته. وهكذا الأمر مع الفطرة والسماحة والحرية والحق. «وفي الحقيقة فإن نظرية ابن عاشور في بنائها التصوري مشروع طموح جدًّا بقدر ما هو مهم؛ لأنه يروم رسم مقاصد التشريع الكلية، غير مقتصر على المقاصد الخمسة المعروفة التقليدية. والركيزة الإسلامية التي يحتاجها هذا العمل هو الأسلوب والمعيار المنضبط المتمثل بالآليات التي يلزم اعتمادها في تحديد تلك المقاصد الكلية. خاصة إذا عرفنا أن ابن عاشور لم يكن ممن يكتفون بالطرح التقليدي الذي لا يرى غضاضة في التعويل على الظنون غير المنضبطة والاحتمالات، وإنما جاء بدعوى كبيرة وجديرة بكل التقدير والاهتمام، وهي علاج إشكالية القطع والظن من خلال إيجاد أصول قطعية للتفقه». هذه المحاولة الجادة لإقامة علم المقاصد تتكرر لدى المفكر والباحث المغربي علال الفاسي في كتابه «مقاصد الشريعة ومكارمها»، وهي محاولات تركت بصماتها على المحاولة في «من النص إلى الواقع».

بالإضافة إلى محاولة محمد الطاهر بن عاشور وما تميّزت به من جدّة وأصالة وإبداع توجد محاولة علال الفاسي في كتابه «مقاصد الشريعة ومكارمها»، وهي محاولات إعادة قراءة علم أصول الفقه من حيث قواعده ومن حيث مقاصد الشريعة، وتتفق على أن «مقاصد الشريعة الضروريات التي من أجلها -كما يقول الشاطبي- وضعت الشريعة ابتداء، هي: الدفاع عن النفس وعن الحياة، والنفس لها مظاهر في العقل، ولها مظاهر في العرض والكرامة، ولها مظاهر في المال والثروة، ثم الدين أي إثبات حقيقة لا يختلف عليها أحد. فمقاصد الشريعة في حقيقة الأمر أهميتها أنها تستطيع أن تجد الجسور بين هذين الخصمين في حياتنا المعاصرة وهم سلفيون وعلمانيون... وفي نفس الوقت يعني الانفتاح لعلم أصول الفقه على القضايا الرئيسية للعصور. والمقابلة بين مقاصد الشريعة كما حددها الفقهاء وبين الحالة الراهنة لثروات الأمة، لكرامة الإنسان، للتعليم في الأمة، للبحث في الحقائق، وأيضاً للحفاظ على حياة الناس». والدافع إلى عدم العناية بالتفكير المقاصدي في الشريعة الإسلامية هو التقوقع في حرفية النص والرغبة في التسلط على الناس. ويعترف «حسن حنفي» بأن تفكيره في أصول الفقه تأثر بفكر علال الفاسي حيث يقول: «لكن علال الفاسي في «مقاصد الشريعة ومكارمها»... وأنا اعتمدت على ذلك كثيراً من أجل تطوير علم أصول الفقه، أي العلة الغائية، فالعلة الغائية في التعبيرات الفلسفية القديمة هي التي لها الأولوية على العلة الفاعلة أو العلة الصورية أو العلة المادية، وهذا محمد إقبال عندما قال: إن الحياة تتحدد بالمقاصد والغايات وليس بالفعل، فالغاية هي الموجه: بماذا أتحرك؟ لماذا أتعلم؟ لأن لي مقصد أو لي غاية، وهي النهضة بالإسلام والمسلمين وبالتالي فالتفكير المقاصدي عادة ما يطور ويغير ويجدد وينزع السلطة من أيدي ملاك الحقيقة المطلقة ومحتكري تفسير النصوص».

وإن كان محمد الطاهر بن عاشور قد دعا إلى استقلال المقاصد كعلم قائم بذاته عن علم أصول الفقه، لما له من خصوصيات وأهمية ودور في الحياة التشريعية خاصة في الحياة المعاصرة؛ فإن علال الفاسي يعتبر المقاصد جزءاً لا يتجزأ عن علم أصول الفقه على أساس أن المقصد أو المصلحة أساس التشريع، وهي مصدر كباقي مصادر التشريع الإسلامي، بل هي أساس الشرع مادام الشرع مقصداً من المقاصد. أما جمال الدين عطية فالمهم عنده ليس هو استقلال المقاصد كعلم من علم أصول الفقه، وإنما هو خدمة الموضوع بالتأليف والتشعيب لمباحثه وتطبيقاته، وقد كتب فيه «نحو تفعيل مقاصد الشريعة» الذي تضمن تصوراً جديداً للمقاصد، ويهتم بتفعيل المقاصد في حياتنا الفقهية والعملية من خلال تجديد المقاصد وإثباتها بالعقل والفطرة والتجربة، وترتيب المقاصد حسب الضروري والحاجي والتحسيني، وبيان نسبية تسكين الوسائل في المراتب. ويخلص جمال الدين عطية في كتابه «نحو تفعيل مقاصد الشريعة» إلى النتيجة التالية في قوله: «الذي أريد الوصول إليه أنّنا أفراداً وجماعات نفتقد العقلية التخطيطية، وبالتالي يغلب على أعمالنا العشوائية والتخبط، وينخفض بالتالي عائد جهودنا، ونحن أحوج ما يكون إلى أن نحدد أفراداً وجماعاتٍ رسالتنا في الحياة، ونحدد في ضوئها الأهداف البعيدة والقريبة أو الاستراتيجية الطويلة الأمد والتكتيكية القريبة، ونترجم هذه الأهداف إلى برامج عمل تنفيذية، وما يصاحب ذلك من عمليات تقييم ورقابة ومتابعة، وأن نربط كل ذلك بمقاصد الشريعة. وفي تصوري أن بإمكان المشتغلين بالتخطيط سواء على مستوى المؤسسات الخاصة أو الإدارات الحكومية أن يفيدوا في عملهم من تراثنا الثري في موضوع المقاصد: سواء في مجالات المقاصد العالية أو الكلية أو الخاصة، والمقاصد الأصلية والتبعية والمقاصد والوسائل، ونظام رتب الضروريات والحاجيات والتحسينات ونظام الأوليات... إلى غير ذلك».

إذا كانت محاولة «حسن حنفي» لإعادة بناء علم أصول الفقه مستمدة من مصادر تاريخية وعلمية ومنهجية ومراجع واقعية وتراثية وفلسفية قديمة وحديثة ومعاصرة، فكذلك استمدها من محاولات تجديد أصول الفقه والدعوات إلى تجديد الفقه وأصوله المعاصرة، سواء تلك التي شملت علم أصول الفقه ككل مثل محاولة محمد باقر الصدر، أو المحاولات المتعلقة بإقامة مقاصد الشريعة وتطوريها مثل محاولة محمد الطاهر بن عاشور ومحاولة علال الفاسي ومحاولة جمال الدين عطية وغيرهم. وأُعجب «حسن حنفي» بتلك المحاولات ككل كما هو واضح في كتاباته وحواراته. ومحاولته في «من النص إلى الواقع» من خلال «تكوين النص» و «بنية النص» حددت الأساس والبناء، وقدمت صياغة جديدة في تحديد الأساس، وفي إبراز البناء، مستفيدة من جميع المحاولات الهادفة إلى تطوير أصول الفقه القديمة والمعاصرة بما لها وبما عليها. وجاءت المحاولة تجمع بين أصول الفقه في أساسه وبنائه من حيث القواعد والمقاصد وفق منظور عصري وبمنظوم عصري وطبقاً لروح العصر ولحاجاته وأهداف الأمة والتحديات الراهنة الفردية والجماعية والإنسانية.

إن محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه عند «حسن حنفي» ليست معزولة عن فلسفته ومشروعه الفكري النظري الحضاري «التراث والتجديد»، بل هي جزء من ذلك. ظهرت في كتاب «من النص إلى الواقع»، ونجد دلالتها متناثرة في كتب أخرى مثل رسالة «مناهج التفسير» وكتاب «حصار الزمن» وكتاب «هموم الفكر و الوطن» وكتاب «حوار الأجيال» وغيرها، ونجد بعض دلالاتها في الكتب التي ترجمها صاحبها مثل «رسالة في السياسة واللاهوت» لسبينوزا «وتعالي الأنا» لجون بول سارتر ولغيره. وهذا يدل على انتماء محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه وتجديده إلى فضاء فكري وفلسفي هو فلسفة «حسن حنفي» ككل ومشروع «التراث و التجديد» على وجه الخصوص. ودراستها تقتضي الإلمام بهذا الفضاء وبسياقه التاريخي، ومناقشتها تتطلب الإحاطة الكافية بجوانب وخصائص هذا الفضاء الفلسفي الذي تنتمي إليه المحاولة الفكرية والتاريخية، خاصة وأن المحاولة هي جزء من المشروع الذي تبلور ليتحقق في الواقع بغض النظر عن تحقيقه فعلاً في الواقع أو عدم تحققه؛ لأن المفكر صاحب المشروع ليس مسؤولاً عن تحوّل مشروعه الفكري إلى أفعال في الواقع أم لا، فمهمته تتوقف عند إتمام المشروع وتقديمه، والبقية على غيره.

إن مشروع «التراث والتجديد» الذي يشمل محاولة إعادة بناء أصول الفقه ومحاولات أخرى بعضها أُنجز وبعضها لم ينجز. يطبع كل هذا المحاولات بطابعه، وترتبط بمبادئه ومنطلقاته وبمناهجه وفلسفته وأهدافه، ومناقشة أية محاولة يجب أن تنطلق من مناقشة مشروع «التراث والتجديد». ومشروع «التراث والتجديد» هو عبارة عن دراسة تحليلية نقدية للتراث العربي الإسلامي القديم، ومحاولة لاستثمار وتوظيف هذا التراث في عصرنا ليساهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة بدل الأزمة والتخلف والانحطاط. هذا يمثله الجزء الأول من المشروع وهو «التراث». والمشروع هو سبيل للاستفادة من الوافد الغربي القديم والحديث والمعاصر وإيجاد نظرية في تفسير الواقع تفسيراً محكماً، أي دراسة تحليلية نقدية للوافد وللواقع، بهدف التغيير والتطوير والتحضر، وهذا يمثله الجزء الثاني من المشروع وهو التجديد. ويعيب المشروع على كل التيارات الفكرية والحلول المقترحة في التعاطي مع التراث والوافد ومع الواقع على أنها لم تستوعب لا التراث ولا الوافد ولا الواقع، وبالتالي فهي تُعمق الأزمة وتُقوي الانحطاط والتخلف.

انبثق مشروع «التراث والتجديد» من فلسفة قيل عنها: «أول ما يلفت النظر وأكثر ما يلفت في كتابات حسن حنفي قدرة كاتبها شبه اللامحدودة على مناقضة نفسه. فهو لا يضع قضية إلَّا لينفيها، ولا يُبدي رأياً إلَّا ليقول بعكسه. وهذا ما أباح لأحد نقاده أن يتطرق في القول إلى حد التجريح فيتساءل عما إذا كان في قدرة قارئ «حسن حنفي» أن يظل محتفظاً بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع؟». ومن ثم يوصف بازدواجية العقل في كتاباته، فهو يثبت وينفي الموضوع نفسه ومن الجهة نفسها. وحسب أحد نقاد فلسفة «حسن حنفي» وكتاباته ووصفها بازدواجية العقل والتناقض الضمني والصريح، «يمكن إجمال تناقضات حسن حنفي تحت العناوين التالية:

أ - تناقض في الموقف المنهجي.

ب- تناقض في الموقف من القضايا.

ج- تناقض في الموقف من الوقائع.

د- تناقض في الموقف من النصوص.

هـ- تناقض في الموقف من الأشخاص».

والمثال الذي يُساق في التناقض المنهجي، موقفه من قضية تطبيق المنهج العلمي على الظاهرة الدينية. من ناحية يؤكد أن عصرنا هو عصر العلوم الإنسانية ويجب أن يتحول الدين إلى علم إنساني سلوكي مرتبط بعلم النفس وعلم الأديان وغيره. ومن ناحية أخرى يقرر أن الظاهرة الدينية لا تقبل أن تُرد إلى غير ذاتها وأنها ظاهرة قبلية ذات طابع مثالي لا يمكن للعلوم الإنسانية أن تحيط به، ومن ذلك يعترض على استخدام المنهج العلمي والنعرة العلمية في دراسة التراث وفي دراسة علم أصول الفقه. وهكذا مع سائر مواقفه من الموضوعات والقضايا، ومن الأحداث والوقائع، ومن النصوص ومن الأشخاص.

وفي سياق التناقض في مشروع «التراث والتجديد» وازدواجية العقل فيه نجده يرفض الحلول التي جاءت بها التيارات الفكرية في العالم العربي والإسلامي المعاصر لحل مشاكل الواقع المعاصر ولأزمته، ولظاهرة التخلف والانحطاط فيه، مثل الحل بالقديم والحل بالجديد والحل الجامع بين القديم والجديد. يرفض الاكتفاء بالتراث كما يرفض الاكتفاء بالوافد وحده ويرفض الجمع بين التراث والوافد في التعامل مع الواقع والعصر. أي يرفض التواصل والانقطاع والانتقاء في وحدة الموقف من التراث العربي الإسلامي القديم. ولا يقبل الانقطاع والتواصل والانتقاء في الموقف من التراث الغربي القديم والحديث والمعاصر. كما يرفض التبرير والانعزال والرفض في الموقف من الواقع، ويقرر بدل هذه المواقف من الموروث والوافد والواقع التي تأخذ بها التيارات الفكرية الموجودة في الساحة الثقافية العربية والإسلامية المعاصرة والتي تصنف إلى سلفية وعلمانية ووطنية ومحافظة وتغريبية وتوفيقية؛ يظهر موقف «التراث والتجديد» وهو إعادة بناء التراث القديم وتأسيس علم الاستغراب والتنظير المباشر للواقع. في حين أن إعادة بناء التراث القديم مبنية على التوفيق بين التراث في قيمه ومناهجه وأهدافه مع مطالب العصر وروحه، وهو ضرب من التوفيق إن لم نقل التلفيق بين القديم والجديد. أما تأسيس علم الاستغراب وبناء موقف من الوافد يقوم هو الآخر على عناصر هوية الأمة الإسلامية التاريخية والتراثية التي تخوض معركة الحضارة مع الحضارة المعاصرة بقوتها العلمية وثقلها المادي، وهو أمر تحتاج فيه الأمة المتطلعة إلى التحضر أن تجمع بين الموروث والوافد. وعلم الاستغراب ما هو إلَّا رؤية عربية إسلامية إلى الغرب وحضارته وثقافته، هذا المنظور يبقى مجرد إعلان عن مبادئ وإفصاح عن نوايا، أدوات ومناهج تحقيقه في الواقع غير متوفرة في الظروف الراهنة التي تعيشها الأمة. أما نظرية التفسير التي تحدد الموقف من الواقع فهي ذات قيمة كبيرة نظريًّا وجماليًّا؛ لأنها تعد بحياة أرقى وأفضل خالية من التبعية والتغريب وفيها الازدهار والنماء والتطور، فيها قيّم الإسلام السمحاء التي تحفظ مصالح الفرد وتصون مصالح المجتمع وتحمي مصالح الإنسانية جمعاء. أما واقعيًّا وعلميًّا فالظروف ليست مهيأة لمثل هذه الحياة، فيصبح الفكر في هذه الحالة ذا طابع إنشائي مثالي طوباوي.

يرى «حسن حنفي» أن فشل كل المشاريع الفكرية في التعامل مع التراث هو عدم دراسته التراث من منظور معاصر، وبالتالي عدم تطابق المشاريع مع روح العصر ومطالبه. ودعا إلى دراسة التراث من منظور معاصر، هو تجديد المنطق اللغوي والاعتماد على مستوى حديث في التحليل وتغيير البيئة الثقافية. ففي منطق التجديد اللغوي وباستخدام المنهج الظاهراتي تصبح بنية النص التراثي تعبيراً عن أبعاد الشعور. لا فرق فيه بين اللغة والوجود وبين الفكر والواقع وبين التصور والأفق، بين المفهوم وبعد الشعور، وهو تفسير التراث من منظور ظواهري وبمناهج جديدة لغوية وبنيوية وتاريخية وتأويلية يبحث لها «حسن حنفي» عن تواجد في التراث القديم ومشروعيتها وينزع عنها الصبغة المعاصرة والأصل في الوافد. وهي مناهج عرف التراث بعض صورها البسيطة الساذجة في تحليلات القدماء ودلالات التراث، وهي غير واضحة ومحددة مثلما هو الحال في علوم المناهج الحالية التي يعوّل عليها مشروع «التراث والتجديد»، ومن جهة يرفضها على أنها من الوافد، واستخدامها في دراسة التراث يقضي على خصوصياتها ويؤدي إلى التبعية والتغريب والذوبان في الآخر، وهو أمر ليس من أهداف «التراث والتجديد»، بل من التحديات التي تواجهه.

يرى العديد من الباحثين والمفكرين الذي اشتغلوا بفكر «حسن حنفي» وبمشروعه «التراث والتجديد» أن مشروعه كان يمكن أن ينال الاهتمام اللاّزم والأهمية الكبرى من الناحية النظرية والعلمية معاً لو لم يكن منبثقاً من أيديولوجيته وخلفيات هذه الأيديولوجية، خاصة وأنه ربط الأيديولوجية بالدين، وأراد أن يجعل من الدين علماً إنسانيًّا مرتبطاً بسائر العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، لا يتعارض مع الأيديولوجية كعلم، هو الآخر من العلوم الاجتماعية التي تدرس حياة الفرد والجماعة، الأمة والإنسانية جمعاء، وأيديولوجيته يعبر عنها اليسار الإسلامي الذي يؤمن بدور التراث الإسلامي من وحي واجتهادات فكرية قديمة وحديثة، مثل اجتهادات المعتزلة واجتهادات الحركة الإصلاحية الحديثة. وفي الجانب السياسي يؤمن بالإسلام السياسي التنويري الذي يخدم مصالح الأمة والجماهير من خلال التحديات الراهنة السبعة: تحرير الأرض، تحرير المواطن، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، وحدة الأمة، حشد الجماهير وتجنيد الناس والدفاع عن الهوية ضد التغريب. ويؤكد أن هذه الأهداف هي محل اتفاق بين السلفيين؛ لأنها مقاصد الشريعة، والعلمانيين؛ لأنها تمثل أهداف الأمة. وتحقيق هذه الأهداف في عصر الأزمة والتخلف ليس أمراً هيّناً. وتحوّل الأيديولوجية إلى علم أمر صعب من الناحية النظرية والتطبيقية معاً، وتحويل الدين إلى علم إنساني سلوكي مندمج في العلوم الإنسانية والاجتماعية بعيد المنال في حياة ثقافية تعتبر الوحي معطى قبليًّا سابقاً على الإنسان، طابعه مثالي يحدد فكر الإنسان ويوجه سلوكه في علاقة تنطلق من أعلى نحو الأدنى. وارتباط الفكر والفلسفة في «التراث والتجديد» بالخلفية الأيديولوجية ينزع عنها الشرعية العلمية، وتكون عرضة للنقد والتجريح من قبل الأيديولوجيات الأخرى الشرقية والغربية، وحتى الأيديولوجية الواحدة تتضمن في داخلها عدة أيديولوجيات يُعرف عنها التعارض والتصارع. ومن جهة أخرى يرتبط مشروع «التراث والتجديد» بعدة فلسفات قديمة وحديثة: الاعتزال والكانطية والماركسية والشيعية. ومن الناحية الإبستيمية فيقوم على الفهم والتفسير الوضعيين للمعرفة، وأولوية الواقع على الفكر، والعمل على النظر، والمصلحة على الحرف، والتاريخ على الوحي، في إطار نزعة معيارية انتقائية توفيقية في الموقف من التراث والواقع والآخر. وهي نزعة يستصغرها «التراث والتجديد» عند الكثير من الفلسفات التي تشتغل بالفكر العربي الإسلامي المعاصر وأزمته.

ومشروع «التراث والتجديد» ضخم في جبهاته، كبير في أهدافه، واسع في آفاقه، حتى قيل عنه: «من هنا يقع المرء في حيرة من أمره إذا أراد أن يكتب عن حسن حنفي، إذ يجد نفسه بإزاء كاتب يحارب على أكثر من جبهة، ويطل عبر واجهات متعددة، ويشتغل في على عصور متباعدة ويتناول عوالم ثقافية مختلفة، وينظر في تجارب إنسانية متباينة. لا أخفي أنني كلما كنت أفكر في الكتابة عن حنفي في سياق نقدي لأصحاب المشاريع الفكرية العربية أعود فأحجم؛ إذ لا أعرف كيف أبدأ ومن أين أبدأ. هكذا كنت أتحايل على نفسي وأتملص من المهمة لانعدام الحيلة والوسيلة عندي في مواجهة هذه الترسانة المعرفية التي يحشدها حسن حنفي في وجه قارئه أو ناقده». ومشروع ضخم كهذا يبدو أنه لا يكتمل بسبب ضخامته وقصر العمر، بدليل أنه لم ينتهِ من إتمام موقفه من القديم في الجبهة الأولى وفتح النار على الجبهة الثانية من خلال بيانها النظري، فقد يكون من المتعذر أتمام المشروع لموسوعية العمل من جهة، ولقصر العمر من جهة ثانية؛ لذلك ربما يختصر العمل الموسوعي في بعض الأقسام والأجزاء.

لقد تعرضت كتابات «حسن حنفي» لانتقادات حادّة ولتهجمات عنيفة من قبل العديد من المفكرين المعاصرين في كثير «من القضايا المهمة، ليس في مجال الفلسفة فقط وهو تخصصه العلمي وميدان عمله الأساسي؛ ولكن في الفكر الديني والسياسي والاجتماعي والنقد الأدبي، ويثير ما يطرحه من آراء في هذه المجالات كثيراً من الجدل والنقاش والنقد والهجوم، ولا نبالغ إن قلنا: إن ما كُتب عنه مثل ما كتب عن الجابري يفوق ما كتب عن أي مفكر عربي آخر من المفكرين المعاصرين. والملاحظة الأساسية التي تفرض التساؤل أن معظم -إن لم يكن كل ما كتب حوله- كان نقداً له وهجوماً عليه. ومما يزيد هذه الظاهرة تعقيداً أن يأتي هذا النقد وذاك الهجوم من اتجاهات فكرية مختلفة ومتباينة فيما بينها: إسلامية وماركسية وتفكيكية وتحليلية نفسية وغيرها». ومن الباحثين الذين انتقدوا كتابات «حسن حنفي» وجاءت هذه الانتقادات في شكل كتب أو مقالات في دوريات أو فصول في كتب: محسن الميلي، وأحمد خضر في نقد «اليسار الإسلامي»، ومحمد عمارة في «نقد التراث والتجديد»، وكذلك محمد إبراهيم مبروك، وناهض حتر، وأديب ديمتري، وفضيل دراج، ورفعت سلام، ومحمود إسماعيل، وعلي حرب، وجورج طرابيشي، وصلاح قنصوه، ونصر حامد أبو زيد، وفؤاد زكريا. ونموذج هذه الانتقادات، نقد اليسار الإسلامي، بحيث كثرت الكتابات النقدية لما قدمه حسن حنفي تحت عنوان اليسار الإسلامي من كتّاب وباحثين في الفكر الديني، وتراوحت هذه الكتابات بين الكتابة الحماسية الوعظية والتحليل العلمي الدقيق، وأغلبها يقف عند النصف الأول من العنوان، فيصف به عمل حنفي بأجمعه، فاليسار الإسلامي هو ماركسية مقنعة ومادية ملحدة ورفض مستتر للدين، ومن هنا تصف هذه الكتابات جميعاً عمل حنفي بالمادية والوضعية والتاريخية والعلمانية والتجريبية والعقلانية، وكأن الفكر الديني خلو من هذه الأسس التي يدين الداعين لها عمل حنفي بأضدادها تماماً».

إن الدراسة النقدية لمحاولة إعادة بناء أصول الفقه عند «حسن حنفي» هي جزء من الدراسة النقدية للفلسفة ولمشروع «التراث والتجديد»؛ لأن محاولة إعادة بناء أصول الفقه هي جزء ضمن إعادة بناء التراث القديم في جانب العلوم العقلية النقلية الأربعة، علم أصول الدين وعلوم الحكمة و علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وسائر الانتقادات التي توجِّه إلى أسس ومناهج وخصائص «التراث والتجديد»، والفلسفة التي يقوم عليها توجه إلى محاولات إعادة بناء التراث القديم ومنها محاولة تجديد الفقه وأصوله، وهي مجازفة ومغامرة؛ إذ «يرى برانشفيك أنه لأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي يحاول صاحب هذه الدراسة خوض مغامرة كبرى، تتمثل في محاولة إعادة تفسير كامل لعلم أصول الفقه التقليدية، وذلك انطلاقاً من رؤية فلسفية جديدة، توظف الإمكانيات الحديثة في التحليل والفهم، والتي لم تكن متاحة للعلماء من قبل، مشيراً بذلك إلى محاولة المؤلف توظيف أسس «الفينومينولوجيا» التي كانت لا تزال تحتفظ في ذلك الوقت بنفوذ على الساحة الفلسفية».

إن كتاب «حسن حنفي» «من النص إلى الواقع» في جزئه الأول «تكوين النص» أراد أن يحدد أساس علم أصول الفقه من خلال تحليل نظري صوري للنصوص الأصولية، ووصف شكلاني لبنية العلم في أكثر من مائة نص أصولي في غياب التاريخ والظروف التاريخية التي نشأت فيها النصوص وتكونت، ونشأ فيها العلم وازدهر. وفي غياب الأيديولوجيا كمعنى مرتبط بالأحداث السياسية والاجتماعية، هو ما جعل البحث يعتمد على الفكر التأملي من خلال استخدام منهج تحليل المضمون، معترفاً أن الأفضل في دراسة النصوص «تتبع نشأة النص الأصولي وتطوره بصرف النظر عن المذاهب الفقهية، والنص الأصولي واحد أسّسه الشافعي وإن لم يكن أول الفقهاء». وعرف وصف النصوص الأصولية في متن الجزء الأول في «من النص إلى الواقع» التكرار والحشو وطول الشرح من نص إلى آخر وفي النص الواحد، وكان «حسن حنفي» قد عاب على الكثير من الأصوليين طول الشرح والتكرار في كتاباتهم. أما في الجزء الثاني فقد تناول بنية علم أصول الفقه الثلاثية من منظور ظاهراتي بحت مستخدماً التجديد اللغوي وداعياً إلى تغيير البيئة الثقافية وهي مناهج التجديد في مشروع «التراث والتجديد». بالنسبة للمنهج الفينومينولوجي فإن إعادة بناء علم أصول الفقه على منظوره ورؤيته جعل الوحي وهو معطى قبلي سماوي عملية إنسانية وتجربة فردية يتحكم فيها الواقع الإنساني، هي مطالبة بالنزول إلى الواقع الإنساني والتكيّف مع حاجياته ومطالبه مهما كانت، ويتحول الوحي إلى علم إنساني فلسفي عملي سلوكي يندمج مع سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية يهتم بالإنسان وبظروفه وبمصالحه الفردية والاجتماعية، وبالأمة وبمصالحها، ويواجه التحديات في الواقع العربي الإسلامي المعاصر، لكن ارتباط المحاولة ببعض التصورات الفلسفية القديمة والحديثة مثل الاتجاه العقلي الاعتزالي والاتجاه الفلسفي الظواهري، ورد الفكر الأصولي القديم ومنهجه إلى فكر علمي تجريبي اجتمعت فيه كل من خصائص ومقومات الروح العلمية بالمعنى الحديث والمعاصر، ورد الوحي إلى الواقع من خلال اعتماد مبدأ أولوية الواقع على النص، والعمل على النظر، واللغة على الفكر، والمصلحة على الحرف، والتاريخ على الوحي، والإنسان على الله؛ كل هذا جعل المحاولة تتأسس على طرف واحد يمثلها كل من الواقع والمصلحة في مقابل الوحي كمعطى قبلي وسابق على الفكر؛ لهذا كانت المصلحة أساس التشريع والواقع معتبرةً في الشريعة، فلأن الوحي هو الذي قرر ذلك. واعتبار الوحي للواقع والمصلحة والعمل لا يعني أولوية الواقع على النص والمصلحة على الحرف والتاريخ على الوحي، فكثير ما تُطلب الفضيلة لذاتها، وكثيراً ما يضحي الإنسان بما هو أصلح له في الواقع في سبيل مبدأ وقيمة روحية لا على سبيل المثالية بل على سبيل أولوية الوحي على الواقع، والآخرة على الدنيا، والله على الإنسان، والمبدأ على الرغبة.

إن الدلالات والإيحاءات التي تميزت بالجدّة في محاولة تجديد علم أصول الفقه لم ترد فقط في كتاب «من النص إلى الواقع» الذي تضمن محاولة إعادة بناء أصول الفقه، من خلال قراءة النصوص الأصولية القديمة ومتونها المتعلقة بنشأة وتكوين بنية علم أصول الفقه في الجزء الأول «تكوين النص»، ومن خلال إعادة صياغة بناء علم أصول الفقه كتجربة شعورية في الجزء الثاني من «بنية النص»، وفق منظور حديث ومعاصر، هو التحليل الشعوري الظاهراتي، ومنطق التجديد اللغوي، والحرص على تغيير البيئة الثقافية من بيئة قديمة إلى بيئة جديدة، وهي البيئة الثقافية المعاصرة. وجاءت تلك الدلالات والإيحاءات والتحليلات متناثرة في كتب «حسن حنفي» مثل «حصار الزمن» «مفكرون» و«حصار الزمن علوم» و«هموم الفكر والوطن» وحوار الأجيال وغيره. وكل هذه الدلالات والإيحاءات والتحليلات قابلة للمناقشة، ففي «بنية النص» الذي تضمّن معظم هذه الدلالات والإيحاءات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ونناقشها. فالجمع بين الطابع الاستدلالي لمصادر التشريع الإسلامي الأربعة بالمكان والزمان من خلال أسباب النزول والناسخ والمنسوخ على أساس الواقع يسأل والوحي يجيب، واعتبار السن نموذج الوحي المتحقق في الواقع والشريعة في المجتمع والنبوة في الدولة، كل جمع بين ما هو علمي استدلالي استقرائي واستنباطي وبين ما هو سياسي واجتماعي خاضع للتغيير والتبديل، فالنبوة ليست علماً والوحي لا يصبح علماً من العلوم الإنسانية والاجتماعية المستحدثة. ولا يمكن الفصل في القياس بين كونه جانباً تعبديًّا وقناة أولى تُدخل الوحي في التاريخ ويكون القياس عنصراً في الوعي التاريخي، وبين كونه أداة استدلالية تمثل عنصراً أساسيًّا في الوعي النظري، فالقياس واحد لأن الوحي واحد والعقل واحد والواقع واحد. واهتمام البحث بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ أي (المكان والزمان) ليس فيه جديد سوى لرد الوحي إلى الواقع من خلال ظاهرتي التنزيل والنسخ وتحكيم المصلحة على النص والنظر على العمل والأرض على السماء. فالوحي في أصول الدين وأصول الفقه توقيف يتعلق بفهم المصادر وكيفية الاستنباط، وفي الفقه وأصوله يوجد ما هو ثابت وما هو متغير. فالثابت هو الفطرة والمتغير هو الواقع، والعقل يقرأ الوحي والواقع ويجمع بينهما، قد يتحقق الوحي في الواقع بواسطة العقل ويتحول الواقع إلى وحي بواسطة الفعل.

أما المنهج الظاهراتي الذي يبحث عن بنية النص خارج النص في التجربة الإنسانية المعيشة ففيها لا فرق بين الفكر والواقع، بين اللغة والوجود، بين التصور والأفق. نجد هنا مبالغة في اعتبار اللغة والوجود شيئاً واحداً، والفكر والواقع موضوعاً واحداً. في حين أن الواقع يؤكد أن هناك تبايناً بين الوقائع والتصورات، واللغة شيء والوجود شيء آخر، حتى أن اللغة الظواهرية في «بنية النص» مثل المنظوم والمنظور والمفهوم والمعقول وغيرها مفاهيم تتكرر في مباحث العلم ويمكن الاعتراض عليها. فالمعقول -وهو الشيء ويشير إلى القياس- يتكرر في المنظور الذي هو الاجتهاد، والقياس ضرب من الاجتهاد، والوعي النظري يتداخل مع الوعي العملي، والتجربة الفردية والمنظور والمعقول وحتى المفهوم، فصياغة علم أصول الفقه اللغوية الظواهرية في «من النص إلى الواقع» يمكن أن تصاغ في أكثر من صياغة، حتى أنّ صاحبها إذا راجعها ربما يصوغها في أكثر من صورة. وفكرة الأولوية في ترتيب الأدلة للواقع على النص، بحيث يتمّ الانتقال من القياس فالإجماع فالسنة فالكتاب، وهو منهج عكسي بالنسبة للمألوف لدى الفقهاء، حيث يتم الانتقال من الكتاب فالسنة فالإجماع فالقياس، واستساغة الترتيب الجديد للأدلة ليس أمراً سهلاً رغم ما فيه من معقولية وواقعية، بحيث أصبح الواقع مقدساً والوحي في خدمته، وهو أمر يعترض عليه علم الأصول القديم ومناصروه. والفصل بين أصول الدين وأصول الفقه في أكثر من مبحث يخالف ما درج عليه الفكر الإسلامي من ارتكاز أصول الفقه على العلوم الأخرى واستمداده منها، مثل أصول الدين وعلوم الحكمة وعلوم الحديث وغيرها. ولا يعني ارتباط أصول الفقه بالواقع والحرص على أولوية الواقع على النص فيه هو الحرص على تجريده من كل بحث في علم التوحيد والفلسفة، وحتى التصوف، فالعلوم الإسلامية متكاملة؛ لأن الإنسان ليس هو مجرد واقع أو مصلحة، بل عقل وروح وفكر وذوق وفناء.

إن كافة الدلالات التجديدية التي عرفتها محاولة إعادة بناء أصول الفقه في الجزء الأول أو في الجزء الثاني من الكتاب «من النص إلى الواقع» فلسفيًّا ومنهجيًّا ولغويًّا وأيديولوجيًّا وتاريخيًّا في الوعي التاريخي بكافة مصادره وقنواته، وفي الوعي النظري بجميع أقسامه وعناصره، وفي الوعي العلمي بكافة جوانبه وقضاياه؛ إنما الهدف منها هو تحويل علم أصول الفقه من علم فقهي منطقي استدلالي استنباطي إلى علم فلسفي إنساني سلوكي موجه مباشرة إلى خدمة مصالح الإنسان في الواقع. ينطلق من الواقع وتحدياته ومشكلاته وحاجياته وأسئلته ويعود إليه بالإجابة عن تلك الأسئلة وبمواجهة تلك التحديات وتحقيق تلك الحاجيات وتلبية المطالب، عملاً بمبدأ أولوية الواقع على النص، والمصلحة على الحرف، والعمل على النظر، والتاريخ على الوحي، والأرض على السماء. على عكس ما كان عليه الفكر الأصولي ومنهجه في القديم من إعطائه الأولوية للنص على الواقع، وللوحي على المصلحة، والتاريخ والإنسان والأرض. لذلك سخّرت المحاولة التراث ككل لخدمة الواقع، كما سخّرت ثقافة العصر وعلومه «التجديد» للغرض نفسه، فلم تُرضِ التيار السلفي الذي يعتبرها محسوبة عليه تعسفاً، ولم ترضِ في الوقت نفسه التيار العلماني الذي يعتبرها محسوبة عليه تعسفاً. وهي محاولة ترضي صاحبها الذي لم يُعلن يوماً عن سلفيته أو عن علمانيته. وتبقى محاولة تتميز بالجرأة والجدية والأهمية في الحياة الثقافية والفكرية العربية الإسلامية المعاصرة.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة