تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الشخصانية.. في الفكر العربي - الإسلامي

الدكتور: صايم عبد الحكيم

*

إن إثارة علاقة الفكر الفلسفي العربي بالفلسفات الغربية هو أحد مواضيع المعاناة والقلق المعرفيين، التي عانى وما زال يعاني منها المشتغل بالفلسفة. فقد ظهرت دراسات تخطيطية، حاولت توضيح مجالات التأثير والتأثّر، ودراسات تصنيفية، قصد التأسيس للتأريخ أو للتفلسف، من خلال سؤال الإبداع أو الحق العربي في الاختلاف الفلسفي أو طبيعة الحياة الفلسفية في فكرنا المعاصر.

لكن هذا التراكم المعرفي، كثيراً ما أغفل شروط التفلسف، لأنه «لا يمكن دراسة تاريخ الفلسفة دراسة مثمرة وذات فائدة إذا لم نكن فلاسفة قليلاً أو كثيراً».

وبالتالي يصبح الانتماء لتيارات الفلسفة الغربية التي سادت، وقد تسود لدى المفكر العربي، ظاهرة إيجابية، لأن الفكر هو إنساني قبل أن يكون فكراً عرقيًّا أو قوميًّا. وهذه الرؤية، جعلت علاقة المشتغل بالفلسفة سواء رونيه حبشي (1914- 2003)، أو محمد عزيز الحبابي (1923 - 1993)، بالشخصانيات متميزة عن غيرهما من المحاولات الفلسفية أو الاجتهادات الفكرية للأسباب التالية:

أولاً: لم تشكل فلسفة الشخصانية تياراً فلسفيًّا، لأن طبيعتها تكمن في «إرادتها في الدفاع عن الشخص ضد كل الأنساق».

ثانياً: في مقدمة أطروحته (من الكائن إلى الشخص) يحدد الحبابي ما يهم الباحث مهما كان اختصاصه، من خلال الأسئلة التالية:

- كيف يثبت الفرد ذاته لذاته؟

- وكيف يوافق ويحس بوجوده من حيث هو موجود؟

- وكيف يبرهن على وجود الموجودات؟».

ووفق هذا المنهج التساؤلي، لأن للسؤال أهميته في التقدم العقلي، فهما الغرب، فهماً صحيحاً لأنهما «امتلكا اللغة وناصية النقد الحضاري والحد الأدنى من الفكر الفلسفي الذي يؤطرهما»، بالموازنة مع أدعياء التحديث، والتبعية، وأنصار الأنظمة الأبوية، والفكر الشوفيني أو الانعزالي.

ثالثاً: هاجس الشخصانيات يكمن في فهم وتجاوز الانحطاط السياسي والأخلاقي للقرن العشرين، وفي هذه الدائرة كان الثالثي -نسبة إلى العالم الثالث- مجرد إنسان محلي أو أنديجان؛ لهذا انتصر الحبابي للشخصانية باعتبارها «أحد المذاهب الأكثر تقدماً، والأكثر انفتاحاً على المعطيات العلمية والتجريبية الحديثة، وأكثر معانقة لقضايا الإنسان والتاريخ» بحيث ظهرت كفلسفة «تناسب مشاكله الخصوصية»، إلى درجة أنه أكد أن «الشخصانية في صميمها فلسفة تحرر»، كما يتجلى في مقالات مجلة (الفكر)، وأحد مؤلفات إيمانويل مونييه E. Mounier (1905 - 1950) (يقظة إفريقيا السوداء)، وفي ضوء ذلك برر المفكر اللبناني رونيه حبشي في الفصل الثالث من كتابه (فلسفة لزماننا) دوافع ارتباط المفكر العربي بالشخصيات في الستينات، فاعتبر أن محمد عزيز الحبابي هو الفيلسوف الوحيد الذي يمكن وصفه بالشخصاني، وإن أضاف مدير المدرسة العليا في تونس محجوب بن ميلاد، وطبيب جزائري -هو المفكر الوزير السابق طالب الإبراهيمي- كان سجيناً سياسيًّا لدى الإدارة الاستعمارية راسله قائلاً: «إننا في حاجة إلى مونييه بيننا؛ إن الشخصانية هي الفلسفة الوحيدة التي بإمكانها إنقاذ العرب».

وعليه يصبح السؤال المركزي على النحو التالي: ما الذي يميز فلسفة الشخصانية عن غيرها من الفلسفات الغربية؟

في رسالة وجهها أحد رواد الشخصانية، وممثل اتجاهها العام جون لاكروا J-Lacroix إلى روجيه غارودي يقول: «إن فلسفة الشخصية الإنسانية لا تمثل فلسفة بقدر ما تمثل ضمير البشر… ولهذا فمن الممكن أن نلتقي بهذا الاتجاه الرئيسي في فكر ضخم».

وفي هذا السياق ذاته يؤكد مونييه على التاريخ القديم للفكر الشخصاني لأن عالم الشخص هو عالم الإنسان، موضحاً أن «الشخصانية ليست بالنسق. إن الشخصانية هي فلسفة بدون أن تكون نسقاً».

فما هي المبادئ التي ترتكز عليها هذه الفلسفة؟

أ - إنها تؤكد على مسؤولية الفرد.

ب- ضرورة تعبير الفرد عن موقفه في الطبيعة والتاريخ.

وعلى أساس هذه الرؤية، تصبح الشخصانية موقفاً يتصارع مع الوجودية، وتأملاتها حول استغلال الذات الفردية، ومسؤوليتها، ومن جهة أخرى مع الماركسية التي انتهجت تحليلاً حول موقف الإنسان من الطبيعة، وفي التاريخ، وهذا ما يتجلى في كتاب جون لاكروا (الماركسية الوجودية وفلسفة الشخصانية).

لقد استطاع مونييه، ومجلة (الفكر) تعميم مصطلح الشخصانية الذي هو في الأصل تقليد فلسفي قديم، فما هو المعنى المقصود به؟

في المعجم الفلسفي حدد أندري لالاند ثلاث معاني للشخصيانية:

أ- المعنى الأول: يختص بمذهب رونوفييه الذي جعل الشخصية مقولة جوهرية ومركز كل تصور للعالم.

ب- أما المعنى الثاني: فيقصد به المذهب الأخلاقي والاجتماعي الذي تأسس على القيمة المطلقة للشخص، والذي شرحه (إمانويل مونييه) في كتابه «بيان في خدمة الشخصانية» 1936، والذي طوره في مجلة الفكر التي ظهرت منذ 1932. «إن الشخصانية تتميز عن النزعة الفردية، وتفصل في الإدماج الاجتماعي والكوني للشخص».

ج- في حين «نجد المعنى الثالث، يشير إلى مذهب أولئك الذين يعتقدون بأن الإيمان بالله مسألة شخصية».

إن هذا التصنيف -في تقديرنا- غير مبرر معرفيًّا؛ لأن مؤرخي تاريخ الفلسفة المعاصرة، نادراً ما خصصوا للشخصانية تأملات تحليلية أو نقدية كغيرها من المذاهب الفلسفية، قد يكون ذلك بسب طبيعة الشخص على حد تعبير (مونييه) التي تختلف عن الموضع الذي نفصله عنا ونلاحظه، وبذلك لا تبدو الشخصية كعالم منغلق أو مونادا بدون تفتح على العالم الخارجي، إنها تعبر وتوفق في الوقت ذاته بين جميع العناصر التي تكوّنها، وتعمل على إمكانية وجودها. أو باعتبارها فلسفة تقوم على نظام في الأفكار من خلال المفاهيم، والمنطق ومخططات البناء كأدوات لاكتشاف واستغلال البنى الفكرية مع تصريحها المركزي بوجود أشخاص أحرار ومبدعين، بحيث يتضمن من تلك البنى على مبدأ خفي يقوّض كل إرادة نسقية بشكل قطعي ونهائي».

ولعل من تلك المفاهيم الأساسية في فلسفة الشخصانية قولها بـ«وحدة الإنسانية في المكان والزمان»؛ لأن معنى الإنسانية لا يمكن تجزئته، فلا يوجد مواطنين وبرابرة، أو أسياد وعبيد، أو بشر بيض وآخرين سود، بالنسبة للمسيحي؛ لأن البشر جميعهم مخلوقين على صورة الله. وعليه تصبح مهمة الفيلسوف الشخصاني في إرادته «أنسنة العالم (لأنه عالم كائنات بشرية) متجاوزاً المثالية والمادية نحو فلسفة تأليفية واقعية، أي نحو تعبيير صادق عن حياة لا تنفصل فيها الفكرة عن العمل».

وبالتالي لا تقتصر الشخصانية كفلسفة بالبشر العظام، أو بفئة اجتماعية متميزة بكفاءات معينة؛ لأنها رؤية أنطولوجية تجمع بين الفكر والعمل، ونتبين ذلك من خلال حديثها عن أزمة المسيحية، من منظورها الواقعي كأزمة للقيم الدينية في عالم البيض، ودون تجاهل السياق التاريخي لتلك الأزمة.

إن (مونييه) لم يختر «القوة كأساس للثورات، وإنما نور الفكر باعتباره سيد الحياة، وأصل القرار والفصل فيه، ومصدر كل المنطلقات».

وهذا البعد الروحي ينسجم مع مقالاته في مجلة (الفكر)، التي كثيراً ما صرح بتردده في اختيار عنوانها بين الفكر والمادة، وانتهى به المطاف إلى أسوء اختيار؛ لأن الشخص ليس فكراً فقط، وليس مادة فحسب. فبالفكر الخالص لا يمكنه أن يتصل بالعالم أو التأثير فيه، وبالمادة الخالصة، سيكون شيئاً دون حرية أو مبادرة. وفي ضوء هذا التكامل الفلسفي تبدو فلسفة (مونييه) حتى في شكلها التقني كما هو الحال في (كتاب الطبع) كفلسفة مقاومة ونضال، لأن «فلسفة الشخصية الإنسانية تمثل جهداً شاملاً من أجل فهم وتجاوز جميع الجوانب التي تكشفت في أزمة إنسان القرن العشرين»، الذي حطم شخصيته في اتجاهين: الاتجاه الكيركغاردي اليائس والمتشائم بوعيه المتناقض مع ذاته وحريته، والاتجاه الماركسي الذي كشف عن خرافة الأنظمة الاجتماعية التي تقوم أساساً على الظروف المادية التي يعيشها الإنسان، بحيث صار المصير الإنساني مرتبط بيديه بدل قلبه.

وفي ظل هذا الصراع الفلسفي، لم يكن (مونييه) «صاحب فلسفة طريفة جديدة بقدر ما كان خير من وعى أزمة الحضارة في جيلنا، وخير من فهم الظروف العقلية والاجتماعية والدينية لحل هذه الأزمة».

ونستشف ذلك من خلال الشعار الذي رفعه، ومفاده أن التاريخ لا تصنع أحداثه في غياب الإنسان؛ لأن «الوسيلة الوحيدة الفعالة التي تجعلنا نمسك بزمام التاريخ هي أن نحلل حركة التاريخ من خلال تجربة معايشة وتقدمية».

يبدو أن هذا العمق الإنسي دفع (الحبابي) إلى الاعتراف بأن إمانويل مونييه وأصدقاءه الشخصانيين هم «أوّل من أحس بخطورة الأزمة التي زعزعت دعائم الرأسمالية الصناعية سنة 1929، وعلى هذا الأساس حاولوا أن يستخلصوا من عواقبها خطاطات لعمل الإنقاذ».

وفي هذا الصدد رأى (مونييه): «إننا نتكلم عن التقدم عندما يكون هناك تقدم من أجل الإنسان، ليستكمل كينونته وسعادته وعدالته».

لهذا السبب اعتمد (لحبابي) على النظرية الفلسفية الشخصانية، لأنها تقوم على احترام شخصية كل إنسان، لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.

إنها فلسفة تفاؤلية وجد في مبادئها الثالثي -نسبة الى العالم الثالث- المستغل والمضطهد دعوة صريحة لمناهضة النظريات العنصرية المتشائمة؛ لأن «كل من يستند على الدراسات الموضوعية للتاريخ. ولطبيعة الإنسان العميقة. ينتهي به المطاف إلى اتخاذ موقف متفائل يؤمن بمزايا تعاون مثمر بين جميع الشعوب على أساس التساوي».

وهي فلسفة إيجابية لأنها ميزت بين الفرد والشخص، وأزالت الالتباس القائم بينهما عندما أكَّدت على وجود وحدة بين الشخص والمجتمع، لأن هذا الأخير، أي المجتمع، ليس «سوى أشخاص يكونون معشراً يرتكز في كيانه على نزعة إنسانية».

وما يوضح ذلك دعوة (مونييه) إلى الالتزام لكي «تصبح الثقافة قوة مؤثرة في المجتمع، تعمل على ضمان الاستقرار والرفاهية للإنسانية جمعاء».

-1-
شخصانية محمد عزيز الحبابي

إن النزعة الإنسية والتفاؤل والموقف الإيجابي والالتزام خصائص تجعل انخراط (الحبابي) في الشخصانية شرعيًّا، ومع ذلك فقد أضاف إليها الواقع الذي يؤطره ككائن متميز في المكان والزمان، لأن «الشخصية هي ما نحن عليه، وما نملكه في نفس الوقت… والكائن لا يكون كائناً بشريًّا إلَّا على أساس هذه الأبعاد: أحواله المدنية التي تحدد مكانه ووضعه الراهن، وعلاقاته وصفاته المميزة».

وأكد على حضوره التراثي عندما أشار إلى دور علماء الكلام في الإسلام في منهجية البحثي باعتبارهم «يبدؤون بحوثهم، باعتبارات ملموسة، إذ يعتمدون، أول ما يعتمدون، على وجود مخلوقات دليل على قدرة الخالق».

في حين أن الفلسفة الديكارتية من خلال الكوجيتو تظل في إطار فردي منعزل عن الآخر، وتثير سؤالاً جوهريًّا يختص بإمكانية وجود «أنا» أفكر بعد انتهاء عملية التفكير. ومن هنا كانت القضية بالنسبة لديكارت Descartes (ت 1650)، هي إثبات وجود العالم، لأنه لا يعطي «وجوده كبرهان على الوجود بصفة عامة».

لقد استخلص (الحبابي) هذا الوعي النقدي من خلال الفلسفة الهيجلية، وما اقترحه الفلاسفة من بعده مثل كيركفلود وهوسرل وبرغسون، ومع ذلك اختار أولئك الفلاسفة الذين اهتموا بالشخص كـ(رونوفيه) و(لاكروا) و(مونييه)، ولم يقف عند أولئك الذين فضلوا أسبقية الكائن. وحجته في ذلك أن «العناصر التي تدخل في التركيب الإنساني، هي هي، في كل الكائنات البشرية، وجب أن يكون الشخص هو مصدر الفروق التي تميز بين الأفراد».

إن هذه القاعدة المنهجية، تجعل خطاب (الحبابي) يتميز بالوضوح، فينتصر لـ(مونييه) الذي جعل مهمة الشخصانية تكمن في دفاعها عن الشخص باعتباره لا يمكن أن يكون «هيكلاً هندسيًّا جامداً، إنّه يدوم، ويجوب نفسه مع سير الزمن» خلافاً لما قال به (رونوفييه) بأن «الشخص هو المبدأ السببي الأول، بالنسبة للعالم»لينتهي إلى تفكيك أصول القرابة الفلسفية بين الشخصانية والوجودية المسيحية، الأمر الذي جعله يفتح أفقاً فلسفيًّا يعبر عنه من خلال تحديد الصلات التي توجد بين المعتقدات والفعل، لأن الإسلام تبنى «محتوى كلمة شخص وزاده قوة وعمقاً حيث أدخله في نطاق الفقه… بحيث أصبح الشخص موضوعاً للأحكام الشرعية بصفته كائناً مسؤولاً عن فعالياته».

وبالتالي فالشخصانية الإسلامية، وإن كانت مقتبسة من الدين ترفض أن تخضع لأي اتجاه لاهوتي من شأنه أن يضع أفضلية «للروح على الجسد أو للجسد على الروح»، لأن الالتزام العقائدي لا ينحصر بالطقس الروحي فقط، بل يشمل الظروف المادية والموضوعية التي تعيش فيها الأمة، والإنسانية بأجمعها.

إن هذا البعد الإنسي في فلسفة (الحبابي) نوضحه من موقفه من قضية المساواة بين الرجل والمرأة التي يثيرها الصراع المفتعل من خلل أن حظها في الميراث نصف حظ أخيها، مع العلم أن الموضوع هو نقطة ارتكاز في كل اتجاه شخصاني؛ لأن «النظام الأموسي قد دخل في خبر كان، كما أن كهولة عصر الأبيسية تهوي نحو الشيخوخة والهرم. لقد ظهر تفتح نظام جديد تتكامل فيه الأبيسية مع الأموسية داخل نسق جديد يخفق شباباً وحماساً».

فإذا اعتبرنا أن الرجل هو الذي يقدم المهر عند الزواج، وأن المهر يصبح ملكاً شخصيًّا للزوجة، بينما الزوج يتحمل وحده كل نفقات الأسرة، ألا يصبح ذلك المهر وتلك التكاليف تعويضاً فيه نوع من العدل والمساواة؟

وبمثل هذا التطبيق الشخصاني يواصل (الحبابي) إثارة قضايا فلسفية بروح إسلامية، كما هو الأمر بالنسبة للعمل الذي شرحته الفلسفة الشخصانية بمعايير فلاسفتها، ومدى تطابق ذلك مع المقاييس الإسلامية، ليخلص إلى الإقرار بأن «العمل يكيف الإنسان ويجعل منه صانعاً للتاريخ… يفرض هذا، على مفكري عصرنا، أن يصهروا بين ذهنيتنا وأوضاع الواقع الجديد الذي انصهرنا فيه تاريخيًّا».

ويظهر من هذا الوعي أهمية الاجتهاد باعتباره أصلاً من أصول الإسلام؛ لأن ماهيته تكمن في ذلك «الجهد العقلي الذي يبذله الإنسان بتأويل نصوص القرآن والسنة وتطبيقها على الأوضاع الجديدة، انسجاماً منه وتكيفاً مع البيئة التي يحيا فيها».

وفي هذا الإطار نقل (الحبابي) الحديث النبوي: «المؤمن للمؤمن، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً» من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة الإنسانية على أساس أن المقصود بالمؤمن كل «من يؤمن بكرامة الإنسان ويحترم المبادئ المقدسة المشتركة بين البشرية جمعاء».

وفي هذا التداخل بين الإنسي والديني ينتصر (الحبابي) للحوار بين الأديان لأن طبيعتها تتسم بازدواجها التام «بين النزعة إلى الشمول والاتجاه نحو الشخصانية»، وحجته في ذلك أن الإيمان في معانيه الأصلية يتجاوز الروابط الجزئية إلى الصلات الكلية التي تنحصر في العلاقات العقائدية والشعائرية إلى الصلات الكلية التي تشمل الأخوة الإنسانية، والعمل من أجل عالم تسوده العدالة والتضامن، لأن محبة الله تبدأ بمحبة كل إخواننا في الإنسانية.

إن هذه الرؤية الإنسية لدى (الحبابي) تعبر عن موقف مغاربي، وعربي، وثالثي يجعل قيم الإنسان والله والطبيعة عناصر جوهرية لتأسيس فلسفة حياة جديدة تقوم على ما ينفع البشر والعالم دون إثارة قضايا الانفصال والاتصال بينها أو مسائل الصراع وأسبقية الوجود كما ظهرت في مختلف التيارات الفلسفية؛ لأن الحاجة الإنسانية تكمن في مدى مساهمتنا من أجل «فلسفة قادرة على أن تهيئنا لعالم الغد» بعدما صارت التعاريف الكلاسيكية للإنسان لا تستجيب للتطور المستمر الحاصل في تاريخ البشرية.

-2-
شخصانية رونيه حبشي

يبدو التفكير في الإنسان وإعادة النظر في موضوعه من المسائل الأساسية في فلسفة رونيه حبشي، لأن «الإنسان صار واعياً بنهايته وفي الوقت ذاته بإمكانية استمراره في الوجود بصفة لا متناهية وبالتالي باستطاعته تجديد ذاته بذاته، وبالتضامن مع كل الخلق يقوم بتجديد العالم، إننا نقول بلحظة الإنسان، ولكن متى يعلن عن موسمه؟».

وبهذا التساؤل، يلتزم رونيه حبشي بعدم هدم كل الفلسفات السابقة أو قطع علاقتنا مع الماضي، لأنه «من الذي يمكنه الادِّعاء أنه من يأتي بالحقيقة؟ فكما يتفسر حاضرنا الشخصي بتاريخنا كله، كذلك الفلسفة الحديثة، فهي لا تقوم بتجديد إلا بقدر ما تكون قد أثرت أولاً، من الماضي بكليته».

ووفق هذا الوعي بالأبعاد الإنسانية للتاريخ، يبحث في الفلسفات الحديثة ما يكمّل الموضوعات الفلسفية التقليدية عند اليونان، وفي العصر الوسيط، بحيث يظهر الإنسان مصدراً لمرجعيته الفكرية، «يرتفع به إلى ما فوق، واضعاً الكون كله في خدمته.. إنه يدرك أن الله لم يهبه العالم كي يحرمه إياه ويبقيه خارجاً عنه، بل لكي يحب العالم ويحققه، ولكي يجد فيه أثر أصله الرباني، فيكون الإنسان أكثر إنسانية، وأكثر دنيوية، وأكثر ربانية في آن واحد».

غير أن هذه الغاية الإنسانية لا يمكن عزلها عند وجودها الواقعي، فالقومية لم تعد «بديلاً لفلسفة مفقودة.. فها نحن نكتشف أنفسنا من جديد أكثر تفككاً وافتقاراً».

لكن هذا لا يعني أن رونيه حبشي يتهم «الرسالة العربية، ولا نبل القيم التي تمثلها! إنما اتهم الأفهام العربية في أيامنا، والوسائل التي تتخذها لخدمة القضية العربية»، بحيث صار معنى الإنسان غائباً في الوجود المعاصر، مثلما أشار إلى غيابه حسن حنفي في تراثنا القديم.

لقد التزم رونيه حبشي بالشخصانية لأنها تحمل إلينا أفضل ما في الوجودية وأفضل ما في الماركسية، تحمل معنى الحرية الذي يجعل الإنسان ذاتاً مطلقاً وتحمل معنى العمل الذي يقيم الصلة بين الإنسان والعالم، بين الإنسان والآخرين، فيعمل الإنسان الحر في الوقت نفسه، على «أنسنة العالم» كما ينفتح على المجتمع»، وعمل على تحرير القيم العربية «من الأطر الضيقة التي فرضتها عليها العروبة كما ينادى بها، ومن الوسائل الخرقاء التي تعرض هذه القيم للضرر الجسيم».

وبهذا الاختيار المنهجي الذي يدافع عن الشخصانية، باعتبارها «دعوة و نداء للتجمع، رجاء تحرير الشخص مما تراكم عليه من عقائد مضللة أو من نظم اقتصادية وديمقراطيات ممسوخة»،لأنها ليست «نظاماً فلسفيًّا ممنهجاً»،فهي «حركة مناضلة.. ما فيها من نقد يهدم لا ينفصل عما فيها من تعبير يبني»، فهي في مختلف مواقفها المتعاقبة لم ترفض النقاش،لأن «الشخص انفتاح وحوار، لا انغلاق وسكون»، وبالتالي يكون «إعادة وصلنا بها»، ما هو إلَّا «إعادة وصلنا بذاتنا»، لأن العقل المنطقي السليم يوحد بين جميع الفئات البشرية، وتتآخى معه كل معرفة، وكل حق، وكل مصير.

لقد أعلن الشخصانيون مقاومة «كل أنواع الفساد في الأحزاب»، و «عملوا في سبيل الديمقراطية والنقاش الحر»، لأن (مونييه) كان «يرفض العنف، ويبشر بتقنية الوسائل الروحية.. وفي أعقاب رحلة إلى إفريقيا يطلع علينا بكتاب أشبه بالنبوءة (يقظة إفريقيا السوداء). ها هي مجلة (الفكر) ضد الاستعمار».

وهذا ما يفسر أن ارتباط رونيه حبشي بالفلسفة الشخصانية كان ينبع من الحاجة التاريخية للمجتمعات العربية الإسلامية في مختلف أنظمتها الاجتماعية، وتطوراتها السياسية قصد العمل من أجل تغيير شخصاني يقوم على تقويض العدمية الأخلاقية وتقويم المجتمع الاقتصادي الغربي، وتوضيح التصور الصحيح لقيم لدى المجتمعات الوطنية والمجتمع العالمي على السواء، فهي وسيلة فعالة للتناغم في العلاقات الإنسانية بين الغرب والشرق، وبين المستعمر والمتحرر من الاستعمار في عصر الاستقلال والحكم الذاتي، والديمقراطية والحفاظ على الأقليات.

إن الشخص الإنساني هو منطلق التزام رونيه حبشي في جميع مؤلفاته الفكرية والاجتماعية؛ لأن الشخصانية هي «وحدها القادرة على أن تجمع الحرية والعمل معاً، فتمنع العمل أن يتنافى والطبيعة الإنسانية وتمنع الحرية المطلقة أن تبقى وهماً لا فعالية له. فالحرية والعمل، إذا ما انفصل أحدهما عن الآخر، صارا إلى ضعضعة الإنسان، وإذا ُقيّض لهما اجتماع وضعا الإنسان موضعه في العالم: ذاتي يعمل على تطوير العالم». ومثل هذه الرؤية تجعل هذه الفلسفة ضرورة إنسانية؛ لأنها «الصيغة الوحيدة لكي نكون شرقيين، وشرقيين من القرن العشرين»، وبهذا التداخل المعرفي والتاريخي لا يصبح معنى الإنسان وفلسفته ذا قيمة إلَّا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن «إعادة بناء الحاضر يجب أن تتم في آن واحد مع عملية إعادة بناء الماضي، وذلك بتفكيك عناصره، وإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه بصورة تجعله كُلًّا جديداً قادراً على أن يؤسس نهضة، على أن يكوّن أرضاً لأقدام المستقبل».

وعلى هذا الأساس يعود بنا رونيه حبشي في بحثه عن ماهية الإنسان إلى التفسير القديم القائل بأن: الإنسان حيوان عاقل، فما مضمون هذا المفهوم الأرسطوي، وهل تجاوزت الفلسفات الحديثة هذا التعريف؟ إن الحيوانية، كما يفهمها أرسطو تقوم على المادة بخصائصها الثلاث، وهي: «السكون (في الركود والحركة)، والانقسام (دون تبدل يذكر في الماهية)، والتجانس في التركيب (لا مماثلة قط بين جزأين، بل تشابه إلى حد بعيد).. وتنفجر الحياة في المادة، فيأتي إلى الوجود معها ترتيب جديد وخصائص جديدة»، هي «وظيفة هضم، ونمو، وتوالد، وحركة، تتمثل في الإنماء الأرضي، والانتحاء الضوئي، والتكيف.. ويأتي معها أيضاً تصميم للتوحيد، لذلك لا تتحمل القسمة دون تبدل ملموس.. وأخيراً تأتي معها خاصة ثالثة، وهي الإيداع»، فعلى سبيل المثال، فإن النبات «يبدع في كل حين أشكالاً جديدة، بصورة تلقائية، وكل حي يحمل في لحظة ثوباً جديداً»، بينما العقلانية تقوم على «الفهم والتفسير، هذه عملية تنفس العقل التي تغذي مولدات الإنسان كلها، من الفن إلى العلم، والتقنيات، والفلسفة واللاهوت»، ويأتي الحكم «نتيجة لاشتراك قوتين تعملان فيه: القوة التي تدرك وتعرف وهي العقل، والقوة التي تختار وتقرر وهي الإرادة»، ثم «يندفع نشاط العقل فوراً تحت شكل المبادئ العقلية: مبدأ العينية أو عدم التناقض، مبدأ العلة الكافية، ومبدأ السببية، ومبدأ الماهية، ومبدأ الغائية، وهي بمثابة الخطوط الكبرى التي يسير العقل عليها تلقائيًّا، على إثر يقظة إدراك الكائن فيه».

ليخلص في النهاية إلى القول بأن الأفكار بين القدامى والمحدثين متطابقة، وإن اختلفوا في المفاهيم، كما هو الحال بالنسبة لمفهوم الروحانية القديم الذي هو نفسه مفهوم التعالي الحديث، غير أن هذا الانسجام الإنساني في تاريخ الألفاظ قد لا يستحسنه البحث الفيلولوجي؛ لأن أرسطو «عند الرومان غيره عند العرب، وهو عند الآخرين مختلف عنه عند الغربيين في العصور الوسطى. بل هو في داخل الحضارة الواحدة يتلون وفقاً لأدوارها».

بيد أن رونيه حبشي يفضل التحليل الجواني للإنسان، لأن «الحضارة تولد من باطن الإنسان، وهي تحافظ على صفتها الإنسانية إلَّا بقدر ما تكفل نمو هذا البعد الحيواني في الإنسان» الذي يراهن على حقيقة التاريخ باعتباره «حركة «أنسنة» للكون، لكن انطلاقاً من الإنسان، وهو سبيل إلى تحرير الإنسان، لكن انطلاقاً من الحرية».

بهذه المعاني الفلسفية يلتقي رونيه حبشي مع عثمان أمين صاحب (الجوانية، أصول عقيدة وفلسفة ثورة) عندما يصفها بالعقيدة المفتوحة التي «تأبى الركون إلى مذهب أو الوقوف عند واقع، وتتجه إلى المعنى والقصد من وراء اللفظ والوضع، وتنحو إلى الفهم والتعاطف لا إلى الحفظ والتقرير، وتدعو إلى العمل البنّاء، مؤسساً على النظر الواعي، وتلتفت إلى الإنسان في جوهر روحه لا في مظهره وأعراضه، وتدرسه في حياته الداخلية لتنفذ إلى ما هو فيه أصيل، أعني في مشاعره ومنازعه، وفي أفكاره وهواجسه، وفي أحلامه وأوهامه، وفي وقائعه وخيالاته، وفي حقائقه وأباطيله، وفي أحكامه واستدلالاته، وفي رشاده وضلاله».

وفي هذا السياق الوجودي الذي يعمل من أجل تحقيق أمرين هما: العودة إلى ماضينا ومراجعته، والاتجاه إلى مستقبلنا والإعداد له، نتساءل إن لم تكن مبادئ الجوانية وفلسفتها، ما هي إلَّا استجابة لأطروحات الشخصانية؟

لا يبدو أن رونيه حبشي يتجاهل التراث وما يحمله من قيم وعادات وأفكار وطرق الإنتاج ووسائله، التي ساهمت في تشكيل شخصيتنا، وتحديد مواقفنا وعلاقتنا اتجاه أنفسنا، واتجاه الغير؛ لأن تاريخ الفلسفة عنده «لا يقوم في التعلق بالماضي كماضٍ، بل يقوم في اكتشاف الماضي من خلال ريعان الحاضر، وهذا ما تتضمنه فكرة الوفاء التي نختبرها في حياتنا البشرية لا مماثلة وانفصال، والتي تبدو وكأنها مدار للصراع في تاريخ الفلسفة برمتها فبين تناقض الفلاسفة ومماثلتهم لبعضهم مماثلة تامة يبقى مكاناً للوفاء، الذي لا يعني تقليد النفس للنفس، ولا يعني مغايرة النفس للنفس بصورة مطلقة، بل يعني التغير مع الحفاظ على النفس، إنه نمو متزايد، لا توقف في التكامل».

إنها دعوة تجديد من أجل صياغة نهوضوية للإنسان، تمكنه من إبداع مسلمات الوصل بين الماضي والحاضر، وما يصدر عنها من أسئلة: «كيف السبيل إلى ثقافة موحدة منسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟».

إن القلق يظل رفيق الفلاسفة لأن «بعض قضايا الأمس لا زالت تفرض نفسها علينا اليوم»، وفي هذه التجربة التاريخية التي تنقل الماضي في الحاضر يبدو رونيه حبشي على صورة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد (1813-1855) عندما اهتم بدراسة الإنسان من الداخل، أو الوجود الداخلي للإنسان الفرد، لأن «تلك التجربة التي ما برحت تقلقني منذ غدوت أفكر» جعلته يعتني بموضوعات الحرية، واتخاذ القرار والمسؤولية؛ لأن «ما يميز الإنسان عن موجودات العالم الأخرى هو ممارسته لحريته، وقدرته على تشكيل مستقبله»، غير أن هذا الوصف اختلف فيه الفلاسفة، كما اختلفوا في القول بأن «الحياة أن تفهم بأن ننظر إليها إلى الوراء من حيث الماضي. وهذا حق تماماً! لكنهم ينسون القضية الأخرى، وهي أن الحياة لا بد أن نعيشها إلى الأمام من حيث المستقبل»، وفي هذا الجدل الفكري، بين الأزمنة التاريخية، والبحث في حقيقة الوجود من خلال مدى الاتصال والانفصال في أبعاد الزمن: بين الماضي والحاضر والمستقبل، وعلاقة تلك الأبعاد بالحياة، يعترف رونيه حبشي بالقيمة الفلسفية للتفسير الأرسطي للإنسان، باعتباره كائناً منخرطاً في صيرورة، غير أن كل «صيرورة إنسانية.. لا تتقدم إلَّا على ضوء العقل وبقوة الحرية».

وبالتالي يصبح المعنى الحديث للإنسان يرتبط بمحورين:

أولاً: بناء الإنسان ذاته بذاته، لأنه «لا وجود لقيم إنسانية.. إلَّا إذا انبعث من داخل الإنسان الذي يجسدها بحضوره فيها».

ثانياً: أن يكون بناء ذاته بالحرية، لأنها اكتشاف، قلق متواصل، فهي «لا يبرهن عليها، بل تعاش.. إنها إمكان يتجسد في الحين الذي تقدم له فيه الجسد، فهذا يعني أننا سوف لا نعثر عليها بنفسها كخاصة تمتلك أو لا، بل نعثر عليها من خلال أثر حضورها».

إن الحرية بالنسبة لفيلسوفنا ليست مشكلة نظرية؛ لأنها متضمنة في صميم الوجود الإنساني، الذي ما هو إلَّا وجود «حرية» تضع نفسها موضع التساؤل؛ «إن الحرية وحدها هي التي تستطيع أن تتساءل عن الحرية».

وربما هذا ما يفسر قدرة رونيه حبشي على التحرر من الحدود الضيقة والتيارات المحيطة به، كالماركسية والوجودية والتوماوية الجديدة والشخصانية، فلماذا ارتبط اسمه بالتيار الأخير؟ وهل فعلاً التزم بمبادئ فلسفتها؟

يقول رونيه حبشي: «فعلينا أن نستقي العلم الذي نحتاج إليه من الحاضر، من أي منبع كان شرط أن نبعث ينابيعنا الفلسفية، علينا أن نطلب من الماركسية والشخصانية والوجودية أضواءها على الحاضر، مع الغوص على فلسفة ابن سينا، وابن رشد، وتوما الإكويني وأغسطينوس؛ كي نجد عندهم أطر عقلنا. علينا أن نتجه نحو العلم الأكثر إيجابية والأشد جرأة، شرط أن نلاقي في جذورنا الدينية لدى الغزالي والأشعري وغريغوريوس النازينزي ويوحنا الدمشقي..وعلينا أن نتبنى أغرب الثورات الاجتماعية وأجرأها شرط أن نبدأ بتأمل حقائق الإنجيل والقرآن».

ومثل هذا التأصيل لوجود الذات لا يعبر عن موقف نفعي إزاء علوم العصر وفلسفتها، بقدر ما يعمل على إثراء التاريخ الإنساني بالمعارف مهما كان مصدرها، وبالحقائق مهما كان موطنها؛ لأن المسألة التي تحرك فلسفة لزماننا الحاضر، تضع رونيه حبشي في مقام الفيلسوف اليوناني ديمقريطس، عندما يفضل لنفسه أن يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة، على أن يظفر بملك دولة.

لقد عانى رونيه حبشي مشكلة الهوية والمعاصرة، وبدل أن يثير الاختلافات والصراعات بين المذاهب الفلسفية والدينية انتصر لقيمها العلمية، ووجودها التاريخي لتكون ترجمة الماضي إلى الحاضر، قصد المشاركة والمساهمة في هذا التحول الكبير الذي تشهده الإنسانية من خلال مزج «عناصر ثقافية تقليدية مع عناصر ثقافة العصر».

كما يبدو من سؤال: ماذا نفيد من الماركسية أو العودة إلى معنى الأرض؟ بحيث رأى رونيه حبشي أن كثيراً من الحقائق، التي هي من صلب تراثنا، تعبر عنها اليوم المطالب الماركسية، المطالب على الأقل، إن لم يكن النظام الماركسي وثمة مقتضيات ما كان لها أن تبارحنا لو لم نتنكر لها في حياتنا وتاريخنا، وها هي ترد إلينا اليوم، في صيغة باتت مغلقة علينا، مع أن قلقها هو قلقنا»، أي أن الرهان لا يتعلق بالنظرية الماركسية ونظامها، كما هو حال أنصار «نحو رؤية ماركسية للتراث العربي»، وإنما في القضايا الإنسانية التي تشترك فيها، «وذلك ليس لصالح طبقة من الناس، بل لصالح الإنسانية كلها، إذ لا يكون الإنسان شخصاً إلَّا إذا كان المجتمع حاضراً فيه.

وهذا هو قسط الماركسية من الحقيقة»، فالعلاقة الفلسفية بين رونيه حبشي والماركسية ذات أبعاد إنسانية وشخصانية؛ لأن المسألة الاجتماعية لا يمكن تجاهلها، وهي النقطة المركزية في الفكر الماركسي، وعليه فإن «الانخراط فيه، قد لا يكون شموليًّا، كما أن الرفض لا يمكن أن يكون قطعيًّا؛ لأن الأمر يتعلق بفلسفات تزعم اهتمامها بالإنسان في مداه وذروته»، فالتحاور معها يساهم في وجود فكر متفتح، عمل على وجوده رونيه حبشي من خلال دروسه ومحاضراته منذ نهاية الخمسينات، قصد ربط الصلة بين حاضرنا في تياراته العالمية، وماضينا كما يظهر في جوهره المتوسطي.

لقد ميّز فيلسوفنا بين الماركسية كمذهب والماركسية كحركة تاريخية، لينقد أسسها الفلسفية، ويستخرج بذلك ما ينفعنا وتوظيفه في مجال جديد؛ لأنه يعترف بأن «أفضل ما في الماركسية هو صرختها، التي بدون شك هي صرختنا. يجب إنقاذ الإنسان. وينبغي تنظيم تحرير الإنسان»، وإن كان لا يتفق مع طريقتها في نفي الألوهية والنزعة الروحية وتعويضهما بالإلحاد والمادية الجدلية.

إن المطالبة بالحرية، والنهضة الاجتماعية، والمذاهب الديمقراطية مصدرها أوروبا، بل حتى النهضة الوجودية للشعوب العربية تكونت بفضل بعض الموضوعات الوجودية الغربية سواء من خلال الفكر التنويري الذي بدأ بعد الحملة الفرنسية في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر انتصار جيش نابليون على جيش المماليك وما أثاره من حقائق حول طبيعة الوعي بين الشرق والغرب، من خلال الاحتكاك المباشر بالتفوق العلمي للحضارة الغربية أو بفضل البعثات الدراسية، التي حاولت معرفة أسباب انحطاط العالم العربي الإسلامي، وأجمعت أن مبدأ التقدم كان القوة الدافعة والمحرك للنهضة الغربية؛ لأنه يناقض فكرة أن كمال المجتمع الإنساني قد تحقق في الماضي، وبالتالي يجب العمل على بعث ذاك الماضي لاسترجاع ذاك الكمال، كما هو سائد في بعض أطروحات الفكر الشرقي، أو كما شاع في بعض النظريات العرقية الغربية بأن «الشرق شرق و الغرب غرب و لن يلتقيا».

إن رونيه حبشي لم يفكر في دائرة الفعل ورد الفعل، وبعبارة أخرى لم يساهم في نظرية المركزية الشرقية التي عملت على تضخيم التراث ولدوره المؤثر في الثقافات والفلسفات العالمية والغربية، على مثال ما ورد في تقرير للفيلسوف الباكستاني محمد شريف الذي قدمه إلى المؤتمر الفلسفي العالمي الثاني عشر يسرخ فيه بأن «الفلسفة الإسلامية هي التي أعطت الحركة الإنسانية مبادئها الأولى، وعرّفت الغرب على العلوم التاريخية والأسلوب العلمي، ووضعت أسس النهضة الإيطالية، وأثرت على الفكر الأوروبي المعاصر في عمانوئيل كانط»؛ لأنه آمن بفكر متوسطي يوحد بين ما هو شرقي وما هو غربي، لأن بحر المتوسط لم يعد جوهراً ميتاً، بل وجوداً قائماً بذاته، وإن كان بضفتين متقابلتين فهما متكاملتين بالماضي الحضاري المشترك الذي اشتمل على «اتجاهات ولقاءات جمة وغنية جدًّا، حيث مصر القديمة، وفينيقيا، واليونان، والحضارة اللاتينية، والأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية، اجتمعت كلها لتقدم لنا اليوم مشهداً عن أماناتنا المتشعبة والمتعددة الجوانب».

وإن بدت الضفة الغربية في العصور الأخيرة مهيمنة، كما كان حال الضفة الشرقية في العصور السابقة، فإنهما اليوم أي الضفتين ينهضان معاً، بحيث كل واحدة تتميز بشخصياتها بعدما صار المتوسط «ظاهرة ثقافية وملتقى مبادلات في الأفكار والعقائد والتقنيات والتجارات من كل نوع»، ومن بين تلك الأفكار كانت الماركسية التي يدعونا حبشي لمعرفتها؛ لأننا «لا يمكن أن نناضل ضد أوروبا دون أن نتبنى القيم الأوروبية، ولا يمكن أن نواجه الماركسية بدون أن نستفيد من العناصر التي تمثل قوتها وجاذبيتها».

على العموم، تبدو لا نسقية الشخصانية هي في حد ذاتها نسقية، وإن بدا انفتاحها الفلسفي مسألة إيجابية خاصة بعد انتصار مبدأ التعددية في المعرفة على الأحادية المنهجية، فيكون من الأهمية بمكان مراجعة فكرها في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، وإعادة استثمار الرؤية السياسية للمتوسطية، وتكامل الفكر القومي بالمعتقد الديني، واستمرار الفكر العنصري، وظهور شخصية الأهلي أو الأنديجان الجديد، ومواصلة مقاومة قيم الاستلاب و الانحطاط.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة