تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

قراءة في كتاب: معالم في المنهج القرآني

محمد الناصري

الكتاب: معالم في المنهج القرآني

تأليف: الدكتور طه جابر العلواني.

نشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة. ط1. س 2010م.

 

إن منطلق الحديث في قضية منهجية الفكر الإسلامي إنما تنبع من أزمة وجود الأمة الإسلامية في العصر الحديث وأسبابها. ويكمن جوهر هذه الأزمة في الجمود والقصور الذي ألمَّ بمنهجية الفكر الإسلامي، فأزمة الأمة أزمة فكرية جوهرها منهجي.رولا سبيل لهذه الأمة في أزمتها الحضارية المعاصرة من خلاص إلَّا بالوعي بأهمية المنهج. في هذا السياق يأتي كتاب: (معالم في المنهج القرآني) لمؤلفه الدكتور طه جابر العلواني.

والكتاب في شكله العام يحتوي على مقدمة، وفصلين، الأول بعنوان: المنهج العلمي الحديث، والثاني بعنوان: المعالم المنهجية في القران، وخاتمة.

وقد قدَّم له الدكتور وليد منير إذ اعتبر الكتاب «محاولة تأسيسية وخطرة في آن واحد، أما تأسيسيتها فترجع إلى أنها محاولة جادة لبناء منهج علمي متكامل الأبعاد انطلاقاً من النص القرآني، وهو النص المركزي الأكبر في «الثقافة العربية الإسلامية»، مما يقتضي عقلنة مفهوم «الوحي» ومفهوم «النبوة» بحسب ما نفهمه نحن من معنى «العقلانية» في تراثنا العلمي الإنساني.

وأما خطرها فينبع من كونها مبادرة شجاعة نحو ربط الدلالة القرآنية بالدلالة الكونية الشاملة في تعبيرها -وفقاً لمنظور كثير من العلماء المجتهدين- عن قوانين الله في خلقه، وعن غاية الله من إيجاده الوجود على النحو الذي وجد به تحديداً، وبالتالي عن وجوب صدور الفعل الإنساني عن فاعله، وهو الإنسان، ممثلاً لطبيعة القانون والغاية، وإلَّا صار انحرافاً عن مسؤولية الحفاظ على تناغم العالم في معزوفة الخلق» ص11.

كما اعتبر وليد منير «معالم في المنهج القرآني» مبادرة طموح نحو نظرية شاملة توازن بين الثوابت والمتغيرات عبر الزمان والمكان، وتضع أسساً وقواعد لمسار تفكير العقل المسلم، وإطاراً مرجعيًّا لحركته، بما يكفل له تجديد نفسه دوماً، وشحذها بطاقات تفسيرية خلَّاقة» ص15.

القرآن والمنهج

وقد استهدف المؤلف في هذا الكتاب الكشف عن منهج القرآن الكريم ومنهجيته، إيماناً منه بأن القرآن الكريم ليس كتاباً دينيًّا يمكن أن يتعلم الناس منه العقيدة والشريعة وأخبار الماضيين من الأنبياء وأممهم وأخبار الآخرة فحسب؛ بل هو كتاب يمثل مصدراً لمنهج علمي يقود حركة الفكر الإنساني في مجالات الفكر المختلفة وفي البحث العلمي الجاد انطلاقاً من قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.

ويشير الدكتور طه على أن الشرعة مبسوطة مفصلة في سور كثيرة من القرآن المجيد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المنهاج، لكن العثور على معالم المنهج القرآني، وتحديد صفات الآيات الكريمة التي تحملها في ثنايا القرآن المجيد يتطلب جهداً واجتهاداً كبيرين، وذلك الجهد والاجتهاد أشق وأعمق بكثير من الجهد والاجتهاد اللذين يقتضيهما البحث عن الشريعة، فعلماء أصول الفقه قد قدموا لنا أدوات ووسائل كثيرة لتقود حركتنا ونحن نتدبر لبلوغ آيات الشريعة، ولكن فيما يتعلق بالبحث عن المنهج لم نجد طريقاً ممهداً كتلك الطريق التي مهدها علماء أصول الفقه للوصول إلى شريعة القرآن؛ فكان لا بد من العمل على رسم منهج للوصول إلى «معالم المنهج القرآني» ودلائله فيه. وهنا تكمن خطورة ومشاق هذا البحث على حد تعبير الدكتور طه. ص20.

وفي استهدافه الكشف عن معالم المنهج القرآني يرفض الأستاذ طه إضافة مسعاه إلى ما شاع مؤخراً من وجود «إعجاز علمي في القرآن»، فإن ذلك خلاف ما يرمي الباحث إليه؛ لأن قصارى ما يمكن أن يقدمه «الإعجاز العلمي والتفسير العلمي» هو إسقاط ثقافة العصر على القرآن المجيد، وتحكيمها فيه، وتحويلها شواهد على صحته وعلو قدره.وهذا أمر يرفضه الباحث ولا يتبناه. ص22.

إن الهدف الأساسي الذي يتغيا أستاذنا تحقيقه من بحثه هو التدليل على قدرة المنهج القرآني في تحدي المناهج المعاصرة، والإقرار بأن المنهج العلمي التجريبي ذاته في أزمة، وفي حالة بحث عن مخارج تتجاوز هذه الأزمة، وتخرجه منها.

يقدم الباحث القرآن المجيد ومعالم منهجه ليستوعب بها أزمة المنهج العلمي ويتجاوز بها تلك الأزمة، والتهديدات التي تنذر بها لو استمرت «أزمة المنهج» بدون علاج. ص22.

إن قيمة الكتاب تكمن في الكشف عن معالم في المنهج القرآني، مما يدل على أن القرآن كتاب منهج، وليس كتاباً دينيًّا شأنه في ذلك شأن التوراة والإنجيل. وهنا قضية أعتقد أنه من المفيد التوقف عندها ولو قليلاً؛ ذلك أن كثيراً من العاملين في حقول الفكر والمعرفة، يظنون أن معادلة المسلمين الصعبة اليوم وأزمتهم الفكرية تتمثل في فقدان المنهج، و يجهدون أنفسهم بالبحث والدرس، وتقليب الأمر على وجوه كثيرة، وقد يكون من ذلك التطلع إلى ما عند الآخرين.

ولذا لا ينبغي فهم القول: بأن أزمة الأمة فكرية جوهرها منهجي، على أن الأمة تفتقد المنهج كليًّا، «فالمنهج مصدر المعرفة موجود ومعصوم ومختبر تاريخيًّا...» {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.

لقد ولد المنهج الإسلامي بنزول القرآن، الذي ابتدأ نزوله بـ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.

وجاء بعد هذا الأمر {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.

جاءت هذه الآيات وغيرها- لتهيئة العقل البشري قصد امتثال المنهج لهدم واقع الشرك وبناء واقع تحكمه وتهيمن عليه قيم التوحيد، بما هي: عوامل نفسية تشكل في الإنسان الدوافع، نحو البناء الحضاري المنشود، ولقد جاء المنهج القرآني مصحوباً بالرؤية الكلية التي هي أساس المنهج التي تجعل الإنسان قادراً على الإجابة عن الأسئلة النهائية في الفلسفة والتي يعبر عنها: بالعقدة الكبرى: مثل من أنا...؟ ومن أوجدني..؟ ما مصيري...؟

إن القرآن الكريم منح الإنسان منهج النظر، حيث منح الإنسان الثقة بنفسه، وجعل الإنسان صاحب إرادة وصاحب فعل. لكن للأسف المبادئ العامة للمنهج الإسلامي بقيت على حالها مجرد مبادئ وأسس عامة لم تتطور لتصبح علوماً محددة، فضلت الأمة الإسلامية طريقها، وفقدت منهجها، وتحوَّلت عقليتها من عقلية إبداعية تجديدية استئنافية إلى عقلية سكونية انبثق عنها فكر التعاقب والاجترار والتكرار. والكتاب يسعى إلى الإجابة عن سؤال: كيف انحرف الفكر السكوني بكثير من المفاهيم الإسلامية وقطعها عن غاياتها وبيئاتها وفهمها بطريقة قاصرة؟من خلال الكشف عن منهج القرآن المجيد الذي يعتبر بمثابة المسدد لمسار تفكير العقل المسلم. وهنا تكمن قيمة العمل وأهميته.

أزمة المنهج الغربي

يتناول المؤلف في الفصل الأول بالدراسة والتحليل والنقد سياقات المنهج الغربي المعاصر بعد أن تتبع تعريفاته العديدة والمختلفة باختلاف المدارس الفلسفية الغربية. وأهم هذه الانتقادات ما أثاره الدكتور طه عن العقل الفطري والعقل الوضعي، وعن ملابسات التطور والتحكم في العلوم الطبيعية والرياضية، وعن طبيعة التفكير والعقل والانحياز المادي. لينسب إلى طبيعة التفكير السائد في الغرب أزمات المنهج العلمي المعاصر، ومما يبرز خطورة هذه الأزمة مقولات نهاية التاريخ وصراع الحضارات التي تمثل ردة حقيقية عن المنهج والعلم ومعطياته، وتجعله بمثابة جاهلية حقيقية.

ولأن أزمة العالم أزمة كونية، فإن أي مصدر غير كوني لا يملك أن يقدم اليوم للبشرية العلاج الناجع من داخل الفكر البشري بعد أن بلغت الحضارة هذه المديات من التأزم. يقول: «إن حل أزمات العلم المعاصر ومنهجه لا يمكن أن تقدمه المختبرات ومراكز البحوث الأرضية؛ لأنها كلها لم تكتشف الآفاق الكونية التي تربط بها الإنسانية خلقاً وكياناً وتوليداً، كما لم تكتشف العلاقات بين الغيب والإنسان، وهذه المختبرات والأدوات والوسائل ليست مؤهلة لذلك» ص60.

يترتب على هذا أن الخروج من هذا التردي لا يمكن أن يأتي على يد من كانوا سبباً فيه، ففاقد الشيء لا يعطيه. لنجد أنفسنا أمام سؤال: لمن الحل؟.

يبادر أستاذنا فيجيب بأن القرآن المجيد وحده الذي يمكن أن يقوم بالتحدي ويحقق الإعجاز ويستوعب المنهجية المعاصرة مهما ارتقت، بل ويخرجها من أزماتها، ويعلي مسيرتها ويصل بها إلى نهاياتها الفلسفية؛ لتأخذ بُعدها الكوني، فبفضل قدرات القرآن الاستيعابية، وبفضل قدراته في التجاوز، لا تسقط البشرية مرة أخرى في أحضان اللاهوت الأرضي. ص61.

بيد أن هنا إشكالاً معرفيًّا خطيراً يعاني منه الفكر الإنساني برمته، بما فيه فكر المسلمين، يحول دون إبراز وتقديم المنهج القرآني لعالم اليوم. يتمثل في نظر أستاذنا في النظرة القاصرة للقرآن باعتباره كتاباً دينيًّا بالمفهوم اللاهوتي للدين، وهذا يمنع من اكتشاف أن في القرآن منهجاً علميًّا كونيًّا، ومنهجية كونية لا تقاس إلى المنهجية العلمية المعاصرة ولا تتنافى معها ولا تناقضها في الوقت نفسه، بل تستوعبها وترقيها. ص62.

معالم المنهجية في القرآن

ليأتي الفصل الثاني لبسط المعالم المنهجية في القرآن، والتي حددها في التوحيد، والجمع بين القراءتين، والوحدة البنائية.

التوحيد باعتباره محور الرؤية الكلية القرآنية؛ والتي أصبح الإنسان قادراً على بلوغ مستوى «الاستقامة والحيدة العلمية»، في فهمه لما حوله وتفسيره له، وفهم خواصه، وتحديد وسائله وأساليبه، لأن التوحيد من شأنه تحرير الإنسان عقلاً ونفساً وقلباً ووجداناً من الخرافة والأوهام والمشاعر السلبية وسائر الضغوط والتحيزات التي من شأنها أن تقلل الطاقات المعرفية الواعية لدى الإنسان. ص83.

والجمع بين القراءتين مُحدِّد يُمكِّن من الربط بين الغيب والواقع، ويمكن من استخلاص محددات يقرأ الواقع بها، ويمكن من الصياغة الدقيقة لإشكالات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في وحدته البنائية للوصول إلى هديه في معالجتها. ص84.

الوحدة البنائية والاستيعاب الكوني محدد ينبغي أن يجري التعامل معه باعتباره مصدر المنهجية الكونية، فلا يجوز تجزئته بحال، وهذه الوحدة تجعل من المحال أن يقع في القرآن تضارب أو اختلاف أو نسخ أو تعارض. ص86.

إن هذه المحددات الثلاثة، وفي مقدماتها الجمع بين القراءتين، ستكشف حسب الدكتور طه- عن استيعاب القرآن المجيد لمبدأ الصيرورة، ويعطي للصيرورة مدلولاً كونيًّا يستوعب المعنى الوضعي ويتجاوزه، والجمع بين القراءتين عند الباحث ليس من قبيل التنويه بفضيلة من فضائل القرآن، بل لندرك أن الجمع إنما هو خطوة منهجية تتوقف على معرفة منهجية وفلسفة العلوم الطبيعية ليتم الجمع بينهما وبين منهجية القرآن المعرفية بالشكل المنهجي. ص 89.

وباكتشاف المحددات المنهجية القرآنية نستطيع صياغة أسئلتنا وتوجيهها إلى القرآن كي يجيب عنها: هل هناك سببية أم لا؟ وإذا وجدت فهل هي مطلقة أم نسبية؟ وهل الإنسان حر كامل الإرادة أم لا؟ وما مجال جبره واختياره في جدلية الحياة والواقع؟ وما قصد الوجود وغايته؟ وما معنى المصير؟.. وقد فسر القرآن الكريم هذه الأمور تفسيراً واضحاً، فيما عجز عن ذلك المنهج العلمي المعاصر؛ إذ لم يقدم تفسيراً مقنعاً بخصوصها.ويرجع الدكتور طه ذلك لما استقر في العقل الأوروبي، أن العلم لا علاقة له بالغيب، وهناك خشية كبيرة جدًّا لدى العلماء بأن ربط العلم بالغيب قد يجر إلى هيمنة الكنيسة من جديد. أما القرآن فيبين أن ما يجري في الكون لا ينتج عن علاقة أو جدل بين الإنسان والطبيعة وحدهما، بل إن للإنسان والطبيعة خالقاً هو الله، فحين يحتار العالم الطبيعي في تفسيره هذه الظواهر فلأنه لم يضع في حسابه بُعد الغيب. ولغياب الإيمان بالله وتجاوز الغيب فإنه يعجز عن إدراك تفسير تلك الظواهر. وهنا يتقدم القرآن لحل هذا الإشكال المنهجي ويستوعب أزمة المنهج. ويقول له: ما زلت أيها المنهج العلمي على شيء من حق حتى تستحضر البُعد الثالث: الإيمان بالله والغيب.

إن القرآن الكريم في هذه الحالة يعزز الموقف العلمي ويطهّر المنهج العلمي ويقوم بعملية تصديق عليه وتنقية له من جوانب النقص واستحضار للأبعاد الغائبة عنه، ويقوم بعد ذلك بالهيمنة عليه ووضعه في إطاره، واعتباره قائماً على تلك السنن الثابتة التي لن تجد لها تحويلاً. ص111 - 112.

يحمل خطاب الدكتور طه أيضاً مخططاً واسعاً حول مقاصد التشريع الكبرى: «التوحيد، التزكية، العمران»، باعتبارها مؤشرات منهجية لبناء مجتمع ذي مناشط متوازنة تكفل له السواء النفسي من جهة، وتنقذه من براثن التبعية لترسيمات المشروع الغربي الذي انتهى به الأمر إلى خداع المستضعفين باسم العولمة التي لا تعني عالماً واحداً إلَّا بقدر ما تعني تسلط الغرب على هذا العالم الواحد وقهره. وهو المسكوت عنه في خطاب الغرب.

كما يرسم مشروع المنهج حدود العلاقة المنهجية بين الكتاب والسنة، وهو أمر شديد الأهمية، ويخلص إلى أن السنة الصحيحة في أغلبها، تجد مهادها المفهومي والدلالي في القرآن الكريم؛ فالقرآن والسنة يتعاضدان جذريًّا، من حيث التأكيد والتشديد على قيم وسلوكات ومعايير بعينها. ص120 وما بعدها.

إن أهمية مثل هذا البحث التحليلي العميق أنه ينبه القارئ إلى أن المنهج القرآني أمر يحتاج إلى بحث وجهد وكد وكدح، وأن المراد بالمنهج ليس المعنى البسيط السهل المتبادر إلى الذهن، وهو المعنى اللغوي أي الطريق النهج أو الواضح البيِّن، كما أنه ليس السنة ولا جملة علم أصول الفقه. بل هو المعنى الفلسفي للمفهوم. إنه المنهج بمحدداته كما عرضها الباحث في صلب دراسته.

ويستمد البحث قيمته من قيمة صاحب المشروع الدكتور طه جابر العلواني الذي همَّه الأكبر إعادة تشكيل العقل المسلم وفقاً لمنهج علمي واجتماعي وثقافي مستقى من القرآن المجيد على أساس منهجي.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة