شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
-1-
أصول الفقه.. نظرات نقدية
تحددت المؤلفات المنشورة للشيخ محمد مهدي شمس الدين في ثلاثة ميادين أساسية، هي الثقافة والفقه والتاريخ، ولم يعرف عنه التأليف في ميدان أصول الفقه، لكنه كانت له في هذا الميدان كتابات وحوارات متفرقة، جمع بعضها في كتابه (الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي)، وأشار إلى بعضها الآخر في مؤلفاته الفقهية، مثل كتابي (الاجتهاد والتقليد)، و(مسائل حرجة في فقه المرأة).
في هذه الكتابات والحوارات المتفرقة، كانت للشيخ شمس الدين نظرات في غاية الأهمية حول أصول الفقه، نظرات تلفت الانتباه بشدة، وتستدعي التوقف عندها، والتبصر فيها، والكشف عن قيمتها وتأثيرها، ومدى الحاجة إليها.
والملاحظ أن هذه النظرات قد غلب عليها الطابع النقدي، وظهر فيها الشيخ شمس الدين بوصفه أحد النقاد المعاصرين لأصول الفقه، فقد ظل على طول الخط يلفت النظر إلى ما أصاب هذا الحقل من خلل وثغرات وعيوب، وما حدث فيه من تراجع وجمود وانكماش، قلص من قدرته الاجتهادية، وحد من طاقته الاستنباطية، وضيق من آفاقه الممكنة.
ومن وجه آخر، فإن هذه النظرات يمكن تصنيفها على منحى التجديد في ساحة أصول الفقه، ومن هذه الجهة يعد الشيخ شمس الدين أحد الدعاة المعاصرين لتجديد أصول الفقه، مع أنه لا يحبذ استعمال كلمة التجديد في هذا النطاق، ويفضل بدلاً عنها استعمال كلمة التطوير، وأشار إلى هذه الملاحظة مرتين في كتابه (الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي)، لكن من دون أن يقدم تعليلاً لهذا التفضيل، وتفسيراً للفارق بين الكلمتين.
ومن يتنبه إلى هذه النظرات النقدية، سوف يجد فيها أنها تمثل مادة حيوية، لا غنى عنها في دراسة منحى التجديد في أصول الفقه، وفي تدعيم هذا المنحى، الذي بات يمثل حاجة وضرورة ليكون أصول الفقه في مستوى مواكبة تقدم المعرفة، وفي مستوى الاستجابة لتحديات العصر وتطور الحياة.
ولولا هذه النظرات النقدية وطبيعتها وقيمتها، لما كان هناك ذكر للشيخ شمس الدين في ميدان أصول الفقه، ولما حصل هذا الاهتمام بالكتابة عنه، خاصة وأنه كما ذكرت لم يؤلف في هذا الحقل، فهذه النظرات النقدية هي رصيده الأقوى التي عرَّفت ودفعت به نحو الواجهة، وبفضلها تسلطت عليه هذه الأضواء، وذلك لأهمية هذه النظرات التي لا يمكن المرور عليها، وعدم الاكتراث بها، لمن يؤرخ أو يوثق أو يتتبع المنحى النقدي والتجديدي في ساحة أصول الفقه.
ومن الناحية الزمنية، يمكن القول: إن الشيخ شمس الدين طرح هذه النظرات النقدية، وأخذ يتحدث عنها منذ تسعينات القرن العشرين، وتحديداً في منتصف التسعينات فصاعداً، وهي الفترة التي شهدت ذروة الحديث عن تجديد أصول الفقه، وتعالي الأصوات الداعية لهذا المنحى في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.
ولعل أول ما لفت الانتباه لهذه النظرات النقدية، هو الحوار الفكري المتخصص الذي نشرته مجلة المنطق اللبنانية مع الشيخ شمس الدين في ربيع 1995م، وجرى فيه التطرق لتجديد مناهج الاجتهاد، ونقد وضعيات أصول الفقه، والحاجة لفحصه وتطويره.
ولأهمية هذا الحوار، قام الباحث العراقي السيد محمد الحسيني بضمه إلى كتابه (الاجتهاد والحياة) الصادر في بيروت سنة 1996م، ومنوهاً بهذه الإشارة في مقدمة الكتاب، والذي جاء على صورة مجموعة حوارات متخصصة حول أصول الفقه ومناهج الاجتهاد، أعدها المؤلف لصالح مركز الغدير للدراسات الإسلامية في بيروت.
وفي وقت لاحق، أعاد الشيخ شمس الدين نشر هذا الحوار في كتابه (الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي)، ولكن ليس على صورة حوار، وإنما على صورة مقالة مفرغة من الأسئلة، حملت عنوان (مقاربات في الاجتهاد والتجديد)، وهي في ظني من أهم المواد المنشورة في الكتاب.
بقيت الإشارة إلى أن هذه النظرات النقدية، تكاد تتحدد بصورة أساسية بوضعيات أصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي، وهو المجال الذي كانت له مساراته وتطوراته وبيئاته وأزمنته الخاصة به، وهذا ما أوضحه وأشار إليه الشيخ شمس الدين نفسه، لا لشيء سوى أن هذه الوضعيات هي التي عاصرها وواكبها، وبقي على احتكاك دائم بها.
هذه تقريباً هي ملامح الإطار العام، لطبيعة النظرات النقدية للشيخ شمس الدين، حول أصول الفقه.
-2-
النص التشريعي.. وخلل منهجيات التعامل
في نطاق التعامل مع النص التشريعي كتاباً وسنةً، لاحظ الشيخ شمس الدين أن هناك خللاً في منهجيات التعامل مع هذا النص عند الفقهاء والأصوليين في ساحة أصول الفقه، وأشار إلى هذا الخلل المنهجي بصورة متفرقة في كتاباته وحواراته، وعند النظر في مجموع ملاحظاته، يمكن تحديدها وتنسيقها في النقاط الآتية:
أولاً: يبدو للشيخ شمس الدين -حسب قوله- أن هناك نقصاً منهجيًّا في هذا الشأن، يتحدد فيما تعارف عليه الفقهاء من اعتبار أن آيات الأحكام في القرآن الكريم هي خمسمائة وبضع آيات، وهذه النسبة إلى جميع كتاب الله العزيز هي أقل من العشر، وهذا أمر مثير للتساؤل في نظر الشيخ شمس الدين، أن يكون أكثر من تسعة أعشار الكتاب الكريم مواعظ وقصصاً وعقائد، بينما آيات الأحكام هي أقل من عشر.
وعند التدقيق يدَّعي الشيخ شمس الدين، أن آيات الأحكام هي أكثر بكثير مما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون، وفي تقديره أنها قد تتجاوز ألف آية، وأشار إلى أنه في سبيله إلى تقصي هذا الأمر.
ومنشأ هذا النقص أو الخلل المنهجي في تصور الشيخ شمس الدين، أن الفقهاء والأصوليين القدماء نظروا إلى آيات الأحكام المباشرة التي يتعاطونها من زاوية فقه الأفراد، عبادةً وتجارةً وسلوكاً، وأغفلوا عن البعد التشريعي للمجتمع والأمة في المجال السياسي والتنظيمي، وما يتصل بالعلاقات الداخلية والدولية وغيرها.
ثانياً: لاحظ الشيخ شمس الدين أن في المنهج السائد في أصول الفقه، يعتمد الفقهاء غالباً على ما يسمى التعبد الشرعي، إذ يعتبرون أن النصوص الواردة هي غير قابلة للفحص والمقارنة والتظهير لأنها تعبدية، وبذريعة إن هذا دين والدين يقتضي الطاعة.
في حين يرى الشيخ شمس الدين، أن التعبد في أمور العبادات المحضة أمر لا ريب فيه ومسلَّم به، وأما في مجالات المجتمع والأمة، وما يتعلق بالفقه العام، وبعض الفقه الخاص في باب الأسرة أو المكاسب الفردية، فلا يعتقد في كثير من التفاصيل أن للتعبد معنى على الإطلاق، ولا بد -في نظره- أن تنزل الأمور في هذه المجالات وفقاً للأدلة العليا، وحسب القواعد العامة في الشريعة.
كما لا بد أن تنزل هذه المجالات أيضاً، على أساس مقاصد الشريعة، وحكمة التشريع المتصيدة من استنطاق النصوص، وعلى ما يفهم من المناطات المستفادة من النص، أو المستكشفة من مقارنة النصوص حسب ظروفها وملابساتها.
ثالثاً: في طريقة التعامل مع النص الشرعي، ميّز الشيخ شمس الدين بين ما أسماه الإطلاق الأزماني والإطلاق الأحوالي، وجاء هذا التمييز في سياق نقده للارتكاز الفقهي الموجودة عند الفقهاء والأصوليين في نظرتهم إلى النص التشريعي، باعتباره نصًّا مطلقاً من جميع الجهات، ومن غير فرق بين الكتاب والسنة.
بينما يرى الشيخ شمس الدين، ضرورة التمييز بين الإطلاق الأزماني، ويعني به أن النص يكون ثابتاً على مدى الأزمان كما هو موجود في الكتاب الكريم، ولكن في السنة لا يمكن الالتزام به دائماً، لأنه إذا كان المدى الزمني للنص هو نفسه محدود، فلا معنى للبحث عن أحوال النص.
وهذا الرأي في نظر الشيخ شمس الدين، لا يعطل دور السنة في عملية الاستنباط باعتبارها مصدراً للأحكام الشرعية، فلا ريب أن السنة قد شملت أحكاماً مطلقة، هي تفاصيل لما ورد بنحو القواعد والمبادئ العامة في الكتاب العزيز.
رابعاً: إن ما يميز بين هذين الإطلاقين الأزماني والأحوالي في السنة، في تقدير الشيخ شمس الدين، هو وعي الفقيه وإدراكه لزمانه، ولحركة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية في التاريخ، كما يتوقف على تعقب الحالات التي يعالجها الدليل الشرعي، الذي يتضمن حكماً تكليفيًّا أو وضعيًّا أو سياسيًّا أو تنظيميًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو غير ذلك من أصناف الأحكام الشرعية.
ومن هذه الجهة، قد يختلف الفقهاء في تقدير الموقف تجاه دليل من الأدلة، بين من يراه دليلاً مطلقاً في الأزمان أو الأحوال، وبين من لا يرى ذلك، وهذا يرجع لتنوع آراء المجتهدين.
خامساً: ما يعلق عليه الشيخ شمس الدين أهمية كبيرة في هذا التمييز بين الإطلاقين الأزماني والأحوالي، أن دليلاً من الأدلة ربما يكون غير مطلق في الأزمان أو الأحوال، ولكن يكون مداه الزمني أو الأحوالي في مجتمع من المجتمعات، أقصر أو أطول منه في مجتمع آخر.
مثال ذلك، الأدلة التي تعالج قضايا التكاثر والإنجاب، وبلحاظ ارتباطها بالتكاثر السكاني، وإمكانات الدولة والمجتمع في استيعاب الزيادات، وتوفير المستويات اللائقة بها في مجالات التربية والتعليم والصحة والإسكان وغيرها.
ومن جهة أخرى، ربما يكون الدليل محدود المدى الزمني في مجتمع من المجتمعات، لا يستطيع أن يوفر لنسبة عالية من الزيادة السكانية المستلزمات المناسبة لتنشئة أجيال قوية متعلمة واعية، فحينئذ نقول: إن هذا الدليل بالنسبة لهذا المجتمع، تنقطع عند هذه الحالة.
وأما بالنسبة لمجتمع آخر، يتمتع بالقدرة ويحتاج إلى زيادة عدد سكانه لاستثمار موارده الطبيعية، فإن المدى الزماني والأحوالي لهذا الدليل بالنسبة لهذا المجتمع، لا يزال ممتداً ولم ينقطع.
سادساً: عند النظر في نصوص السنة الشريفة، يرى الشيخ شمس الدين ضرورة التفريق بين الأحكام الشرعية الإلهية، وبين ما يسميه التدبيرات، ويعني بها الأحكام التنظيمية والإدارية الوقتية، وقد درج الفقهاء -حسب قوله- إلى اعتبار هذه أحكاماً شرعية، وهي ليس كذلك في نظره.
ولعل منشأ هذا الخلل المنهجي -في تصور الشيخ شمس الدين- هو تلك القضية المسلمة عند الفقهاء والأصوليين في اعتبار أن وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي بيان الأحكام الشرعية، وغفلوا عن أن من جملة مناصب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه كان حاكم دولة، وقائد مجتمع، ورب أسرة، وأنه إنسان يتفاعل مع مجتمعه ومحيطه وحياته، وفي هذه الأطر كلها كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول ويفعل ويقرر، فاعتبار أن قول النبي وفعله وتقريره سنة هذا صحيح، ولكن تصنيف هذه الأبعاد الثلاثة بحسب جوانب الحياة التي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتفاعل معها، فهذا ما يبدو أن الفقهاء والأصوليين قد غفلوا عنه.
ويؤكد صحة هذا القول -والكلام للشيخ شمس الدين- ما لاحظه فقهاء الشيعة وسائر المذاهب، أن في بعض الحالات يكون الحكم الوارد في بعض الوقائع لا يمكن تعميمه، فيقال: إنه قضية في واقعة، فلا يصلح أن يكون قاعدة، ولا يمكن تعميمه على جميع الحالات، وهذا الفهم صحيح عند الشيخ شمس الدين، لكنه أوسع بكثير في نظره من الموارد النادرة التي لاحظ فيها الفقهاء هذا الأمر.
سابعاً: انتقد الشيخ شمس الدين انقسام المسلمين سنة وشيعة في الموقف تجاه السنة، فالشيعة في فقههم لا يتعاملون إلَّا مع حديثهم، والسنة في فقههم يعتمدون فقط على سنتهم، والسنة الشيعية تختلف في وسيلة وصولها إلى المسلمين عن السنة السنية، والباحث أو الفقيه السني يرتكز في بحثه الفكري أو الفقهي إلى سنته، ولا يعتني بالسنة المروية عن أهل البيت إطلاقاً، والفقيه الشيعي كذلك.
وهذا الوضع في رأي الشيخ شمس الدين، يعكس موقفاً موروثاً من الشقاق السياسي، وليس مرتكزاً على الموضوعية العلمية، كما أنه يتأثر بدرجة سعة وضيق أفق الفقيه سنيًّا أو شيعيًّا، ومدى انفتاحه أو انغلاقه، ويعبر كذلك عن خلل في رؤية الفقيه لوظيفة الشريعة في الأمة، وخلل في رؤية الفقيه لطريقة التعامل مع مقولة الأمة.
وهنا يتساءل الشيخ شمس الدين، لماذا لا يعمل الشيعة بالأخبار التي تجمع شرائط الحجية عند أهل السنة؟ السنة في كتاب البخاري ومسلم وما يسمى بالصحاح، هل هذه الأحاديث كلها لا يتمتع حديث واحد منها بأي اعتبار على الإطلاق؟ هل بذلت محاولة في دراسة هذه السنة واكتُشف أنها كلها من الناحية الرسمية مجموعة أكاذيب!
في المقابل هل بذلت محاولة سنية من علماء حديث وفقهاء لفحص هذه السنة المروية عن طريق الشيعة للتأكد من أن كل ما في الكتب الأربعة عند الإمامية مجموعة أكاذيب؟ أم لأن يوجد عند السنة موقف صارم بأن كل ما رواه الشيعة، إما موضوع أو مشكوك على الأقل في صدقه.
هذه تقريباً هي أبرز ملاحظات الشيخ شمس الدين، بشأن طريقة التعامل مع النص التشريعي كتاباً وسنةً، وما أصاب هذه الطريقة من خلل منهجي عند المسلمين سنةً وشيعةً.
-3-
فكرة الإجماع.. والنقد الجذري
تعامل الشيخ شمس الدين مع فكرة الإجماع بطريقة نقدية اتسمت بالشدة والصرامة، وغلبت عليها السلبية التامة، ودعا باستمرار إلى إعادة النظر في هذه الفكرة، وأظهرها كما لو أنها من الأفكار التي أضرت بالاجتماع السياسي الإسلامي، وبالفقه الإسلامي وتطوره، ويمكن إجمال ملاحظاته في النقاط الآتية:
أولاً: ينبغي في نظر الشيخ شمس الدين، أن يبحث عن الإجماع في الأصول باعتباره أحد الطرق التي تثبت بها السنة، كالبحث عن حجية خبر الواحد مثلاً، ولا يوجد مبرر منهجي للبحث عنه عند الإمامية بصورة مستقلة عن السنة، فهذا خطأ منهجي في مدونات علم الأصول.
ثانياً: يرى الشيخ شمس الدين أن اعتبار الإجماع من الأدلة الشرعية الموازية للكتاب والسنة، من القضايا الأصولية التي يجب إعادة النظر فيها، وما نقله السيد البروجردي من أن غاية ما يمكن إثبات حكمه بالإجماع في جميع فروع الفقه هو عدد قليل من المسائل، هذا الرأي هو موضع شك عنده، وبعبارته (نحن نشك في إمكان ذلك).
هذا من جهة النظر، وأما من جهة العمل فإن الشيخ شمس الدين لا يُخفي مخالفته للإجماعات، وحسب قوله: «وقد خالفنا في بعض أبحاثنا الفقهية إجماعات وشهرات لم تثبت عندنا حجيتها».
ومن هذه الإجماعات التي يقصدها الشيخ شمس الدين، أهلية المرأة السياسية، فلم يثبت عنده إجماع تعبدي على عدم أهليتها. ومن هذه الإجماعات أيضاً ما يتصل بحرمة الاحتكار في التعدي عن الموارد المنصوصة إلى كل سلعة غير سلع الترف التي تتوقف عليها حياة الناس المتعارفة، فلا تختص الحرمة بالأطعمة، ولا تنحصر في الأصناف الستة (القمح والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت)، أو السبعة بإضافة الملح.
ثالثاً: إن الإجماع تحول -في تصور الشيخ شمس الدين- إلى أداة سياسية وضعت لمواجهة الرأي المخالف في السجال السياسي، والصراع على السلطة، واستخدمته القوة الحاكمة دائماً في هذا المجال، ثم استخدم في التنظير الديني للوضع السياسي القائم، وهو ما أنتج الفقه السياسي، فقه الأحكام السلطانية، وتسرب بعد ذلك إلى فضاء البحث الفقهي العام، ليكون ضابطاً لسلوك الأمة في المجال السياسي والحضاري والحياتي العام، وشل إرادة الأمة، وعطلها عن التصدي للنقد، لاعتقادها بأن ذلك عمل محرم.
رابعاً: يعتقد الشيخ شمس الدين أن الشيعة اقتبسوا مصطلح الإجماع، نتيجة لتأثر الفكر الأصولي الشيعي بالفكر الأصولي السني، ليكون أداة في الرد على الاحتجاج السني بالإجماع في المجال السياسي، ولاستعماله في دعم المواقف الفقهية المخالفة، ومن هذا القبيل كثير من إجماعات الشيخ الطوسي في كتاب (الخلاف).
خامساً: يضيف الشيخ شمس الدين أن الإجماع تسبب في إعاقة نمو الفقه، لأنه يحول بين الفقيه وبين البحث عن أجوبة غير جاهزة عن المسائل الطارئة، ولأنه يقدم للفقيه جواباً جاهزاً يعفيه من عبء البحث، ومسؤولية القرار الفقهي، فيعطل نمو البحث عن أجوبة جديدة عن الأمور الطارئة، وبذلك يحول أيضاً دون استجابة الشريعة لمستجدات الواقع، لأنه يحصر الشريعة في صيغ جامدة ومحددة، هي صيغ الإجماع على قول ما، أو الشهرة على قول ما.
لهذا دعا الشيخ شمس الدين إلى إعادة النظر في فكرة الإجماع، وهذا هو السبيل في نظره لتحرير البحث الفقهي من أقوال الفقهاء الذين تأثروا بلا ريب بظروف زمانهم ومكانهم وأحوالهم بالنسبة لبعض آرائهم الفقهية على الأقل.
-4-
مناهج الاجتهاد.. وخلل منهجيات التعامل
وجد الشيخ شمس الدين أن هناك اختلالات حصلت في مناهج الاجتهاد الفقهي والأصولي، وأبدى أهمية لهذا الموضوع، وتوسع في الحديث عنه، وتطرق إليه في معظم كتاباته وحواراته التي تناولت هذا الشأن أو اقتربت منه، ويمكن إجمال ملاحظاته في النقاط الآتية:
أولاً: النظرة الفردية التجزيئية وغياب الرؤية الشاملة، هذا الاختلال حصل في نظر الشيخ شمس الدين حين انعزل الفقه عن حركة المجتمع، واستغرق الفقهاء في معالجة المسائل التي يواجهها الفرد المسلم في حياته الخاصة، في عباداته ومعاملاته، وحين اقتربوا من المسائل العامة وقضايا المجتمع، فإنهم عالجوها من زاوية معاناة الأفراد، ومن جهة تأثيرها في حياة المسلم الفرد، ولم يلحظوا في الغالب تأثيرها في المجتمع والأمة.
وتأثر بهذا الاختلال الفقيه الشيعي أكثر من الفقيه السني، وذلك بسبب عزلة الفقيه الشيعي والاجتماع الشيعي، عن الحياة العامة أكثر من الفقيه السني.
ثانياً: اعتبار الخطابات للأفراد والغفلة عن خطابات الأمة والجماعة، تنبّه الشيخ شمس الدين -كما يقول- إلى قضية أصولية مهمة، لا يعرف إن كان قد تنبّه لها أحد قبله أم لا، وهي أن الفقهاء لم يلاحظوا أن الكتاب والسنة حافلان بالخطابات الموجّهة إلى الأمة باعتبارها مكلفاً، بينما اعتبروا أن الخطابات الشرعية كلها موجهة للأفراد، وحتى ما سموه بالتكاليف الكفائية اعتبروه خطابات أفراد.
بينما الملاحظ أن الشريعة اشتملت على نوعين من الخطابات التكليفية، خطابات للأفراد وخطابات للأمة، والخطابات الموجهة للأمة والجماعة كثيرة جدًّا، وهي خطابات عينية تعيينية للأمة والجماعة في الاجتماع السياسي ضمن صيغة الدولة، وضمن صيغة المجتمع.
ثالثاً: اعتبار الشريعة مشروعاً أخرويًّا فقط، لاحظ الشيخ شمس الدين أن الشريعة تحولت بسبب انحراف الحكم السياسي، وفساد الاجتماع السياسي إلى مشروع أخروي، يسعى المسلم عن طريقه إلى الخلاص والنجاة في الآخرة، من دون أن يكون له أثر يذكر في حياته الدنيا.
في حين يرى الشيخ شمس الدين أن الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً -بحسب وضعه الأصلي- مشروعٌ إنساني كوني للدنيا والآخرة، ولكن حدث الفصام النكد في مرحلة من المراحل بين الواقع والمنهج، وبين التشريع والمجتمع، وغدت الشريعة مشروعاً أخرويًّا حتى في أحكامها التي تعالج شؤون الحياة الدنيوية.
رابعاً: الانقطاع عن الواقع الموضوعي المتغير وعدم التفاعل مع الطبيعة، فمنهج الاستنباط الفقهي -كما يرى الشيخ شمس الدين- لا يرتكز على دراسة النص فقط، بل يرتكز أيضاً على رؤية الواقع وتدبره، وهذا التدبر ليس مجرد المعرفة العلمية والرؤية البصرية، وإنما هو وعي العلاقة بين الواقع والنص، ووعي العلاقة بين الواقع وصيرورة حياة الناس.
ولهذا اعتبر الشيخ شمس الدين أن آيات التفكر والتدبر في خلق الله، هي من المكونات الأساسية لمنهج الاجتهاد، لأنها توجّه فكر الفقيه نحو الواقع والطبيعة، ونحو الاجتماع الإنساني، حتى يبني فهمه للشريعة على ضوء ذلك، ومن ثم يتجلى في استنباطه لأحكامها.
خامساً: عدم ملاحظة مقاصد الشريعة في كثير من مجالات الفقه، إذ يرى الشيخ شمس الدين أن استغراق عملية الاستنباط الفقهي في الجزئيات، وإسرافها في توظيف بعض الأدوات الأصولية العقلية في استنطاق النص، أفضى بها إلى فهم حرفي للنص نأى بها أحياناً عن روح الدليل، فتم صياغة فتاوى لا تنسجم مع روح الشريعة، مثل كراهة تزويج بعض الأقوام وغير ذلك.
كما أن التعامل مع النص بمعزل عن حقله الخاص، وبمعزل عن علاقة حقله الخاص بالحقول الأخرى، يؤدي إلى عدم وعي مقاصد الشريعة.
هذه هي في نظر الشيخ شمس الدين أبرز الاختلالات الحاصلة في منهج الاستنباط الفقهي والأصولي.
-5-
أصول الفقه والفلسفة.. نقد العلاقة
من الملاحظات التي ظل الشيخ شمس الدين يلفت النظر إليها على طول الخط، في كتاباته وحواراته، ناقداً لها، ومعترضاً عليها، هي تأثر أصول الفقه بالفلسفة والمنهج الفلسفي، التأثر الذي كانت له في نظره تداعيات سلبية أثرت، وظلت تؤثر في طريقة عمل أصول الفقه، وفي طريقة التعامل معه، والاستفادة منه في ميادين الاستنباط الفقهي، وفي مجالات الحياة بصورة عامة.
وعند النظر في هذا الموقف النقدي، الذي يصفه الشيخ شمس الدين بالموقف المبدئي، يمكن كشفه وتحديده في النقاط الآتية:
أولاً: يرى الشيخ شمس الدين أن زج الفلسفة والأفكار الفلسفية في أصول الفقه، هو إدخال مادة غريبة لا تتناسب مع طبيعة الحقل المعرفي الذي يراد استخدام علم الأصول فيه. وذلك على خلفية أن كل منهج من مناهج العلوم يجب أن يستمد جوهره ومناخه وطبيعته من طبيعة ذلك العلم، ومن قواعده وأصوله، ولا يجوز أن يكون هناك منهج يختلف في طبيعته، وفي تكوينه الداخلي عن حقل المعرفة التي يراد استخدامه فيه، فحقل المعرفة في الشريعة هو الذي ينتج أصوله الخاصة بها.
ثانياً: في اعتقاد الشيخ شمس الدين أن الفكر الأصولي عند الشيعة الإمامية، هو الذي طور العلاقة بين مناهج الاستنباط في علم الأصول كما بدأت، باعتبارها تعتمد على الفكر البلاغي المتصل بتركيب الجملة والأسلوب والحقيقة والمجاز والعام والخاص وما إلى ذلك، طورها إلى أبحاث فلسفية وكلامية ومنطقية، وأدخل المصطلحات الفلسفية والمنطقية في لغة الأبحاث الأصولية.
وعند حديثه عن بدايات حصول هذا التطور في العلاقة بين أصول الفقه والأبحاث الفلسفية، يرى الشيخ شمس الدين أن هذه البدايات حصلت في عهد الوحيد البهبهاني (1118 - 1206هـ)، وتطورت في عهد المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281هـ)، وتعاظمت في عهد الشيخ محمد كاظم الخراساني (1255 - 1329هـ)، وتعمقت واتسعت فيما بعد بتأثير هذه المدرسة الأصولية.
ثالثاً: عندما توقف الشيخ شمس الدين أمام ظاهرة تأثر أصول الفقه بالفلسفة، وجد أن هناك ثلاثة تفسيرات ممكنة لهذا التأثر، تحدث عنها بعبارة ربما، في إشارة منه لعدم الجزم والقطع بهذه التفسيرات، وهي:
1- ربما يكون لاشتراط الأعلمية في مرجع التقليد، أثر في دفع الفقهاء إلى زج المقولات المنطقية والفلسفية في علم الأصول، لأنه يفتح باباً واسعاً لإبراز المواهب من التدقيق وإثارة الإشكالات على آراء الآخرين ومبانيهم.
2- وربما يكون لأهمية المرجعية الدينية، ودورها القيادي عند الشيعة الإمامية في العصور الحديثة مع اشتراط الأعلمية، دور كبير في تعزيز هذا الاتجاه في العقود الأخيرة.
3- وربما يكون وراء ذلك، الرغبة في التفوق على الأصوليين المنتمين إلى المدرسة الأشعرية في علم الكلام، وإعطاء شخصية مستقلة لعلم الأصول عند الإمامية عن علم الأصول الأشعري.
رابعاً: من مضاعفات تأثر أصول الفقه بالفلسفة -في نظر الشيخ شمس الدين- تحوله شيئاً فشيئاً إلى مقصد بذاته، بينما هو آلة ووسيلة ومجرد منهج، وازداد الوضع تعقيداً بدخول المصطلح الفلسفي ومناهج البحث الفلسفي، كالبحث عن أصالة الوجود، وأصالة الماهية.
وهذه الناحية، يصفها الشيخ شمس الدين بأنها شديدة الخطورة، ويعتقد أنها أصابت الفقه الإسلامي بشلل في جوانب كثيرة، وكانت لها انعكاسات سلبية على وضع الأمة من جهة، وعلى العقل الإسلامي من جهة أخرى.
خامساً: من المضاعفات الأخرى، لتأثر أصول الفقه بالفلسفة في نظر الشيخ شمس الدين، تحول الكثير من أبحاث أصول الفقه عند بعض الأصوليين المعاصرين إلى أبحاث فلسفية تجريدية يغلب عليها الطابع الفلسفي التجريدي، التي لا علاقة لها بالنص القرآني أو النص السنتي، إلا من جهة التسمية والعنوان.
ومن جانب آخر، فإن هذه الأبحاث الفلسفية لا يحتاج إليها الفقيه في بحثه واستنباطه، وتستهلك الوقت والجهد من غير طائل، بل قد تؤثر على سليقة الفقيه العرفية، وذوقه اللغوي، وقدرته على الفهم السليم.
سادساً: لهذا الموقف النقدي الذي يصفه الشيخ شمس الدين بالمبدئي، فإنه يقدم نفسه بوصفه أحد دعاه التنقية الكاملة للمنهج الأصولي من التأثيرات الفلسفية والكلامية، ويعد هذا الأمر ضروريًّا.
كما يدعو الشيخ شمس الدين، عودة أصول الفقه إلى صفائه، باعتباره يشمل قواعد التعامل مع نص اللغة العربية في الكتاب والسنة، ويربط تطوير أصول الفقه بهذه التنقية من ما يسميه شائبة الأفكار الفلسفية التي لا علاقة لها بعملية الاستنباط.
-6-
أصول الفقه.. والحاجة إلى التطوير
هذه الملاحظات والاختلالات في مناهج الاجتهاد والاستنباط الفقهي، دعت الشيخ شمس الدين لأن يؤكد على إعادة النظر في هذه المناهج، الدعوة التي ظل يعيد الحديث عنها، ويلفت النظر إليها باستمرار، وذلك لقناعته الراسخة بها، إلى جانب تأكيده بأننا بحاجة إلى تأصيل أصول جديدة، وإلى وضع قواعد أصولية جديدة، واعتبار أن الأصول الموجودة بحاجة إلى تحديث، ووصل به الحال إلى الدعوة لثورة منهجية في عملية الاجتهاد، بدءاً من مناهج الأصول إلى عملية الاستنباط.
وفي هذا النطاق، طالب الشيخ شمس الدين بتطوير أصول الفقه، وإنه لا يحبذ حسب قوله وضع علم أصول جديد، والحاجة لتطوير أصول الفقه نابعة في نظره من الاعتبارات الآتية:
أولاً: إن أصول الفقه بصيغته السائدة قاصرٌ عن الاستجابة لحاجة الاستنباط الفقهي المتجدد، وذلك بحسب ما يطرأ من تغيرات على المجتمع في حركته وتفاعله مع المجتمعات الأخرى.
وهذا القصور -في تقدير الشيخ شمس الدين- هو قصور تاريخي وليس طارئاً، لأن أبحاث هذا العلم لم توضع أساساً لتنبني عليها عملية اجتهاد شاملة، وإنما تولد كثير منها من الأبحاث التي وضعت لتقعيد اللغة العربية، وقسم منها وضع متأثراً بالفكر المنطقي الأرسطي ومصطلحاته، وكذلك لبعض الاعتبارات الكلامية أو القواعد الكلامية.
ثانياً: يجب أن يستجيب أصول الفقه لرؤية فقهية أوسع من الرؤية السائدة اليوم، وهذا يقتضي -في تصور الشيخ شمس الدين- أن يفحص الفقهاء والأصوليون عن أوجه النقص في علم الأصول في وضعه الحاضر، بعدما حدث فيه تطوير مهم في اتجاه العمق، خرج به في كثير من الأبحاث عن مجاله الأصلي، ليجعل منه بحثاً فلسفيًّا كلاميًّا تجريديًّا، من دون أن يسهم هذا التطور على الإطلاق، في توسيع مجال الاستنباط الفقهي.
وهذا يعني في نظر الشيخ شمس الدين، أن التوسع الذي حصل في أصول الفقه كان توسعاً في العمق، من دون أن يمتد أثره إلى منهج الاستنباط العقلي على امتداد الفقه في حياة الناس، تبعاً لامتداد هذه الحياة في أبعاد جديدة، فرضها توسع العلوم الوضعية وإنجازاتها، الأمر الذي يقتضي تطوير علم الأصول ليتسع لتأصيل واستنباط قواعد جديدة، تستجيب لحاجات جديدة حتى يقول الفقه الإسلامي كلمة فيها.
ثالثاً: يرى الشيخ شمس الدين أن علم الأصول، تطور عند الشيعة الإمامية تطوراً كبيراً كمًّا ونوعاً، لكن هذا التطور بقي شكلياً وسطحياً من جهة النتائج، في حين أن تاريخ العلم أو تاريخ المعرفة بوجه عام، أو تاريخ أي علم من العلوم، يؤكد أن أي تبديل في المنهج، يؤدي إلى تبديل في النتائج ولو نسبيا، إما في نوعية النتائج أو في كمها.
هذه لعلها أبرز ملامح النقد المنهجي لأصول الفقه عند الشيخ شمس الدين، كما شرحها في كتاباته وحواراته المتفرقة.
-7-
ملاحظات ونقد
بعد هذا الاستكشاف، وتكوين المعرفة بنظرات الشيخ شمس الدين في النقد المنهجي لأصول الفقه، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية، ومنها:
أولاً: كشفت هذه المحاولة، عن مدى سعة وكثافة وتنوع النظرات النقدية عند الشيخ شمس الدين حول أصول الفقه، هذا الانكشاف النقدي الواسع كان يفترض أن يشكل حافزاً، وحافزاً قويًّا، يدفع الشيخ شمس الدين نحو النهوض بإنجاز عمل يتخطى ويتجاوز تلك الملاحظات النقدية، سعياً نحو إعادة بناء أصول الفقه وفق أسس جديدة تُعبِّر عن رؤيته، وتتناغم مع أفقه النقدي، وتلبي رغبته في التحديث والتطوير، وهذا ما لم يحدث.
فهذا المستوى الكمي والنوعي من النقد في هذا الحقل، أو في غيره من الحقول المعرفية الأخرى، وبأقسامها كافة، يصلح أن يمثل سبباً كافياً من الناحية المنطقية والموضوعية، يدفع ويحرض بشدة نحو الانتقال من النقد إلى التطوير والتحديث، وهذا ما حدث ويحدث في الحقول المعرفية الأخرى.
وما نريد قوله أن الشيخ شمس الدين أنجز مهمة النقد، وكان يفترض منه أن يتمم هذه الخطوة بإنجاز مهمة التحديث والتطوير، التي طالما دعا إليها، ونادى بها، ولح عليها.
ثانياً: إن هذه النظرات النقدية بكثافتها وتنوعها، لا ينفرد بها الشيخ شمس الدين كليًّا، ولعل هناك من يتفق معه كليًّا أو جزئيًّا، إلى جانب من يختلف معه كليًّا أو جزئيًّا، وهذا ما يحدث عادة في ميادين الفكر والمعرفة.
وهناك من سبقه إلى مثل هذه النظرات، كالسيد محمد باقر الصدر في بحثه الشهير (الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد)، الذي وصفه الشيخ شمس الدين بالبحث القيم، واعتبر أن السيد الصدر -في هذا البحث- أفضل من تحدث عن طبيعة المشكلات، التي اعترضت مسارات حركة الاجتهاد في المجال الشيعي.
في هذا البحث شرح السيد الصدر، كيف حصل التحول والانكماش في مسارات حركة الاجتهاد الشيعي من المجال الاجتماعي العام، إلى مجال الفردي الخاص، وكيف تسربت الفردية إلى ذهنية الفقيه، وجعلته ينظر إلى الشريعة من زاوية الفرد، وفي نطاق الفرد.
ثالثاً: الموقف من الفلسفة، فالملاحظ بصورة عامة في كتابات وحوارات الشيخ شمس الدين، النقد الشديد والصارم للفلسفة، بالشكل الذي ينبئ عن موقف سلبي ونهائي تجاهها، فهو لا يتطرق إلى الفلسفة إلا في معرض النقد والرفض، وخصوصاً في مجال علم أصول الفقه.
في مقابل هذا الموقف السلبي، هناك الموقف الإيجابي للسيد محمد باقر الصدر الذي يدافع عن الفلسفة، ويرى أن أصول الفقه قد استفاد من الفلسفة، كما أن الفلسفة أيضاً استفادت من أصول الفقه، وشرح هذا الموقف، وبرهن عليه في كتابه (المعالم الجديدة للأصول).
لهذا فإن الفلسفة لا تمثل بعداً حاضراً في كتابات الشيخ شمس الدين، كالذي نراه في كتابات السيد الصدر.
رابعاً: الموقف من الألسنيات، أعطى الشيخ شمس الدين رأياً سلبياً تجاه الألسنيات، وكان قاطعاً ونهائيًّا في هذا الرأي، وأغلق إمكانية الاستفادة من هذا الحقل كليًّا في مجالات الاستنباط والمعرفة الدينية، وهذا الرفض كان مبنيًّا في رأيه على أمرين:
الأمر الأول: عدم إمكانية الوثوق بهذه الأبحاث، وحسب رأيه «إن الاعتماد على نتائج الأبحاث اللغوية الحديثة المسماة بالألسنية لا وجه له، لأنه لا يمكن الوثوق بها في تطبيقاتها على عملية الاستنباط. لأن الألسنية نمت في أوساط لغوية بعيدة ومنفصلة عن اللغة العربية، وقوانين البيان في اللغة العربية، هي قوانين محكومة بطبيعة هذه اللغة وبآلياتها، ولا يمكن نقل أحكام في الدلالة اللغوية ناتجة من لغات أخرى، وخاضعة لآليات حضارية، وآليات تفكير لغوية أخرى، وتطبيقها على اللغة العربية».
الأمر الثاني: اعتبار الألسنيات منهجاً غربياً لا يمكن الاعتماد عليه في دراسة النص الديني، وحسب رأيه «نحن لا نوافق إطلاقاً على اعتماد المناهج الغربية في استنطاق النص باتِّباع المناهج الألسنية في اللغة، لأننا نعتبر أن هذه المناهج تنتمي إلى مناخ ثقافي وحضاري مختلف عن ثقافة وحضارة الإسلام من جهة، وتنتمي إلى مناخ لغوي، وطبيعة لغوية مختلفة عن اللغة العربية من جهة أخرى، ولا يمكن التعامل مع نصوص الوحي القرآني بهذه المناهج».
والملاحظ على هذا الرأي، أن من المبكر الحكم على الألسنيات بهذا الشكل القاطع والصارم، في حين يعتبر هذا الحقل وليداً وجديداً في الدراسات العربية، والغاية منه البحث عن المشتركات العامة في اللغات التي يتحدث بها البشر، من أجل التوصل إلى قواعد جديدة ومشتركة في فهم آليات هذه اللغات وقوانينها.
يضاف إلى ذلك، أن هذا الحقل أضاف قانوناً جديداً ومهمًّا في دراسة اللغات، وهو قانون التحليل الصوتي، واعتماده إلى جانب قانون البحث عن الدلالة والمعنى.
مع الإشارة إلى أن مصطلح اللسانيات، أو هذه التسمية، هي من التسميات التي استعملها القرآن الكريم في حديثه عن تعدد اللغات واختلافها بين البشر، كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}.
واللسان هو تعبير عن الجانب الصوتي والجانب الدلالي معاً، والدارسون لعلم أصول الفقه يدركون جيداً أن مباحث الوضع في هذا العلم باتت تعتبر من المباحث القديمة، التي بحاجة إلى تجديد وتحديث، وهكذا مباحث الألفاظ بصورة عامة.
خامساً: يميل الشيخ شمس الدين إلى مشروعية تقليد الميت ابتداء، وهو قول قوي كما يقول عند المسلمين الشيعة، لكنه غير مشكور عند غيره من الفقهاء.
واستدل على هذا الرأي في مشروعية تقليد الميت ابتداء بقوله: إذا كان إطلاق الأدلة «يشمل حالة البقاء، فينبغي أن يشمل حالة الابتداء أيضاً، لما عرفت من أن التقليد أمر متجدد عند العمل بكل مسألة، فإذا عمل في قضية بفتوى للمجتهد الميت الذي قلده في حياته، فإنه في هذه المسألة مقلد للميت ابتداء أيضاً، وليس عمله برأي الميت فيها استمراراً على تقليد الحي الذي مات. فالظاهر أن الاستدلال على مشروعية البقاء بالكتاب والسنة مع القول بعدم مشروعية الابتداء مشكل جدًّا، لورود الإشكالات على الاستدلال من غير فارق بين المقامين».
هذا الرأي لا يتناسب على الإطلاق، وما يدعو إليه الشيخ شمس الدين من تطويرات وتجديدات شاملة وواسعة في مجالات الاجتهاد والفقه وأصول الفقه، كدعوته إلى بناء مرجعية جامعة، أو مرجعية ذات تخصصات، وهكذا دعوته إلى ثورة في الاجتهاد، إلى غير ذلك من دعوات جذرية وصارمة، خاصة وأننا في عصر تتغير فيه أحوال المعرفة الإنسانية بسرعة، وتتضاعف وتتراكم في فترات قياسية، وبطريقة تؤثر في مختلف مجالات الحياة العامة.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.