تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مؤتمر «كلمة سواء» الثاني عشر

قسم التحرير

التغيير الاجتماعي والسياسي عن الإمام الصدر: الرؤية، والمنهج، الرسالة

نظّم مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات مؤتمر «كلمة سواء» الثاني عشر بعنوان «التغيير الاجتماعي والسياسي عند الإمام الصدر، الرؤية، النهج، الرسالة». وذلك في 24 تشرين الثاني 2011 م بقصر الأونيسكو في العاصمة اللبنانية بيروت. وقد شكل المؤتمر مناسبة للاحتفال بمرور 50 عاماً على بدء عمل مؤسسات الإمام موسى الصدر في لبنان.

شارك في فعاليات المؤتمر عدد كبير من المفكرين والسياسيين والكتاب والصحافيين والإعلاميين، من لبنان والعالم العربي.

وقد ناقش المؤتمر المحاور التالية:

المحور الأول: التغيير من منطلق الفكر الديني.

المحور الثاني: التغيير الاجتماعي.

المحور الثالث: التغيير السياسي.

انطلقت فعاليات المؤتمر بكلمات المشاركين في الجلسة الافتتاحية.

فبعد كلمة عريف الاحتفال الشاعر حسين حمادة، ألقت رئيسة مؤسسات الإمام موسى الصدر السيد رباب الصدر كلمة قالت فيها: «نلتقي اليوم عند حكاية نصف قرن على العمل في مؤسسات الإمام الصدر، والمؤتمر هذا بمناسبة دخولها السنة الخمسين من حكاية العمل، وكلما استعرضت مشاهد الحكاية يكبر عندي مفهوم اختراق الشائع والحياة النمطية الجامدة، وكيف يمكن تحويل الركود إلى حركة متسارعة نحو اليوم الآتي ليكون منه الوجود الحي..».

وأضافت: مذ أطلقنا الإمام السيد موسى الصدر سنة 1962 من أقبيتنا النسائية إلى الفضاء الأرحب، أفراداً كنا، تلفّنا جدران بيوتنا، وبيوتنا حياتنا الاجتماعية، ومنها نستقي حروفاً معرفية، ونُبَذاً من تراكم ثقافي. لم نكن على إمكان أن نستوعب ما حولنا، فضلاً أن ندرك الحدث. رؤاه لمح، وعلينا أن نلتقط اللمحة، ومن يؤتى منها فاز، وما هو بالأمر الهين. وإذ تركنا قبل ثلاثة وثلاثين عاماً ونيّفاً، ودهمنا المجهول، والمجهول قلق قاتل، كان قد أطال لنا أجنحة، وأنبت للقوادم ريشاً، وأكسب عيوننا حدة، وعزائمنا مضاء، فاستطعنا أن نقف على الحد الذي يريدنا فيه من تعريفه للعمل بأنه: «قطعة من الإنسان ذابت فتحولت إلى عمل».

وتابعت: لم تكن الهيئة النسوية مؤهلة لأي دور لتكون الجناح الآخر للمجتمع في صور، فكل كفاءة الزميلات أنهن من كريمات عائلات البلدة، ولم يكن من ثقافة ذلك الحين ما يرتبط بنشاط المرأة خارج المنزل. لم أكن مؤهلة كذلك، يوم أطلقني ريشة في مهب تطلعاته لليوم الآتي، لم أكن أكبر وأوعى من أية طالبة ثانوي من جيل الستينات. إلى جانب أنني أجهل البيئة التي انتقلت إليها دون حساب مسبق، وهي تختلف تماماً عن البيئة التي أولدتني وأنشأتني، ولم أكن مؤهلة لإدارة صفين، منهما صف محو الأمية، وتعرفون ما يحتاج مثل هذا الصف من خبرات. هذه كانت حالنا، يوم طرح ببساطة عبارات آخر سنة 1961، طبعت مسارنا طوال نصف قرن، والآن أستعيدها بتصرف، منها ما كان لجمعية البر والإحسان ككل وهي أنها غير طائفية، تعمل لصالح الناس جميعاً دون تمييز، وأنها غير سياسية محليًّا أو غير محلي، وأنها غير حزبية، وأنها تعمل من أجل الإنسان وخدمة عيال الله وبالذات المستضعفين منهم، وأن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى، وأن تكون العطاءات والهبات والتبرعات بقصد رضا الله، وكذلك المساعدات التطوعية».

وكان (بيت الفتاة) تقول السيدة الصدر: هو اسم نشاطنا الأول قبل التغييب، وتحول إلى مؤسسات الإمام الصدر التي تغطي الخدمات التعليمية والمهنية والصحية والإرشاد الصحي والتمكين للفتاة باعتبار هذا بنية تحتية لمحاربة الجهل وبالتالي التغيير لاستفادة جميع الفئات العمرية.

وختمت السيد الصدر كلامها بقولها: تلاحظون التركيز على العمل، وعلى مسارنا الدائب فيه، مع أني أدرك أنه من المنتظر أن أتكلم عن مسار قضية الإمام الصدر، وأرجو هنا التوضيح أنه شخصية عامة، وقضيته لهذا قضية عامة، وما نحن سوى أفراد من العامة استهدفنا العمل متابعة لقضيته واستقصاء وجوده والقصاص لكل من له ضلع بالإيقاع، ونذوب فيه كما نذوب في تجسيد أفكاره...

ثم ألقى المونسنيور كميل مبارك ممثلاً البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي كلمة، جاء فيها: «نحن إذ نكبر فيكم الوفاء لهذا المناضل فكريًّا وعمليًّا، ننظر إلى العناوين التي تضيء فكرة المؤتمر بإعجاب واهتمام، عنيت الرؤية والنهج والرسالة. ولعل في تراتبية هذه الكلمات تناغماً مع وقوف كل عاقل أمام أي صعوبة، يحاول الخروج منها بحلول منطقية هادفة وقابلة للتحقيق، مجيبة عن التساؤلات الثلاثة: ماذا يجب أن أفعل، وكيف، ولماذا؟ كل ذلك عبر إشراك الفكر الديني الذي ينير طريق الفكرين: الاجتماعي والسياسي، في عملية التغيير التي تهدف نحو الأفضل مع احترام خالص لكرامة الإنسان والخير العام».

وأضاف: «في وحدة الطبع البشري، كل رؤية تغييرية تنطلق من ثوابت راسخة، يكتب لها النجاح إذا ما قيّض لها الله أصحاب الإرادات الحسنة والنوايا الطيبة إلى أي دين انتموا، ليعملوا معاً على التكامل والنمو في إحساس الإنسان، فرداً وجماعات، بعزة خالقه ومجده، إذ منه تأتي كل كرامة ويأتي كل حق ويتحقق كل خير، يتردد في الأرض فرحاً وبشراً، ويصل إلى السماء ابتهالاً وشكراً. ونحن نؤمن بوحدة الطبع البشري الذي وهب العقل والحكمة والنطق وحسن التدبير، ومن هذه الوحدة تأتي إمكانية التفاهم بين الناس، على تحسين واقعهم وجمال مستقبلهم. وإذا ما وجدت هذه الإمكانية وتحققت مفاعيلها العملية، انتفت الخصومة وزال الاقتتال وارتفع الطمع، وتوحدت الرؤية بالخير، وإن اختلفت بأساليب تحقيق هذا الخير، شرط ألا يصل الاختلاف إلى الخلاف الذي يتنافى مع وحدة الطبع، ويتعارض مع كل ما يجعل الإنسان أكثر إنسانية، والمؤمن أصلب إيماناً، والمحب لإخوته من الناس أخلص حبًّا».

وختم كلمته بقوله: «لو وضعنا هذه القناعات التي نؤمن بها تحت مجهر الفكر الصدري، ووضعنا فكر الإمام المغيب في الإصلاح الاجتماعي والتغيير نحو الأفضل رؤية ومنهجاً ورسالة تحت مجهر قناعاتنا، لوجدنا أننا نعمل معاً من دون أن نبرمج هذا العمل، وأننا نسعى نحو أهداف مباركة تصل بالبشرية، إذا ما فعلت القناعات هذه وثمرتها في سلوكيات الحياة العملية والأخلاقية، إلى حضارة المحبة التي بشّر بها وعلّم سبلها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني..».

ثم ألقى الأستاذ وفيق حجازي كلمة مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني، فقال: «يسعدني باسم صاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية فضيلة الشيخ الدكتور محمد رشيد راغب قباني، أن أقدم لحضراتكم التحية والتقدير، راجياً من الله تعالى أن يكلِّل هذا المؤتمر بالنجاح لما فيه خدمة الوطن والمواطنين، وأن تعم الفرحة قلوبنا بإعادة المغيبين والمفقودين إلى ربوع هذا الوطن سالمين محفوظين بإذن الله تعالى ربِّ العالمين.

وأضاف: «إن هذا المؤتمر الموسوم بكلمة سواء، يذكرنا بقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

إن أهم عامل لبناء هذه الأمة، هو أن تجتمع كلمتنا على أمر سواء، يقطع الطريق على كل من يسعى لتمزيق هذه الوحدة، وتشتيت شمل الأمة وتقزيمها إلى دويلات، ومن ثم لقيمات بحيث يسهل ابتلاعها وازدرادها، الأمر الذي يؤدي للهلاك والبوار. وهذا مسعى الأعداء والمستعمرين من خلال سعيهم الدؤوب لبث صنوف الفرقة، وفنون الشقاق والنزاع بين أبناء الوطن الواحد، وهو يعلم تماماً بأنه لن يكون له موطئ قدم، إذا كانت كلمتنا سواء بما يخدم قضايا أمتنا، لأننا بذلك نحفظ أوطاننا ونحصن أبناءنا ونُرضي ضمائرنا وقبل كل شيء خالقنا سبحانه وتعالى.

وأضاف: إن المجتمعات الإنسانية بعد أن ذاقت بؤس الظلم وكبت الحريات، ها هي تسعى لفك طوق الحصار عن أعناقها لتشم نسيم الحرية في حياتها وشؤونها كلها، وعلى أرضها وفي سمائها ومائها، وإن كل الحلول والمقترحات البعيدة عن منهج الحق لم تجلب سعادة، ولم تحقق رغد عيش، بل ولم تؤمن لها طيب حياة، وأهمها حرية القول كما حرية المعتقد.

وأضاف حجازي: لكي يكون الاستقلال استقلالاً لا استغلالاً، وحقيقة لا وهماً، وواقعاً لا خيالاً، فلا بد من أن تكون الكلمة كلمتنا والراية رايتنا نابعة من مصلحة الوطن العليا، ويكون المواطنون سواء في الحقوق والواجبات بما يحفظ مصالحهم ويدفع ويرفع الخطر المحدق بهذا الوطن العزيز، ولكي يتحقق ذلك ويكون كذلك فقد قيل: «من كان طعامه من فأسه كان كلامه من رأسه»، ليتم التغيير الإيجابي لمصلحة الوطن والأمة العليا، فلا بد أن نملك مقومات الحياة ووسائل القوة، الأمر الذي يمكننا من السيادة الحقة على الأرض والاستقلال الحقيقي في كل شؤوننا، مما يمكننا حينئذ من رفع الصراعات والأحقاد والنزعات، وتحقيق المساواة، والقضاء على الفقر والقهر والعوز، وتتحرر بذلك كلمتنا ونحفظ وطننا وأمتنا.

ثم ألقى المطران غطاس هزيم كلمة بطريرك الروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم عن «التغيير الاجتماعي والسياسي عند الإمام الصدر»، ومما جاء فيها: لا شك في أن الإمام السيد موسى الصدر هو من كبار الأئمة المجددين الذين انخرطوا في العمل من أجل الإنسان وخيره، ومن أجل إعمار الأرض. فلم يكتفِ بالتنظيرات والكلام المجرد، بل نزل إلى أرض الواقع، وخاض في مشاكل الناس، وسعى إلى ترجمة الرسالة الدينية إلى الحياة. لذلك جاهد الإمام من أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين، ومن أجل إحقاق الحق وإعادة الكلمة إلى الإنسان أشرف مخلوقات الله..وأضاف: لقد انطلق الإمام الصدر من ثوابت آمن بها ودعا إليها في خطبه وكتاباته، وهي:

أ- الإيمان المشترك المسيحي - الإسلامي بالله الواحد. ولو تعددت التعبيرات عن الله، فالله واحد لا يحده تعبير واحد.

ب- الدين واحد ولو تعددت الديانات.

ج- إن الديانتين المسيحية والإسلامية جُعلتا لخدمة الإنسان وصون كرامته وحقه في الحياة الفضلى والسلام والمحبة والوئام، وجعلتا أيضاً لإعمار الأرض والنهوض بها.

د- تدعو الديانتان إلى قيم روحية ومبادئ خلقية مشتركة، وتدعو إلى التقارب بين المسلمين والمسيحيين والاستفادة المتبادلة من العبر والعظات والنظم التي تنطوي عليها كل من الديانتين.

وتابع: «هذه الثوابت الأربع شكلت جوهر رسالة الإمام موسى الصدر. وهو لم يتوانَ يوماً في خطبه وتصريحاته ومحاضراته عن الاستمرار في التأكيد وإعادة التأكيد عليها. فها هو في كنيسة الكبوشيين، قبيل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، يعلن أن «الأديان كانت واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الإنسان واحد». وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نبذنا الله وابتعد عنا فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً، وألقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.

وقال: بالنسبة إلى الإمام الصدر، اللقاء لخدمة الإنسان يؤدي إلى اللقاء في الله. ففي المحاضرة عينها، يدعو إلى العودة إلى الطريق السوية، متوجهاً إلى المسلمين والمسيحيين بالكلام: «اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك».

ثم ألقى الشيخ غسان الحلبي كلمة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، ومما جاء فيها: «إنه لمن الصواب المثمر أن يصار إلى مقاربة مسألة مفهوم التغيير عند الإمام الصدر من حيث هو كلي الحضور في حركة وجود الإنسان ذاتها، وليس من حيث هو مدرك يتم تبنيه كنشاط حيوي. هذا يعني أن الإمام كان عاصفة في إيمانه وفكره، في قلبه وفي عقله، أي في أنفاسه وحركاته من المبادرة في الحياة إلى الحياة وحتى غاية القصد. إنسان لا يعي فقط ذاته في اللحظة المضيئة للوجود، وإنما أيضاً هو يعي مغزاه في هذا المعطى الإلهي العظيم، ويعي أهميتها القصوى في محيطها. يدرك أن الإنسان بطبيعته متحرك نحو الكمال، وهذه الحركة إن لم تكن مستنيرة بالهدي الرباني في معناه الصادق في نفسه فهي تحت خطر الانزلاق إلى حركة الانحدار في المسالك المسترذلة وعواقبها الوخيمة البغيضة في عين الحق.

وأضاف: لذلك، لم يحدد الإمام أفق الرؤية، بل رآه في بصيرته، في فطرته الإنسانية الحقيقية، وهي الإيمان بالله، مميزاً بين المعنى الحقيقي لالتزامات هذا الإيمان الروحية والاجتماعية والوجودية من ناحية، وبين المفهوم التجريدي من ناحية أخرى كما قال، يعني أن تعبد الله كأنك لا تراه، هذا إن لم يكن لك طيفاً من الأطياف. الحال الأول يفرض الحركة في الحق لتحقيق دلالاته، والثاني يضع الفرد في شبه غيبوبة عن ذات نفسه».

وأضاف أيضاً: ولقد نبه الإمام الصدر إلى أن هذه الاندفاعة نحو التغيير يجب أن تبدأ من داخل الإنسان قبل الوثوب إلى الخارج على جهل من حقيقتنا داخل الصدور. «مشكلاتنا تبدأ من عند أنفسنا» يقول، والقصد أن تبدأ الحركة بك، في عملك وفي لسانك وفي قلبك وفي سيرتك. تضع مرآة الحق أمامك متسائلاً: «أهناك شبه بيني وبينه؟»، فإن لم يكن شبه، فإنه لا ينفعك الاتكال على الحق، وإن صار شبه، فتلك هي البداية. هذا بدوره يضع «المناقبية والسلوكية» في مستوى الضرورة، بحيث إن الاستهتار بهما هو نقض لاحترام المرء لنفسه، وانزلاق في الآن عينه إلى نقيض المنطلق الإيماني عمليًّا، وهذا في حقيقته هدم للأساس، «فالممارسة العملية هي المقياس، كما ينبه الإمام، وليس الشكليات والمظاهر، لأن قيمة الشيء بحقيقته وجوهره، لا بظاهره وشكله».

وقال: «أراد الإمام هذه الرؤية، بضوابطها التي تمد جذورها في المثل الإيمانية، رسالة ترقى إلى مستوى «الدعوة العالمية»، لأنها إنسانية، على النقيض تماماً من الوقوع فريسة العصبية الطائفية التي يأباها الإمام بلا هوادة. ويؤكد بوضوح ساطع الانفتاح على جميع الشعوب، وهو بهذا لا يقطع في الدين مع سياق التطور، لأن «الفكر الديني المتطور هو القادر على نزع الصبغة الطائفية التعصبية عن الدين»، ويرى الإمام بنافذ بصيرته الحاجة إلى ما يسميه «ثورة تجريدية في عالم الأديان»، أي، وفقاً لرؤياه الالتزام بالمثل وبالمبادئ الموحدة فوق كل انحياز ضيق الأفق إلى حزبية الطوائف والمذاهب. ويجب علينا هنا أن نلتقط الإشارة بأن قلب الإمام، هنا أكثر من أي مكان آخر، كان، كما يقال، «على لبنان»، بل كان اللبناني في الصميم، وفي القيمة الموضوعية لهذا الالتزام، أراه يرقى فوق الميثاق الوطني ذاته، لأنه بمقام الروح فيه، فما ينفع الإنسان إذا ربح الميثاق وخسر وطنه نتيجة التحصن خلف أسوار الطوائف والعصبيات المذهبية؟».

وختم: «أراني مندفعاً إلى القول بأن الإمام على وشك أن يقول لكل اللبنانيين اليوم: عودوا إلى الوراء كأنكم تتقدمون إلى أمام، ومن يقرأ «نداء التغيير» الذي تمت صياغته عام 1972، ومن ثم «ورقة العمل» عام 1977 التي تضمنت ملاحظات أساسية في بناء لبنان الجديد، لفقه هذا القول ومعناه. واسمحوا لي أن أقول بأن تلك النصوص تنحو المنحى الصادق في سياق التفاعل في رؤية وطنية متكاملة، لا على قياس تحالفات، ولا على وزن أوضاع سائدة، وإنما هي الرؤية التي تريد أن تتشبث بصخر الخلاص لا أقول خشبته. والرجاء أن يتفاعل المؤتمر في بحوثه في عمق هذه الرؤية ليظل الصوت عالياً لمن له أذنان ولمن ألقى السمع وهو شهيد».

أما المطران كيرللس بسترس الذي ألقى كلمة بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام فقد حيا المشاركين في المؤتمر متمنياً له النجاح، ومما جاء في كلمته: إننا إذ نحيي في هذا المؤتمر ذكرى الإمام المغيب موسى الصدر، ونستعيد أفكاره وتطلعاته من أجل ازدهار لبنان وسائر البلدان العربية، وإنماء كل إنسان فيها من أي دين كان وإلى أي طائفة انتمى؛ نتوجه إلى جميع المواطنين مسلمين ومسيحيين مرددين قول القرآن الكريم: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}. وهذه الكمة السواء هي أولاً أن نعبد الله، نؤمن كلنا، مسيحيين ومسلمين، بأنه إله واحد، لا إله سواه، مهما تعددت التعابير التي من خلالها نعبر عن وحدانيته، ومهما تنوعت الطرق للوصول إليه. هذه العلاقة بالله هي التي تحدد معنى الإنسان وتضع الأساس الثابت للعيش بسلام. وهذه الكلمة السواء هي ثانياً محبة القريب الذي خلقه الله على صورته ومثاله، تلك المحبة التي هي البرهان الوحيد على أننا نحب حقًّا الله ونتَّقيه، كما قال القديس يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولى: الله محبة، فمن ثبت في المحبة ثبت في الله، وثبت الله فيه...

وأضاف: أيها المسلمون والمسيحيون في الشرق العربي، «تعالوا إلى كلمة سواء» فيما بيننا، ألَّا ينظر بعضنا إلى بعض من وجهة نظر اختلافنا الديني، ولا من وجهة نظر الأكثرية والأقلية، بل من حيث إننا جميعاً مؤمنون بالله الواحد ومواطنون في الوطن الواحد، متساوون في الحقوق والواجبات، مهما كان عدد أبناء طوائفنا. لا ينبغي للأقليات أن تبحث عن الحماية الخارجية بل عن المساواة، لأن الحماية الخارجية تفصل المواطنين بعضهم عن بعض. أما المساواة فهي السبيل الوحيد لربط جميع المواطنين بعضهم ببعض...

وأضاف: «هذا ما آمن به الإمام موسى الصدر، رائد التعايش المسيحي الإسلامي وأول إمام مسلم يخطب في الكنائس وفي معاهد اللاهوت المسيحية. وما كان ذلك إلا رغبة منه في تأكيد ضرورة العيش معاً بل التعاون بين المسلمين والمسيحيين في وطن أراده موحداً ينعم فيه جميع مواطنيه، على تنوع طوائفهم، بالحرية والكرامة على أساس العدالة والمساواة والإنماء المتوازن بين جميع المناطق اللبنانية ورفع الحرمان عن جميع المحتاجين.

وختم كلمته بقوله: أود أن أقرأ عليكم بعض ما جاء في النداء الذي ختمنا به سينودس الأساقفة الخاص بالشرق الأوسط في روما في تشرين الأول من العام الماضي. يقول النص: «منذ ظهور الإسلام في الشرق الأوسط في القرن السابع وإلى اليوم نعيش معاً ونتعاون في بناء حضارتنا المشتركة. لقد حصل في الماضي، وقد يحصل اليوم أيضاً، بعض الخلل في العلاقات بيننا. فعلينا، بالحوار، أن نزيل كل سوء فهم أو خلل...».

ثم تحدث ممثل نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان فقال: «لأن القلة من الرجال هم الذين يفككون روح الحرف الرباني، ليتراكم غيثاً تحيا به الذوات والأوطان، فإن الإمام الصدر، أعاده الله تعالى، وهو يحج مطافات الإنسان، أرخ لهذا النحو بشرح عميق حول بناء الوثيقة الاجتماعية السياسية في مدار مصالح الإنسان التي تتقاطع مع فقه الوجود، فعند قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}، قرر الإمام أن لسان هذه الآية أعلن رئاسة الإنسان في الأرض وزعامته على فيها من إمكانات وموارد وطاقات، وهو مما لا شك فيه مقام شريف خصه الله به، إلَّا أنه يعني بذلك اشتباك المصالح بين أفراد نوعه وأطره، وعلى رأس هذه الخلافة موضوع السلطة والثروة كمحور للشراكة البشرية وطريقة للنفع العام. وهذا ما أكده الله تعالى بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. ولازم هذا المعنى أن الاستبداد السلطوي بالثروة وأنماط وكيفيات الحكم هو كفر بالأخلاقية الوجودية، وعدوان صارخ على الله والإنسان. وقد أرخ الإمام هذا المعنى كمبدأ في قول الله تعالى لنبيه داود (عليه السلام) {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}، وللإمام الصدر طيلة مطالباته الجذرية بتكريس قيمة الإنسان كلمات في غاية الأهمية، فهو كرر أن يد الكون والطبيعة تدين تكريس الطبقية كمركز للاحتكار السياسي والإفقار الاجتماعي».

أضاف: «وزمن فتنة الدم اللبناني، طالب الإمام مراراً، بتكريس المواطنة وهي الاسم الآخر للأنسنة عند الإمام كمحور لخدمات السلطة التداولية وبرامجها، مصرًّا على ضرورة التداول الجبري لمركز القرار كطريقة تمنع الأثرة السلطوية، وتحد من مقولة البيوتات كسقف للعمل السياسي، مكرراً الحديث النبوي «إن الملك يدوم مع الكفر لكنه لا يدوم مع الظلم». وفي الحوارات الداخلية كان الإمام الصدر يكرر إن احتكار السلطة هو السرطان الذي يقتل صاحبه ويفك عنه ألف حصن من الجيوش، بمعنى أن هذه الجيوش تتحول عليه لتقتله بسيف حقها وفقرها. وللإمام في المجالس الخاصة أفكار مدهشة حول العدالة الاجتماعية، فهو طالما كرر أن الطبقة الفقيرة هي رأس محنة الميزان الاجتماعي، مؤكداً أن الفقر هو أكبر عدو للسلطان، وأنه القاتل الذي يخترق الحصون ويسحق الأنظمة، وأن الوطن الذي يجوع شعبه ويشبع سلطانه هو أوهن من بيت العنكبوت، وأن الأمة التي تسكت عن جلادها لا حق لها بالحياة، وأن الزعامة التي تعيش على سرقة مال الشعب وتجيير المصالح واحتكارات العائلة ترتكب أكبر خيانة بحق شعبها وأمتها، مذيلاً أن من يواكبها ويقويها ويدافع عنها هو قاتل خائن بحق أطفاله وشعبه ووطنه. وعن مشهورة الإمام علي (عليه السلام): «عجبت لمن بات جائعاً كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه» علق الإمام الصدر: إن جوع الفقير وعسف الحاكم يتلف ألف نظام وسلطان».

ثم انطلقت أعمال الجلسات بعد الظهر، فافتتح المحور الأول من المؤتمر بجلسة بعنوان «التغيير من منطلق الفكر الديني»، ترأسها الأمين العام للجنة الوطنية الإسلامية - المسيحية للحوار الدكتور محمد السماك، وشارك فيها: مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية الدكتور ستيفان ليدر وسفير المغرب علي أومليل والدكتور محمد شقير.

وتطرق المحور الثاني إلى التغيير الاجتماعي، وترأس الجلسة الوزير السابق سليم الصايغ، وشارك فيها: الوزير السابق دميانوس قطار، أمين السر العام لـ«مؤسسات أمل التربوية» الدكتور خليل حمدان، والنائب الأول لحاكم مصرف لبنان رائد شرف الدين.

وتناول المحور الثالث التغيير السياسي، وترأس الجلسة الرئيس حسين الحسيني، وشارك فيها: القاضي الشيخ عباس الحلبي، الدكتور بسام الهاشم والنائب علي فياض.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة