تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المشهد السياسي المغربي المعاصر : قراءة في الجغرافيا السياسية المعاصرة

الدكتور عبد الفتاح أبو العـز

*

* أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض، الكلية المتعددة التخصصات بأسفي.

تمهيد: المنطلقات والأهداف

نظراً لتعطل تأسيس العلوم الإنسانية والسياسية المعاصرة ببلادنا من جهة، وبفعل التفاعل الوطني مع ما نعيشه منذ استقلال البلاد إلى الآن، ومنذ التوقف المؤقت لقطار العولمة لفترة ما بين 1917 - 1990، واستئنافه السير المتسارع حاليًّا من جهة ثانية، ونظراً لسطحية ما يكتبه بعض «الخبراء الاستراتيجيين» الذين يختزلون تشخيصهم في التواصل اللغوي تحت حدوده الدنيا من جهة ثالثة، إلى أي حد استطاع المغرب المعاصر تشكيل مشهد سياسي مواكب لزمنه؟ مشهد مؤطَّر ومؤطِّر، ومواكب للواقع المعيش، واستشرافي ومتجدد ومستدام؟ وبالتالي مفارق للمشهد السياسوي المتربص به؟

لكن، وقبل الإجابة عن هذا السؤال الكبير، ماذا نقصد بمفاهيم السياسة، الحزب، والمشهد السياسي؟

نقصد بالسياسة، التسيير والتدبير اليومي، واللحظي للشأن المحلي والوطني، في إطار تفاعله مع الكوني. تسييراً منظماً ومفتوحاً ومتداخلاً مع جميع تخصصات علوم الإنسان والمجتمع والبيئة، محركه الأساس يتمثل في الأحزاب السياسية، هذه الأخيرة التي نعتبرها منظومات لا تنبث وتكبر إلَّا بموازاة تشكل المجتمع التراتبي الحديث، المستند إلى مرجعية الإنسان الاقتصادي. فلا تحزب داخل مجتمع الطائفة أو القبلية، أو العرق أو المشيخة أو غيرها من الحركات المبنية على العنصر الوحيد، أو على النزعة المتفردة والمنغلقة والضيقة.

ويبقى المشهد، كمفهوم علمي وجغرافي بامتياز، يشمل المرئيات والمخفيات، بمعنى المنظومة المعلنة والممارسة في الواجهة، ومنظومة إسنادها المؤطرة لها التي تبقى مضمرة. الأولى تبدو وتتغير والثانية تستمر وفق تطور تاريخاني توليدي واستباقي. بعد هذا التقديم الوجيز، اقترح تناول الموضوع من خلال ثلاثة مراحل متعاقبة، سأختمها بخلاصة تركيبية مفتوحة:

1- المشهد السياسي المغربي المعاصر: قراءة بنيوية.

2- المشهد السياسي المغربي المعاصر: قراءة وظيفية.

3- المشهد السياسي المغربي المعاصر: مشهد تاريخي لا تاريخاني.

4- المشهد السياسي المغربي المعاصر: درس التجربة والانفتاحات المستقبلية الممكنة.

-1-
المشهد السياسي المغربي المعاصر: بنى حزبية مشهدية مفككة

وسأقارب هذه البنَى من خلال شبكة تفاعلية من ستة متغيرات ومعايير سكونية تتفرع من المجرد إلى المشخص، إلى أبعاد ومؤشرات. وستكون المقاربة مقارنة لزمنين، الزمن السيار، والزمن الانتخابي، وهي: الكم والكيف الحزبي، ثم الجينيالوجيا، والقيادة، والهيكلة، والبرمجة، وفي الأخير عمل المرأة.

1.1- كم كبير وكيف متواضع

منذ القرن العاشر الميلادي إلى اليوم عرف المغرب ظهور أربعين زاوية، وذلك بشكل غير متزامن، وبانبثاق ومباركة السابق للاحق، واحترام الفرع للأصل.

إلَّا أن الوريث المفترض للزوايا اليوم والمتمثل في الأحزاب السياسية، لم يتجدد وفق حاجيات الحاضر والمستقبل، بقدر ما تناسل بديمغرافيا عالية تتراوح بين الامتداد والتفكك بشكل يسبق أي تطور طبقي حقيقي. وكلما تشرذم الكم المتزامن عقم الكيف.

إن وضعية كهذه قد تفضي إلى تقاطبات، لكنها تبقى تجميعيه، تجاورية، وظرفية وهشة، بعيدة عن النمط المتداخل والمتناهج، مما يذكرنا بآلية السخرة والاحتماء بالعدد كآلية من الآليات الدفاعية للمجتمعات الموروثة المؤطرة بنظام القبلية أو الزاوية. وهي آلية توظف اليوم في غير زمنها.

لذلك يتم إعلاء المصاهرات والزبونيات العائلية، دون تركيز للمصالح الاقتصادية والبرمجية. وتستمر أحزاب هذا النمط بفضل الإعانات الدولية، أو الدولاتية، أو من طرف بعض الأعيان أو باقتطاعات برلمانيي الحزب.

2.1- الجينيالوجيا: الولادة والتطور

إذا استقرأنا التجربة الحزبية المغربية نلاحظ أن 25% منها ظهرت بفعل تأسيسي، مقابل 50% منها تولد بالانشقاق العنيف كلاميًّا أو ماديًّا أو بأحدهما، في حين نجد أن 9% منها ظهر بالانبثاق على طريقة الزوايا.

أما النسبة المتبقية (16%) فقد أسستها الدولة لسد عجز الأحزاب الموجودة دون أن تستطيع ذلك لحد يوم الناس هذا.

لا تتعدى مدة انشقاق الحزب معدل خمس سنوات في الغالب، من ممارسته الحكم بالقوة أو بالفعل، حيث تنشط آلية صراع الأجيال في غياب التناوب الافتراضي داخل هذه الأحزاب.

ولحد الساعة يُمارس جل الأحزاب تراقص وتضارب المعايير في اقتراح وتزكية المرشحين للبرلمان، أو للاستوزار، أو داخل هياكل الحزب الأساسية، حيث يطغى مرة معيار «الأقدمية النضالية» وأخرى معيار القدرة على تمويل الحزب من طرف بعض الأعيان، ونادراً ما تمارس الكفاءة السياسية أو العلمية كمعيار محدد مثل ما هو عليه الحال بالبلدان المتقدمة. بدأت هذه الانشقاقات بالتصفية الجسدية في سنوات الاستقلال الأولى، وتتم اليوم بنصب المقالب والدعاية والتشهير...

وعلى العموم تتميز ديمغرافيا الأحزاب الوطنية المغربية بالارتفاع لحد الإسهال السياسي الذي يفقدها الدعم القاعدي الكتلي بأرضية الواقع.

3.1- القيادة: سمات وملامح أساسية

وتتسم بالفردية، مرجعيتها منطق وعقل الاسم المتجمد، لا عقل الفعل المتجدد، تتأرجح بين عقلية وسلوك الشيخ، أو الزعيم الملهم وإذا ما تأسس حزب جديد فإنه يبحث عن تغطية اسم مقاوم للاستعمار...

ويبقى القادة عبارة عن «شخصيات مركبة»، حيث يضاف إلى أسمائهم لقب «سي فلان» أو «مولاي فلان» لإضفاء نوع من القداسة الموروثة عن شيوخ الزوايا، وإن كان القائد يقود حزباً شيوعيًّا أو ليبراليًّا كما يدَّعي!

يُقَادُ الحزب بواسطة المعدل الحسابي للقادة الموزعين على هياكل الحزب، ويعمر القائد في منصبه طويلاً، وإن شارك في الحكم فإنه لا يمل من معاودة المشاركة وإن بالحد الأدنى من قدراته الصحية. ويبقى القادة خارج منطق المحاسبة، أو النقد، وإن ظلوا يطالبون بمحاسبة الدولة وأجهزتها.

4.1- الهيكلة: الهدف والآليات

تمارس بمنطق القادة، وتجمع بين التوريث الخفي أو المرئي، أو بالإقصاء أو بالإبعاد، تحت دريعة «أرض الله واسعة».

وبهذا الشكل يبقى أفق الانتظار طويلاً ولِتظلَّ الديمقراطية المقصي الأول في هذه الممارسة، وكذلك التداول السلمي المبني على الكفاءة العلمية.

نعم قد تلجأ هذه الأحزاب إلى الانتخابات، ولكن بعد انتقاء المؤتمرين المصوتين في المؤتمرات غير المنتظمة.

وإن استعصى بلوغ القادة هدفاً معيناً، تعقد المؤتمرات في جلسات ماراثونية تتعمد الإتعاب أو الإنهاك العصبي، لتنتزع المواقف في ظروف لا إرادية وغير سليمة، تؤدي إلى تجميد العديد من المؤتمرين لعملهم الحزبي بعد العودة من المؤتمر، سواء بشكل معلن أو في صمت،الشيء الذي يعلي نسبة العزوف السياسي المنتشر اليوم. ولاسيما لدى الطبقات الوسطى والفئات الشبابية، وفي الوسط الحضري بشكل خاص.

5.1- البرامج: ضحالة فكرية وتشابه في المضامين

وتتميز بالتناسخ البرمجي المتناسل عموديًّا، والتضاد المتكاثر أفقيًّا، ذلك أن برامج الأحزاب تتشابه خلال كل موسم انتخابي مستعملة الكلمات الرائجة نفسها، والممسوخة أو المسلوخة عن جسدها النظري العلمي دون إدراك أبعادها المفاهيمية، كالحديث عن التنمية المستدامة، والتدبير التشاركي، والتنمية المندمجة، والتدبير الاقتصادي، والمقاربة الشمولية، والجمع بين نمط العيش ونمط الإنتاج.... وفي الوقت نفسه يتناسى كل حزب أن «برنامجه» الحالي متطارد مع برامجه الساب قة دون نقد أو احتواء أو تجاوز مبين ومعلن، حيث يسود الترحال النظري بين قيم متضاربة، مما يؤدي إلى انحراف وانتقاء تأطيري، ونتعجب لماذا الترحال السياسي! وفي ذات المعنى نجد حزباً يساريًّا يؤطر موظفي الفئة الوسطى وبعض الأعيان، لأن طبقته العمالية لم تتشكل بعد، والموجود منها لا وعي طبقي لديه، ويسعى اليمين إلى إرساء تعادلية دون زرع آليات تشكل وتأطير الطبقة البرجوازية المرتقبة والتي طال انتظارها. وتبقى الأحزاب الصغرى، أحزاب نزعات متداعية الأهداف ومتلاشية لا أفق لها.

6.1- المرأة: النضال السياسوي بالمؤنث

تتسم مشاركتها بالضعف الكمي والكيفي، رغم أن الجميع يردد أن المرأة نصف المجتمع مع الاستدلال بالاستثناءات التاريخية المقبولة في وقتها، وتمديدها كنمط تعليلي على عصر حديث لا يطابقها، ليمارس الجميع: «المرأة أقل المجتمع». فالكوطا مسقطة كدلالة على امتداد وتجدد وأد البنات في عصرنا الجاهلي المتجدد، خاصة وأن المناضل الحزبي لا يسمح لزوجته أو ابنته، بمشاركته الحزب نفسه أو غيره؟، ويفضل استقطاب النوع النشاز من النساء المنفرات من أي عمل سياسي متنامٍ، لأن المشهد السياسي المغربي يكرس النضال بالمرأة لا مع المرأة. وبناءً على كل ما سبق، نركب الملاحظات التجريبية الآتية، والتي تشكل خمسة امتدادات ستتفاعل بالسلب مع البعد الوظيفي:

* أحزاب متعددة كمًّا لا كيفاً، مترددة بين تقليد الزاوية أو الحزب الغربي الروسي، أو الفرنسي/ الإيطالي والإسباني. وهي كلها نماذج لا ترقى إلى الحزب الأنجلوسكسوني المتطور، وليحيا المشهد السياسي المغربي على مفهوم المستقبل الماضي.

* نعم لقد تجاوزت أحزابنا النموذج الخليجي أو الشرقي الطائفي أو القبلي السائدين بمشيخات الخليج أو لبنان، أو «بالمشيخات» العسكرية بالجزائر وسوريا والعراق سابقاً، لنقترب من النموذج الأوروبي المتأرجح بين الهيئوية في فترات الأزمات والطبقية في فترات الازدهار.

* لازال الطريق شاقًّا وطويلاً نحو النموذج الأنجلوسكسوني المتطور كنموذج طبقي تناوبي مادي/ اجتماعي.

* بنى حزبية هشة، مفككة داخليًّا، برامجها انتقائية سهلة التشرذم يطغى تردد انشقاقها على تردد تجدد تأسيسها.

* تحالفاتها تجميعية بعد انشقاق سابق تولد عنه حزب مؤسس وآخر منشق، مشهدها متوافق ومِيتَا مشهدها مفارق، مثلما توضح تجارب العديد من التحالفات والاندماجات المعاصرة في العشرية الأخيرة.

-2-
وظائف محدودة وسطحية: قراءة في بعض المتغيرات الأساسية

وسأمارس مرة أخرى قراءة وظيفية لستة متغيرات دينامية وخارجية: الأسرة والمجتمع، المدرسة والجامعة، الإعلام، الشارع، المقهى، والعلاقة مع المحيط الدولي.

1.2- أسر مفككة ومجتمع هيئوي/ عصبوي

تتميز الأسر المغربية بمشهد فرداني نووي يخفي مِيتَا مشهد ممتد، يفرز شخصية ضعيفة ومتقلبة الولاء، حيث تتدخل المرأة في كل شيء إلَّا السياسة، تربيتها لا متكافئة مع الذكر إِذْ البنت لتجربة أمها، والابن للأقران لأن الأب غائب أو مغيب باستمرار. وفي هذه الوضعية يبقى الفطام مؤجل، وعند البلوغ ينخرط الفرد في السياسة باحثاً عن أم حزبية حيث تمدد ثقافة القرابة لا الكفاءة في التصويت.

والكل في إطار مجتمع هيئوي لا طبقي، سيولته قفزية وتراقصية نظراً لطغيان الامتيازات الريعية أو العاطفية. تتناسل الشركات لكنها بمسؤوليات محدودة، تعيقها دورة حياة صاحبها، والتي تنتهي بتشرذمها بعد وفاة صاحبها. نعم يغتني الأفراد لكن وفق سرعة زمنية لا تأثرية. لذلك فإن المستخدم مع الطبيب، أو المحامي لا صفة معاصرة لديه، لأن نمط تشغيله متقلب ومركب مما يطبع الحزب والنقابة والجمعية بذلك. فضلاً عن العديد من المرافق والمؤسسات الاجتماعية...

إن وضعية كهذه تعيق دخول مجتمعنا حقبة الإنسان الاقتصادي، لتظل الحدود الطبقية مبهمة وخاصة منها «الطبقة الوسطى» التي تعاني من غموض وانزلاق حدي القياس، ومع ذلك نتعجب لظاهرة الترحال الاجتماعي المكرس للعزوف السياسي، الذي أصبح من بين أهم السمات المميزة للسلوك السياسي والانتخابي في المغرب المعاصر.

2.2- المدرسة والجامعة: الأَزمة المتفاقمة

لا شك في أن تعليمنا ومدرستنا وجامعتنا أَنظمة عرفتْ تفككاً متواصلاً منذ الاستقلال إلى اليوم، وأسماء الأنماط التعليمية لا تعكس مضامينها التي أفرزت ثلاثة أشكال:

* التعليم العمومي، استقطابه مفتوح، تعليم مكتظ، هدر عالي وكيف منخفض، ونقص تأطيري بيِّن كمًّا ومنهجاً، تقويمه مصادر على المطلوب، آخر ضرباته القاضية المتلقاة والتي لا نتوقع انعكاساتها المستقبلية «المغادرة الطوعية» التي أخرجت ومورست بأسوأ طريقة. وانحرف الإصلاح الحالي بما أقبر العلوم الإنسانية التي من دونها لا يمكن تأطير أي عمل سياسي أو قانوني. هذا الاندحار الذي اختتم بمخطط استعجالي ميت ومتضارب.

* المدرسة والجامعة الخاصة: تتقوى كمًّا، مع كيف أعلى تحت الطلب المتزايد. لكن استيعابها محدود، أكثر تجهيزاً وغير مكتظة، تنتقي المؤطرين من التعليم العمومي الذي تتطور على حسابه.

* التعليم اللاشكلي: بين النوعين الشكليين السالفين، تبلور شكل هلامي، يؤطر أزيد من نصف تلاميذ الشكل العمومي المنتمين لذوي الدخل المتوسط، يشتغل في المنازل أو تحث أسماء وهمية لجمعيات الدعم والتقوية بما يمكن أن نسميه «بتبييض التعليم». وبين الأشكال الثلاثة ترتفع نسب الترحال التعليمي للتلاميذ والطلبة والمدرسين، مع ممارسة أكثر من شكل في الآن نفسه، مما أفرز ويفرز نمطين من المتخرجين: نمط المتخرج العلمي وهو نتاج لشعب الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء والطب، وعلوم المهندس، مناعة مقرراتها أقوى لأنها مستقلة أيديولوجيًّا عن الخصوصيات المحلية، وتخضع بالكامل للتحولات المعرفية الكونية، ويتميز هذا النمط بنوع من الندْرة.

ويتعلق النمط الثاني «بسواد الأمة» المرتبط بشعب العلوم الإنسانية والآداب العربية خاصة، المتشبثة بأنماط معرفية منهجية انتقائية ومتجاوزة تحت غطاء الحفاظ على هوية محنطة.

3.2- الإعلام والصحافة: آليات الاشتغال

يعرف مشهدنا الإعلامي تناسل الصحف والمحطات الإذاعية مع تواجد ثمانية قنوات فضائية أو أرضية.

فبالنسبة للصحافة، تتميز بكثرة حوادث سيرها وبارتفاع ولاداتها ووفياتها مع توالد الصحف الخوادج. أمد حياتها قصير، ينزلق الصحافي من مهنة المخبر الإعلامي ليسطو على تخصصات علوم الإنسان المغيبة بالمدرسة والجامعة، مثلما يسطو المتخصصون في اللغات على مهنة الخبير والمحلل الاستراتيجي.

تتناسل بالانشقاق، سيولتها اللفظية عالية مقابل ضمور السيولة الاجتماعية والطبقية والتكوينية بتعليمنا، كوجيطو وجودها هو: «أنا أثير وأبيع أكثر، إذن أنا موجود». ويبقى الإعلام المرئي تلقينيًّا، تجديده تقني ونادر يكرس البرامج الفارغة مع إقصاء شبه تام للبرامج الثقافية النادرة والمبرمجة لآخر الليل.

4.2- الشارع

تحتل مقرات الأحزاب المواقع والمواضع القديمة والهشة، المقفلة معظم الوقت والمليئة بالقرضيات، صيانتها ضعيفة، منعدمة الأرشيف، ثقافتها السياسية شفوية، لا تكاد تؤدي فواتير الماء والكهرباء، تفتح في المواسم الانتخابية. نعم بدأ بعضها يهتم «بهندام» المقرات في السنوات الأخيرة باستغلال الريع المادي لبعض الجهات الممولة، مع ابتعاد المقرات عن أماكن تواجد المنخرطين.

ولدعم الحزب يفرض اقتطاع حزبي على أجر البرلماني، الشيء الذي سرع من ظاهرة الترحال السياسي. ويبقى مقر الحزب أو فروعه النشاط الأقل جودة وإخراجاً بجانب الأنشطة الأخرى المحتلة لأجود المواقع والمواضع. وبهذا يكف الحزب أن يكون في توجهاته وهيئاته ومقراته... فضاءً للتربية وللتكوين السياسي والاجتماعي للمواطن.

5.2- المقهى والثقافة السياسية: التأطير العَفْوي للموطن

لقد اعتبرنا المقهى في المغرب -منظوراً إليه من زاويته سوسيولوجية- فضاءً مهمًّا، دوره أعلى من دور المقرات الحزبية لأنه يؤطر اليوم بشكل ما أزيد من نصف المجتمع السياسي، ويشكل ملاذ معظم العازفين عن السياسة.

ويتميز « تأطير» المقهى بطرد المواضيع بعضها لبعض، وطغيان الأحكام الظنية، ومجال «مناقشة» مواضيع تحددها تلك الصحافة الموصوفة أعلاه، مع إقصاء لأي خطاب افتراضي أو احتمالي، مما يكرس الخلط وفق مبدأ «الكل سياسة» الذي يجمع بين «العلمي» والرياضي، والفني، والفلسفي والسياسي... ويحتل ذلك معظم وقت الفرد على حساب عمله. وفي هذا الإطار تناقش الأزمة العالمية الحالية بأنماط تعليلية لأزمات سابقة، وتصور العديد من الهزائم والانكسارات العربية في شكل صمود وانتصارات يحتفل بها!.

6.2- العلاقة مع المحيط الدولي: محاولة في نمذَجة التشكيلة الحِزْبية بالمغرب

ومازال المغاربة يخلطون بين ما هو وطني وعربي وإفريقي وغربي، مصالحهم مع أوروبا، وقلوبهم مع بلدان عربية تمارس نماذج فاشلة. ويستغل العديد من «السياسيين» القضايا العربية لتحقيق مكاسب سياسية محلية. ويركزون على العدوان الخارجي الثانوي والوهمي، مع إقصاء العدوان الذاتي المرتبط بتكريس آليات تجدد التخلف.

وهكذا، نجد مرة أخرى أن المؤسسات والمتغيرات الستة تكرس الاختلاف في الأسماء، والتوافق في الأفعال والممارسات السلوكية السياسية المتسمة بالسمات الآتية:

* تتميز الصيرورة السياسية المغربية بالانشقاق الذي يتلوه انشقاق الانشقاق، وإن حصل الترميم فإنه لا يعوض اللصاق السطحي لتلك الصلابة الأولى المفتقدة.

* تتميز الوظائف السياسية بطغيان ثقافة الامتداد وضمور الفردانية المبادرة، وتأجيل الفطام وسيادة النوازع، والحكم بالظن، ليبقى الجسم الحزبي يتغذى بحبل الوريد الريعي.

لكن، بعد كل هذا التحليل البنيوي والوظيفي ما هي الأشكال الحقيقية للأحزاب المغربية؟

بما أن المفهوم العلمي، النظري والتطبيقي للحزب الممارس، لم يتأسس عندنا بالمستوى المتقدم، فإن التجربة المغربية أفرزت تشكيلة حزبية لا تتعدى أربعة أشكال رغم تمظهرها في 34 حزباً مرئيًّا، وهي:

الشكـل الأول

يجمع الأحزاب القديمة الأولى، التي شاركت بوضوح ضمن الحركة الوطنية أو تلك التي انفصلت عنها في بداية الاستقلال، شكل انتقائي ومركب، سلفي نحو الشرق أو نحو الغرب الرأسمالي أو الاشتراكي.

* ناضل من أجل التفرد بالسلطة في إطار الحزب الوحيد معتبراً التعددية ترفاً سياسيًّا يبدد الجهود والموارد، دخل صراعاً مريراً من أجل ذلك، انتظر طويلاً وشاخت بناه، وتجمدت هياكله، إلى أن قبل متأخراً وعلى مضض بالتعددية التوافقية. يتراجع اليوم نحو توظيف القرابة والمصاهرة داخليًّا وخارجيًّا من أجل الاستوزار، تدحرج شيوخه من رتبة الوزير الحقيقي إلى الثانوي إلى الوزير دون حقيبة، يتراقص بين حزب «البرنامج» وحزب «النزعة»، وتجدده الحقيقي لن يتحقق إلَّا إذا انقلب بالقطيعة مع، وعلى نفسه، وهو حل استدراكي محتمل وممكن. مازال يعالج صراع الأجيال بالإقصاء أو بالتوريث.

الشكل الثاني

الأحزاب النوابض المحتوية للنزعات: ينتشر هذا الشكل كلما استمر الأول في رتابته السياسية، شكل يدبر أزمة تخارج أزمنة الأحزاب السابقة الذكر باحتواء النزعات التي تطفو على السطح لانحباس تأطير الشكل الأول. ونذكر هنا جبهة الدفاع عن المؤسسات التي حاربت الحزب الوحيد، والحركة الشعبية الأولى التي أطرت النزعة الأمازيغية في إطار الوحدة الوطنية، والحركة الشعبية أو العدالة والتنمية التي أطرت وهذبت النزعة الدينية.

الشكل الثالث

الأحزاب/ الأرانب: هي أحزاب صغرى ومجهرية، معظمها منشق عن حزب سابق، فشلت في الانتشار، ولا تمتلك شجاعة التراجع، وتحولت نحو وظيفة أرانب السباق الانتخابي إزاء «الأحزاب الكبرى» وتستمر اعتماداً على الريع السياسوي، في ظل غياب فعل الاستثمار والرسملة السياسية الحقيقية وهي نوعان:

أحزاب الريع المادي: تساند في الخفاء الأحزاب «اليمينية» المسايرة لها ببيع التزكيات الانتخابية عند تضارب أكثر من مرشح من الحزب نفسه حول الدائرة الانتخابية نفسها، مع التزام المرشح «الناجح» بالعودة إلى حزبه الأصلي بعد الانتخابات.

أحزاب الريع العاطفي: تحيا على أمجاد الماضي النضالي اليساري، انشقت تحت ذريعة مقاطعة الانتخابات، في حين أن آلية انشقاقها يعود لعدم الاستوزار، أو عدم الحصول على منصب هام بحكومة التناوب وما تلاها.

لكن بعد نجاح أحد أو بعض مرشحيها، يساند فريق الحزب الأصلي أو ما يقاربه من أحزاب يسارية أخرى.

الشكل الرابع

الأحزاب المستحدثة: تأسست من طرف الدولة لحاجة ملحة تتعلق بتأطير الطبقة الاجتماعية العليا المنتظر تكوينها من طرف الدولة، وذلك لتعويض فراغ وضعف وانحراف الأشكال الأخرى.

* شاركت في الحكم، إلَّا أنه بفعل دعم الدولة لها، تقاطر عليها السياسيون بكثافة بوازع الطمع في الاغتناء، لتصاب بفيروس صراع الأجيال والانشقاق بعد تكلس قيادتها. إذ «الطبقة» الغنية المغربية لم ترقَ إلى المستوى الليبرالي المطلوب فكراً وممارسةً، آخرها حزب الأصالة والمعاصرة الذي انقلب بسرعة إلى نسخة باهتة لهذا النمط الحزبي.

حاول هذا الحزب تحفيز ومنافسة الأحزاب الأخرى، وحاول إعداد تقرير عام لمقترح الجهوية إلَّا أنه ظهر أنه أضعف من سابقيه، مما أدخل البلاد في مرحلة استدراكية علها تستطيع استكمال الانتقال الديمقراطي المتعثر اليوم بفعل هذا الحزب.

بل إن معظم قيادييه لا يتعدى تكوينهم تخصصاتهم الضيقة المفتقرة إلى التداخل مع العلوم الإنسانية، ولم يسلم هذا الحزب بدوره من وازع الطمع.

الشيء الجديد الذي أفرزه، يتمثل في ردود الفعل الآتية: إما الصمت والمهادنة قبل دخول الحزب في معارضة الحكومة، ثم الانتقاد الشديد بعدها الذي وصل حد نعت هذا الحزب بالفيروس عبر برنامج حواري في القناة الثانية، أو التوقير ثم الانتقاد بعد اندلاع الغليان العربي في الآونة الأخيرة.

وهكذا نلمس أن التوقير، المهادنة، ثم الانتقاد الحاد، ثم البناء للمجهول «الوافد الجديد»؛ كلها لا تنتمي إلى السلوك السياسي العقلاني والاستشرافي، بقدر ما تعكس التضارب والغموض.

-3-
المشهد السياسي الحِزْبي المغربي تاريخي لا تاريخاني: في بعض جذور التَّحزُّب بالمغرب

سنعالج في هذا المحور أصول التحزب في المغرب، لرصد مكامن الاختلالات الزمنية والكشف عن منافذ الاستدراك بالإصلاح أو بالقطيعة. وبصفة تركيبية عرف المغرب في تطوره التاريخي ثلاثة حقب تاريخية:

1.3- حقبة الدولة السلطانية: رؤية تاريخية

وتمتد منذ الفتح الإسلامي إلى بداية القرن العشرين، حيثُ عرفت البلاد تنظيماً مزدوجاً، اتسم بتطور موجب بالقياس إلى تلك الحقبة إلى حدود القرن 14 وبداية 15م حيث سيدخل مرحلة جمود بعد ذلك.

نعم ظل الحكم مركزيًّا في إطار نموذج الدولة السلطانية، التي تعتمد على الكسب التجاري بعيد المدى للمواد الفلاحية والصناعية والحرفية من سكر، وألجمة، وجلود وألبسة، وذهب وملح البارود، وهي مواد استراتيجية في إبانها. مورست هذه التجارة بين المغرب وإفريقيا، وبينه وأوروبا.

واكب النظام الفكري والثقافي تجدده من الزيدية تم الشيعية، تم السنية الأولى والأشعرية، تم السنية من جديد.( بوست سنة سنة - نيوسنة).

مورست هذه التجارة بعقيدة منفتحة فرض بواسطتها المغرب «عولمته». لمدة قرنين (11-12م) متواليين، وامتد محافظاً على وزنة الدولي قروناً أخرى.

امتدت الخريطة المغربية على عهد المرابطين من نهر السينغال جنوباً إلى الأندلس شمالاً. وعرضاً من المحيط إلى جزائر بني مزغنة. ثم توسعت على عهد الموحدين شرقاً لتشمل كل المغرب العربي الحالي بالإضافة إلى الأندلس.

وفي الإطار نفسه، سمح ازدهار النظام المركزي بانفتاح جهوي أطرته الزوايا كشكل قديم للتحزب لفترة ما قبل العصر الحديث، إذ خففت الدولة ضرائبها على الجهات نظراً لفائض تجارتها الخارجية.

انبنت هذه الزوايا على وحدة العقيدة، مذيبة لكل تباين قبلي أو إثني أو طائفي، إذ ظلت تمارس التأطير والإطعام والمساعدات إبان فترات الجفاف والأوبئة، وذلك على عكس الجزائر التي اعتبرت القرصنة جهاداً وأضاعت فرصة الكسب المتدرج الرافع لكل تقدم منشوذ!

إلَّا أن هذا النظام لم يعرف التحولات المطلوبة، التي التقطتها أوروبا الغربية والمتمثلة في الاكتشافات الجغرافية والعلمية وما تلاها...

ونظراً للنجاح المحلي المغربي الجهوي والدولي تأصل هذا التنظيم وتغلغل في النفوس بفعل فكر وتأطير الزاوية كظاهرة «حزبية» أولية، بل وكمؤسسة اجتماعية مركزية متعدد الأدوار والوظائف... ولاسيما في لحظتها التاريخية تلك.

2.3- حقبة القرن العشرين

بدأت هذه الحقبة بواسطة الصدمة الاستعمارية الكبرى والضاربة التي لم يُعرف مثلها لأزيد من عشرة قرون، بعد أن ضعف نظام الدولة المركزية ودخل نظام الزوايا عهد الرتابة المحافظة، وضعفت قدرته التأطيرية نظراً لارتفاع الضرائب الجهوية المفروضة عقب انحباس التجارة الدولية.

وبدأ عهد تجدد الكرامات والنزعات والتقليد، فجاء الاستعمار بدولته الحديثة، المتجددة والقوية والضاربة، وبنظام الأحزاب السياسية المعاصر والمتميز بالقطيعة الكبرى مع نظام القبيلة، أو الطائفة، وبقطيعة وسطى مع نظام الزوايا المتلاشية، وتميز هذا التحزب الجديد بما يلي:

- الاستنبات برد الفعل والاستعجال: لم تجد الحركة الوطنية سبيلاً لمقاومة ومواجهة الاستعمار، دون تأطير حزبي منظم. وبالفعل تشكَّلت أحزاب وطنية قولاً وفعلاً، نواياها حسنة، نجحت في تفاعلها الموجب مع الملكية في تحقيق استقلال المغرب.

لكنها ضخمت معركة الاستقلال، ولم تقدر عمق آليات بناء الدولة الحديثة المطلوبة، وقفزت على أي تطور مطلوب يمس المجتمع والإنسان ليخرجه من التقليد والتواكل، ويدخله زمن الإنسان الاقتصادي المشتغل داخل إطار طبقي واضح ومتوازن.

وبقي المجتمع هيئويًّا، «طبقاته» لا شكلية، يصعب تأطيرها والمحافظة على دعمها لمدة طويلة وبكيفية مستدامة.

- ومنذ فترة الاستقلال برزت الانشقاقات العنيفة تتخللها المحاولات المتعددة للانفراد بالسلطة وهيمنة الحزب الوحيد مما أدى إلى ضعف الجميع، وأتاح الفرصة لظهور الأشكال الحزبية المذكورة سابقاً. واتسم هذا التناقض العنيف بالازدواجية: بين تلك الأحزاب بعضها البعض، وبينها وبين الدولة لأزيد من أربعة عقود من الوقت الضائع، ولتنتهي إلى نتيجة هامة، كانت بديهية منذ البداية، عبّر عنها أكبر حزب معارض في تلك الفترة في تقريره المحدد لبرنامجه حيث ينص: «اضطلعت المؤسسة الملكية في تاريخ المغرب بأدوار ريادية في الحفاظ على مقومات الوحدة الوطنية وتطويرها. ولأن هذه الأدوار لا تعوض، فإن الاتحاد الاشتراكي يتبنى بقناعه قوية ومتبصرة نظام الملكية الدستورية كأنسب نظام أفرزه تاريخ المغرب».

وفي المجموع ظل هذا الشكل التطوري المتعثر يراوح مكانه إلى حين إعلان استرجاع الصحراء كآلية وطنية قوية ومحركة في تاريخ المغرب الطويل والمستمر، حيث قبل الجميع بالممارسة التعددية التي وصل مداها حده الأقصى بأكثر من 30 حزباً سياسيًّا، أرغمت الجميع على محاولة الاستدراك بالتوافق. فإلى أي حد سينجح ذلك؟

-4-
درس التجربة وانفتاحاته الممكنة

يتسم واقع الحال بالسمات الأساسية الآتية:

1.4- خصائص واقع الحال

من خلال تفاعل المتغيرات السالفة يتضح أن خيطها الناظم قوامه وقطبه التفكك، مما ولد ثلاثة شخصيات متباينة تتناثر عبر المجال الوطني، وهي:

* الشخصية السياسية: ونعني بها الشخصية الخبيرة التي تداخل بين السياسة المعاصرة والعلوم الإنسانية، أي تلك الشخصية التي تمارس السياسة العالمة والاستباقية/ الاستشرافية.

إن هذا النمط المطلوب اليوم وغداً، لازال يشكل العملة الأكثر نُدْرة لدى بعض الأحزاب، أو كامناً خارج التأطير الحزبي، يمنعه تكوينه من صعود ميزان مقلوب، يخضع العلمي للسياسي أو يتجاهله متى وصل إلى الحكم عرقلهُ ذوو القربى وأغرقوه بالمقالب إلى أن ينسحب أو يعتزل العمل السياسي، أو يساير المألوف.

* الشخصية السياسوية: ونعني بها تلك الشخصية المهيجة والزئبقية، خبرتها مقلبية، محكومة بثقافة النوازع، خريج هذا التعليم الذي تحدثنا عنه قبلاً، وابن تلك التربية الامتدادية، يرتمي داخل الأحزاب بكثرة ويترامى على كل جمعية جديدة لاستقطابها إلى حزبه السياسوي المتهالك. شخصيته متهافتة، ويشكل النمط السائد كمًّا وكيفاً بمجتمعنا إلى حد إغراق «السوق السياسوية».

* الشخصية التقنوقراطية: وهي شخصية لها تكوين علمي جيد في علوم المهندس، خريج الشعب العلمية المنفلتة بتعليمنا، وخريج المدارس العليا بالمغرب أو بالخارج، متمكن من تخصصات البولتكنيك والتدبير. شخصية قليلة الكلام، كثيرة العمل، وإن كانت تشكو من نقص كبير في الإنسانيات.

بدأ هذا النمط يتكاثر ببطء في العقدين الأخيرين، وهو متوفر بنسب متوسطة نسبيًّا.

وبما أن المغرب أفرز عبر تاريخه الطويل ملكية متحولة ومستمرة وإيجابية، فإنها تبحث عن السياسي فلا تجده، لأن الواقع مليء بالسياسوي، فتفضل التقنوقراطي الأقل سوءاً من السياسوي السيئ طولاً وعرضاً.

إلَّا أن هذه الوضعية تنفتح على الاحتمالات الآتية، وتتجلى في ثلاثة سيناريوهات:

2.4- السيناريوهات المقبلة والمحتملة: رُؤْية استشرافية

* السيناريو الأول: وهو سيناريو متشائم، ولا يرغب فيه أحد، لكنه قادم في الأمد القصير، لأن الاستمرار في الوضع الحالي لن يزيد العزوف إلَّا تصاعداً مما سيتيح الفرصة لميلاد نزعات مستحدثة «النَّزْعة الشبابية» التي ترفض كل شيء، وتطالب بكل شيء وتؤمن بالتقدم والتحرر دفعة واحدة وتنسى أنها جزء منه، والتي لا نستبعد عنفها وتطرفها.

* السيناريو الثاني: إذا ما استمرت الدولة في إعلاء مشاركة التقنوقراطي فإنَّ ذلك قد يؤدي إلى احتمالين فرعيين.

- إذا ما بقي التقنوقراطي أسير بعده التقني، فإن مدة صلاحيته يصعب أن تتجاوز 2030 بالنسبة لاستكمال البنَى التجهيرية التحتية، وبالنسبة للمسؤوليات المنتسبة إلى الوزارات الأكثر تقنية.

لكن بعد هذا الأفق سيرتبط المغرب أكثر بأسواق العالم بتصدير المنتجات التي ستوفرها المشاريع الفلاحية والصناعية... وهذا سيحتاج إلى دبلوماسية عالمة لها خبرة في الإنسانيات. وفي أفق الإصلاحات الدستورية الضرورية سيطلب من السياسي أن يطابق اسمه فعله ليكون مقنعاً وصاحب برنامج حزبي حقيقي. ولكي نصل إلى مستوى المرحلة لا مفر من إصلاح منهجي حقيقي للتعليم وتجاوز المخططات الفاشلة الحالية وأساسها المخطط الاستعجالي وإسناد حقيبة التعليم إلى ذويه.

وهنا لا بد من إعادة النظر في تنظيم الأحزاب السياسية بتوزيع التخصصات، العالم الباحث للبرمجة والممارسة التنفيذية في الحكومة، والمنظم السياسي لترويج البرنامج، وللمجالس التشريعية المراقبة.

ولينجح ذلك لا بد من إعادة النظر في الطرق الانتخابية بالاستفادة والاستلهام من النموذج الأمريكي... وإلَّا سيبقى الباحث، والخبير خارج الإطار، مع تدعيم ذلك بتجدد دوري لقيادة وهيكلة الأحزاب السياسية لندخل بالفعل عهد السياسة ونغادر الممارسة السياسوية.

- إذا ما داخل التقنوقراطي عمله مع الإنسانيات واستكمل تكوينه وطوره قد يتطور المشهد السياسي بعد إصلاح جذري للأحزاب السياسية نحو بلورة وتكاثر الشخصية السياسية العالمة والمطلوبة، الواعية بحاضرها ومآلها، ومآل بلدها ضمن الخريطة الجهوية والقارية والعالمية للتحكم بالتدريج في العولمة، والانخراط في رهاناتها بشكل إيجابي فاعل منتج...

* السيناريو الثالث: في حالة استيعاب الأحزاب لدروس التجربة على ضوء الانفجارات والثورات العربية المتوالية الحالية رغم الاختلافات الملحوظة بينها، وركوبها السياسة المرتكزة على ميتاسياسة حقيقية، سينحبس التشرذم وينكمش الموروث، ويحاسب الطامعين في ريع السياسة.

بعد ذاك وذاك فقط، وبالإنجاز، قد نتكلم عن الانخراط في زمن الحداثة ومشروع المجتمع الحداثي الديمقراطي، الذي لم نر معالمه أو حتى ملامحه بعدُ، مجتمع العمل والانطباع والمحاسبة والتحفيز والمردودية، مجتمع التعددية في حدودها المعقولة بخلق آليات انقراض الأحزاب الأرانب، وأحزاب النزعات للوصول إلى أحزاب الطبقات الاجتماعية المتنافسة حول درجة إعلاء السيولة الاجتماعية، بالمنتوج المنافس والاقتصادي، لا بالريع وبالأنشطة الميتة، أي بالفعل الاستثماري المنتج والمشغل. فحين ذاك يمكن الحديث ببعض الاطمئنان عن بداية مأمولة لتشكل حقل أو مشهد سياسي في المغرب، سليم ومتوازن في توجهاته ومكوناته وآليات اشتغاله فكراً وممارسة سياسية وسوسيوثقافية متكاملة.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة