تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الجمال وسؤال المقصد في الثقافة الإسلامية

الدكتور عبد القادر بوعرفة

الجمال وسؤال المقصد

*

                                  مدخل

* أستاذ محاضر ورئيس قسم الفلسفة/ جامعة وهران.

تتمركز الرؤية الجمالية من خلال ما ينتجه الإنسان ضمن فضاء ثقافي واجتماعي متنوع ومتغير، حيث يلعب المخيال الدور البارز في إظهار مظاهر تمثل الجمال في الحياة اليومية والأعمال الفنية الكبرى والصغرى على السواء.

إن لكل مجتمع فلسفة جمالية تتباين من مجتمع لآخر، وتتشكّل تلك الفلسفة من مجموع الروافد الدّينية والقيمية التي يتشبّع بها أفراد الجماعة، فليس الجمال سوى ما تضفيه الجماعة على الموضوع حتى ولو كان الحكم فرديًّا، ونقصد أن الجمال من حيث المعطى الأولي هو تجربة فردية لكنها من حيث المرجعية اجتماعية، ذلك أن اللاشعور الجمعي يؤطر العملية الإبداعية ويوجهها توجيهاً غير مباشر. ويمكن القول: إن حتى الفنان المتمرد على قيم مجتمعه لا يمكنه أن يتحرر من سلطة اللاشعور، فعمله الفني هو في الأخير ممارسة لحق تأويل حالة الرفض والقهر التي يشعر بها، ومنه فالعمل الفني يعكس في كل الحالات الواقع الاجتماعي القائم أو المُفترض.

إن الحديث عن الجمال هو حديث عن التعبير والقيمة معاً، فهو تعبير بالماهية، لأن التعبير جوهر إنساني به يعرف الإنسان كمشروع ميتافيزيقي ووجودي. إن الإنسان خُلق ليُعبِّر عن ذاته لتجسيد أنطولوجية التحدي بعد سؤال الملائكة، فالله خلق الإنسان ليبين للمخلوقات قدرته على خلق نقيضهم، فالطاعة نقيضها العصيان، والإيمان نقيضه الكفر، والإذعان نقيضه التمرد، والحياة نقيضها الموت.

وتلك النقائض لا يمكن أن يعبر عنها الإنسان إلا من خلال ملكة التعبير، فالملائكة لم تستطع أن تصف الأشياء وتسميتها بيد أن آدم استطاع أن يسمي الأشياء وأن يصفها، ولم يكن ذلك إلا من خلال التعبير. والتعبير ذاته يتخذ نمطية معينة نسميها عادة بالأسلوب، فالتعبير هو قدرة المبدع على التفرُّد بأسلوب ما، ويصبح الأسلوب هو الذي يعطي للفنان بصمته الخاصة، ومن ثمة يصبح الأسلوب كمفهوم أهم العناصر في دراسة الفن والجمال: «مفهوم الأسلوب مفهوم لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة الفن. لكنه مع ذلك مفهوم محير أيضاً، وذلك لأن الكلمة لها معانٍ عدة، ففي العادة تشير كلمة أسلوب إلى الفن الخاص بفترة تاريخية معينة». ولذلك نقول في أغلب الأحيان أسلوبي في التعامل، أو نصف العمل المُميز لي فنان بقولنا: هذا أسلوبه في التعبير.

إن الجمال تعبير سواء كان بالجسد أو الكلام أو الكتابة، أو غيرها من وسائل التعبير، بيد أنه تعبير يحمل خصوصيات وسمات مفارقة للتعبير العادي، ونقصد أن الجمال يتجه صوب المعنى الذي يتجلى في صور متعددة ومتنوعة. إن الصورة الجمالية هي التي تفتك من الآخر القيمة والموقف، بغض النظر عن طبيعة القيمة والموقف. ولذلك فالجمال ينتقل من حيث كونه حالة تعبير إلى كونه أيضا قيمة، فالقيمة هي ما نضفيه نحن على الموضوع من حسن أو قبح جلال أو جمال، عندئذ يُعرف التعبير بالقيمة التي أطلقت عليه كما تصدر القيمة على حسب التعبير.

نؤكد أن التعبير لا يمكن أي يكون منطقيًّا لكنه يمكن أن يكون إستاطيقيًّا، فوظيفته الأولى التواصل والتخاطب، ووظيفته الثانية التأثير في الغير تأثيراً وجدانيًّا، ونقصد: «التعبير لا يكون منطقيًّا ألبته، ولكنه يكون مؤثراً دائماً، بمعنى أنّه غنائي وخيالي. ومن ثم لا يكون التعبير استعاريًّا لأنه دائماً أصيل، فهو لا يكون بسيطاً على الإطلاق بمعنى فقدان الصنعة، أو مجملاً بمعنى كونه ينوء بعناصر خارجية، ولكنه يكون دائماً مجملاً بذاته أو في ذاته».

نؤمن بأن الجمال حركة تعبيرية ترتبط بسؤال المعنى والمقصد، وأن كل تعبير يتغذى من نظرية المقاصد الاجتماعية، فالعمل الفني ينخرط في تشكيل تصورات الجماعة عن ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، عن الفوضى والنظام، عن التقدم والتخلف، وبصفة عامة هو تعبير عمَّا هو كائن وما ينبغي أن يكون.

نحاول من خلال المولج إثبات استقلالية كل جماعة بشرية برؤية جمالية للعالم، فليس هناك عنصر بشري يمتلك التعبير الجمالي والفني فقط، بل كل الشعوب لها قسمة عادلة من الممارسة الجمالة والفنية في الوجود.

إن الفلسفة الغربية تحاول جاهدة من خلال مقولة المركزية أن تضع الجمال كعلم أوروبي، بل تحاول أن تُضفي صفة الجمالية على ما هو أوروبي فقط. نتفق مع جل الدارسين على أن علم الجمال تأسس في الغرب في العصر الحديث على يد باومجارتن سنة 1800، وهذا يعنى أن الجمال قبل ذلك كان يُدرس كجزء من الفلسفة، ففلاسفة الإغريق لم يتحدثوا عن الجمال كعلم أو فن نبيل، بل تحدثوا عنه كإدراك وشعور، ثم كقيم جمالية. والمسلمون أنفسهم لم يصنفوه كعلم، بل تحدثوا عنه من ثنائية الحسن والقبيح، فغياب الجمال كعلم لا يُنقص من تمثل الجميل والجليل أو يعدم النزعة الجمالية عند المرء.

إن الجمالية نزعة إنسانية متجذرة في كل شعوب العالم، لكن يختلف حضورها من شعب لآخر، ولذلك لا يستطيع الإنسان توحيد المعايير التي تُحدد معنى الجمال، فليس هناك قاعدة أو مسطرة نُفرّق بها بين جميل وجميل، بل التفرقة معيارها التجربة والفطنة والدراية.

إن مكانة الجمال ليست فقط في التعبير الفني السائد اليوم، بل مكانة الجمال تنكشف في مضامين الحياة، وخاصة الدين والسياسة. إن الثقافة الإسلامية ثقافة جمالية، ومكانة الجمال يمكن التعرف إليها في كثير من المواطن الإبداعية، وسأقتصر في هذا الموضوع على موطن واحد، وأقصد نظرية المقاصد.

اخترت ثلة من المفكرين لأحاورهم، لكونهم تناولوا المسألة الجمالية في كتاباتهم، أمثال الجاحظ والكندي، والفارابي وابن رشد..، وركزت على الغزالي الذي حاول أن يؤسس فلسفة الجمال من خلال نظرية المقاصد المشهورة، وتلك المحاولة ذكية وجريئة في الوقت نفسه، ذكية لأن الإسلام كمنظومة شاملة يتمأسس على نظرية المقاصد، فإذا كان الجمال ضمن المقاصد الخمسة للشريعة فهو ركن من أركان الإسلام. [لا نقصد الأركان التعبدية].

-1-
الجمال.. سؤال البدء

الحديث عن الجمال في الفكر الإسلامي لا ينجر عنه القول بالضرورة بوجود علم جمال إسلامي، بل نحن في هذا الموقف نتفق مع المفكر سعيد توفيق عندما يعلن تهافت مفهوم علم الجمال الإسلامي، بل نريد التحدث عن حضور للنزعة الجمالية في الفكر الإسلامي، فالمسلمون لم يصنفوا الجمال كعلم مستقل بذاته، بل صنفوه كقسم من أقسام الصناعات النظرية والعملية.

يمكن التعامل مع المسألة الجمالية في الفكر الإسلامي من منطلقات متنوعة ومختلفة، باعتبار أن الجمال في ذاته عصيٌّ عن التعريف، وكل تعريف للجمال هو قتل لمفهوم الجمال، إن الجمال لا يمكن اعتباره علماً ولا فناً، بل هو حالة تتوسط الأمرين معاً.

إن محاولة وضع الجمال كعلم تصطدم بطبيعة المسألة الجمالية المعقدة، فالجمال ينفر من القيد والقانون وإن احتكم للقيمة، فكل محاولة لترويضه وتكبيله ستنتهي إلى اللاجمالية أصلاً.

نُقرُّ منذ البداية أننا لا نريد الحديث عن علم جمال إسلامي، بل نريد الحديث عن نظرية جمالية، تستلهم مقاصدها الجمالية من الإسلام كمنظومة فكرية شاملة. إن عدم عناية فلاسفة الإسلام بالجمال تكمن في عدم تصنيفه كعلم مستقل بذاته مثلما صنفوا الصناعات الأخرى. أما ممارسته فهي أصيلة في أدبهم وفنهم وصناعاتهم، وعمرانهم وكل ما تركوه من أثار دالة على حب الجمال.

والمنطلقات التي وضعناها لفهم الظاهرة الجمالية في الثقافة الإسلامية تنطلق من أربع قواعد إيستمية:

1- اعتبار الجمال ملكة طبيعية، تتكشف من خلال لحظات نادرة من الوعي المتعالي، ونقصد أن الجمال وليد الإلهام كما هو الحال عند الشعراء، والإشراق كما هو عند الصوفية، ومن الحدس كما هو معروف عند الصُّناع وغيرهم من أرباب الحرف والمهن. وذهب أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة إلى اعتبار الجمال ملكة إنسانية.

2- الجمال شعور خالص، وإحساس شاعري بالموضوع، يؤدي إلى التعاطف معه تعاطفاً ذاتيًّا، وقد يكون الشعور والإحساس يعبر عن حالة تنافر. ولقد حاول جورج سانتيانا أن يقرب تلك الصورة من خلال توضيحه العلاقة الوطيدة بين الجمال والشعور.

3- ربط الجمال بالقيمة في ذاتها، فالجمال متعالٍ عن المنفعة والغرضية، بل هو حكم عقلي يستند إلى الشيء في ذاته.

4- ربط الجمال بسؤال المقصد، لكون الشارع (الله) حكيم وبديع، ولا يصدر عنه إلا الجميل والجليل، فكل ما هو موجود في الوجود جميل أو جليل، حتى القبيح يُعبر عن صورة جمالية مغايرة للمألوف.

ومن خلال تلك المقدمات يمكن أن نلج إلى الموضوع، بحيث ننطلق من نظرية المقاصد كبارديغم أو معلم يوصلنا إلى فهم الظاهرة الجمالية، والوقوف على بنيتها وقيمها، ولذلك نضع السؤال التالي: أين نضع الجمال في السلم المقاصدي؟

-2-
الجمال ونظرية المقاصد

ندرك جميعاً أن نظرية المقاصد تركت أثراً كبيراً على الفكر الإسلامي منذ ظهورها، ولا نريد أن نُحول الموضوع إلى بحث في أصول الشريعة، ولا تتبع نظرية المقاصد بدءاً من الشاطبي إلى الطاهر بن عاشور، بل نحاول أن نعطي البعد الفلسفي لنظرية المقاصد.

إن نظرية المقاصد هي محاولة فلسفة النص الديني، والغاية منه البحث عن الحكمة من وجود الشيء ضمن فلسفة الخلق، فالله لم يخلق الموجودات إلا لغاية وحكمة، وقس الأمر على الأمر والنهي، فلا وجود للموجود إلا ضمن قوانين العناية الربانية بالموجودات.

إن البحث عن المقاصد في متون الشريعة يُعرب عن إعمال العقل في النقل، ورد الأحكام إلى أصولها، فالحكم مهما كانت طبيعته يحتفظ في ذاته بقصدية ما، وتلك القصدية هي التي تساعدنا على وضع القيم في سلم وبالتالي وضع حركة وفعل الموجود في سلم القيم.

يعلم الجميع أن نظرية المقاصد تقوم على خمسة قواعد رئيسة: هي حفظ (النفس، العقل، العرض، الدين، المال)، وإذا ربطنا تلك القواعد بالجمال والجمالية فإننا نصل إلى ربط الجمال بكل القواعد، لأن الجمال هو تمثل الخالق في المخلوق تمثل ذوق لا محاكاة، فالجمال في النفس حين تكون الحياة من أقدس واجبات الإنسان، فالإضرار بالنفس نفي للجميل.

إن الجمال بالرغم من الشعرية والشاعرية والتجربة الفردية يرتبط بالعقل، والمحافظة على القيم الجمالية تفرض المحافظة على العقل، فالمجتمع الذي لا يحفظ العقل من آفاته سيقتل كل القيم الجمالية لديه، يكفي مثالاً على ذلك أن المخدرات تُعتبر من أهم العوامل المُذهبة للعقل وبالتالي المذهبة للشعور بالجمال والحادة من أنتاج الجميل.

إن الجمال تحركه جملة من العوامل، وعلى رأسها العامل الديني، فالدين من حيث كونه اعتقاد وإيمان يغذي الذات بدفعة حيوية، تجعل الذات تفتق مواهبها سواء من أجل إضفاء قيم إيمانية على الشيء أو من خلال تقديم المعتقد كما ينبغي أن يكون، فبناء المساجد يتم دوماً ضمن الهاجس الجمالي والفني، لذا يتنافس المؤمنون في فن العمارة والزخرفة.

سلمنا سابقاً أن الجمال لا يرتبط بالغرضية أو النفعية، لكن لا تمنعنا تلك القاعدة من الاعتراف أن المال من أهم العوامل المُحركة للحركة الفنية، وكل حركة فنية ينبلج عنها الجمالي، فروائع الشعر العربي كانت بنت الدينار والجائزة، كما أن أعظم اللوحات الفنية في الغرب كانت وليدة العطاء المادي.

والعرض بيت القصيد في المسألة الجمالية، ففرويد يعتقد أن الإبداع والتعبير مركزه اللبيدو، أي أن الإنسان في عملية إبداع هو يعبر بالضرورة عن غرائزه وعن المكبوتات، وأقوى تلك الغرائز هي الغريزة الجنسية، لذا فالعرض يرتبط بالتعبير الجمالي، سواء عند تقديم الجسد كشيء مقدس وثمين أو تقديمه كشيء مدنس الغاية منه المتعة وتحصيل اللذة.

إن نظرية المقاصد تتحد مع المعطى الجمالي من منظور أنها تتجه صوب معرفة الغاية والحكمة من وجود الشيء، وهو يحاول أن يُعبر عمَّا نتمثله عن الموجود إبان تجربتنا الفردية، فليس هناك أبدع مما كان.

أ- الجمال وخماسية القرآن

يؤمن كل مسلم بأن الله هو الجميل والجليل في الوقت ذاته، جماله يتجلى في كل سور القرآن، وخاصة تلك التي تصف بدقة متناهية الجنة وما فيها من نعيم، لا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا خطرت بفكر بشر. وقد جاء في كتب السلف: «إن الله جميل يحب الجمال» أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي بعد قول الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة وكثير من ذلك، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها..».

إن التصوير الفني في القرآن يطلق للخيال العنان ليرسم الجنة كما أدركها لحظة قراءته النص، ويتجدّد الخيال مع كل معنى محدوس في لحظة تأمل. إن كل قارئ للنص يصور الجنة على مقاسه وخبرته، عندئذ يختلف الناس في إدراك الجنة وفق قوة الإيمان المختزنة في ذاتهم، إن الإبداع الحر يكمن في تلك العملية، ونقصد عملية إبداع عالم ما وراء الطبيعة (الغيب).

لنتأمل التصوير الرباني للجنة في الآية التالية: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا.ً}.

إن مقال الجمال والحسن يتجلى في تحريك أشواق النفس البشرية لرحمة الله وحسنه والفوز برضاه، والحال يمكن مقارنتها بشعراء الغزل، فهم يبدعون القصيد إما حبًّا وطمعاً في الوصال أو خوفاً من الهجر، والمؤمن ذاته يكون بين الحالين، فحين يقرأ قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرْجَانُ}، ثم قوله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُدْهَامَّتَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ}.

يأخذ الشوقُ المسلمَ إلى العالم الموصوف لا المشهود، طامعاً في لذاته أولاً، ثم في إدراك ما ليس بكائن، وثالثاً محاولاً إدراك الذات التي أبدعته في التصوير ثم أبدعته في الوجود واللاوجود معاً. إن الجمال في جوهره هو محاولة تصور العالم وفق ما نراه في لحظة الوعي الخالص كما يرى كانط.

أما مقام الجلال ينقل المشاعر الإنسانية من عوالم الحسن واللذة إلى عوالم الخوف والرهبة، فالجليل له مقام الجمالية لما يمليه علينا من قسوة التصوير ورهبة التعبير، وشدة الحال، فإذا كان وصف الجنة بتلك الدقة والبراعة في التصوير والتعبير فإن وصف النار لا يعدم جلالية وجمالية التصوير الفني، ولنتأمل قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ.عَلَيْهَا تِسْعَةَ عشرة. وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}.

إن المشهد الجلالي يرتسم من خلال التداخل الفني والعلمي في بنية وصف سقر، فمن جلالة التعريف إلى جلالة الوظيفة، فالعبارة {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} لا نجد لها نظيراً في البيان العربي، إنها عبارة صورت المشهد تصويراً بليغاً بحيث لا يمكن لأي خيال أن يرسم صورة عن سقر.

وتصوير المشهد البشري لا يقل فنية، فلننظر كيف صور الله البشر: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ.فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ. بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}.

إن فهم الترابط بين المعطى الجمالي والمعطى الشرعي يكمن في معرفة نقاط الارتباط أصلاً، والتي سأحددها وفق التراتبية التالية:

يتحرك الجمال من المنظور القرآني ضمن الأسس التالية:

1- المنافع: اللذات - الأفراحالمباهجالأذواقالقبح.

2- الأحوال: الإشباعالرضاالسرورالوجدالوعي.

3- الدرجات: الحسالحدسالعقلالعرفانالبيان.

4- الغايات: الحاجةالنزوعالمدركالمشاهدةالخبرة.

5- الوسائل: العملالاستبصارالتأملالزهدالمعايشة.

نعتبر من خلال فهمنا للقرآن أن التجربة الجمالية لا يمكن أن تتولَّد إلَّا في تضافر جميع الشروط الموضوعية والذاتية، فالفرح والبهجة من أهم الدوافع في عالم السماع، والذي هو عمل جمالي الغاية منه التعبير عن فرح وتحقيق بهجة للنفس، نستشف ذلك من قوله تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقوله أيضا: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}.

وقد ذهب المفسرون إلى القول بأن الآيات التي نزلت في حق سيدنا داود كلها تؤكد تلك المسحة والهبة الجمالية التي ميّز الله بها عبده داود، فكان آيةً في الصوت الرخيم، ومعجزةً في العزف بالمزامير، ثم أيةً في الصناعة والإتقان؛ خاصةً الحديد. قال ابن عباس (رضي الله عنهما) ومجاهد في معنى الآية: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} أي: عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحداً، بحيث إنه إذا ترنم بقراءة كتابه الزبور، يقف الطير في الهواء يُرجّع بترجيعه ويسبّح بتسبيحه، وكذلك الجبال تُجيبه وتُسبّح معه كلما سبح بكرةً وعشيًّا.

ولا يقف الأمر عند الصوت الجميل والعذب، بل حتى السماع في مقام الحزن والترح نكتسب منه بهجةً جليلةً وألماً لذيذاً، فأدب الرثاء خير دليل على ذلك.

وفي عالم محاكاة الطبيعة يكون الحس هو سيد الموقف وخاصة نعمة البصر، ولا يمكن للحس أن يُعبّر عن الجميل أو الجليل إلّا إذا كان الحدس يفيض من عمق المعاناة والمعايشة.

يمكن من خلال تتبع النص القرآني إدراك أن الجمالية تنتقل من البسيط إلى المعقد، فجمالية مثال الذبابة يُعبّر عن أبسط أشكال التعبير مقارنة بمثال المصباح أو المشكاة، إن النص القرآني يعلمنا أن الجميل قد يوجد في اللاجميل أصلاً، فوصف جهنم يعتبر في القرآن أيةً في التصوير الفني بالرغم من أن جهنم تحمل معنى سلبيًّا وقبيحاً.

إن القرآن يؤسس لمفهوم الجمال الحر، فالجمال غير مقيد بقوانين فكرية ولا منطقية، بل كل شعور بجمالية شيءٍ ما هو إدراك حدسي عيني للجميل. إن الجميل ليس جميلاً بذاته بل الجميل جميل بتجلياته، أي أن التجلي هو الذي يُحدِّد الجمال.

ومن خلال ما سبق، إن الجمالية في القرآن تفك التعارض القائم بين أحكام الناس، فالجمال إدراك وشعور وغاية، وكلما كان الإنسان أكثر إدراكاً ووعياً بالموضوع كغاية كان أكثر تمثُّلاً للجمال ووعياً بالجميل، وفي هذا المجال نتفق مع د. إسماعيل حين يُقرّ أن مشكلة التعارض بين الأفراد في الوعي الجمالي إنما تعود لطغيان وجهة النظر الشخصية على المعطى الإستطيقي: «وفي اللغة العادية يحدث الشعور أحياناً بالنفور من وصف تعبير ما بأنه جميل، ما لم يكن تعبيراً عن شيء محبب إلى النفس (Sympathetic). ومن ثم كانت المعارضات الدائمة بين وجهة النظر الإستطيقي أو الناقد ووجهة النظر الشخص العادي الذي لا يستطيع أن ينجح في أن يُقنع نفسه بأن صورة الألم والرداءة (الانحطاط Basenss) يمكن أن تكون جميلة، أو أنها على الأقل لها الحق في أن تكون جميلة، شأنها في ذلك شأن الممتع والخير Good».

نكتشف في سورة يوسف عدة مستويات للجمالية، ويمكن القول: إن النظرية الجمالية يمكن أن تتمأسس على تلك السورة، فلقد حضرت جمالية الحكي والتتابع، والعقدة والخوف، وجمالية الجسد الذكري والأنثوي، وجمالية الشهوة والرغبة، ثم جلالة الرهبة والإيمان، كما عكست جمالية الألم والصبر، الفتنة والغربة، ثم جمالية اللقاء والانفراج.. ولذلك قال الله تعالى في السورة ذاتها: {صَبْرٌ جَمِيلٌ} لأن ألم الفراق تحوّل إلى وعي بالجمال والجلال معاً.

ب- الجمال وخماسية إخوان الصفا

كان إخوان الصفا وخلّان الوفاء أول من تحدّثوا عن الترابط الوظيفي بين المعطى الجمالي والمعطى الموضوعي، فالجمال عندهم فرع من الفنون، وعرفوه على أنه ملكة وعي الذات بما يفرزه الموضوع من قيم باطنية، وحددوا خمسة مقاصد لكل عملية جمالية هي على النحو التالي:

1- الأداة.

2- المنتوج.

3- السرعة.

4- المهارة.

5- منفعة الجمهور.

إن الجمال هو تعبير عن أحوال الذات، ويفرض كل تعبير عن ذلك استعمال أداة ما، فالخطابة والرسم والكتابة.. كلها أدوات للتعبير عن لحظة إدراك الجميل أو الجليل. والأمر الذي يفرق بين المعطيات الجمالية هو طبيعة المنتوج، فالقصيد يتباين من شاعر لآخر نتيجة مدى التحكم في أداته أصلاً، فالشعر أداته اللغة، واللغة مسكن الفكر وخلوته كما يقول هيدجر، ولذلك نحن نحتكم للمنتوج لا المُنتج، باعتبار أن جمالية الموضوع هي التي تدفعنا لإصدار حكم عنه يتجاوز التعاطف مع الذوات المنتجة له، وتلك المفارقة يمكن فهمها حين نضع شعر النقائض أمام التمثُّل الجمالي أو التفضيل الجمالي، فأغلب من سمعوا شعر جرير أخذتهم النشوة قياساً وشعر الفرزدق والأخطل، وهذا لا يعني أن الفرزدق لم يترك أثراً جماليًّا بل إن الفرق كمن في قوة التأثير، ونقصد أن الجمالية تكمن في قوة التعبير والتصوير، فلقد أجاد جرير في الغزل حين قال:

إن العيون التي في طرفها حـور

قتلــننا ولما يحيين قتــــلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك لـه

وهن أضعف الخلق إنسانا

وأجاد في الهجاء حين قال:

قوم إذا أكلوا اخفوا كلامهم

واستوثقوا من رتاج الباب والدار

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم

قالوا لأمهم: بــولي على النـار

فتمنع البول شحًّا أن تجــود به

وما تـــــبول لهم إلَّا بمقدار

كما أجاد حين قال:

بان الخليط، ولو طوعـت ما بانـا

وقطعوا من حبال الوصل أقرانـا

حي المنـازل إذ لا نبتغـي بـدلاً

بالدار داراً، ولا الجيران جيرانـا

يا أم عمرو! جـزاك الله مغفـرة

ردي عليَّ فـؤادي كالـذي كـانا

هلا تحرجت ممـا تفعليـن بنـا

يا أطيب الناس يوم الدجن أردانـا

قالت: ألمَّ بنـا إن كنـت منطلقـاً

ولا أخالـك بعـد اليـوم تلقانـا

والمثال الذي سُقته لم يستشهد به الإخوان، وإنما سُقته لأُبيِّن مدى ارتباط الأداة بالمنتوج وكذا الشروط المتبقية، ولذا اعتبر إخوان الصفا أن السرعة شرط ضروري في تقبل الجميل، لأن الجميل وليد لحظة حدسية متى تجاوزت ديمومتها قلَّ تأثيرها على النفس والغير، فنحن نندهش من الموضوع حين يباغتنا، وعندما يصير مألوفاً تختفي عنه مظاهر الجمال ويغدو أمراً مألوفاً. إن عنصر السرعة مشترك بين المنتج والمستقبل معاً، فكلما عبَّر المبدع عن الموضوع بسرعة ومهارة كان المستقبل أكثر سرعة في فهمه.

وشرط المهارة يفرضه الموضوع وأداة التعبير عنه، فالفرشاة كوسيلة للرسم لا يمكن أن تُؤدّي الدور نفسه، بل الدور تبرزه المهارة الفنية التي يتفاوت المبدعون فيها.

وإخوان الصفا ربطوا الفن بمنفعة الجمهور، فالجمال كفن نبيل لا بد أن يخدم الجمهور، وقصدهم أن تربية الجمهور تتطلَّب التركيز على الجانب النفعي، فالموسيقى والفنون تدخل في تربية الجمهور، فدولة الخير عند إخوان الصفا تنشأ عندما ننشئ جيلاً فريداً، ينتج الفن ويوجّهه نحو الخير الأسمى.

إن النظرية الجمالية عند إخوان الصفا وجدت حضورها في فلسفة ابن سينا، وخاصة في كتابه البلاغة والخطابة، حيث ربط الجميل بالمنفعة في صورتها العامة، ولذلك قسّم الجمال إلى قسمين: الجمال الحقيقي الذي نعرفه من خلال قيمتي الخير والنفع، والجمال المزيّف الذي يُقرن باللذة الحسية.

إن ابن سينا حاول أن يجعل الجمال قيمة عملية قبل أن يكون قيمة ذاتية، فالحكمة العملية الغاية من وجودها عند الفلاسفة منذ أرسطو هو تحقيق الخير أولاً والمنفعة للجمهور ثانياً، ومن ثمة يُصبح الجمال يتحرَّك ضمن ثلاثة قيم: الخير، النفع، اللذة.

يدرك جمالية الخير الفلاسفة، وهي جمالية ترتبط بالموضوع، فكل ما يجب به الوجود يُعتبر جميلاً، لأنه خير في ذاته، فكل ما هو موجود يحمل صفة الجمالية ما دام يحمل في ذاته الخيرية. أما جمالية المنفعة فيدركها الساسة وأهل الصنائع، وترتبط بنتائج الموضوع وقصدية الذات، فالفنان أو الموسيقي لا يمكن أن نعرف مكامن الجمالية في صنعته إلَّا بعد انعكاسها على المتلقي، فإذا تقبلها الناس بالفرح والدهشة والإعجاب تكون قد أدَّت وظيفتها، أما إذا لم تُحرك في الناس شعرة ولا إصبعاً كانت بعيدة عمَّا نسميه بالجميل.

ج- الجاحظ.. الجمال وأصول المعتزلة الخمس

صنع الجاحظ لنفسه مكانة متقدمة في الفكر الإسلامي موازاة بالأدب، ويعتبره كثير من النقاد أول مؤسس للنظرية الجمالية في الإسلام، وقد حاول علي أبو ملحم أن يُبرهن على ذلك من خلال قوله: «لم يعر الفلاسفة العرب الجمال العناية الكافية، ولا نجد نظرية جمالية أصيلة إلّا عند الجاحظ، وربما ساعده على ذلك موهبته الأدبية، وقد جمع الفلسفة والفن في نتاجه، وطبّق أصول نظريته في آثاره على نحو ممتاز يسترعي الانتباه..».

قد نتّفق مع أ. علي في الشق الأول من قوله، أما القول: إن الجاحظ هو الوحيد الذي أسّس نظرية أصيلة فيه، فهو قول مردود، وهو ما نحاول في طيات البحث تفنيده.

سنحاول الاعتماد على رسالتين للجاحظ، الأولى سماها ب(رسالة القيان) والتي يعكس عنوانها الموسيقى والغناء، والثانية (رسالة المحاسن والأضداد) والتي حاول أن يُحلل من خلال ثنائية الحسن والقبح، وتلك المسألة أثارها المعتزلة، واعتبرها من بين أهم الموضوعات الفكرية.

ينطلق الجاحظ من أن إدراك الجميل ليس بالظاهرة الحسية ولا الفردية، فالجمال عصي عن الإدراك الحسي، فهو عقلي وسابق في وجوده عن الحكم، وبالتالي فهو موضوعي قائم في الأشياء قيام صفة لا قيام عرض. ولذا اعتبر الجاحظ أن الصورة الجمالية ليست من وحي الحس بل هي تفاعل قوى النفس: «إن أمر الحسن أدق وأرق من أن يدركه كل من أبصره». ذلك أن الجمال يستدعي كل قوى النفس من حدس وعقل، ثم عرفان وبيان حتى يتمظهر ويُحقق وجوده العيني.

وندرك من قول الجاحظ أنه يستعين برأي أفلاطون، الذي اعتبر الجمال مسألة ميتافيزيقية متحررة من العالم الحسي، فهي دالة عالم المُثل لا على العالم الحسي.

والجمال عند الجاحظ لم يخرج عن الخماسية الاعتزالية، فكل حكم على شيء ما بالحسن أو الضد يخضع للقواعد الخمس.

إن نظرية الجاحظ في مجملها تنطلق من الفلسفة اليونانية، فمفهوم استقلالية الجمال عن الذات استمدها من أفلاطون، كما استمد نظرية التوازن والاعتدال من أرسطو، أما نظرية التناغم والتوافق فأصلها أفلوطيني. ومن جهة أخرى حضر القرآن الكريم بمفاهيمه الجمالية، فالترهيب والترغيب، والوعد والوعيد، والحسن والقبيح.. كلها ثنائيات أثارها النص القرآني.

إن خماسية الجاحظ يمكن بلورتها على الشكل التالي:

1- قاعدة الوسط الذهبي: الجميل هو كل ما توسط طرفين، فالحسن المبهر شذوذ والقبح المنكر فساد، فالجميل هو الذي حقق المنزلة بين المنزلتين، فالبياض الشديد مقرف والسواد الحالك منفر، أما عندما يأخذ الشيء حظه منهما معا يكون الحسن المقبول هو الظاهر والغالب.

2- قاعدة الاعتدال: الجميل لا يمكن أن يكون جميلاً إلَّا إذا حقق الاعتدال، والذي هو الوصول بالموضوع إلى تحقيق التناسب والتناسق، ويعطي الجاحظ مثالاً على ذلك؛ فالجسد لا يمكن أن يكون جميلاً إلَّا في تناسق أعضائه وأطرافه، فكلما زاد العضو عن مقداره الطبيعي أدى إلى القبح والتشوه، فالقد الممشوق ما تناسب فيه الرأس والجذع والطرفان، والعينان والأذنان، والأنف والفم، والذقن والجبين، فالصورة المعتدلة للجسم هي الصورة الجميلة بالضرورة (حكم عقلي) والعكس هو الضد، ومثال ذلك أن طول الظهر مع فخذين قصيرين لا يتناسب، وطول الأنف مع صغر الفم قبح، وقس على ذلك كل أعضاء الجسد.

3- الوعد والوعيد: الوعد هو الذي يؤسس في نفوسنا للجميل، فالجميل هو المُحبب للنفس المُمتع لها، أما الجليل فهو كل ما يثير فيها الرهبة والخوف، فالجمال هو رقة الجلال، والجلال هو قوة الجمال، وبين الرقة والقوة يتفاوت البشر في الإدراك، فالشاعر البدوي لا يرى الجمال إلَّا في مواطن الشدة والقوة، وشاعر الحضر لا يراها إلَّا في مواطن المتعة واللذة. والمثال على ذلك قصة الشاعر ابن جهم البدوي الذي أنشد المتوكل:

أنت كالكلب في حفاظك للود

وكالتيس في قِراع الخطوب

أنت كالدلو، لا عدمناك دلواً

من كبار الدِّلا كثير الذنوب

فعرف المتوكل حسن مقصده وخشونة لفظه، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به، لعدم مخالطة أهل الحضر والمصر، ولملازمة البادية وأهل القفر، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان جميل، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح، وبالقرب من جسر بهي النظر. وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به، فكان ابن الجهم يرى حركة الناس ولطافة الحضر، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده، فحضر وأنشد:

عيون المها بين الرصـافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فقال المتوكل: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.

4- قاعدة التوحيد: الغاية من إدراك الجميل الوصول بالشاهد الذي هو الإنسان إلى إدراك الله الواحد الأحد، فالجمال توحيد من حيث الإدراك والممارسة، فهو يثبت ربوبية الله وألوهيته في الذات التي ترى قوة الخلق والإبداع فيما هو موجود.

5- قاعدة التمثل للحق: وعي الجمال وعياً متكاملاً يبعث النفس على ممارسة واجب الأمر بالجميل والنهي عن القبيح، فالجميل يدخل ضمن باب الأمر بالمعروف، والقبيح ضمن باب عن المنكر. وهذا يعنى أن الجاحظ يرى أن الجمال يدفع الذات الشاعرة به إلى الإصلاح في الأرض لا الإفساد، فليس الجمال ذوق فحسب بل الجمال مجاهدة وفعل تحرري من سلطان العادة واللاشعور.

د- الغزالي.. الخماسية المقاصدية

أعتبر شخصيًّا الغزالي هو الذي أعطى للسؤال الجمالي بُعده الفلسفي والديني معاً، فالجمال ليس مجرد تذوّق حسي كما يردده الناس، بل الجمال فوق الحس وأكثر مرتبة من أن يكون مرتبطاً بلذة حسية، ولذلك قسّم الجمال إلى قسمين: جمال حسي وهو ما يتمثله العامة ويقترن بمباهج العين والأذن والأنف والجسد، وهو جمال من حيث صورته ونتائجه، غير أنه جمال ناقص لارتباطه باللذة الحسية فحسب. أما الجمال الباطني فهو الذي يُدرّك من خلال البصيرة والحدس، ويكون للعرفان الدور البارز فيه، وقد يجد العارف فيما يعتبر الساذج قبحاً جمالاً وجلالاً، لأن القبح جمال الجلال والحسن جلال الجمال، ونلاحظ ذلك من خلال حادثة عيسى بن مريم حين مرّ مع صحبه على جيفة كلب، فقال أحد حواريه: ما انته!!! فقال المسيح: ما أبيض أسنانه.

ولقد عبّر إسماعيل عز الدين عن تلك القسمة بقوله: «وهنا نلاحظ أن الغزالي قد جعل الجمال الظاهر من شأن الحواس، والجمال الباطن من شأن البصيرة».

لا تخرج تلك القسمة عن الرؤية الأفلاطونية، الذي اعتبر أن الجمال فوق المعطى الحسي، فجمال الشيء يكمن فيما يُقرره العقل ويضفيه عليه من قيمة.

وقد حدّد الغزالي السؤال الجمالي ضمن السلم المقاصدي، حيث يكون الجمال من المقاصد التابعة وفق الرؤية الأصولية: «وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الحاجات...، فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد».

والمقاصد من حيث العموم تنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام:

1- الضروريات: وهو كل ما يتم به وجود النفس البشرية وجوداً كاملاً، بحيث إذا انتقص منه شرط ما انتقص الوجود البشري بأكمله، فالإنسان هو إنسان بما يحفظ إنسانيته لا بما هو جسد، والضروريات عند الغزالي تكمن في المقاصد الخمس: حفظ (النفسالدين- العقل- المال- العرض).

2- الحاجيات: هو ما يتم به قوام الوجود وجوداً اجتماعيًّا، وأصلها المعاملات والعادات. «الحاجيات أو التحسينات فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تختل أحكامها لم يكن التشريع موضوعاً لها، إذ ليس كونها مصالح إذا ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا في جميع أنواع التكليف. لا تختص على الجملة وإن تنزلت إلى الجزئيات فعلى وجه كلي، وإن خصت بعضاً فعلى نظر الكلي، كما أنها إن كانت كلية فليدخل تحتها الجزئيات، فالنظر الكلي للجزئيات وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليًّا، وهذا المعنى إذا ثبت دلّ على كمال النظام في التشريع، وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح».

3- التحسينات: هو ما يتم به سمو النفس البشرية وما يضفي على الوجود قيمته، وأصل التحسينات صور الجمال والجلال، القبح والحسن، الخير والشر، «.. والثالث كالتنزّه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها، فمثل هذا مباح بالجزء فإذا فُعل يوماً ما أو في حالة ما فلا حرج فيه..».

إن الغزالي من حيث التقسيم السابق وضع السؤال الجمالي ضمن مقاصد الشريعة الخمس، وبذلك يعتبره من حيث الأصل مقصداً من مقاصد الشريعة يدخل ضمن التحسينات من منظور أن الجمال كمقصد شرعي ارتبط بسؤال الشارع الخالق، لأن الخلق ذاته يفرض سؤال الجمال لكونه يبيّن الحكمة من الخلق: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}.

تعتبر التحسينات من منظور فلسفة المقاصد ضرورة الضرورات وحاجة الجاجيات، والتحسينات تتفرع إلى ما هو طبيعي خالص يتسم بالجمال الوحشي، ونقصد به الذي أبدعه الله دون أن يتدخل الإنسان في تحسينه وتلطيفه، أو كما سمّاه الغزالي بالزّينة الطبيعية كنضرة الزهور، وسيمفونية الطيور، ولجة البحور، والروائح والفوائح... وغيرها من الأشياء الطبيعية التي تبعث في النفس المباهج والانشراح.

والفرع الثاني ما تعلق بالزّينة الاصطناعية، التي يبدعها الإنسان من حيث هو مبدع إبداع وجود لا إبداع خلق، ويتفاوت الناس في درجة الحكم والتفضيل الجمالي، إذ هي ترتبط بالعادات والتجارب الفردية والجماعية كاللباس والحلاقة، الزّينة، العطر، العمارة، الرسم...

والفرع الثالث يتعلق بالذوق الطبيعي كتذوق الأطعمة والنكاح وغيره، ويدخل في جماليات الجسد ومتطلبات الإنسان الطبيعية، فالجماع من حيث هو فعل ليس فيه جمالية ولكن تفنن الإنسان في طرق الجماع هو الذي يكسبه جماليته، ولقد رأى الرسول الكريم أنه من القبح جماع الرجل امرأته من دون مداعبة وتهيج، وصور الفعل بأقبح صورة حين وصفه كالدابة التي تقع على أنثاه.

والفرع الرابع الذوق المكتسب، الذي يصل إليه الإنسان بعد التعلم أو التجربة كالموسيقى، وانتقاء الألوان وتنسيقها والتفنن في الصناعات والمصنوعات.

- 3 -
الغايات الجمالية

تنطلق فلسفة الجمال في الفكر الإسلامي من سؤال المنطلقات الأولى للشاهدية الإنسانية، حيث ارتبط فعل الخلق الإلهي بحضور الجمالي حتى فيما هو قبيح، فكل ما خلقه الله جميل في ذاته، غير أن التفضيل الجمالي هو الذي يلعب الدور الأساسي في إضفاء القيم على الشيء. ومن ثمة يريد الله من الإنسان الحكيم أن يُدرك أن جمال الجمال هو إدراك الجمال المطلق، فلا جميل إلَّا الله لأنه ليس كمثله شيء، وكل من كان له مثل في وجود كان جمال نسبة لا جمال إطلاق وجوهر. ولذا نعتبر أن الغاية من إثارة سؤال الجمال ضمن البنية المقاصدية الإسلامية هو الوصول إلى إدراك الأمور التالية:

1- الله هو جوهر الجمال ولا جمال إلّا ذاته، وأن جمال الموجودات جمال نسبة لا غير. وأن الجلال أعظم درجات الجمال، ولذا وصف الله نفسه بالجليل وذي الجلال. ولقد عبّر علي بن محمد الكافي عن تلك الثنائية بقوله: «الجمال يثير المحبة ومشاهدة صفة الجلال يثير الهيبة والعظمة تثير الهيبة أيضاً، فلهذا قرن المصنف العظمة بالجلال لتفيد معنى زائداً على الجلال...، فارتفع بهما على كل عظيم وجليل».

2- الجمال معطى شمولي، يحضر في كل موضوع حتى ما نسميه بالقبيح، فالقبيح جميل من معكوس إدراكنا لنقص كماله، كما أن النقص لا يعنى التمام والكمال النسبي، فكم من جميل المظهر سيئ المخبر والعكس صحيح.

3- وعي معنى الخلق هو كنه الوعي الجمالي، وعندما يصل الإنسان إلى إدراك معنى الخلق فإنه سيدرك أن مقولة العبث والصدفة ليس لها محل في المسألة الجمالية.

4- يُحدّد الفرد من خلال تجربته الجمالية العلاقة الطبيعية بين الذات والموضوع، فالعلاقة ستتجه نحو علاقة قصدية إذ يصبح الموضوع غير متعالٍ عن الذات والذات غير متعالية عنه، والكل في فلك الله يسبحون.

5- الجمال ممارسة ذوقية ذات نزوع فردي وإن استحسنها الكل، ولكل فرد جماليته المثلى لاختلاف الناس في الأذواق والأفكار، وليس من المعقول كما يقول سبينوزا فرض الأذواق على الناس بالعنف. ويرى الغزالي أن العلة لا تكمن في الأداة أو الموضوع بقدر ما تكمن في درجة الإبصار والإدراك: «اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلّا تناسب الخلقة والشكل، وحسن اللون وكون البياض مشرباً بالحمرة، وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان، فإن الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار».

6- الجمال منفعة أولى لكنها تتعالى عن المنفعة متى بلغ الوعي الجمالي درجة إدراك الله في الموضوع، يقول الغزالي: «وذلك كحب الجمال والحسن، فإن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال، وذلك لعين الجمال لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلّا لأجل قضاء الشهوة فإن قضاء الشهوة لذة أخرى، قد تحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك الجمال نفسه أيضاً لذيذ، فيجوز أن يكون محبوباً لذاته، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى الرؤية نفسها، وقد كان رسول الله يعجبه الخضرة والماء الجاري. وحديث كان يعجبه الخضرة والماء الجاري أخرجه أبو نعيم في الطب النبوي من حديث ابن عباس أن النبي كان يحب أن ينظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري، وإسناده ضعيف. والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة، النقش المتناسبة الشكل، حتى أن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر، فهذه الأسباب ملذة وكل لذيذ محبوب وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة، ولا أحد ينكر كون الجمال محبوباً بالطبع، فإن ثبت أن الله جميل كان لا محالة محبوباً عند من انكشف له جماله وجلاله، كما قال رسول الله: إن الله جميل يحب الجمال».

7- الجمال من حيث الفعل التعبدي أو النفعي هو تلطيف الجليل لندرك جمالية الرهبة والقسوة، ونلاحظ ذلك في قصيدة عنترة ابن شداد حين يصف الوغى.

إن إدراك الجليل هو توحيد الجميل توحيداً خالصاً، فالوعي الجمالي ينتهي بإدراك حقيقة مهمة، هي أن الجميل من حيث الماهية واحد لا شريك له، هو الذي خلق الخلق فمن جمال الخلق أدركنا جمال الخالق إدراكاً ناقصاً لأننا لو أدركنا الجمال كقيمة مطلقة لكان مقامنا كمقام موسى حين طلب من الله رؤية وجهه الكريم. يقول المناوي: «الهيبة أثر مشاهدة جلال الله في القلب وقد تكون عند الجمال الذي هو جمال الجلال، والهيبة والأنس حالتان فوق القبض والبسط، فوق الخوف والرجاء، فالهيبة مقتضاها الغيبة والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة».

- 4 -
السؤال والمعنى

انطلقنا في معالجتنا للموضوع من رحاب السؤال الجمالي ضمن الحقل المقاصدي، ويفرض علينا آخر الأمر أن نتحدّث عن المعنى الجمالي. إن السؤال الجمالي سؤال في ذاته يحمل قصدية الذات الباحثة عن العلاقة بين الذات والموضوع ضمن فضاء التجاذب الذوقي والتجربة الاجتماعية، ويصبح كل سؤال يحمل دلالات ومعاني تتجلى من خلال الوظيفة الجمالية.

تهدف المقاصد الجمالية وضع السؤال الجمالي ضمن حركية مقولات الحكمة الأصولية، والتي نلاحظها تتأسس على أسئلة الوجود: ما، لمَ، بمَ، كيف، أين، متى،... وهذا يعني أن الوعي الجمالي ينطلق من السؤال المقاصدي بغية تحديد بنية الجمالي تحديداً نسبيًّا، ومن خلال البحث عن المعنى من وراء السؤال المقاصدي تبيّن لنا أن المعنى الجمالي المدرك بعد كل ممارسة جمالية يقود المدرك إلى اكتشاف ما يلي:

1- العمل الفني في الفكر الإسلامي عمل واعٍ وظيفي، ينفر من العبثية والفوضوية، ويتَّجه صوب الحكمة الوجودية المبنية على شرط الفهم والوعي والنقد. يقول الغزالي: «استبان أن ألذ المعارف أشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها، وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادئ جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين، فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الاطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها، وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار، وبهذا تبيّن أن العلم لذيذ، وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين، فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات، أعنى لذة الشهوات والغضب، ولذة سائر الحواس الخمس، فإن اللذات مختلفة بالنوع أولاً كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع، ولذة المعرفة للذة الرياسة، وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة، وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال».

2- كل عمل جمالي يحمل في طياته المعنى الأخلاقي، فالجمالي والأخلاقي يكمن في محاولة تهذيب النفس وإضافة الرّقة واللطف عليها، فالسلوك الأخلاقي الخالص لذاته هو صورة جمالية رائعة، يقول: «ومن لاحظ صفة الجمال حصل له من الحب وما ينبني عليه من الشوق وخوف الفراق وأنس التلاقي والسرور والفرح، ومن لاحظ سماعه لأقواله ورؤيته لأعماله كانت حاله الحياء المانع من مخالفته في الأقوال والأعمال وسائر الأحوال».

3- العمل الفني من حيث هو ممارسة جمالية لا يتقيد بمنطق أو علم مقنن، لكن بالرغم من ذلك يكمن في الجمال كسؤال روح المنطق حتى لا يختل توازن الإنسان بين ما يتطلبه الموقف الجمالي والموقف التعبدي، يقول السلمي: «المحبة الناشئة عن معرفة الجمال أفضل من المحبة الناشئة عن معرفة الأنعام والأفضال، لأن محبة الجمال نشأت عن جمال الإله ومحبة الإنعام والإفضال نشأت عمَّا صدر منه من إنعامه وإفضاله، والتعظيم والإجلال أفضل من الكل، لأنهما نشآ عن معرفة الجلال والجمال عن جلال الله وكماله...، فلهما شرف من وجهين اثنين، ومن أطلعه الله على هذه الأوصاف فنشأت عنها أحوال هذه الأحوال لا يمكنهم العبارة عنها إذا لم توضع عبارة عليها ولا إشارة إليها، فإن دلالة الإشارة دون دلالة العبارة، فإن علوماً خارجة عن العلم الضروري النظري وهم فيها متفاوتون».

4- لا بد أن يكون هنالك تلازم بين الجمالي والاقتصادي، فالمنتوج منذ القدم إن لم يحمل مواصفات فنية جمالية كان مطية الركود والكساد، فالعين والأذن والذوق هي التي تُحدد قيمة السلعة أكثر من السلعة ذاتها.

5- إن السؤال الجمالي يشكل في النفس الوعي التحرري، فكلما وعى الإنسان جمال الأشياء ازداد شعوراً بالحرية، وفي الوقت ذاته مارس التحرر.

6- أجمع المفكرون المسلمون على أن السؤال الجمالي يتَّصل بجوهر العبادة، فكل ممارسة فنية تجسد معنى العبادة، فليست العبادة في الحركات بقدر ما هي في المقصد الجمالي منها، فالصوم كعبادة تدرك جلالته من خلال الاتساق والتناغم السلوكي، والعبد مدرك جماليته من خلال مظاهر البهجة والفرح والسرور. ووعي الجمال والجلال أفضل من محبته وممارسته لأن الوعي هو الأصل ومن لا أصل له تحوّل إلى فرع أو نشاز: «الجمال والكمال والتعظيم والمهابة أفضل من المحبة الصادرة عن معرفة الجلال والجمال، لما في المحبة من اللذة بجمال المحبوب بخلاف المعظم، فإن الهيبة والتعظيم يقتضيان، ولا حظ للنفس في ذلك، فخلص لله وحده».

7- إن العمل الفني باعتباره وعي جمالي يُبرز للوجود مدى تفرد الإنسان وتميّزه عن غيره، فالإنسان المحب للجمال هو الإنسان المدرك لوجوده العيني. يصبح المحب للجمال مدركاً لوظائف جسده وروحه بعد أن يدرك حقيقة وجوده، وتنقلب معرفته الساذجة إلى معرفة نافذة، فيدرك أن قيمة الجمال والجلال تكمن فيما نضفيه نحن على الموضوع لا الذي تضفيه الحواس عليه: «فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات، وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها، فكانت محبوبات عند الطبع السليم، فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة، ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة، ولذة الشّم في الروائح الطيبة، ولذة الذوق في الطعوم، ولذة اللمس في اللين والنعومة. ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة، أي كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال الرسول: حبب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة، فسمى الطيب محبوباً، ومعلوم أنه لا حظ للعين والسمع فيه، بل للشم فقط، وسمى النساء محبوبات ولا حظ فيهن إلَّا للبصر واللمس».

8- الكوجيتو الجمالي: يتمظهر الجمال كوعي وفعل ونقد في المفكر فيه واللامفكر فيه معاً، وكل شعور به هو شعور يفضي بالضرورة إلى رغبة روحية أو جسدية، واجب أنطولوجيي يتأسس على المبادئ التالية:

1- كن جميلاً ترى الوجود جميلاً، والمقصود جمال الروح أكثر من جمال المظهر والتعبير عنها والصورة.

2- تكمن أروع الصور الجمالية في إدراك القبيح، لأن القبيح يصور الجمال الحي، إن لم يملك الإنسان أداة الإبداع فعليه بسجية الذوق، والفاقد لهما وجوده كعدمه.

3- الجمال لا يستشعره مبدعه بقدر ما يستشعره مدركه، أنا جميل إذن أنا موجود.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة