تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الخطاب التاريخي وبلاغة التسييس

عبدالفضيل ادراوي

 

 

 

الخطاب التّاريخيّ وبلاغة التّسييس..

بحث في ملامح الكتابة السّلطانية عند ابن خلدون

الدكتور عبد الفضيل ادراوي*

* باحث بكلية الآداب، تطوان – المغرب، البريد الإلكتروني:

d_abdelfdil2006@hotmail.com

 

 

 

ﷺ مقدمة

قد يكون من نافلة الكلام التذكير بمدى شهرة عبد الرحمن بن خلدون في مجال الكتابة التاريخية، بالنظر إلى كونه أحد رموز التأريخ للأمم والحضارات، فقد وصفه عبد الله العروي بأنه «اسم جامع تختفي تحته شخصيات عدة»[1]، ونُظر إليه بوصفه «أول علماء الاجتماع بإطلاق، وأعظمهم إدراكًا لحقائق العمران الأولى في تاريخ الفكر الإنساني أجمع»[2]، وعُدّ من أبرز أعلام فلسفة التاريخ، «عَلَمًا مفردًا بين قومه ومعاصريه في ميدان فلسفة التاريخ»، «لا نجد من نقرنه به»[3]، بل نظر إليه «كرائد سابق لأوانه في ميدان فلسفة التاريخ»[4].

غير أن مساءلة طبيعة الكتابة التاريخية عند الرجل، وقياس مدى امتثالها لمعايير الكتابة العلمية الدقيقة، ومساءلتها من حيث حمولتها الأيديولوجية، أو بعبارة هايدن وايت، من حيث ما فيها من الاستلزام الأيديولوجي[5] (Implication Idéologique)، ومعاينة مدى استسلام الرجل لتوجهاته السياسية وخضوع كتابته لمتطلبات الانتماء السياسي، يبقى بلا شك الجانب الذي يستدعي مزيدًا من التأمّل، ويتطلّب كثيرًا من البحث والاهتمام، ويستوجب قدرًا لا يستهان به من التمحيص والتدقيق العلمي، ما يقود إلى ضرورة مقاربة هذه الكتابة في علاقتها بالوقائع والأحداث والقضايا المروية، من حيث سؤال النزاهة والزيف، والمركز والهامش، والنص واللا نص.. إلخ.

وفي هذا الصدد نرى ضرورة وضع مؤلفات ابن خلدون في سياقها التاريخي وربطها بالظروف العامة والخاصة التي أنتجت في خضمها، بما هي أشياء تشكل مدخلًا ضروريًّا لمزيد فهم واستيعاب كنه هذه الكتابة.

ﷺ أولًا: الكتابة التاريخية والسياق السياسي

إن إطلالة سريعة على أهم الخطوط العريضة في حياة ابن خلدون تكشف عن كون الكتابة عنده يستحيل استيعابها بمعزل عن إكراهات السياسة وإملاءات الانتماء والولاء للسلطة.

ولعل النص التالي يلخّص ويظهر بشكل جلّي محورية الشأن السياسي في حياة ابن خلدون؛ «وفي سنة 748هـ التحق ابن خلدون بحاشية ابن الحسن المريني سلطان مراكش، على أن أول عهده بمراتب الدولة فعلًا كان 752هـ، فقد تولّى كتابة العلامة ديوان الرسائل لأبي محمد بن تافراكين المستبّد على الدولة يومئذٍ بتونس، ثم إنه وصف لأبي عنان صاحب فاس، وكان يجمع العلماء في بلاطه، فاستقدمه عام 755هـ ثم استخدمه في آخر سنة 756هـ.

وتقلّب ابن خلدون في البلاد فكان عند بني مرين في فاس 760هـ، وعند بني عبد الواد في تلمسان 763هـ، ثم عند بني الأحمر في غرناطة 764هـ، فأرسله بنو الأحمر في سفارة إلى بطره ملك قشتالة بطرس الرابع القاسي، لإتمام عقد الصلح بينه وبين ملوك المغرب. ثم انتقل هو إلى المغرب؛ ولكنه سئم التطواف والمناصب وخاف عواقب السياسة فآثر الاعتزال في قلعة بني سلامة، شرق تلمسان، فمكث عند بني العريف أربع سنوات وبدأ بتأليف كتابه في التاريخ... وفي سنة 784هـ سار ابن خلدون إلى الحج، ولكنه لما وصل إلى مصر عرض عليه القضاء على المذهب المالكيّ فقبله فتأخّر ذهابه إلى الحج إلى سنة 789هـ، وعاد من الحج إلى القاهرة وانقطع فيها للتدريس حينًا ثم عاد إلى تولي القضاء 801هـ.

ولما غزا تيمورلنك سورية ذهب الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق إلى دمشق، ليفاوض تيمور واصطحب معه العلماء وفيهم ابن خلدون. ثم سمع الناصر فرج بمؤامرة عليه في مصر فاضطر إلى العودة. فحمل ابن خلدون تبعة الحال وذهب سرًّا على رأس وفد لمفاوضة تيمور في الصلح وألقى بين يديه خطبة نفيسة؛ فأكرمه تيمور عليها وأعاده إلى مصر. وتولّى ابن خلدون القضاء بمصر بعد ذلك مرارًا، ثم وافاه اليقين بالقاهرة في 25 رمضان 808هـ»[6].

وكثيرًا ما نجد ابن خلدون في متن كتابته التاريخية، وأثناء عرضه الوقائع، لا يُخفي التصريح بارتباطه بالسلاطين وبذوي الشأن «وكذا كانت دولة الموحدين وزَنَاتَة التي أَظَلَّتْنا»[7].

ولعل سيرته الذاتية[8] وما يحكيه فيها عن نفسه، وعن علاقته بالسلاطين، وما تقلّده عندهم من مناصب عديدة في الديوان والكتابة، كل ذلك يؤكّد الطابع السلطاني المتحكّم في حياته، «كان اتّصالي بالسلطان أبي عنان، آخر ست وخمسين، وقرّبني وأدناني، واستعملني في كتابته، حتى تكدّر جوّي عنده، بعد أن كان لا يعبر عن صفائه»[9].

«وبينما نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمّه، في رمضان سنة خمس وستين، وكتب الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ذلك منّي، لا يظنه لسوى ذلك، إذ لم يطّلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت العزم، ووقع منه الإسعاف، والبر والألطاف، وركبت البحر من ساحل المرية، منتصف ست وستين. ونزلت ببجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي، وتهافت أهل البلد عليَّ من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبّلون يدي، وكان يومًا مشهودًا»[10].

بل إنه يصرّح أن مشروع كتابه التاريخي إنما كان بتكليف من السلطان الحاكم، يقول: «وقد كلّفني –أبو العباس- بالانكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّقه إلى المعارف والأخبار واقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام وما وصل إليَّ منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته»[11].

ولعل هذه الاعترافات تدعم بشكل كبير ما ذهب إليه إيف لاكوست من رصد مظاهر من امتداح ابن خلدون لانتصارات السلطان الذي كان أسيرًا عنده: «لقد قدّم المؤرخ المغربيّ للأمير المغولي، وهو أسيره، معلومات جدُّ دقيقة حول عدد كبير من البلدان، وامتدح انتصاراته بتفصيل بالغ، بحيث أنه تحوّل من أسير للفاتح إلى ضيف، وقد أخذ تيمورلنك بابن خلدون، إلى الحد الذي جعله يقترح عليه، ولكن عبثًا، الدخول في خدمته بصفة مؤرخ مستشار»[12].

نحن إذن أمام كاتب أو مؤرّخ يُعلن انتماءه إلى حاشية السلطان، وتثبت سيرته انخراطه في سلك كُتّاب البلاط منذ ريعان شبابه، حين كان عمره ستة عشرة سنة، وهو من الخاصة أو الأعيان، ومن العلماء المرافقين للسلطان، وهو مكلّف بالكتابة الديوانية، وتخصّص له مراسيم استقبال رسمية ويُحتفى به في يوم مشهود.

وهو من القضاة في سلك الدولة، بل هو قاضي القضاة، وله بالوزير ابن الخطيب علاقة خاصة، وهو فقيه مالكي، وهو مكلّف بمهام تفاوضية في أحلك الظروف وفي أشد الملابسات السياسية اضطرابًا وتشابكًا.

بل إن التأليف التاريخي عنده إنما كان بطلب من السلطان، المتشوّق لمعرفة الأخبار، يبادر إلى جمعها وعند إكمال الكتاب يرفع نسخته الأولى إلى خزانته. هذا الأمر يجعل السمات السلطانية عنصرًا أساسًا وسماتٍ تكوينيةً ملازمةً ومشَكِّلة لطبيعة الكتابة عنده.

ﷺ ثانيًا: الكتابة التاريخية وسلطة المركز

تبعًا لما سلف، يمكن تأطير الكتابة التاريخية عند ابن خلدون إذن ضمن الصورة الأولى التي تشكّلها الكتابة في الثقافة العربية؛ أعني الكتابة المركزية أو الكتابة الرسمية، في مقابل الكتابة الهامشية، ولنقل بعبارة أخرى: الكتابة السلطانية، وهي الكتابة التي تنتج في حضن السياسة الرسمية، وتكون على وفاق مع الجهاز الحاكم، ومع مؤسساته الإعلامية والتنظيمية والإدارية، وترتبط بالقوى السياسية الاجتماعية المتمكّنة من وسائل السلطة والمقرّبة من الحاكم، تنطق بلسانه وتعبّر عن تطلّعاته وتخدم مصالحه، وتساهم بوعي واختيار في تشكيل صورته أو تلميعها.

فهي نمط من الكتابة يعبّر بصدق عن إرادة الحاكم الرسمي، سعيًا نحو الحفاظ على قداسته، وبحثًا له عن مشروعيته في الاستمرار بغض النظر عن شرعيته أو لا شرعيته.

ومن بدهيّ القول: إن السلطة القائمة «تخلق مجموعة من الناس يتحدّثون باسمها، ويعبّرون عن أقوالها»[13]، ويكون هؤلاء هم الكتّاب والبلغاء والمنظّرون والشعراء والسياسيون ورجال القانون وغيرهم ممّن هم «على وفاق مع الدولة، أو في موقع الخدمة لها، أو العمل أداة من أدواتها»[14].

وعبّر هذه الكتابة يمكن النفاذ إلى خفايا وأسرار الخطاب السياسي، الذي يكون أساسًا هدفه الإخضاع والتوجيه، ويسعى إلى بسط السيطرة وتحقيق الهيمنة أو الإبقاء عليها وإطالة أمدها أو التغفيل عنها وعدم الانتباه إليها، من خلال نشدان إقامة علاقات تواصلية خفية مع الجمهور، ابتغاء النفاذ إلى المشاعر والقلوب، وإقامة أجواء من الحميمية والإيجابية الموهومة تجاه الآخرين، وربما النيل من بعض الخصوم وتحطيم شخصيتهم[15].

وما تنتجه هذه الجهة يشكّل المركز، ويتّخذ شكل النموذج الذي له دوره المؤثر والمستوعب لكل فعاليات الكتابة. فيفرض قواعد تتعالى في شكل مقاييس وأخلاقيات استنادًا إليها تُعطى الشرعية والاعتراف أو تنتزعان عن أية كتابة أو جهة أخرى في المجتمع.

في ظل الكتابة المرتبطة بالسلطة، أو الكتابة السلطانية لا يمكن للكتابة التاريخية أن تسلم من لوثة التسييس، فيغدو الخطاب التاريخي من الخطابات التي تستوجب التعامل معها، «على اعتبار أنها ممارسات تشكّل على نحو منظم الأشياء التي تتحدّث عنها»[16].

ففي ظل هذا الخطاب، لا يمكن ولا نتوقّع من الكاتب أو المؤرّخ الاكتفاء بعرض الأحداث والوقائع وسرد تتابعها الزمني كما هو، بقدر ما تغدو الكتابة التاريخية فعلًا أو ممارسة اجتماعية، ومساهمة في بناء معرفة اجتماعية مقصودة ومحدّدة، حيث يتحوّل الخطاب التاريخي إلى سلطة حقيقية وإن كان «كثيرًا ما تظل السلطة غير مرئية»[17]، إذ يوكل إلى الكاتب خلق الإمكانات وإيجاد العلاقات التي يمكن أن يتحدّث عنها الخطاب، أو العلاقات التي يتوجّب أن يبنيها الخطاب وكيفية التعامل معها[18].

ﷺ ثالثًا: التأريخ ومغازلة السلطة

تغدو الكتابة السلطانية إذن مظهرًا آخر من مظاهر العنف الذي تعتمده السلطة المركزية في مواجهة الهامش، وفي هذا الصدد تتحوّل الكتابة التاريخية السلطانية من ممارسة موضوعية، إلى وظيفة لتركيز الأيديولوجيا السائدة وتثبيت شرعية السياسة القائمة.

فالتأمّل في الكتب السلطانية التي أرَّخَت للملوك والأمم، وإمعان النظر في الطريقة التي يتّبعها أصحابها في سرد الوقائع والأحداث ذات الصلة بالحكم وبسيرة الحكام، والوقائع التي رافقت تدبير الشؤون من لدن بعض الحكام، والقضايا العصيبة التي سجّلها التاريخ وكانت مثار النقاش بين المهتمّين والمختصّين ومثار النقد الحفري من لدن آخرين، كل ذلك يُلقي بثقله على هؤلاء الكتّاب ويفرض عليهم اتخاذ الموقف من الأحداث المفصلية ومحاولة توجيه الأحداث والانطباعات.

هكذا يجد المؤرّخ الرسمي أو المؤرّخ السّلطانيّ أنه «رجل منخرط رغمًا عنه في الصراع السياسي؛ لأن قطاع المعرفة كلّه بيد البلاط، ولا حديث حينئذٍ عن استقلال المؤرخ»[19].

ولعل من أبرز نماذج هذا النمط من الكتّاب ابن خلدون (ت 808 هـ)، وخصوصًا في كتاب المقدمة»[20].

ﷺ رابعًا: المؤرّخ السّلطانيّ ومعضلات التاريخ

(1 – 4 ) في البحث عن شرعية التوريث

هكذا، وبحكم انتماء ابن خلدون إلى دائرة السلطة، وعندما يتعلّق الأمر بأحداث محرجة لطبيعة الممارسة السلطوية التي يجد أنها تخالف ما كان عليه الأمر في العصر النبوي والخلافة الراشدة، وتصطدم مع المتعارف والمشهور في تاريخ الحكم الإسلامي، يجد نفسه مضطرًا إلى البحث عن تبريرات وتخريجات وأعذار تلطّف من وقع المعضلة، وتجعلها مقبولة ومحتملة في عرف التلقي الإسلامي، «وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنّهم كان به صالحًا، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يُظَنَّ بمعاوية غيره؛ فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عيه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك»[21].

إن المؤرخ السلطاني هاهنا يصطدم بمعضلة توريث السلطة والعهد بالحكم والولاية من خليفة مسلم هو معاوية لابنه يزيد، وهو إجراء سياسي جديد ويشكّل سابقة في الممارسة السياسية الإسلامية، لم تألفه الذاكرة الإسلامية في السيرة السياسية النبوية، ولا في اشتغال جيل الخلفاء الراشدين من بعده.

غير أن ابن خلدون –بوصفه ممثًلًا ومنتميًا لسلطة سياسية مستمرة وباقية- يجد نفسه معنيًّا بأن يؤسّس لشرعية هذه السلطة المركزية، ويُضفي عليها الشرعية التاريخية ولو على حساب العقل والمنطق المتعارف، وعلى حساب المشهور الذاهب في الآفاق من الأمور. فهو يحاول إضفاء الشرعية للتأسيس لسياسة توريث الحكم من لدن الأمويين، فيلتمس العذر لتولي يزيد الحكم بعهد من أبيه، رغم ما اشتهر به عند الخاصة والعامة من انحراف وفسق وفجور وشرب خمر واشتغال باللهو والطرب.

وبعبارة أخرى رغم افتقاد هذا الأخير الأهلية والشرعية، لثبوت الانحراف والفساد، كما يصرّح هو نفسه[22]، وحتى مع المعارضة الشديدة من فئات عريضة من المجتمع[23]، ومع اختلاف الناس بشأن القبول بالمعهود إليه، وهي الصفات التي استند إليها كثير من الصحابة لرفض تولية يزيد والقبول به خليفة على الأمة. فقد كان ممّا أجاب به الحسين بن علي (عليه السلام) معاوية بشأن تقديم البيعة ليزيد: «واعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتُّهمة، وإمارتك صبيًّا يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلَّا وقد أوبقت بنفسك وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام»[24].

رغم كل هذا الانحراف المعلن عن انسياق القيادة السياسية مع الملذات والإسراف، بما ينذر بالمساس بحقيقة الخلافة التي هي حسب ابن خلدون «حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به»[25]، وبوظيفة منصب الخليفة بوصفه «نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به»[26]. رغم كل ذلك نجد المؤرّخ لا يتحرّج من التماس الأعذار لتولية هذا الحاكم، والعهد له بالملك، يبادر إلى البحث عن تبريرات توفيقية لشرعنة الفعل وإضفاء قدر من المقبولية عليه.

( 2 – 4 ) تطويع الحدث التاريخيّ

وبوحي من إكراهات الانتماء السياسي لا يجد المؤرخ بدًّا من العمل على محاولة إعادة بناء الأحداث التاريخية وفق منطق تبريري، فهو يحاول أن يلتمس الأعذار ويبحث عن مبررات لتكييف سير الأحداث بما يماشي الرأي العام أو الرأي الرسمي الغالب.

هكذا يغدو العهد بالخلافة على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرًا غير مهمّ -في نظر ابن خلدون-: «فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي (صلى الله عليه وسلم) غير مهمة، فلم يعهد فيها»[27]، لكنه بعد أن أصبح واقعًا مفروضًا وفق مجريات الأحداث التاريخية ووفق شريعة السلطة السياسية، حينئذٍ يغدو العهد بالخلافة مبرّرًا ومقبولًا، «ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها، واستشعرته بنو أمية، ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من اتّباعهم فاعصوصبوا عليه، واستماتوا دونه. ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهمَّ عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة»[28].

فيبدو كيف يعمل المؤرخ المنخرط في الملابسات السياسية بشكل بارع على تكييف مجريات الأحداث المحرجة وفق ما يخفّف من وقعها الصادم. فيغدو الاستئثار بالسلطة وتحويلها من شورى عامة بين المسلمين إلى شأن أُسري خاص، ويغدو العدول عن نهج السنة النبوية ومخالفة سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، بتحويل الخلافة إلى ملك يعهد به الأب لابنه ويلزم الأمة بمباركته ومبايعته، كل ذلك يغدو مبررًا وفق منطق المؤرخ السلطاني.

فهو يموقع نفسه ممثّلًا لجهة سياسية ينتمي إليها ويعدّ من حاشيتها، «وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرْضَوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنهم به كان صالحًا، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره؛ فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك»[29].

( 3 – 4 )  تجاهل تبريري

يحاول المؤرخ السلطاني التخفيف من وقع تولية العهد ليزيد الذي اشتهر فسقه، ويجتهد في البحث عن صيغة تبريرية ملائمة تبقي لفعل الحاكم شرعية اختياراته مهما كانت محرجة. فيكون المخرج هو نفي اعتقاد المورِّث أو علمه بما كان عليه وبما صار إليه ولي العهد من الانحراف أو الفسق.

مع العلم أن أمهات المصادر التاريخية التي لا يمكن لابن خلدون أن يكون في غفل عنها، وَثّقت بدقة وبتفصيل سيرة يزيد وأحواله وأخلاقه. ويكفي ما أورده عنه المسعودي (ت 346هـ)، وهو من المصادر التي أكثر ابن خلدون النقل عنها. يقول المسعودي: «وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعلى يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

اسْقِني شرْبَةً تَرْوِي عِظامِي

ثُم مِلْ فاسقِ مِثلَها ابْنَ زِيادِ

صَاحبَ السّرّ والأَمَانةِ عنْدي

وَلتَسْديدِ مَغْنَمِي وَجِهادي

ثم أمر المغنّين فغنوا به. وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وشاع في أيامه الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شر الشراب»[30].

بل إن ابن قتيبة يورد خطبة مطولة للحسين بن علي (عليه السلام) قالها في محضر معاوية، وبيّن فيها شهرة أمر يزيد وذيوع انحرافه وفسقه، كاشفًا عن أحواله: «تريد أن تُوهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عمَّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه. فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصرًا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممَّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلًا في جور، وحقنًا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلَّا غمضة»[31].

وهي أشياء تقلّل من إمكانية القبول بدعوى الجهل بحاله أو عدم الاعتقاد بما كان عليه من الفسق، وتضع تبريرات ابن خلدون في سياقها الطبيعي الكاشفة بوضوح عن ميولاته السياسية أكثر من كشفها عن واقع الحال أو تعبيرها عن حقائق الأمور.

4 -4) قدسانية القياس للتعميم

بل إن الرجل لا يجد بأسًا في تعميم تبريراته الملتمسة الأعذار لممارسات الملوك بحثًا عن تخريجات تتناسب ومخاطبة الرأي العام، وتنشد تشكيل وجهة نظر محدّدة وخاصة للأحداث التاريخية، يطبعها التوافق والتسليم لاختيارات السلطان ولتوجّهات السلطة، التي ينتسب إليها ويعدّ من حاشيتها.

ففي سبيل تطويع سلوك التوريث السياسي يعمد ابن خلدون إلى قياس ما فعله الأمويون بما فعله نبي الله سليمان وداود، «ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما، بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به، وكانوا كما علمت من النبوّة والحق»[32].

تبعًا لذلك يغدو وفق منطق تبريرات المؤرخ، أمرًا طبيعيًّا، غيرَ معيب ولا منكر فعل التوريث والعهد بالخلافة من الملوك الأمويين والعباسيين لأبنائهم، بل وحتى لإخوانهم: «ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرّون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممَّنْ عرفت عدالتهم وحسن رأيهم في المسلمين، والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينيًّا، فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى ما يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره»[33].

وبمقتضى هذا الانتساب، تغدو الأصوات المعارضة للسلطان في اختياراته، مهما تكن حجتها، كما هو الشأن مع المعارضة العلنية لعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والأحنف بن قيس ومروان بن الحكم الذين أنكروا على معاوية ما فعل وعاتبوه صراحة إلى حدّ الغضب[34].

ومهما تبلغ درجة الاستنكار لديها، ومها تعلن بدعيّته ومخالفته سيرة السلف والمشهور في تاريخ الخلافة الإسلامية، كل ذلك يؤطّره المؤرخ السلطانيّ ضمن دائرة العمل الشاذ، والمخالفة النادرة، التي لا تستحق ذكرًا ولا أن تخصّص لها وقفة تاريخية تكشف تفاصيلها، لأنها على غير ما عليه الجمهور[35].

بل إن المؤرّخ السلطاني يوجد لكل ذلك تكييفًا مهادنًا وتبريرًا توفيقيًّا، فيقدّمه في صورة مختصرة مبتسرة مشفوعة بتبريرات مخفّفة؛ «وفرار عبد الله بن عمر من ذلك، إنما هو محمول على تورّعه من الدخول في شيء من الأمور مباحًا كان أو محظورًا، كما هو معروف عنه»[36].

ﷺ خامسًا: التاريخ وضيق التمذهب

في الكتابة التاريخية عند ابن خلدون ثمَّة كثير من المحطات التي يسهل على الباحث أن يلاحظ أنه لا يسير فيها وفق منطلق بحثي خالص ولا روح علمية مجرّدة، بما لا يسعف في الظفر بالحقيقة التاريخية الموضوعية، البعيدة عن توجيهات المؤرّخ وميولاته ومنظوره الشخصي أو الذاتي للأشياء. فالرجل يصاحب مسروداته بمواقف وأحكام وتقييمات لا تكاد تتحرّر من رواسب الأيديولوجيا السياسية أو رواسب الانتماء المذهبي.

1 – 2 )  المؤرخ في مواجهة الآخر، أو نعوت الجدل التّغالبيّ

بل إننا نجد أن المؤرّخ يتحوّل إلى ناطق رسمي باسم توجّه أو تيار فكري معلوم ومحدّد؛ فهو يكتب من منطلق المؤرّخ السني الفقيه المالكي والقاضي، الذي يصدر عن رؤية تخاصم التيارات الأخرى، وتصطنع ضدها صراعًا عقديًّا فكريًّا أيديولوجيًّا، يلقي بها إلى الهامش أو إلى المعارضة، ومن ثمّة يكون على هذه التيارات الأخرى، في ظل رؤية المؤرّخ المعلن عن انتمائه المذهبي، أن تتحمّل عبء النعوت القدحية والتوصيفات المواربة التي تحاصرها في زاوية مظلمة متوجَّسٍ منها، محاطة بسلسلة من السلبيات والمغامز التي تجعلها حقيقة مهدّدة في كيانها.

في معرض حديث ابن خلدون عن الشيعة والفرق المعتقدة بالإمامة، ينتقل الرجل ويتحوّل بشكل سافر ومعلن من موقع المؤرّخ المستقصي الأحداث والوقائع والمراكم للمعلومات، إلى نموذج المؤرّخ المتكلّم الذي يقدّم اجتهاداته الكلامية في ثوب اكتشافات وحقائق تاريخية[37].

وينتقل إلى موقع الفقيه والمحَدِّث الذي يُبدي ميلًا واضحًا لنقض ودحض وتكذيب أغلب أفكار الإمامية. فهو يعتبر أن الأدلة التي يتمسَّكون بها في إثبات وجهة نظرهم، والنصوص التي يحتجّون بها وينقلونها معتقدين بحجيتها، كل ذلك يلخّصه ابن خلدون ويرى أنها «نصوص ينقلونها ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة»[38].

نراه يجتهد في ذكر اختلافاتهم ومواقفهم السياسية بشأن الإمامة والخلافة، وفي سياق حديثه ترد كثير من النعوت والمواقف والأحكام التي تجعل تلكم التوجّهات في موقف الخصم والمتّهم، والمتوجّس منه. فهو لا يتردّد في أن يصفهم بعبارات المنظومة الفكرية الأخرى برمتها إلى منظومة هامشية في مواجهة سلطة المركز.

لأنها منظومة تحاصر بصفات قيمية قدحية لا يمكن أن يطمئن إليها الرأي العام؛ «وبذلك سُمّوا رافضة»، «ومنهم طوائف يسمّون الغلاة تجاوزوا حدّ العقل والإيمان»، «يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم»[39]، «وقد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاةَ»[40]، «ويسمون أيضًا الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد»[41]، وهم يؤلّهون الأئمة ويجعلونهم متّصفين بصفات الألوهية أو أن الإله حلّ في ذاتهم البشرية، «وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه»[42]، «وهم أصحاب تأويلات فاسدة»[43].

ويفنّد دعوى أهمية الإمامة عند المعتقدين بها، لأن نظريتهم فيها مجرّد زعم وشبهة، مبيّنًا أنها ليست من كمال الدين ولا من أصوله، فيقول: «وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون، وليس كذلك؛ وإنما هي من المصالح العامة المفوّضة إلى نظر الخلق. ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة، ولكان يستخلِف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة، ولكان يشتهِر كما اشتهر أمرُ الصلاة»[44].

وهذه كما يظهر نعوت تقود حتمًا إلى أن يترافق الجرد التاريخي للأحداث مع تطويق الآخر ومحاصرته فكريًّا أو عقليًّا، لأنه يغدو مسلوب العقل وخصمًا للمنطق (تجاوزوا حد العقل)، ومحاصرته عقديًّا (تجاوزوا حد الإيمان)، (لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد). فلا غرو أن يستتبع هذه النعوت تشكيل موقف أو رأي عام يحق له أن يتوجّس خيفةً من هذا التّيار، لأنه يصبح رديف الزندقة والبدعة والانحراف.

يراكم ابن خلدون إذن جملة من النعوت تبدو بموجبها هذه الفئة في التاريخ العربي الإسلامي تخالف السلطة أو تهدّدها أو تزعجها، أو «تنزاح بأية صورة عن (النصية المركزية). إنها تظل خارجة عن التقليد النصي المتعارف، وحاملة لقيم نصية مختلفة لا يمكن أن تحظى إلَّا بالرفض والنقض»[45].

فهي حتمًا غريبة ومتوجَّس منها، تغدو غير مقبولة مركزيًّا، وتصبح متّهَمة ومهدَّدة وفاقدة صفة النصية، ومحسوبة في عداد (اللّا نص)، نصيبها التجاهل والإقصاء والتهميش. وكل ما يصدر عنها أو ينتسب إليها من فكر أو ثقافة أو تديّن أو تحرّك تنسحب عليه النعوت السلبية لهذه الطائفة غير المسموح لها بأن تنشط على الساحة السياسية، لأنها تمثّل توجّهًا ثقافيًّا وأيديولوجيًّا مضادًّا، ورؤية فكرية تهدّد الأيديولوجيا الرسمية، التي تبيح لنفسها نهج كل السبل الممكنة لتطويق هذه الفئة الأخرى ومحاصرتها. بما ينسب إليها كل صنوف التهم والموبقات التي يمكن أن تحدُّ من غلوائها وتكبت أنشطتها المحتملة، وتوقف حركيتها منعًا لأي اكتساح أو تنامٍ غير مأمون.

ومن ثمّة فهي باختصار موسومة بالكتابة الهامشية أو المهمّشة، في مقابل توجيهات المؤرّخ الواعية وترتيباته لـ«فرض صيغة معينة للتعامل والنظر إلى الأمور، وبالتالي افتراض صيغ ومقاييس هي وحدها التي تمثّل الحقيقة. أي إن الحقيقة تكون في مكان واحد ولها شكل واحد، ولذلك ليس أمام الآخر سوى الامتثال والانسجام والموافقة»[46].

ورغم أن ابن خلدون يستدرك على من سبقه من المؤرّخين والمفسّرين، ويشير في مقدّمة كتابه إلى هفوات بعضهم وتساهلهم في نقل الأشياء من دون تمحيص وتدقيق قائلًا: «وكثيرًا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل المَغَالِطُ في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثًّا أو سمينًا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سيَّروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النَّظر والبصيرة في الأخبار، فضلُّوا عن الحقّ وتاهوا في بيداء الوهم والغلط»[47].

رغم هذا المستوى الفائق من تحرّي الدقة العلمية، الذي يبدو بحق سبّاقًا في مجاله، إلَّا أن ذلك لم يكن مانعًا من إيراد بعض النوادر والمواقف الشاذة المنسوبة إلى الإمامية الاثني عشرية، «يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقّبونه المهديّ، دخل في سرداب بدارهم بالحلة وتغيَّب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك، وهو يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا؛ يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي؛ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب، وقد قوّموا مركبًا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج، حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضّون ويُرجئون الأمر إلى الليلة الآتية، وهم على ذلك إلى لهذا العهد»[48].

2–2) لبس المفهوم

يفنّد ابن خلدون ما اصطلح عليه ونعته بدعوى أو زعم أو شبهة أهمية الإمامة عند الشيعة، فعلى عكس ما يذهب إليه معتقدو الإمامة ويجمعون عليه من كون «الإمامة ليس من المصالح العامة التي تُفوَّض إلى نظر الأمة... بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام»[49].

يبيّن ابن خلدون أن الإمامة ليست من كمال الدين ولا من أصوله، وإنما هي من «المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق، ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة»[50].

لكن عندما يتعلّق الأمر بالدفاع عن السلطة القائمة والبحث عن شرعية استمراريتها وبقائها، وعندما يُجابَه ابن خلدون بحقيقة أن تطوّر أحداث التاريخ إنما سار في اتجاه التوريث والعهد بالحكم من السابق إلى اللّاحق، ومن الأب إلى الابن، وفق ما شرَّع له الحكّام الأمويون، حين عهد معاوية بالحكم لابنه يزيد، ووفق ما جرت به سنن السلاطين. حينئذٍ يعدل ابن خلدون عمَّا قاله بشأن الإمامة سابقًا، إلى مستوى تصبح الإمامة السياسية أو الإمامة الكبرى أو الخلافة على قدر من الأهمية والمشروعية «اعلم أنَّا قد قدّمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة، وأن حقيقتها النظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم»[51].

بل إن الإمامة السياسية تصبح عنده -على عكس ما سبق تمامًا- هي الأصل، والصلاة متفرِّعة عنها وراجع أمرها إليها: «فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرِّعة عنها وداخلة فيها، لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم»[52].

وتبعًا لذلك يغدو الحاكم شبه منزَّهٍ وغير متَّهم فيما يرى ويفعل ويقرّر لصالح الأمة أو الرعية، فـ«لا يُتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه، لأنه مأمون على النظر لهم في حياته، فأولى أن يحتمل فيها تبعةً بعد مماته، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه، من إيثار مصلحة أو توقّع مفسدة»[53].

ﷺ الخاتمة

خلاصة ما نصل إليه أن الكتابة التاريخية عند ابن خلدون لم تُفصل عن إكراهات السياسة، وأن سمة التسييس بدت سمة متحكّمة فيها، بوصفها مكوّنًا وتكوينًا في اشتغال الرجل، بالنظر إلى ارتباطه بالمؤسسة الحاكمة، أو مؤسسة السلطة، التي يمكن أن نقول بأنها حوّلته إلى مؤرخ «صاحب مهنة» بتعبير العروي[54].

فهو ينتج خطابًا تاريخيًّا يندرج ضمن ما يعرف بالتاريخ بالمفهوم، وهو ذلك النمط من التاريخ الذي يكتب «بأفكار مسبقة لتبرير معتقدات غير مستنبطة من المادة المدروسة»[55]، بما يثبت حقيقة مقولة (استحالة نزاهة المؤرّخ). فهو يؤرّخ للوقائع والأحداث بذهنية مشبعة بوعي سياسي لا يخفى انتماء صاحبه لسلطة المركز.

وبذا تكون الكتابة التاريخية عند ابن خلدون مجسّدة فعلًا لأزمة الخطاب التاريخي عند العرب، لكونها ظلّت وثيقة الصلة بفن كتابة «الملل والنحل» حيث يتحوّل التاريخ إلى صناعة أيديولوجية محضة، تشهد تماهيًا عجيبًا بين المعرفة والسلطة[56].

فمع ابن خلدون تأخذ الكتابة التاريخية صورة التماهي الواعي بين الخطاب والواقع[57]؛ أي إن الخطاب التاريخي يصبح جزءًا من الممارسة السياسية، فيعمد المؤرّخ إلى استغلال الخطاب لتقديم التوجيه والإرشاد عن طريق الخطاب، وتصبح أيديولوجيا الكاتب مساهمة في توجيه القارئ، بل تصبح «السلطة أهمَّ من المعرفة»[58]، ويصبح الخطاب بحق «مظهر سلطة وعنف» بتعبير جولد شليغر[59].

 


 

 



[1] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ: (الجزء الأول: الألفاظ والمذاهب)، المركز الثقافي العربي، ط1، 1992، ص18.

[2] عمر فروخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1982، ص 696.

[3] المرجع نفسه، ص 696.

[4] إدريس هاني، محنة التراث الآخر.. النزعات العقلانية في الموروث الإمامي، الغدير، بيروت، ط1، 1998م، ص 39.

[5] H. White, «The Burden of History» in History and Theory, vol. 5, n° 2, 1966, p.111-134, Cité par Marta Cichocka, Op.cit , p. 87

[6] عمر فروخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1983م، ص ص 691 - 692.

[7] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ص 209.

[8] سيرة ابن خلدون هي عبارة عن فصل من كتابه التاريخي المشهور (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، طبعت مستقلة بعنوان: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا، ، سوسة - تونس: دار المعارف للطباعة والنشر.

وتدخل في جنس السيرة لأنها تستوعب ضمن التعريف المشهور لفيليب لوجون «حكي استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة عامة. ينظر: فليب لوجون، السيرة الذاتية.. الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص22.

[9] عبد الرحمن بن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا، سوسة - تونس: دار المعارف للطباعة والنشر، ص77.

[10] عبد الرحمن بن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا، ص115 - 116.

[11] التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا، تحقيق: بن تاويت الطنجي، لجنة التأليف والنشر، 1951.

[12] إيف لاكوست، ابن خلدون، ترجمة: د. ميشال سليمان، بيروت: دار ابن خلدون، ط3، 1982، نقلًا عن: إدريس هاني، محنة التراث الآخر، مرجع مذكور، ص 39.

[13] أوكان عمر، مدخل لدراسة النص والسلطة، أفريقيا الشرق، ط 2، 1991، ص 124.

[14] جابر عصفور، بلاغة المقموعين، ضمن كتاب جماعي: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، منشورات مجلة ألف بتانسيفت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، ص 6.

[15] عماد عبد اللطيف، استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي، (خطب الرئيس السادات نموذجًا)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 119-120.

[16] ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ط 2002، ص 54.

[17] روث فوداك ومشيل مايير، مناهج التحليل النقدي للخطاب، ترجمة: حسام أحمد فرج وعزة شبل محمد، المركز القومي للترجمة، ط 1 2014، ص 170.

[18] حفريات المعرفة، ص 50 وما بعدها.

[19] إدريس هاني، محنة التراث الآخر.. النزعات العقلانية في الموروث الإمامي، بيروت: الغدير، ط1، 1998م، ص 24.

[20] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص 489.

[21] المصدر نفسه، ص 162.

[22] المصدر نفسه، ص ص 170-171.

[23] كما تبيّن أغلب المصادر التاريخية، ويمكن معاينة أسماء الشخصيات من الصحابة الذين عارضوا واعترضوا على تنصيب تولية يزيد الحكم، ورفضوا القبول بمبايعته. ينظر:

ابن قتيبة (أبو عبد الله بن مسلم)، الإمامة والسياسة، دار الكتب العلمية، ج1، ص ص 135-175.

[24] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 147.

[25] المقدمة، ص 151.

[26] المقدمة، 151.

[27] المقدمة، ص 167.

[28] المقدمة، ص 162

[29] المقدمة، ص 162

[30] علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب، تحقيق: محيي الدين، بيروت: دار المعرفة، ج 3، ص 67-68.

[31] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 150 - 151.

[32] المقدمة، ص 160.

[33] المقدمة، ص 166.

[34] كان مما تكلّم به في محضر معاوية: «فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء».

ومما تكلم به عبد الله بن الزبير: «فإن الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنية، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء وكرم الأبناء، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف من نفسك».

ينظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص ص 140 - 141.

[35] المقدمة، ص 166.

[36] المقدمة، ص 166.

[37] يرى عبدالله العروي أن المؤرخ قد يدخل في خوض نقاشات ذات الصلة بعلم الكلام وتاريخ الإسلام والعلاقة بالآخر.. إلخ. وهي أمور ليست تافهة أو لاغية في سياق اشتغال المؤرّخ، إلَّا أنها تستدعي منه أن يصرّح ويصارح القارئ أنه «يودّع التاريخ الوقائعي ويقف على عتبة علم الكلام». ينظر: عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط. 4، 1997م، ص 186.

[38] المقدمة، ص 155.

[39] المقدمة، ص 156.

[40] المقدمة، ص 157.

[41] المقدمة، ص 158.

[42] المقدمة، ص 156.

[43] المقدمة، ص 155.

[44] المقدمة، ص 167 .

[45] سعيد يقطين، الكلام والخبر.. مقدمة للسرد العربي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص 52.

[46] عبد الرحمن منيف، بين الثقافة والسياسة، بيروت- البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص 164.

[47] المقدمة، ص 10.

[48] المقدمة، ص 156- 157.

[49] نفسه، ص 155.

[50] نفسه، ص 167.

[51] نفسه، ص 165.

[52] نفسه، ص 172.

[53] المقدمة، ص 165.

[54] عبدالله العروي، مفهوم التاريخ، مرجع سابق، ص 43.

[55] المرجع نفسه، ص 108.

[56] إدريس هاني، محنة التراث الآخر، مرجع سابق، ص 43.

[57] ما عبّر عنه فوكو ثنائية الخطاب والواقع المادي. ينظر: ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، 1985م.

[58] روث فوداك ومشيل مايير، مناهج التحليل النقدي للخطاب، مرجع سابق، ص 30.

[59] غولد شليغر، نحو سيمياء الخطاب السلطوي، ترجمة: مصطفى كمال، منشورات بيت الحكمة، العدد 5، 1987.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة