تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب ومحمد باقر الصدر

علي القريشي

 

 

 

مفهوم الحضارة

بين مالك بن نبي وسيد قطب ومحمد باقر الصدر*

الدكتور علي القريشي**

*     تعقيب على مقالة: زكي الميلاد، فكرة الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب، مجلة الكلمة، العدد 95، ربيع 2017م/ 1438هـ.

** باحث وأستاذ جامعي من العراق، رئيس مركز التغيير للدراسات والإعلام.

 

 

 

ﷺ مدخل

إن الجدل الفكري الذي جرى قبل عقود مضت بين المفكّرَين مالك بن نبي وسيّد قطب حول مفهوم الحضارة، والذي تعرّضت له من قبل مع بعض الباحثين منهم الدكتور سليمان الخطيب في مصر، والدكتور محمد العبدة في الجزائر، قد دفع الباحث السعودي زكي الميلاد مؤخّرًا إلى استئناف الحوار حول الموضوع، الذي هو بنظره موضوعًا حيويًّا وجديرًا بالتعقيب، بوصفه إشكالية تمسّ صميم واقع الأمة واحتياجاتها ومكانتها في عالم اليوم، لهذا عدّ ما جرى من نقاش بين ابن نبي وسيّد قطب حول الفكرة المذكورة، أحد أهم المناظرات النادرة التي شهدها المجال العربي الإسلامي والتي تحتاج بنظره إلى مزيد من الحوار والتعميق.

وإذا كانت مداخلات الباحثين العرب الثلاثة المشار إليها حول موضوع المناظرة، قد مالت إلى وجهة نظر سيد قطب، فإن الأستاذ الميلاد بدا وكأنه أميل إلى وجهة نظر مالك بن نبي.

بداية نشير إلى أن زكي الميلاد قد أقرّ بأن مالك بن نبي كان مسكونًا بهاجس «التقدّم»، بينما كان هاجس سيد قطب هو «الهوية»، وهذه حقيقة واضحة في الموقف الفكري العام لكلا المفكّرَين، وإن عدم إغفال ابن نبي لفكرة الهوية الذي أكّده الميلاد، لا يغيّر من حقيقة أن اهتمامه المركزي ظلّ منصبًّا على الحضارة = التقدّم، بينما ظلّ سيد قطب يعدّ الهوية = العقيدة هي جوهر المشروع الإسلامي، وقد شكّل موضوعها محور اهتمامه الرئيس.

إلَّا أن ذلك لا يعني أن المدنيّة أو الحضارة مستبعدة في تفكير قطب أو أنها لا تعنيه، فهو يراها نتيجة؛ لذلك لم ينشغل بالنتيجة قبل إرساء المقدّمة، أي إيجاد «المجتمع الإسلامي» المؤمن، بينما ظلّ ابن نبي يتحدّث عن شروط الحضارة بمعناها المادي والمعنوي، بدليل أنه كان يأمل في ثورة جمال عبد الناصر أن تحقّق الحضارة المرجوة دون أن يتساءل كثيرًا عن طبيعة النظام الناصري سواءً من أوجهه التشريعية أو السياسية أو الاجتماعية.

والحقيقة أن فهم الحضارة بجوانبها المادية عند ابن نبي قد ترتّب عليه تحديد جانبي لإشكالية التغيير، حيث تمركز حول مجسّدات التمدّن، وظن أن تحقيق الحضارة لا يتمّ إلَّا وفقًا لمعادلة: إنسان + تراب + زمن، وهذا ما أبعده عن المشكلة الحقيقية، وعن جوهر التخلّق المرتبط بمسائل العقيدة والقيم والأهداف والسلوكيات والنظام الاجتماعي الحاكم.

لذا صحّ القول: إن ابن نبي كان يفكّر بالمجتمع الإسلامي الماثل، فيما كان سيد قطب يفكّر بالمجتمع الإسلامي المثال، ولا أدلّ على ذلك من تركيز جهده على شروط إقامة المجتمع الإسلامي المؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ونظامًا، لأنه كان يرى أن إيجاد هذا المجتمع سيتبعه تلقائيًّا صوغ النظريات الإسلامية ضمن الواقع وممارساته العملية.

فالمجتمع يُنتج نظرياته ونظمه اللائقة به، وهذا ما لم يَعِهِ ابن نبي حين انتقد سيد قطب وهو يغيّر عنوان كتاب له اسمه «نحو مجتمع إسلامي متحضّر» إلى «نحو مجتمع إسلامي» معتبرًا كلمة «متحضّر» لا لزوم لها لأنها تحصيل حاصل، وبصرف النظر عن مثالية هذا الهاجس الذي يتعارض مع واقعية مبدأ «ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه».

لا شك أن تركيز سيد قطب على موضوع الهوية قد أبعده عن الانشغال بفكرة التقدّم، بل وحتى عن الإعداد النظري لنظم المجتمع الإسلامي المنشود، في مقابل ما ركّز عليه ابن نبي على فكرة التقدّم دون الانشغال كثيرًا بشروط الهوية وإعداد الشروط القانونية للنظام الإسلامي، وقد تلافى المفكّر الإسلامي العراقي محمد باقر الصدر هذين الخللين في مشروعه التغييري حين جمع بين الاهتمام بالنظام الإسلامي ونظرياته وفكرة التقدّم وشروطها الموضوعية[1].

ومع ذلك فإننا نتّفق مع الأستاذ الميلاد في نقده للنتائج التي يمكن أن تترتّب على تقسيم المجتمعات عند سيد قطب إلى مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي، بحيث لا يصدق -من وجهة نظره- وصف الحضارة إلَّا على الأول دون الثاني، ومن ثَمَّ فجميع الحضارات غير الإسلامية تمثّل حالة جاهلية، وهو موقف يتنكّر ولا شك إلى المنجزات الإنسانية والعمرانية التي قدّمتها العديد من الحضارات، كما أن وصفه تلك الحضارات بالجاهلية ينطوي على دعوة نبذ من شأنها أن تقود إلى التنافر والصراع، وهو ما أدّى إليه الفكر القطبي بالفعل عند أتباع مدرسته عند تكوينهم النظرة نحو الآخر، حتى جعلهم يرفضون التفاعل والتبادل مع الحضارات الأخرى.

ﷺ بين الصدر وسيد قطب

وهنا نرى من المناسب بيان رأي السيد الصدر وقراءاته لفكرة الحضارة في مقابل ما رآه كل من مالك بن نبي وسيد قطب.

إن الاستقلالية الفكرية للسيد الصدر، لم تمنعه من أن يكون منفتحًا على الآخرين إسلاميين وغير إسلاميين، ففي مجال الفكر الحركي أفاد من كتابات الإخوان المسلمين لا سيما كتابات حسن البنا الذي قرأ له مشكلات الدعوة والداعية، كما قرأ لسيد قطب وعبد القادر عودة، واشترك مع سيد قطب في إدراك ضرورة العمل الحركي وأهمية إعداد النخبة في إنجاز مشروع التغيير.

وقد انخرط كل من الصدر وقطب في العمل المنظّم، فالأول يُعد –كما هو معروف- من مؤسّسي حزب الدعوة، فيما أضحى الثاني بالتحاقه بتنظيم الإخوان قطبًا بارزًا من أقطابه في مرحلة الستينيات.

غير أن سيد قطب على الصعيد المعرفي لم يكن إلَّا أديبًا، ولم يتميّز إلَّا بتفسيره للقرآن الكريم، وبما قدّمه من دراسات جمالية إسلامية. أما الصدر فقد كان عالمًا في الشريعة، وفقيهًا مجتهدًا بالمعنى الأصولي، فضلًا عن كونه فيلسوفًا، ومكتشفًا للعديد من النظريات الإسلامية في أكثر من حقل، ولم تكن منطلقات التغيير عنده تقتصر على النص الديني، بل كان يوظّف النص ويستنبط منه النظريات بخلاف قطب الذي كان يرى أن الاشتغال في وضع النظريات أو البرامج أمر لا طائل من ورائه ما دام المجتمع جاهليًّا، كما أن النظريات والبرامج لا تظهر –برأيه- إلَّا كنتيجة لقيام مجتمع إسلامي متكامل.

ومن هنا كان تركيزه على العمل الدعوي وتكوين الصفوة (المكية) المؤمنة التي تقع على عاتقها قيادة التغيير، وتمهيدًا لإقامة المجتمع الإسلامي المطلوب.

ينتج من هذا الاختلاف، اختلاف النظرة بينهما نحو مفهوم المنهج، فهو عند قطب لا يتجاوز معنى الدين، فيما عند الصدر مجموعة القواعد والأدوات التي تستخدم لتقديم رؤية إسلامية متكاملة، وهو المعنى الذي يقترب من المفهوم المعتمد في النظام المعرفي المعاصر[2].

كما أن قطب يردّ حالة الانحراف في الحالة الإسلامية إلى ما داخل الفكر الإسلامي من فكر أجنبي واختلاط بالثقافات الفارسية والإغريقية، فيما يردُّ الصدر الانحراف إلى ما أصاب البناء الداخلي للأمة من عطب[3]، خاصة بسبب السلوك المنحرف للقيادات التي تسلّمت زمام الأمور وأدّت إلى ما أدّت إليه من تعطيل للفاعلية الإسلامية.

وقطب هو الآخر لا ينكر ظاهرة الانحراف القيادي حين حلّل في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) ما أصاب التجربة الإسلامية من خلل حين أُبعد الإمام علي (عليه السلام) عن زمام القيادة، ومن ثَمَّ برزت ظاهرة الانفصال فيما بين السلطان والقرآن – بحسب تعبير مالك بن نبي.

وبالعودة إلى مسألة بناء النظريات، واعتماد سيد قطب مبدأ إرجاء ذلك إلى ما بعد قيام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فإن ذلك هو ما دفعه إلى الاكتفاء بعرض مبادئ الحكم العامة في الإسلام، واعتماد فكرة الجيل الأول وتجربته التاريخية[4]، فيما عمل الصدر وبقوة لإثبات قدرة الإسلام على تنظيم شؤون الأمة وقيادة الحياة، لهذا كان عكوفه على الكتابة في النظرية السياسية الإسلامية وتدوينه لمشروع الدستور الإسلامي، وبلورته للمفاهيم المتّصلة بالقيادة والنظام.

وحين كان سيد قطب يرفض الفلسفة، ويركّز على اكتشاف مدركات التصوّر الإسلامي مقرونة بالتربية والتحريض على التغيير، كان الصدر يشتغل بالفلسفة ويقدّم في مجالها المنظورات الإسلامية حول الكون والإنسان والمعرفة والعالم، باعتبار أن ذلك يشكّل في نظره أصل التفكير ومنبع تشكيل الرؤى والاتّجاهات التي تؤسّس للتغيير.

أما على صعيد العمل الحركي، فقد طغى الأسلوب الأدبي والوجداني على خطاب سيد قطب، وقد تجلّى ذلك في كتابه (معالم في الطريق) الذي شكّل وثيقة إدانة ضدّه وحُكم بسببه بالإعدام بدعوى أنه كان دليلًا لعمل حزبي، وبرنامجًا لقلب نظام الحكم، فيما الحقيقة أنه لم يكن إلَّا كتابًا حمل أفكارًا ولفتات تربوية مشبعة بالحس التعبيري، ولم يكن ينظر لأية خطوات إجرائية، وهو في (معالم في الطريق) يختلف عمَّا كتبه الصدر في هذا الخصوص، لا سيما أفكاره الحركية التي وضعها لحزب الدعوة وما كان يضعه من تنظيرات، وتحديده لمراحل العمل السياسي وما كان يبثّه من أفكار في بعض محاضراته ورسائله، التي كانت تعبّر عن الاهتمام بالواقع وإشكالياته وصراعاته.

ومن أوجه التباين بين الصدر وقطب، أن قطب كان يعلن –ضمنًا إن لم يكن صراحة– تكفيره للحكّام، وينعت المجتمعات جميعًا بالجاهلية، وكان خطابه التربوي يقوم على ترسيخ سلوكيات المفاصلة مع الواقع والتشدّد مع قواه ونظمه الفاعلة، فيما كان انشغال الصدر منصبًا على وضع البدائل النظرية، والتأسيس التربوي للتغيير من دون أية أطروحة تكفيرية، لكنه في الوقت نفسه لم يتردّد من وصف حكام العصر بالظلمة من دون استخدام لغة التكفير.

لقد تميّز سيد قطب بأسلوبه الوجداني ونزعته التحريضية الحادّة، ولم ينشغل كالصدر بإعداد نظريات إسلامية في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الفلسفة، وبهذا فهو مفكّر في الدعوة لا مفكّرًا في اكتشاف النظريات، كما اعتمد في فهمه التغييري على ترسيخ العقيدة والتربية الحركية للنخبة، وكان يرى في ذلك الكفاية من دون الحاجة إلى الاشتغال بالبرامج، لأن البداية المطلوبة هي في ضرورة التخلّص من المجتمع الجاهلي، وإن التغيير الاجتماعي الحقيقي لا يتحقّق إلَّا عبر هذا الطريق.

ﷺ بين الصدر ومالك بن نبي

قضية التغيير الاجتماعي تمثّل محور أعمال وأنشطة كل من السيد محمد باقر الصدر والمفكّر الجزائري مالك بن نبي، وإذا كان الإسلام يجمع بينهما عقيدة، إلَّا أن ما يميّز الصدر أنه كان فقيهًا يمارس الاستنباط الشرعي على مختلف الحقول، ويجتهد في اكتشاف النظريات الإسلامية، وكان الإسلام بشموليته يشكّل قاعدة وإطارًا لجهوده التغييرية، فيما كان ابن نبي يواجه الواقع بإشكالياته الماثلة، ويتناوله بعقلية تحليلية وتفكير علمي ونزعة برجماتية مع الاستضاءة بمبادئ الإسلام وتوجّهاته وقيمه العامة، وهو بذلك ينطلق من الواقع ويبحث في شروط التغيير الموضوعية وصولًا إلى تحقيق النهضة في إطار ما أسماه بالحضارة. من هنا كان اهتمامه ينصب بالدرجة الأولى على الإنسان المسلم والمجتمع المسلم أكثر من انشغاله بالإسلام كأحكام ونظريات، وهو بذلك أقرب ما يكون إلى عالم اجتماع إسلامي منه إلى عالم في الشريعة الإسلامية.

لقد انتقد ابن نبي الاتّجاهات الإصلاحية لرجال النهضة الذين سبقوه، ورأى أن انشغالهم كان منصبًّا على قضايا جزئية، فالأفغاني بنظره ركّز على الجانب السياسي، ومحمد عبده انشغل بإصلاح التعليم، والكواكبي وشكيب أرسلان شغلهما الجانب الدفاعي، ولم يستثنِ من التوصيف المتقدّم غير حسن البنا الذي وجده أكثر شمولية وفاعلية.

إلَّا أن الحكم النقدي المذكور ينسحب في التحليل النهائي على ابن نبي نفسه، إذا ما تأمّلنا كيف أن اهتمامه تمحور حول إشكالية الحضارة والتنمية والذي قاده إلى نحو آخر من التجزيئية، حين ركّز اهتمامه على المعنى المدني المادي للحضارة أكثر من معناها الشامل، بدليل أنه كان يتفاعل مع ثورة يوليو في مصر لا لشيء إلَّا لأنها بدأت تؤسّس لمشاريع تنموية، وتضع خططًا للتصنيع والإصلاح الزراعي والنهضة المدنية.

والحقيقة أن فهم الحضارة بالحدود المادية والتنموية عند ابن نبي، قد ترتّب عليه تحديد جانبي لإشكالية التغيير تمركز حول مجسّدات التمدّن، فظن أن الحل الدقيق للمشكلة الحقيقية لأزمة التخلّف المرتبطة بقضية الإنسان وحريته وكرامته وأمنه وقيمه وأخلاقه وتوازنه، وما يتطلّبه من توفير للعدالة الاجتماعية، والبعد عن الاستبداد وتحقيق المساواة، والذي يرتبط كل ذلك بالبحث عن النظام الاجتماعي الأصلح، وهو ما انتبه إليه وركّز عليه السيد الصدر.

إن الصدر كان يدرك أن التغيير لا ينبغي أن يستهدف مجرّد هيكل الوجود المادي والمدني وتحقيق النهضة التنموية، بل لا بد من إيجاد النظام الاجتماعي الصالح الذي تتجسّد من خلاله القيم والمبادئ والمقاصد الربانية على مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أما مجرّد تهيئة الوسائل والإمكانات المادية والمدنية –على أهميتها– فلا يؤدّي بالضرورة إلى التكامل والسعادة وتحقيق إنسانية الإنسان.

ومع ذلك التقى كل من ابن نبي والصدر على تأكيد أهمية التربية، والنظر إليها كإحدى المقوّمات الأساسية في عملية التغيير الاجتماعي، ومن منطلق الاهتمام بالتغيير الاجتماعي عند كل منهما اتّجهت أفكارهما التربوية إلى الجانب الاجتماعي، غير أن ما كان يفرّق بينهما أن ابن نبي كان يتواصل بأفكاره مع الواقع كيفما كان، فهو حين يطرح أفكار نظير: تكييف الفرد اجتماعيًّا، والواجب في الحق، ومدرسة النشاط المشترك، وغيرها من الأفكار التربوية الاجتماعية لا يشرطها بالتفرقة بين نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي صالح ونظام آخر منحرف، الأمر الذي يمكن أن يسمح لمثل هكذا أفكار أن تجيّر لخدمة الواقع القائم، أكثر من تجييرها لخدمة عملية التغيير الحقيقية التي تقوم على أساس الإسلام.

نعم يجوز التعامل مع هذه الأفكار الجيدة، وتحريكها في إطار البناء الاجتماعي لجماعة التغيير[5]، في حالة غياب البناء الاجتماعي الإسلامي الكامل.

من جهة أخرى، إذا كان صحيحًا أن لا تربية من دون مجتمع، فإنه من الصحيح أيضًا أن لا تربية بغير الاهتمام بالفرد، أما الاكتفاء باستخراج الشروط التي تؤدّي إلى إسهام الفرد في النمو الاجتماعي العام –كما يريد ابن نبي– فمعنى ذلك وضع شروط على نمو الفرد خارجة عن داخليته واختياراته، وهو ما يشكّل إغفالًا لضرورات النمو الفردي الذي هو الأساس لعملية التغيير الاجتماعي، وهذا ما كان يعيه ويؤكّده ابن نبي بنحو واضح في كتاباته، إلَّا أنه مع ذلك كان يربطه على الدوام بالهدف الاجتماعي[6].

إن تركيز ابن نبي على التربية الاجتماعية بصرف النظر عن النظام القائم، مردّه الاعتقاد بأن التغيير الاجتماعي هو الأساس لأي تغيير سياسي، وهو في هذا يقول: «إن الحكومة مهما كانت ما هي إلَّا آلة اجتماعية تتغيّر تبعًا للوسط الذي نعيش فيه وتتنوّع معه، فإذا كان هذا الوسط نظيفًا حرًّا فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه»[7].

وهذا التصوّر إذا كان مقبولًا إلى حدٍّ ما، إلَّا أنه ينبغي أَلَّا يقودنا إلى الاعتقاد بأن الحكومة ليس في مقدورها إفساد الحياة في المجتمع، فالسلطة وتشريعاتها لها القدرة على التأثير في الحياة الاجتماعية وإشاعة الفساد، ومن ثَمَّ عرقلة إمكانات النهضة والتغيير.

لذلك نعود ونقول: إن الهدف المدني الذي ظلّ يؤكّده ابن نبي في مشروعه التغييري، قد دفعه إلى الاعتقاد بلا جدوى العمل السياسي المباشر، حتى إنه شخصيًّا، وكما عُرف عنه، لم ينخرط في أي عمل حركي منظم، وظلّ بعيدًا عن معتركات الصراعات السياسية بأشكالها الميدانية، وعلى النحو الذي درجت عليه حركات التغيير الإسلامي، وكان يقول بضرورة توفير الجهد والعودة بشبكة العلاقات الاجتماعية إلى فعاليتها بغض النظر عن طبيعة النظام القائم، وهو بهذا ينحى منحى إصلاحيًّا يختلف عن المنحى الذي يخطّه الصدر حين لا يرى جدوى الإصلاح في إطار واقع لا إسلامي.

من هنا افترق منحى التربية كأساس للتغيير عند كلا المفكرين، على الرغم من أن كلًّا منهما يركز على التربية في أبعادها الاجتماعية والتغييرية.

وإذا قلنا بأن مدركات ابن نبي التربوية قد صيغت على نحو وظيفي وفي إطار الواقع ومشكلاته القائمة، فالصدر بلور أغلب تصوّراته التربوية تبعًا لما اكتشفه من نظريات إسلامية في المعرفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وهو بهذا قد يبدو بعيدًا عن الواقع الماثل، إلَّا أنه على صعيد الحركة السياسية يطرح أفكاره التربوية لدعم مشروع التغيير، ويسجّل أنشطته التعليمية والإصلاحية ضمن الواقع الماثل، بوصف ذلك من العوامل المساعدة في سياق مشروع التغيير الشامل.

من جهة أخرى، نجد أن كلا المفكرين قد تعاملا مع العلم على نحو وظيفي، ولم يُعطياه الأهمية التغييرية إلَّا بحدود ارتباطه بالقضية الاجتماعية، وهذا يتضح عند ابن نبي حين يوجه نقده لحركة النهضة التي تركّزت عند محمد عبده بإصلاح التعليم وتخريج متخصّصين ولم تجتهد في توظيف العلم في عملية التغيير، كما الحال مع علم الكلام الذي اعتمدت فيه منهجية التلقين وإثبات وجود الخالق ومن دون تقديم الدين عبر تجسيد وظيفته الاجتماعية. وهو نظر تبنّاه الصدر وقدّم في سياقه قراءات كلامية جديدة، انطوت على منظور اجتماعي واضح، بل حتى الفقه عمل على نقله من أُفقه الفردي إلى آفاقه الاجتماعية.

وعمومًا لم يجعل الصدر من العلم هدفًا بحدّ ذاته، بل اهتمّ به بوصفه وسيلة ترتبط بالأهداف العامة، وقد كانت تجديداته العلمية مرتبطة بالوظيفة الاجتماعية للعلم والدين، وهو في هذا قريب من نظرة ابن نبي.

وإذا كان الفكر التربوي قد تمحور عند كلا المفكرين تبعًا للاهتمامات الاجتماعية، فإن ذلك لا يعني إسقاطهما للبعد الفردي من التربية، فالاثنان كان يُعنى بالطلبة، ويلقي المحاضرات على الطلاب، ويمارس التربية المقصودة والتعليم المنظّم أو شبه المنظّم.

أما على صعيد العلاقة مع الآخر، فقد اهتمّ كل منهما بمسألة التثاقف في ضوء فهم الذات وفهم الآخر، ولم يرفضا الحضارة الغربية كلية، بل استفادا من جوانبها الإيجابية كل بحسب طريقته وحقل اهتمامه، من دون أن يقلدا الأفكار الأجنبية أو يستنسخا المفاهيم، بل ابتدع كل منهما أفكاره ومصطلحاته الخاصة، وعملا على بثّها في الوسط الثقافي والعلمي بعيدًا عن التبعية.

لقد نبذ كل من الصدر وابن نبي النقل الأعمى الذي لا يميّز بين العلم والأيديولوجيا، ولا يراعي المعادلة الاجتماعية الخاصة بكل مجتمع، ودعا كل منهما إلى توطين العلوم وأسلمة ما يمكن أسلمته من معارف في إطار المجال العربي والإسلامي، كما ميّزا بين الحقائق المطلقة والحقائق النسبية، وبين الأفكار القائلة والأفكار القابلة للتكيف والحياة.

وإجمالًا نقول: إنه إذا كان لكل من ابن نبي والصدر أهميته الفكرية وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، إلَّا أن الصدر تميّز بكونه صاحب مشروع نهضوي إسلامي جذري ومتكامل كان له الأثر العلمي والتربوي والسياسي الواسع النطاق، فيما تمثّل تميّز ابن نبي بما قدّمه من تحليلات قيّمة لواقع المسلمين، وما قام به من تشخيصات لظواهر وأمراض تتّصل بالثقافة والاجتماع والسياسة والتنمية، الأمر الذي أظهره عالم اجتماع إسلامي امتلك القدرة على الخوض في أعماق المشكلات والظواهر، وشكّل فكره إضاءة وهّاجة يمكن الاستنارة بها في مجال التغيير وأنشطته الثقافية والاجتماعية والتربوية على نحو بنّاء.

وإن ابن نبي قد واجه الواقع بإشكالياته الماثلة، وتناوله بعقلية تحليلية وتفكير علمي ونزعة برجماتية مع الاستضاءة بمبادئ الإسلام وتوجّهاته وقيمه العامة، على النحو الذي جعله أقرب إلى عالم اجتماع إسلامي منه إلى عالم شريعة، وداعية لمشروع اجتماعي إسلامي شامل، بخلاف سيد قطب على النحو الذي بيّنّاه.

 

 



[1] حول تفصيل موقف السيد محمد باقر الصدر ومقارنته بموقف كلٍّ من مالك بن نبي وسيد قطب في هذا الخصوص راجع: د. علي القريشي، الفكر التربوي عند محمد باقر الصدر.. القيادة والقدوة فكرًا وسلوكًا، بغداد، بيروت: المركز العلمي العراقي، 2014، ص 391، 394 وص398، 402.

[2] حسن سعد، الأصولية الإسلامية العربية المعاصرة، ص 276.

[3] أحمد راسم النفيس، فقه التغيير بين سيد قطب والسيد محمد باقر الصدر، المنهاج، العدد 170، ص300.

[4] المصدر السابق، ص426.

[5] راجع: علي القريشي، التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي.. منظور تربوي لقضايا التغيير في المجتمع المسلم المعاصر، القاهرة: دار الزهراء للإعلام العربي، ط1، 1989م،ص 275- 279. 

[6] المصدر السابق، ص 279 - 280

[7] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دار الفكر، 1979م، ص 30.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة