تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التاريخ الاسطوري من الكهانة إلى الاستشراف

العربي ميلود

التاريخ الأسطوري..

من الكهانة إلى الاستشراف

الدكتور العربي ميلود

في سنة 1504م هدّد كريستوفر كولومبوس الهنود الحمر بأن يأخذ منهم القمر إذا لم يعطوه ما يحتاجه من المؤن، وكان يعلم بموعد خسوف القمر، فلما تحقق الخسوف سارع الهنود لتقديم المؤونة لكولمبوس حتى يعود القمر من جديد.

في هذه الحكاية إشارات رمزية إلى المسافات الكائنة بين المعرفة والجهل، فكلما اتسعت المسافة بينهما كلما وجدت الأسطورة لها مكانًا واسعًا وحضورًا بارزًا وتأثيرًا بالغًا على العقل الإنساني، وكلما ضاقت هذه المسافة تضيق فرص بروز الأساطير.

غير أن ما يشهده عالمنا المعاصر من حروب ودمار واندثار تام لمعنى الإنسان كما أرسته فلسفة الأنوار، أعاد للواقع الآني بعض الأشكال الرمزية التي عايشها إنسان المرحلة الأولى بصيغ وتمثلات جديدة. تتمثل أساسًا في استثمار الأساطير القديمة أو صناعة أساطير جديدة يغلب عليها الطابع الأيديولوجي والمصالح الذاتية، وهذه الأساطير السياسية الجديدة أكثر تأثيرًا ودمارًا للإنسان المعاصر، تهدف أساسًا إلى إخضاع الفرد للسلطة السياسية القائمة.

فالأزمات التي شهدها عالمنا اليوم وبالأخص الحربين العالميتين، هو ما دفع بارنست كاسيرر إلى التفكير في المحرك الخفي لهذا التاريخ المعاصر، «ففي أثناء الحرب ومن خلال شعوره بالأزمة الروحية الكبرى التي اجتازتها أوروبا، آمن بصحة آراء جورج سوريل التي نشرها مع بداية القرن العشرين ومؤداها أن القوة الدافعة للتاريخ ليست في العقل أو المنطق، وإنما في الأساطير السائدة في المجتمع، فالناس لا يتبعون الحقائق الموضوعية بقدر اتباعهم لأساطير مصدرها البغض والكراهية»[1].

وقد تأكد كاسيرر من صحة هذه النظرية بعد نهاية الحرب وإبداء الناس إعجابهم بالحكومات الفاشية؛ لذا اهتم بموضوع الأسطورة السياسية الجديدة معتقدًا أن العقل وحده غير قادر على فهم الواقع، لذا يتم في حالات عدة توظيف الأسطورة لما لها من سحرية تتفوق على منطق العقل.

لذا فقد اهتم الأنثروبولوجيون بإعادة اكتشاف الوظائف الرمزية المختلفة للأسطورة، والبحث في رمزية وغاية الأساطير المنتجة في المرحلة المعاصرة، واستنادًا إلى هذا يدعو كاسيرر إلى ضرورة توسيع دلالات مفهوم الأسطورة لتشمل طرق سيطرة الأنظمة التوتاليتارية على أفراد مجتمعاتها، بل يذهب أبعد من ذلك حد وصف التوتاليتارية بأنها «أسطورة» العصر.

 وهذا ما يشير إليه المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في نقده للعقل السياسي؛ حين يقول: «إنه لا شيء يشبه الساحر إلَّا السياسي المعاصر... فكلاهما كاهن، الأول: في معبده السحري يتمتم بكلمات سحرية قليلة مؤثرة تضمن له تبعية القطيع البدائي واستسلامه، والثاني: -أي السياسي المعاصر- كاهن جديد لأسطورة جديدة، عليه أيضًا أن يحافظ على تمائمه السحرية ويحفظها عن ظهر قلب، وأن يحافظ على مكره السياسي الشديد ليضمن نجاح أسطورته السياسية الجديدة لنقل أيديولوجيته السياسية الجديدة؛ فلا شيء يشبه الأيديولوجيا السياسية الجديدة إلَّا الأساطير السياسية الجديدة، وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة... لقد كان السحر ديانتنا الأولى والسياسة هي سحرنا الأخير..»[2].

غير أن منتجي هذه الأساطير لا يرون فيها رجمًا بالغيب بقدر ما هي محاولة استشراف المستقبل والسيطرة عليه، لكن المنجمون والكهنة أيضًا كانوا يتوسّلون بموجودات غيبية اعتمادًا على رسوم ورموز سحرية، أو ممارسات مشروطة تتناسب وقابلية الاستجابة لدى تلك الموجودات الغيبية مما يتيح للمنجمين قراءة المستقبل واستخلاص مرئياته.

فالتنجيم في المخيال الكلاسيكي كان يمثل منظومة فكرية وسوسيولوجية متكاملة يماثل مغزاها الدور الحالي لعلم المستقبليات، فتتصور النتائج من قبل المعتقدين بها كأنها حقائق يقينية مطلقة، ويفرز هذا التصور استجابة سيكولوجية مزدوجة، الأولى: تمثل انعكاسًا سلبيًّا في الحاضر لدى متلقّي النبوءة لعدم تلاؤميتها وقابليته النفسية، والثانية: تحقق تجاوبًا معقولًا لدى المتلقي لتوافق النبوءة إيجابيًّا ومراميه السيكولوجية، وذلك كله عن طريق سحرية اللغة الأسطورية.

وهذا ما يوضحه سيجموند فرويد حين يقول بأنه: «عظيم هو التأثر بالقوة السحرية حقًّا للكلمات القادرة تارة على إثارة أعنف العواصف في النفوس الجماعية وطورًا على تهدئتها وتسكينها، إن العقل والحجج لا تستطيع مجابهة بعض الكلمات وبعض الصيغ، ويكفي أن تلفظ هذه الأخيرة بخشوع أمام الجموع حتى تضيء الوجوه بالاحترام والتبجيل وتنحني الجباه، والكثيرون يعتبرونها من جملة القوى الطبيعية، ويعدونها طاقات ما فوق طبيعية، وحسبنا أن نستذكر هنا حرمة الأسماء لدى البدائيين والقوى السحرية التي ترتبط في ذهنهم بالأسماء والكلمات»[3].

فالأسطورة لدى فرويد هي كالحلم، فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعوربة، ففي الأسطورة، كما في الحلم، تجد الأحداث تقع حرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان.

وهنا يمكننا مقاربة التداخل الموجود بين التنجيم والأساطير السياسية المعاصرة، وذاك من خلال جوانب عدة: أهمها أحادية الاتجاه، فكليهما يتخذ المستقبل وجهة رسمية للقراءة والاستقصاء، وهذه الوجهة تنم دومًا عن معضلات مستشراة في الحاضر، أما وجه المغايرة فالتنجيم نتائجه المستقبلية تصور في الحاضر لمتلقيها وكأنها صور متحركة قطعية، وهي في غالبيتها أحكام تنفي التعدد والخيارات.

وهذا بخلاف الأسطورة السياسية التي تصطبغ بصبغة تعددية دومًا في شكل ممكنات تؤَسس من الحاضر على ضوء معطيات واقعية، وهي بهذا تلاحم بين المعقول واللامعقول، لذا يرى كاسيرر «أن السياسي الحديث يجمع في نفسه بين مهمتين مختلفتين غير متوافقتين، فعليه أن يتبع السحر والمنطق معًا، فهو كاهن في دين جديد يسوده الغموض ويخلو من أي جانب معقول...، إن هذا الربط الغريب بين المعقول واللامعقول من أهم الملامح المثيرة للدهشة في أساطيرنا السياسية الحديثة»[4].

ولعل هذا الربط ليس وليد الفترة الراهنة بل يعود أساسًا إلى التصورات الدينية وكذا إلى بعض التجارب التاريخية، التي يتم دومًا استثمارها في طرح الأساطير السياسية الجديدة. وهذا ما يشبهه كاسيرر بالدور الذي كان يلعبه «السحر والأساطير في المجتمعات البدائية عن المراحل المتقدمة من الحياة السياسية الإنسانية أيضًا، إن الإنسان يلجأ في مواقف اليأس دائمًا إلى سبل يائسة، ولو خذلنا العقل، لن يبقى أمامنا غير اللجوء إلى قوة المعجزات والغيبيات»[5].

ويمكننا هنا أن نتحدث عن التجربة الإغريقية التي طغى عليها الانحصار في الماضي وتمجيد العظماء ونسب الخوارق إليهم، وإذا تعلق الأمر بالمستقبل فإن اليونانيين يهمون «إلى استشارة الكهنة الذين كانوا يدعون العلم بالغيب»[6].

الأديان وقراءة المستقبل: بين الأسطورة والحقيقة

يدعو كاسيرر إلى ضرورة مراجعة نمو الوعي داخل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني؛ لأن الدين لن يزول من الحياة الاجتماعية، وهو دومًا يلعب دورًا متزايدًا في المجتمعات الحديثة بل حتى في ترسيم العلاقات الدولية، وبنية بعض الأنظمة السياسية ذات المرجعية الدينية المحضة.

وها هنا يمكن أن نستحضر تصور كل من اليهودية والمسيحية لنلمح مدى حضور الرؤية الميثولوجية في ثنايا رؤيتهما لحركة التاريخ الإنساني، وانعكاس هذه الرؤى في الواقع السياسي والاجتماعي المعاصر.

1- اليهودية: اليهودية والفكر التاريخي (عقيدة الاختيار)

فسرت أسفار التوراة لدى اليهود –ولا سيما سفر التكوين- الحوادث التاريخية تفسيرًا يخدم غايات الجنس اليهودي، وهذا ما أفرز عندهم ما يسمى بعقيدة الاختيار (أي فكرة اليهود أنهم شعب الله المختار)، وباقي الأعراق ليسوا سوى أدوات مسخرة لخدمة هذا الشعب في كل الأزمنة على الإطلاق، ما دام أن الرب – باعتقادهم – يتدخل في توجيه مسار التاريخ لمصلحتهم.

وإذا كانت الديانة اليهودية تصوغ أحداث التاريخ وفق منظورها العقائدي، فإنما تفعل ذلك لتؤكد في المآل أن نهاية التاريخ منوطة بهم وبمعتقدهم، وهذا بمثابة «وعد مقدس»، والإيمان به هو جوهر الفكر التاريخي اليهودي الذي يقتضي تدخل الرب لإنقاذ شعبه المختار وتدمير أعدائه مستقبلًا.

ولعل المجال الحضاري الذي تستند إليه اليهودية هو مجال الدين، وإن كان هذا الأخير عندهم خليط من الأوهام والأساطير التي أضفتها الأهواء على المعنى الأصلي، وهذا لا يزيد هذا الشعب إلَّا اقتناعًا بأن الإخلاص لهذا الدين له قيمته في التميز الحضاري، وهذا ما أفرز سيكولوجية عنصرية تمقت ما عداها من الحضارات، فلا تحتفظ إلَّا بذاتها كقمة رأس الهرم، وهذا النمط من التفكير شكل لدى الفلاسفة اللاحقين حساسية مفرطة اتجاهه.

2- المسيحية

لا شك أن المسيحية كديانة قد أعطت رؤية جديدة حول التاريخ، فكانت رؤية غائية مباشرة، تعتقد امتلاكها زمام الزمن الغائب، وهي تعتبر أن التاريخ يسير وفق مسار خطي له بداية ونهاية، وسياقه العام يتضمن تعلق الإنسان بإثم الخطيئة الأولى في حياته الدنيا، وهي مرحلة تستدعي من الإنسان أن يسعى أثناءها لتحقيق الخلاص، والحياة مرحلة تتوسط قدوم المسيح وحادثة الصلب، ومجيئه الثاني في آخر الزمان «لتحرير البشر من تبعات الخطيئة الأولى، وإقامة المملكة المسيحية -مملكة السماء- على أنقاض الشر»[7] في المستقبل.

وعليه فإن التصور المسيحي لتاريخ البشرية قبل المسيح ليس إلَّا تمهيدًا لقدومه، وأن تاريخ البشرية بعده سعي للخلاص وانتظار لقدومه، بهذا المعنى يكون التاريخ بمثابة «كتاب كتب الرب فصوله ويمثله الإنسان»، وليس لهذا الأخير فيه دور إيجابي، فهو ينفذ ما تقتضيه إرادة الرب. وقد مثل هذا الاتجاه على الصعيد الفكري فكرة أن مستقبل هذا العالم منوط بترتيب مسبق وضعته تلك العناية.

واستنادًا إلى هذا يرى كاسيرر أن اعتبار هيجل لنابليون بونابارت على أنه لحظة أساسية وحاسمة في ربط الروح أو العقل أو الفكرة بفرد وحيد، يريد أن يختصر النظام السياسي في شخصه، فتجسد التاريخ والوعي في شخص نابليون، يماثل تجسد الرب في المسيح على حسب الاعتقاد المسيحي.

من خلال هاتين الرؤيتين اللتين أضحتا تشكلان جزءًا هامًّا من الحياة السياسية المعاصرة خصوصًا بعد الحرب العالمية الأولى، التي يرى كاسيرر «أنها لم تستطع أن تجيء بأي حل حقيقي في أي ميدان، حتى بالنسبة للأمم المنتصرة، وظهرت مشكلات جديدة في كل جانب، فازدادت شدة التوتر في الصراعات الدولية والاجتماعية والإنسانية»[8].

نلمح أن اللجوء إلى التصورات الدينية الممتزجة بأسطورة التفوق، يمكن أن تكون الحل في إحداث تأثير بالغ في حياة الجماهير، فالمملكة المسيحية التي تبشرنا بها رؤيتها هي مملكة الإنسان الأبيض، الجنس الوحيد الذي له القدرة وإمكانية أن يقيم حياة متحضرة، وما باقي الأجناس إلَّا كتلًا لا تتحرك إلَّا بإرادة الأجناس الراقية، وها هنا تجسدت في القرن العشرين فكرة «تفوق الآريين على الساميين في مرحلة تاريخية معينة، هي مرحلة الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، فزعم بعضهم أن العرب يفتقرون إلى الخيال الإبداعي الذي من شأنه توليد الأساطير»[9].

وفي المقابل نجد عقيدة تفوق الجنس السامي لدى اليهود في حياتنا السياسية المعاصرة بمثابة الحق الطبيعي، حتى بات يعتقد أنه يمثل الحقيقة المطلقة باعتباره محمولًا في تصور ديني، وملازمًا في مخيال الإنسان المعاصر بالهولوكوست.

لذا حذر أرنست كاسيرر من هذه القوة المؤثرة الغريبة في الفكر السياسي المعاصر، «وأكثرها إثارة للفزع هو ظهور قوة جديدة هي قوة الفكر الأسطوري، ولقد أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة، وكسب الفكر الأسطوري بعد صراع قصير وعنيف نصرًا واضحًا جليًّا، فكيف تحقق هذا النصر؟ وكيف نستطيع تحليل الظاهرة الجديدة التي لاحت في أفقنا السياسي، والتي تبدو على نحو ما وكأنما قد قلبت رأسًا على عقب كل أفكارنا السالفة عن طابع حياتنا الفكرية والاجتماعية؟»[10].

إن الأنظمة السياسية المعاصرة تسعى إلى فرض طابع للحياة الاجتماعية من خلال مجموعة صور رمزية كامنة في وعي البشر، تستبدل وظيفتها من كونها مجرد كلمات سحرية تواصلية يرتبط توصيفها بالفعل اللاشعوري، إلى أدوات للدمج الاجتماعي، تسعى الأنظمة جاهدة إلى إذكاء مفعولها الأيديولوجي وهذا مع ما تنحو إليه الأساطير السياسية الجديدة، «فهي لا تظهر عشوائيًّا، إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب، إنها أشياء مصنوعة قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد»[11].

هنا يمكن أن نتساءل هل للأسطورة تأثير سحري على عقول الناس، مما يدفع بالأنظمة السياسية المعاصرة للتخلي وتجاوز النظريات والاستراتيجيات الكبرى المعينة على حكم المجتمعات بعقلانية موثوقة، والاستعانة برموز لا معقولة تحل محل النظرية والقانون والعدالة؟.

يرى العالم الفرنسي شتراوس «أن الأسطورة لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية أشد للسيطرة على البيئة، لكنها مع ذلك تعطيه وهم القدرة على فهم الكون والسيطرة عليه»[12].

هذه القدرة الواهمة باتت توظفها الأنظمة الشمولية من خلال وسائل الدعاية والإعلان التي تمارس شكلًا من استلاب العقل، على غرار ما كانت تمارسه الأسطورة على الإنسان البدائي، وهذا ما يشير إليه الألماني ماركيوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد)، حينما يقول: إنه «ما زالت عناصر التضليل الأسطوري تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة في الدعاية والإعلان والسياسة، فالسحر والخزعبلات يمارسان تأثيرهما على نحو روتيني ويومي في البيت والمخزن والمكتب، وينتشي الناس ويشهدون بالإنجازات العقلانية التي تحجب لا عقلانية النظام»[13].

التطور اللامعقول لوسائل السيطرة الرسمية وهيمنتها، اتخذ استراتيجية عامة لترسيخ هيمنة الدولة وتوحيد الذهنية الاجتماعية، ففي المجتمعات الرأسمالية التي أخذت طابع شمولي، تم تفعيل فكر استسلامي عبر «القابلية الواعية أو اللاواعية على الاندماج أو الخضوع، ملكة الموافقة على الظرف الحاضر بما هو عليه بالفكر أو الواقع، والعيش في تبعية الأنساق المفروضة والإرادات الأجنبية»[14].

لتمارس السلطة القائمة فعل الهيمنة عبر وسائل الإعلام مبررة بشرعية التقنية والعلم، فتطورهما بهذا الشكل مكن السلطة السياسية من أن تدعم هيمنتها على الإنسان والطبيعة على حد سواء، لتنشأ عن ذلك علاقات جديدة في الوجود الاجتماعي، وهكذا فإن العلم والتقنية يضاف إليهما رموز أسطورية متعددة، بعد أن كانا أداتين لخدمة الإنسان يصبحان اليوم عوامل لزيادة السيطرة الرقابية التي باتت تماثل الصور الأسطورية التي مورست على الإنسان البدائي، فالتصورات الأسطورية مع هذا الغطاء الجديد أضحت مسوغًا رئيسًا لإبقاء سلطة الفكر الرسمي للدولة على كافة كيانات المجتمع.

وعليه يرى أرنست كاسيرر أن إعادة تصنيع الأساطير السياسية الكبرى تتطلب إحداث تغيير كبير في مهمة اللغة؛ بحيث يصبح للكلمة بُعد سحري يتجاوز بُعدها الدلالي، أو بصورة أدق: يصبح للكلمة مهمة قيمية تتجاوز وصف الأشياء والعلاقات بينها، بل تتعداها في سعيها إلى إحداث أثر سحري فيمن يخاطبهم صناع الأسطورة لتضفي شرعية على الأسطورة، فما أن يتمتم صناع أسطورة الجنس الآري أو يشيروا بأيديهم، حتى يصمت الجميع؛ فصناع الأسطورة الجديدة لا يهدفون إلى إقناعنا، بل إلى إخضاعنا بسلطة الأسطورة، وإذا لم نخضع فنحن عصاة أو معقّدون نفسيًّا.

 


 



[1] مجدي الجزيري، الفن والمعرفة الجميلةعند كاسيرر، الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2002، ص 15.

[2] دوبريه ريجيس، نقد العقل السياسي، ترجمة: عفيف دمشقية، دار الآداب، ط01، 1986، ص 88.

[3] فرويد سيغموند، علم النفسي الجمعي وتحليل الأنا، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة، ط01، 1979، ص 19.

[4] أرنست كاسيرر، الدولة والأسطورة، ترجمة: أحمد حمدي محمدود، مصر: المكتبة العربية، 1975، ص372.

[5] المصدر نفسه، ص368.

[6] أحمد الشنتاوي، التنبؤ بالغيب قديمًا وحديثًا، مصر: دار المعارف، 1959، ص 05.

[7] أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، ص 182.

[8] أرنست كاسيرر، الدولة والأسطورة، مصدر سابق، ص366.

[9] محمود عجينة، موسوعة أساطير العرب، ص77.

[10] أرنست كاسيرر، الدولة والأسطورة، مصدر سابق، ص07.

[11] أرنست كاسيرر، الدولة والأسطورة، مصدر سابق، ص372.

[12] ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة: صبحي حديدي، الدار البيضاء: منشورات عيون، 1986، ص18.

[13] هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: دار الآداب، ط3، 1988م، ص 209.

[14] بول لوران أسون، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعاد حرب، بيروت: المؤسسة الجامعية للنشر، ص 64.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة